لطالما تساءلت كاثرين عن طبيعة العلاقات البشرية، فهذه الأخيرة لم تتوانى يوما عن اذهالها بمدى تعقيدها و إلتباسها على الطرف الثالث في المعادلة، من خلال ملاحظاتها المتواضعة و المستمرة لغيرها من البشر خلصت لكون هذه العلاقات دائما و ابدا ما يكون من ورائها دافع و سبب يتباين بين المادي و اللامادي، و في حالة والدتها هنا كانت تبحث عن ماهو مادي.
تنهدت بقلة حيلة فها هي عادة والدتها تظهر من جديد مرتسمة على كل تفصيلة بوجهها المشدود، بل هي لم تحاول في الأساس اخفاءها، كانت والدتها دائما ما تكون فضولية حين يتعلق الأمر بكاثرين، ليس و كأنها تحبها مثلا، و قد كانت كاثرين تعلم ذلك جيدا و تدرك السبب وراء اهتمامها المصطنع هذا، فأم مستهترة مثلها لن تأبه لأطفالها خاصة إن كان هذا الطفل هو طفلها البكر الذي كانت تطمح ليكون ذكرا حتى تستطيع تقلد مفاتيح رئاسة عائلة سيلفر من خلاله، و طبعا كاثرين لم تستطع منح والدتها ما تريده فقد خيبت كل آمال و أحلام والدتها لكونها فتاة و ليس فتى، لذا لم تكن تأبه لها و لأحوالها، كل ما تريده هو الإستفادة من كاثرين جيدا، فهي لا تزال تحتاج شخصا يتولى الأعمال المكتبية و الإهتمام بالبروتوكولات بدلا عنها، حتى تتمكن هي من توفير جو مثالي لنفسها جو خال من الهموم و مليء بالتبذير و الإعتناء بالذات، هي أساسا لم تكن لتتزوج من عائلة سيلفر لولا انهم عائلة ثرية على نفس المستوى المعيشي لعائلتها، فإمكانية وجود من هم أثرى منهم هي من سابع المستحيلات، لذا كان عليها أن ترضى بهذا الزواج الذي اعتبرته بالبداية زواجا مشؤوما لاسيما مع الشائعات الرائجة حول عائلة سيلفر، حمحمت كاثرين لترسم ابتسامة زائفة ثم ترد على سؤال والدتها المعتاد
" إن امي تحب المفاجآت، لذا ألن يكون من الأفضل أن أتركها مفاجأة ؟"
رفعت الأم في اندهاش حاجبيها ثم مدت يدها تتناول علبة المربى لتضعها بمقربة منها، أخذت السكين و حملت به بعضا من مربى التوت الأزرق لتدهن به شرحة خبز التوست التي كانت تعتلي صحنها، ما إن أنهت فعلها حتى نبست بتلك الكلمات التي ترقبتها كاثرين بفارغ الصبر
" أجل، إن امك تحب المفاجآت، تحبها لدرجة لا تتصور، لذا احرصي على اعداد مفاجأة جيدة يا كثيرين "
أومأت كاثرين برأسها ايجابا ثم انكبت تتناول طعام افطارها، و حين أنهته انسلت من المجمع المقدس ساحبة حقيبتها، وقفت امام باب بيتهم أو بمعنى اصح قصرهم، تتأمل الطريق بين الفينة و الأخرى حتى لاح شبح صديقتها اسمهان يقترب.
لوحت اسمهان بيدها فبادلتها كاثرين التحية، ثم هرولت ناحية كاثرين لتقف أمامها بشعرها الكستنائي، زينت ثغرها بابتسامة رقيقة تعكس نقاوة قلبها ثم تبادلت الاثنتان تحية الصباح في اجواء سعيدة و لطيفة، قطعت كاثرين الجو بإشارة بسيطة بيدها دلالة على الذهاب، أومأت اسمهان ايجابا بعدما تبينت قصد كاثرين، لتقطع الإثنتان طريقهما نحو من تحدد مستقبلهما المجهول ، الجامعة، او ربما هي الحياة.
طيلة سيرهما ظلت الاثنتان تتجاذبان مواضيع جانبية، قسوة الدكاترة، ظلم الإدارة، تفاهات الطلاب، الإمتحانات القادمة و حالة الطقس المتقلبة، مواضيع عادية رتيبة لكنها بالنسبة للطلاب هي مواضيع مسلية و تستحق النقاش.
