"…تقولين إنني كنت فاقد الوعي لمدة ثلاثة أيام؟"
"هفهف… نعم…"
لم أتمكن من سماع ما حدث بعد انهياري إلا بعد أن هدأت لوسي من نوبة بكائها.
أولاً وقبل كل شيء، تم حل الفوضى تمامًا.
جميع الطلاب عادوا بأمان إلى المعسكر الرئيسي.
أما الفرسان الموتى الذين كانوا يجوبون الغابة، فقد تم القضاء عليهم جميعًا.
وصلت التعزيزات من الأكاديمية بعد تلقيهم رسالة من المعسكر، وهم الآن متمركزون على الجزيرة.
بالإضافة إلى ذلك، تم استعادة جثة البروفيسور لوكاس، التي كنت قد انتزعتها من أولئك الأوغاد الموتى.
ويبدو أنني، إلى جانب "غولدن بوي"، كنا الضحيتين الوحيدتين في هذه الحادثة...
"...هذا مطمئن."
رغم أننا تمكنا من النجاة دون وقوع كارثة كبيرة، إلا أن رأسي لا يزال يعجّ بالفوضى.
وبينما كنت أغرق في تلك الكلمات التي حاولت بها مواساة نفسي، قامت لوسي، التي كانت تشهق، بقرصي بشدة في خدي.
"لستَ في حالة تسمح لك بقول ذلك! ماذا تعني بـ‘مطمئن’؟"
"آخ... سمو الأميرة..."
تمتمتُ بألم، وأنا أشعر أن خدي سينخلع من مكانه.
ومع ذلك، بدا أن أميرتي القاسية لم تكن تنوي التوقف عن تعذيبي.
استمرت لوسي في تعذيبي بضحكة ماكرة، ولم تفرج عن خدي إلا بعد أن صار أحمر قانياً.
فركت خدي المحترق وضحكت ضحكة خافتة ومحرجة.
"شكراً لأنكِ أتيتِ لإنقاذي، سمو الأميرة… بفضلكِ نجوت."
"..."
تجمدت لوسي للحظة بعد سماع كلماتي.
شدّت يدها، التي كانت تمسك خدي، ثم أرخَتها ببطء.
ثم بدأت عيناها تمتلئان بالدموع مجددًا.
"كنت... خائفة جداً..."
مزّق صوتها المشبع بالعاطفة سكون خيمة المستوصف.
امتلأت عيناها الزرقاوان بدموع تشبه قطرات الندى.
"ظننت... أنني فقدتك إلى الأبد..."
اهتز صوتها المرتعش، وعلقت شهقاتها في حلقها.
لم تتمكن من تركيب جمل واضحة، كانت كلماتها تتعثر من بين شفتيها.
"ك-كنت خائفة جداً... من أنك رحلت..."
انهمرت دموعها على خديها الشاحبين كمطرٍ حزين.
كل دمعةٍ كانت مزيجًا من الارتياح والرعب، ترسم دروباً لامعة على وجهها.
وأخيرًا، لم تعد قادرة على كبت مشاعرها، فانفجرت بالبكاء.
مددتُ يدي واحتضنتها بلطف.
"أنا هنا، سمو الأميرة."
دفنت لوسي وجهها في صدري، وكان بكاؤها مكتومًا بين طيات قميصي.
شعرت بحرارة دموعها تتسرب من خلال القماش الرقيق.
بدأتُ أُربت على ظهرها، محاولاً تهدئتها.
"لن أذهب لأي مكان… لن أتركك أبدًا."
"ههِك، آه..."
كلماتي لم تُهدئها، بل جعلتها تبكي أكثر.
لابد أنها كانت مرعوبة حقًا.
فهي رأتني وأنا أُطعن وأسقط...
"كان عليّ القضاء عليهم بشكل أفضل..."
لكن، من أنا لألوم أحدًا؟
كان خطئي، فقد تصرفت بلا حذر.
ضحكتُ بسخرية مريرة، والذنب ينهشني.
وبينما كنت أواسي لوسي، التقت عيناي بعيني مارغريت.
"..."
لم تكن تبدو على ما يرام.
عيناها الحمراوان، المعتادتان على التألق بالحيوية، بدتا الآن مرهقتين، وشعرها الفضي البراق فقد بريقه.
لقد بقيت هنا طوال الأيام الثلاثة الماضية، تسهر عليّ مع لوسي.
ناديتها بلطف، "آنسة فايلر."
