عندما ابتعد "كي" عن الفريق وسار باتجاه القصر بمفرده، شعر "كايغو" بشيء غريب. كان كل شيء يبدو عاديًا بالنسبة له، لكن داخله كانت هناك تساؤلات لا تنفك تعكر صفو تفكيره.
"كيف أصبح هكذا؟" تساءل كايغو بينما هو يسير على طول الطريق الجبلي، لكنه سرعان ما طرد الفكرة. لا يريد أن يتوقف عن التفكير في ذلك الشخص الآن، لكنه لا يستطيع إيقاف الفضول الذي بدأ يتسرب إلى ذهنه.
بينما كان كي يسير عبر الحطام النووي، كان المكان مشبعًا برائحة غريبة، قوية ومالحة، وكأن الهواء نفسه يحمل آثارًا من الانهيار. الأرض مليئة بركام خردة وقطع معدنية مشوهة. أبعد من ذلك، كانت القمامات النووية تتناثر في كل مكان، ترسل موجات من التلوث في كل زاوية. المكان كله كان يبدو كحقل من الخراب، مليء برائحة السموم والموت.
لكن ما لفت انتباه كي هو ما كان أمامه. كان هناك مسوخ ضخمة، تزداد ضخامة مع كل خطوة يخطوها، مخلوقات مشوهة، منقوصة الأجزاء، بعضها يتناثر من جسده مواد سائلة غريبة، وآخرون يسيرون ببطء في تردد بين القمامات. وحوش كانت أصلاً تشكيلة غير طبيعية لنمو بيولوجي مضطرب، تأثرت بنفايات وسموم نووية.
وقف كي للحظة، متأملاً تلك الوحوش. كانت أسئلته تدور في ذهنه، يتساءل كيف تشكلت هذه الكائنات الغريبة. ومع مرور لحظة، تذكر فجأة شيئًا ما... شيء غريب. كانت هناك تجارب قديمة، تجارب محفورة في عقله، تجارب لم تكن بعيدة عن هذا النوع من التشويه البيولوجي.
" ذلك المخترع المجنوق." قال كي في ذهنه بصوت غاضب وحاد. كانت تلك التجارب التي أدت إلى تشويه الأجساد، والدمج بين الكائنات الحية والمواد السامة، هي ما جعله يتذكر ذلك العبقري المجنون. العبقري الذي كان قد أجرى تجاربه على المخلوقات الحية في محاولة لخلق نوع جديد من الحياة... وحوش لم تكتمل، ولا يهمها إن كانت تعيش أم لا.
وهنا، عادت ذكريات كي عن تلك التجارب المظلمة... كانت الوحوش التي أمامه الآن نتيجة للجنون البشري نفسه، الذي دفع الإنسان للتلاعب بالكائنات، وإدخالها في تجارب مميتة، وجعلها ضحية لأهوائهم.
نظرة باردة عبرت عيني كي. "لا يهم،" همس لنفسه وهو يرفع يده. تمتم بكلمات غير مفهومة، بينما اندفعت القوة الجسدية الهائلة من جسده، محطمةً الوحوش أمامه ببراعة تامة. لم يكن هناك تعب أو جهد يُذكر، فقط تنفيذ لقتلهم واحدًا تلو الآخر، بلا رحمة، بلا أسف. هم فقط تجارب فاشلة، ولا يستحقون التعاطف.
بعد لحظات من القتل الصامت، توقف كي أمام باب قصر مظلم، مغطى بتشوهات وعلامات الزمان. هذا هو المكان الذي كان يتوقعه. المكان الذي ينتمي إلى كل شيء غير طبيعي وكل شيء مشوه، مثل تلك الوحوش. كان الباب نفسه يصرخ في وجهه بالصمت، كما لو كان يحمل سرًا مظلمًا وراءه.
وهو واقف أمام الباب، لم يستطع كي إلا أن يتذكر التجارب، تلك التجارب الغريبة، والجنون الذي قادهم إلى هذا الوضع. كانت تلك اللحظة نقطة تحول جديدة، حيث بدأ كي يفكر في الأبعاد التي قد تؤدي إليها هذه التجارب... تجارب لم تكن سوى بداية لشيء أكبر وأكثر فوضوية.