عندما تراءى لهما باب الكلية الضخم شبكت اسمهان يديها خلف شعرها ثم رفعت رأسها للأعلى، لمحت كاثرين بريق حدقتها العسلية، فرمقتها باستغراب، كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى بها كاثرين اسمهان تصنع مثل هذه الملامح التي تخالجت بها اليأس و الحزن، اسمهان دائمة الإبتسام تصنع تعبيرا حزينا ؟ كان هذا ضربا من ضروب الخيال بالنسبة لكاثرين، لكن ما اسنتجته الأخيرة هو ان اسمهان لا تناسبها بتاتا هذه التعابير، او ربما هي فقط لم تعتدها هكذا، فلطالما اعتادت اسمهان ان تكون من النوع المرح الذي يخفي حزنه أمام الأخرين مهما كانت الأسباب، بينما كانت كاثرين غارقة بأفكارها تشدقت اسمهان بكلمات كلها شجن
" أتعلمين كاثرين ، سأشتاق لإيطاليا كثيرا ، خاصة لفينيسيا ، لاسيما سماءها دائمة الزرقة الصافية و الخالية من الشوائب و كذلك الأمر مع جزرها العديدة المتراصة المتفرقة في تناقض مثير كلعبة بازل غير كاملة الحل ، سأفتقد قواربها و بنيانها الملون و كأنه نتاج تلاطم ريشة فنان قدير أبدع بصنع لوحة تشكيلية سريالية تخلدها الأذهان ، اه كلما فكرت بالأمر أهيم بغرامها اكثر و اكثر ، كم أتمنى قضاء باقي حياتي هنا ، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ، فبعد أشهر قليلة من الان سأتخرج و سأغادر هذه الجنة لأعود لبلدي تركيا"
كانت كاثرين تعلم كم أن اسمهان ترتبط بسرعة بالأمكان ذات الأشكال الجميلة و السريالية، تعلم كم هي فتاة حالمة ترى الجمال بكل شيء حولها، تحب عيش المغامرات و الإستكشاف كثيرا، لكنها لم تكن تعلم ان ارتباطها بإيطاليا قد بلغ هذا الحد، فحسب ما تعلمه ان تركيا هي أيضا مكان ليس اقل شئنا من ايطاليا من حيث الجمالية و من المعلوم ان اي الشخص لا يقنع من زيارتها او النظر لأرجائها الاثرية، افترضت كاثري انه ربما اسمهان تريد فقط الإبتعاد عن مكان ذكرياتها السيئة لذا فهي تفضل إيطاليا على تركيا، عقبت كاثرين بحسرة خفيفة
" يال الأسف ، شخص حالم مثلك يغادر جنة مثل فينيسيا أمر صعب له .... لكن اتذكر أن لك اقرباء هنا ؟ ألا يمكنك البقاء معهم ؟ "
تنهدت أسمهان بقلة حيلة فبحكم كون والديها قد تطلقا و هي بعمر صغيرة جعل ارتباطها بعائلة ولدها المقيمة بإيطاليا رغم كونهم تركي الجنسية ارتباطا ضعيفا اضمحل مع الوقت خاصة بعد وفاة والدتها، و الأقارب الوحيدون الذين ما زالوا بإيطاليا هم أقرباء والدتها من جهة بعيدة لا تستطيع الاعتماد أو الاثقال عليهم اخرجت اخيرا ما جال بداخلها قائلة
" اقربائي هنا هم فقط أقرباء من جهة بعيدة لوالدتي نتشارك الدماء فقط ، و ربما لا نفعل حتى ! فكيف سيقبلون غريبة مثلي وسطهم؟!"
لم تجد كاثرين ما تواسي به صديقتها العزيزة، ودت لو تعرض عليها الإقامة معها ببيتها، لكنها نهرت نفسها بعدما تذكرت ما تنوي فعله عليها التوقف عن الشفقة، هكذا فكرت كاثرين، لكنها لم تمانع إسعاد اسمهان ببعض الكلمات التي هدرت بها
" إن وضعك بالفعل مؤسف .... على أي الحال لنترك الحزن لوقت اخر ، فاليوم يوم سعيد و لا يجب أن تشوبه أي شائبة "
قطبت اسمهان حاجبها غير مدركة المغزى الذي ترمي او تلمح له كاثرين من وراء كلامها لذا سألت في فضول قاتل
" ما هذا الحدث الذي يجعل اليوم يوما سعيدا .... لا أتذكر أن اليوم يصادف أي ذكرى ؟! "
ابتسمت كاثرين فضعف ذاكرة صديقتها الدائم أضحى أمرا معتاد لها لكنه ما زال يرسم البسمة على وجهها السمح
" بربك يا أسمهان .... اليوم هو ذكرى مولدك ، أم انك نسيت كعادتك ؟ "
انفرجت عيناها في دهشت نمت عن تذكرها أخيرا لتقول متداركة موقفها السابق
" اااه معك حق .... نسيت الأمر تماما .... لا أصدق أنك أنت صديقتي تذكرتي يوم ذكرى مولدي بينما أنا لا ... أنت بالفعل صديقة حقيقية "
" طبعا أنا كذلك .... لقد كنت اتطلع ليوم ذكرى مولدك هذا بشدة .... مبارك أكملت أربعة و عشرين سنة اليوم " بفخر مصطنع اجابت كاثرين