"...نعم؟"
جاء ردّها متأخرًا.
لابد أنها كانت على وشك النوم.
نظرت إليها بقلق وسألت: "ألا يجدر بكِ أن تنالي قسطًا من الراحة؟ تبدين مرهقة..."
"آه… نعم، أظن أنني بحاجة لذلك."
أومأت مارغريت موافقة، ونهضت من كرسيها.
كان شعرها الفضي يتلألأ مع كل حركة.
استدارت لتغادر، لكنها توقفت فجأة عند مدخل الخيمة.
"...أنت."
ترددت لحظة، ثم تحدثت بصوت خافت، وعيناها مركّزتان عليّ.
كانت ترتجف قليلاً.
"نعم، آنسة فايلر؟"
"...شكرًا."
"عذرًا...؟"
أملتُ برأسي قليلاً، متسائلاً إن كنت سمعت بشكل خاطئ.
قطّبت مارغريت حاجبيها قليلاً، وكررت:
"لإنقاذي في الوادي... شكرًا لك."
"آه."
فهمت قصدها، وابتسمت ابتسامة محرجة.
لست متأكدًا إن كنت أستحق شكرها، فالحادثة كلها بدأت بسببي.
لكن، على الأقل، أنقذتها.
"أنا من يجب أن يشكركِ... على العناية بي."
"نعم..."
أومأت مارغريت برأسها مغادرةً المستوصف.
"سأذهب الآن."
"إلى اللقاء، آنسة فايلر."
راقبت ظهرها وهي تبتعد، وفكرت للحظة إن كان يجدر بي قول شيء آخر.
لكنني قررت ألا أفعل.
هذا يكفي...
على الأقل الآن.
وبهذا، عدتُ لأربت على ظهر لوسي وهي لا تزال متشبثة بي.
لم يمض وقت طويل على مغادرة مارغريت، حتى توقفت لوسي أخيرًا عن البكاء.
أو بالأحرى… نامت.
"لا بد أنها كانت مرهقة…" تمتمتُ، وأنا أنظر إلى لوسي التي غفت وهي تمسك بيدي.
ليس بالأمر الغريب، فقد بقيت مستيقظة لثلاثة أيام متواصلة دون نوم.
من المؤكد أن الأساتذة طمأنوها بأنني سأكون بخير...
هل كانت قلقة عليّ إلى هذه الدرجة؟
-ششش… ششش…
كانت أنفاسها الناعمة تملأ سكون المستوصف، بإيقاع هادئ أشاع الطمأنينة في المكان.
"...ظهري سيتحطم إن بقيت على هذه الوضعية."
تنهّدت تنهيدة خفيفة، ورفعت لوسي عن حجري بحذر.
كانت خفيفة بشكل مدهش، على الأرجح بسبب جسدها الصغير.
وضعتها بلطف على سريري، ثم نهضت ومددت أطرافي المتيبسة.
وبحرص كي لا أوقظها، خرجت بهدوء من المستوصف.
"هاه..."
حالما خرجت من المبنى الرمادي، استقبلني مشهد المعسكر غارقًا في ضوء الفجر الباهت.
لم أتحقق من الوقت، لكن من السماء، بدا وكأنه الصباح الباكر.
استنشقت الهواء النقي البارد، وبدأت السير.
-خشخشة... خشخشة...
كان صوت الأوراق تحت قدمي يتردد في هدوء الصباح.
رغم تأخر الوقت، كان المعسكر مضاءً بشكل ساطع.
اتجهت نحو مصدر الضوء، فرأيت حاجزًا متلألئًا يحيط بالمكان بأكمله.
"...حاجز، هاه؟"
كان حاجزًا مقدسًا، ينبض بضوء ساطع.
لا بد أنهم نصبوه كإجراء احترازي ضد الموتى.
بفضله، بدا المعسكر وكأنه في وضح النهار، وقد تجوّل فيه بعض الطلاب.
مررت بجانبهم وجلست عند جذع شجرة قريبة.
-هوووو...
داعبتني نسائم الخريف الباردة، فدفعت خصلات شعري عن وجهي وأغمضت عيني، مصغيًا إلى زقزقة الصراصير البعيدة.
فراغ غريب استقرّ في صدري.
"..."
مددت يدي إلى جيبي دون تفكير.
كنت أبحث عن عشبة الموت، لكن بالطبع، لم تكن هناك.
لا بد أنهم أخذوها مني حين استبدلوا ملابسي بعد الجراحة.