كي وقف أمام الباب المظلم بقوة، حتى لامس يده باردة الحديد. هناك لحظة صمت طويلة، وكأن المكان نفسه كان يحاول أن يبتعد عن الزائر الذي دخل دون استئذان. لكنه، بكل هدوء، دفع الباب برفق ليفتحه. تناثر الضوء الخافت من الداخل ليكشف عن قصر مهدم. كانت الجدران متصدعة، والسقف منخفض في بعض الأماكن، وبينما كانت الرياح الباردة تهب من النوافذ المكسورة، كانت الأجواء مشبعة برائحة العفن والموت. جو القصر كان ثقيلًا، مشؤومًا، كما لو أن الوقت نفسه قد تجمد في هذا المكان، وركبته أيدي الظلام.
بدأ كي في التجوال عبر القصر المظلم، خطواته خفيفة ومثيرة للاهتمام في نفس الوقت. كان يمر أمام أبواب مغلقة، وبين ممرات ضيقة، حيث كان ضوء ضعيف من المصابيح القديمة يضيء الطريق أمامه. كان يبدو وكأن الزمن في هذا المكان قد توقف منذ زمن طويل، وأن كل شيء هنا قد نُسي أو قُتل.
ثم فجأة، من أحد الأبواب النائية، فتح باب كبير بصوت صرير غريب. ظهر شخص يقف في الباب، يرتدي عباءة سوداء كاملة تغطي جسده بالكامل، وكأنها تمتص الضوء من حوله. كان وجهه مختبئًا تحت عباءته، لكن كان بالإمكان رؤية عيون صفراء طويلة تُشع من الظلام. أما فمه، فكان طويلًا ومشوهًا، كأن ابتسامة وحشية تظهر من خلاله. كان يحمل في يده منجلًا حادًا ومظلمًا، والدماء التي كانت عليه توحي بأنه قد استخدمه كثيرًا.
كي نظر إليه بلا اهتمام، كما لو أن هذا اللقاء لم يكن مهمًا بالنسبة له. بهدوء، وقال: "هل أنت الزعيم هنا؟"
ابتسم صاحب المنجل ابتسامة خبيثة، كانت مثل الهاوية التي تبتلع كل شيء. ثم تحدث بصوت عميق وبارد، يملأه الشر: "نعم، أنا نيفيلار. وهذا المكان لا يرحب بالغرباء. وكل من يدخل هنا، لا يعود." ابتسم ابتسامة أوسع، لكن كأنها لا تحمل أي سعادة، فقط تحمل نية قتل باردة: "أنت لا تملك فكرة عما ستحققه بدخولك هنا."
كي لم يُظهر أدنى تعبير على وجهه، بل بقي هادئًا، كان يعلم أن هذا الشخص ليس سوى عقبة صغيرة في طريقه.
نيفيلار تحرك بسرعة، فانقض على كي بسيفه الطويل المنجل الذي يلمع بلمسات حادة تحت الضوء الباهت. عينه الصفراء تلمع بنظرات حادة، وعزمه على قتل كي كان واضحًا في كل خطوة. بكل قوة، حاول أن يشق طريقه إلى صدر كي، لكن قبل أن يصل المنجل إلى هدفه، قوبل بهجوم مفاجئ. كي تحرك بمرونة مذهلة، يتفادى الضربة كما لو كان يتجنب نسمات الرياح.
وبسرعة البرق، رد كي لكمة قوية على وجه نيفيلار، فأرسله يتدحرج بعيدًا حتى اصطدم بجدار القصر. كان كي يقف على الأرض بثبات، بلا تعبير على وجهه. "حسنًا، لن أستعمل كل قوتي. ليس علي أن أخرجك من هنا، أخشى أن يراني هؤلاء الحمقى وأنا أعذبك." قالها ببرود شديد وهو يراقب نيفيلار وهو ينهض بسرعة من على الأرض.
لم يتوقف نيفيلار عند ذلك، بل هاجم مجددًا، وشن ضربات متتالية على كي باستخدام منجله، يحاول اختراق دفاعاته القوية. كانت كل ضربة مثل سحابة قاتمة تمر في الهواء، وحين يلتقي المنجل بجسد كي، كان يحدث صوت احتكاك حاد، لكنه لم يتسبب في أي أذى حقيقي.
كي لم يحرك ساكنًا إلا لتفادي الضربات بهدوء، ثم بدأ بالهجوم المضاد. أطلق وابلًا من اللكمات العنيفة نحو نيفيلار، كل ضربة كانت تصطدم بجسده بطريقة تجعله يتألم، ولكن دون أن يستسلم. كان الهجوم سريعًا جدًا، لدرجة أن نيفيلار بالكاد استطاع أن يصد بعضها. ومع كل ضربة كانت تتحطم دفاعاته واحدة تلو الأخرى.