" شكرا ... لكن لما كنت تنتظرين ذكرى مولدي ؟ ظننت أنك لست من النوع التي يهتم لهذه الأشياء "
توترت كاثرين من كلام اسمهان، للحظة ظنت أنها قد كشفت لكنها سرعان ما دارت ذاك التوتر بابتسامة عذبة ارفقتها بنكتة سخيفة
" حسنا هذا سر .... أمزح انه طبعا من أجل الاحتفال "
لحظة صمت، ثم علا صوت ضحكات اسمهان المكتومة، شكرت كاثرين داخليا ضعف استيعاب كاثرين الذي دائما ما يصب في صالحها ثم تابعت الأخيرة بعد ان هدأت ضحكات اسمهان
" ما رأيك أن تنتظريني بعد المحاضرات ، سأعد لك مفاجأة رائعة "
رمقت اسمهان كاثرين بامتنان لتردف بصوت شجي عذب
" حسنا سأفعل ، سأنتظرك في الكافتيريا ، شكرا لك كاثرين"
أطبقت على عنق كاثرين ثم تابعت
" أنت أفضل صديقة قد أحصل عليها يوما "
" لا باس عزيزتي "
تمتمت بها كاثرين وهي تربت على ظهر صديقتها، ثم قطعت عناقهما لتتجه كل منهما لمحاضراتها، مع اول خطوة رمتها كاثرين بالمدرج سمعت صوت ضحكات الطلاب الرنانة و حديثهم الصاخب و الخالي من معالم الحياء، من بين كل ذلك النفر كان هناك تجمع واحد لمجموعة من الصبيان يطالعه الكل، بعضهم بعيون حسودة و بعضهم بعيون محبة تقطر عسلا، خاصة الفتيات ذوات المراهقة المتأخرة، لكن اكثر شخص قد نال اهتمامهم هو الفتى الأشقر الذي توسط المجموعة بضحكاته الرنانة، لم يكن سوى سيزار بلاوزر أو كما تسميه كاثرين مغناطيس المشاكل، اكثر شخص لا تفضل كاثرين التورط معه.
لكن كان لعائلاتهما رأي آخر فعائلة سيزار كانت مرتبطة بعائلة كاثرين منذ القدم كونها راع تجاري موثوق لآل سيلفر، لذا فإن فرصة لقائلها كانت كثيرة خاصة في فترة الطفولة، و من خلال تلك الفرص علمت كاثرين أن سيزار شخص لا يجب التورط معه بأي شكل من الأشكال، لطالما شعرت أنه يخفي شيئا خلف قناع الاستهتار ذاك، رغم أنه لم يكن بهذا الشكل ابدا في طفولته فقد إعتاد يكون طفلا مرحبا و محبا لكنه في مرحلة ما من عمره تغير كل شيء خاصة بعد طرد والدته من عائلة بلاوزر منذ ذاك اليوم تغيرت تصرفاته بدرجة كبيرة حتى ما عاد يمكن التعرف على ذاته القديمة.
عبرت كاثرين الدرج بخطوات ثابتة، لكنها حين كانت على وشك تجاوز تجمع الصبيان ذاك لمحت سيزار و هو يحاول إجراء تواصل بصري معها، أدركت انه يريد محادثتها لكنها لم تكن ترغب بذلك ابدا فهي تحاول قدر المستطاع الإبتعاد عنه و عن عائلته الغريبة حتى و ان كانت اقل غرابة من عائلة سيلفر، تظاهرت هي بالبحث عن شيء بحقيبتها متفادية نظراته الملحة لتجتازه بسلام محقق مشيحة بنظرها عنه
اختارت احد المقاعد الأمامية غير مبالية بالحرب التي كانت تدور خلفها، فبعد ثواني من جلوسها أتت كلوي المهووسة جالبة معها صخبها المعتاد، كعادتها كلوي هي أشبه بعلقة تلاحق سيزار في كل مكان، و حقيقة هي لها كامل الحق بذلك فهي قبل كل شيء خطيبة له، كانت اسطوانة اليوم حول تذمرها عن ترك سيزار لها في حفلة عيد ميلاد أحد أصدقائها من ذوي الطبقة المخملية ليرافق ابنة مدير الجامعة بدلا عنها، من صراخها كان واضحا أن نيران الغيرة تشتعل بداخلها، كانت كلوي هي احد الأسباب التي تجعل التورط مع سيزار أمرا مزعجا بالنسبة لكاثرين، لكنها في قرارة نفسها كانت تشفق على كلوي و تشعر بالسوء ناحيتها، فخطيبها هو مجرد زير نساء يصعب التعامل معه ناهيك عن استغلاله المستمر لها، فكلوي في النهاية كانت مجرد بيدق يعزز به سيزار موقفه السيء داخل عائلة بلاوزر من خلال ضم نفوذ عائلة كلوي إلى جانبه
هذه هي طبيعة العلاقات البشرية استغلال وراء ستار رقيق من الطاعة او الخنوع، في رحلة بحث مستمرة من أجل اشباع الرغبات، ففي الوقت الذي كانت به والدة كاثرين تبحث عن إرضاء رغباتها المادية، كانت كلوي على عكسها تجري وراء ما هو لامادي، في النهاية كان هذا ما تفتقر له، و كما يقال الانسان دائما ما تؤرقه عقد نقصه.