"حقًا، كنت بحاجة إليها الآن..."
ربتّ على جيبي الفارغ، شاعراً بوخز انسحاب خافت.
وبينما كنت غارقًا في أفكاري، سمعت أصواتًا مألوفة تناديني.
"هيه! أيها المجنون!"
"س-سيدي الشاب لايشيت…!"
رفعت رأسي لأرى غولدن بوي وفايوليت يقتربان.
"غولدن بوي... وفايوليت؟" تمتمت، متعرفًا عليهما.
"حسنًا، حسنًا! من كان يظن أنك لا تزال حيًّا! أنت حقًا عنيد!"
"تبدو وكأنك محبط من ذلك."
"هل أنا واضح لهذه الدرجة؟"
هذا الوغد…
رمقته بنظرة متعبة، ورفعت قبضتي مهددًا.
سرعان ما اختبأ غولدن بوي خلف فايوليت كجرو مذعور.
"هيه، هيه... رفقًا بي، أليس لدي إصابات أيضًا؟"
أشار إلى جسده الملفوف بالضمادات وهو يبتسم ابتسامة محرجة.
"لو لم تحضر فايوليت البروفيسورة كايت... لكنت في عداد الموتى الآن."
"تحلم."
"آه... قاسي كالعادة."
عبس غولدن بوي لتجاهلي كلماته.
تجاهلت تمثيله الدرامي، ثم التفتُّ إلى فايوليت التي بقيت صامتة بشكل غير معتاد.
"س-سمعتُ أنك خضعت لعملية... هل، هل أنت بخير؟" تلعثمت، وقلق واضح يملأ صوتها.
لم أستطع منع ابتسامة صغيرة من الظهور على شفتي.
"أنا بخير… وأنتِ؟"
"أ-أنا... أنا بخير… بفضل غولدن بوي... لقد حماني...!"
"أهم!"
انتفخ صدر غولدن بوي وتظاهر بالسعال ليخفي ابتسامته المتبجحة.
فكرت في أن أصفعه لإزالة تلك الابتسامة من وجهه.
هل هذه إشارة جديدة لـ"اضربني"؟
"رأيت ذلك؟ هذه براعة أخيك!"
"..."
"بضغطة إصبع، كانوا يسقطون واحدًا تلو الآخر! مثل أبطال الروايات..."
تجاهلت هراءه، وتركت كلماته تدخل من أذن وتخرج من الأخرى. ( المشكل أنه لم يكذب ههه)
وحين التفتُّ مجددًا إلى فايوليت، لاحظت أمرًا غريبًا.
"م-ماذا؟" سألت بصوت خافت وقلق، وكأنها شعرت بنظراتي.
ربّتُّ على خدها.
"ضمادتك بدأت تنفك."
"ض-ضمادتي؟"
"نعم."
رفعت فايوليت يدها بسرعة إلى خدها، واتسعت عيناها حين شعرت بها مرتخية.
أصلحتها على الفور، بحركات متوترة.
تنهدتُ بخفة.
"كوني حذرة."
"ش-شكرًا لك..."
مددت يدي وربّتُّ على رأسها بلطف.
ارتبكت قليلاً عند لمسي، لكنني تظاهرت بعدم ملاحظة ذلك.
"إذاً… سنعود إلى الأكاديمية صباح الغد؟"
"على الأرجح. لا سبب لبقائنا هنا أكثر."
"كل ما أريده الآن هو أن أعود وأنام لأسبوع كامل..."
ضحك غولدن بوي على تنهيدتي المتعبة.
"هيا، لم يكن الأمر سيئًا إلى هذه الدرجة، أليس كذلك؟ اليوم الأول كان مثيرًا في الحقيقة."
"ربما يمكنك قول ذلك."
"ما هذا الرد الباهت؟"
لم أُكلّف نفسي عناء الرد.
كنت مرهقًا جدًا.
هذه الرحلة المدرسية لم تكن مريحة إطلاقًا.
مررت يدي على وجهي، أحاول طرد التعب.
"ما رأيك أن نرتاح قليلاً؟" قالها غولدن بوي هذه المرة بنبرة هادئة على غير عادته.
"من المؤكد أن جراحك لم تلتئم بعد."
فكرت في كلامه للحظة، ثم أومأت برأسي ببطء.
"...نعم، معك حق."
كان محقًا.
لدي الكثير لأفكر فيه، لكن الآن... كل ما أحتاجه هو الراحة.
سنعود إلى الأكاديمية غدًا على أية حال.