في لحظة حرجة، حاول نيفيلار أن يقطع يد كي باستخدام منجله. كان الهجوم سريعًا وحادًا، ولكن كي لم يبدُ وكأن الحافة ستصل إلى هدفها. المنجل اخترق جلد كي قليلاً فقط، لكن كان ذلك كأنما ضرب الحائط. لم يتعمق السلاح أكثر من ذلك.
نظر كي إلى يده في هدوء مطلق، ثم نظر إلى نيفيلار بنظرات لا مبالية. "يد قطعت منذ وقت قليل. فلا مانع لي إذا قطعتها مرة أخرى." قال ذلك بنبرة هادئة وغير مبالية .
المنجل كان مغروسًا في يد كي، وقطرات الدم تتساقط منه كما لو كانت علامة على تحدي. نيفيلار كان يراقب بتركيز شديد، بينما سحب منجله بسرعة وحاول توجيه ركلة قوية إلى وجه كي. لكن في لحظة غريبة، وبكل هدوء، وبلا أي مبالاة، أمسك كي قدم نيفيلار قبل أن تلمس وجهه. الحركة كانت سريعة ودقيقة للغاية، وكأن كي كان ينتظر هذه اللحظة تمامًا. بكل برود، رمى قدم نيفيلار بعيدًا بضربة قوية من يده اليمنى، مما جعل نيفيلار يتدحرج على الأرض بعيدًا عنه.
دهشة نيفيلار كانت واضحة. عاد ليقف، لكن عقله كان مشوشًا. لم يكن يفهم كيف أمسك كي قدمه في تلك اللحظة بالذات، وكيف استطاع من التعامل مع ركلة قوية بهذه السهولة. "كيف؟" همس لنفسه، مغمضًا عينيه في محاولة لفهم ما حدث، ثم نظر إلى كي بشك ودهشة.
"لم التقي خصمًا باردًا وغير مبالي مثلك من قبل... هل لا تخاف من الموت؟" قال نيفيلار بصوت منخفض، موجهًا له سؤالًا كان يشبع بالاستفهام. "هل لا تخاف من أن تموت هنا، بينما لم تكمل حلمك؟ هل لا تخاف من أن لا ترى أحبابك؟"
"الخوف؟ لا أملك شيئًا يستحق أن أخاف عليه. لا وطن ينتظرني… لا يد ترتجف إن متّ… لا عين ستبكي اسمي."
ابتسم ببرود قاتل.
"حتى الموت لا يعرف اسمي… لأنه حين يجيء، لن يجد فيّ ما يمكنه سلبه."
"أنا... ببساطة، لا أُهزم، لأنني لا أمتلك شيئًا أخسره."
ضحك نيفيلار بخفة، كأن شيئًا في كي قد أيقظ فيه الرغبة الحقيقية بالقتال.
مدّ يده، وبدأ جسده يشحن بالمانا، تشققت الأرض أسفله من ضغط الطاقة، ودوامة من الظلام والشرر بدأت تدور حوله. في لحظة، اندفع بسرعة مضاعفة نحو كي، كأنه ظلٌ ممزق يخترق الهواء.
انطلقت ضرباته القاطعة كزوبعة من الشفرات السوداء، تنوي التقطيع لا القتال... لكن كي؟
بلا سلاح، بلا مانا، بلا تعويذة... كان يصد الهجمات بيديه فقط. الجلد يحتك بالحديد، والشرر يتطاير، لكن كي لم يخطُ خطوة واحدة للوراء.
نيفلار توقف للحظة، أنفاسه متسارعة، وعيناه لا تصدقان ما تراه.
"أنت... ماذا تكون؟!"
لكن كي لم يجب. بل أمسك نصل منجل نيفيلار فجأة بيده العارية. أوقف الهجوم كاملاً بقوة أصابعه فقط. كانت عينيه مليئتين بخيبة لا غضب فيها، بل خيبة باردة كالموت.
"ظننتك خصمًا جديرًا... يبدو أنني بالغت في تقديرك."
ثم، وببساطة مزعجة، رفع قدمه وركل نيفيلار بقوة في بطنه. الهواء خرج من صدره كصرخة مكتومة، وتدحرج إلى الوراء حتى اصطدم بالحائط.
ظل للحظة على ركبتيه، ثم رفع رأسه بابتسامة عريضة مشوهة بالألم والدماء.
"هاه... إذا واصلت بهذا الشكل... فلن يكون سوى عرض تافه.
لكن لا بأس... العرض الحقيقي لم يبدأ بعد."