صوت تنفّس نيفيلار بات أكثر هدوءًا... ثم توقّف تمامًا.

رفع منجله ببطء... ثم طعنه في الأرض.

"استيقظي، يا مجازر الظلال... وابتلعي ضوء هذا الأحمق."

في لحظة، خرجت من تحت قدميه ظلال سائلة... كأن الأرض نفسها تنزف كوابيس.

الظلال لم تكن ظلالًا حقًا... بل شفرات شفافة، تنساب كالماء، لكنها تومض كلما تحركت كأنها تملك وعيًا خاصًا بها. صامتة... خبيثة... وتدور حول كي كقِطع من كابوس حي.

أصبح الهواء ثقيلاً، والضوء يتلاشى شيئًا فشيئًا، كأن المكان يغرق في قاعٍ أسود. كي، رغم ثباته، شعر للحظة بأن الأرض نفسها تنكمش تحت قدميه.

كل حركة صغيرة من جسده كانت تكفي لإثارة الهجوم. شفرات الظلال تهجم فجأة من زوايا مستحيلة — من الخلف، من فوق، من الداخل كأنها تعرف مفاصله قبل أن يتحرك.

ومع ذلك، عينا كي بقيتا كما هما... متيقظتان لامبالاتان.

بدأت الشفرات الظلية تتحرك... بلا صوت، بلا مقدمات. انقضّت من كل اتجاه كأنها تتنفس من غضب قاتم.

كي انحنى لتفادي إحداها، لكنها انحنت معه... وجرحت كتفه برشاقة جراح محترف.

أخرى انقضّت من الخلف، مزّقت قميصه وأصابته بخدش طولي على ظهره.

حاول الرد — بكل تلقائية، رفع قبضته ولكم إحداها.

لكن يده اخترقت الظلّ للحظة... ثم انفجر ألم حارق على مستوى ساعده. الشفرة لم تتحطم، بل تلوّت كأنها تسخر منه، ثم مزّقت بشرته كأنها تعاقبه على غبائه.

تراجع خطوة، وبدأت الشفرات تتكاثر من الأرض، من الجدران، حتى من ظلّه ذاته.

على بُعد خطوات، كان نيفيلار يراقب بصمت... قبل أن يُخرج ضحكة ساخرة كأنها صفعة من ظلام.

"أحمق."

قالها وكأنه يُعطي حكمًا نهائيًا.

"تحاول تحطيم مانا خالصة... تقنيات الظلال ليست حجارة تضربها وتنجو، يا صغير."

ثم لوّح بإصبعه على مقبض المنجل.

فجأة، إحدى الشفرات اتخذت شكل قوس وانقضّت على كي من الأعلى، والأخرى صعدت من الأرض لتقطع ساقه إن تحرّك خطوة أخرى.

كان محاصرًا...

الهواء بات أثقل، وعيونه بدأت تلاحظ أن المسافات حوله تتشوّه... الجدار بدا أبعد مما هو عليه، الأرض غير مستقرة، والظلال تتحرك قبل أن يرمش.

لكن رغم كل ذلك... لم تتغير ملامحه.

لا هلع، لا توتر... فقط عيون تحلل...

انقضّت الشفرات كأنها تعرف خطواته قبل أن يخطوها.

رفع كي قبضته ليلكم إحداها، لكنها انحنت فجأة كأنها تتنبأ بحركته، وانغرست في جانبه بجرح عميق.

استدار ليتفادى الأخرى، فاخترقت فخذه من زاوية خفية.

كلما تحرك، تبعته الظلال بصمت قاتل، شُبه خفي، كأنها كوابيس تحفظ غضبه وتحترق به.

تقدم نيفيلار بخطى واثقة، والابتسامة الشريرة على وجهه تتسع:

"أعترف أنك خصم قوي... ومثير جداً للتقطيع."

لكن في اللحظة التي التقت فيها عيناه بعيني كي، تجمّدت كلماته.

نظرات حادة... باردة كأنها لا تنتمي لكائن بشري.

تسلل شعور مبهم في صدر نيفيلار... رعشة خفيفة، شهقة خرجت دون وعي، كأنه لمح شيئاً خلف عيني كي لا يجب على أحد أن يراه.

كي بدأ بالتقدم.

بخطى ثابتة، غير متعجلة... كأن الجروح لم تكن تنهش جسده الآن.

نيفيلار، وهو يحاول إخفاء اضطرابه، أشار بإصبعه.

الظلال هاجت... الشفرات السوداء انطلقت بالعشرات، تمزق الهواء وتخترق الفراغ نحو كي.

الوجنات... تمزقت.

الكتف... انغرس فيه سكين صامت.

الذراع... تقطّع منها شريط من الجلد، وتدفق الدم بلا توقف.

كل جسد كي تحول إلى لوحة دامية...

...إلا عيناه.

لم تلمسها شفرة واحدة.

كل شفرة تقترب منهما كانت تنحرف فجأة... ترتد، تتجنب، تذوب.

نيفيلار، وسط سيل الدم، لم يستطع كتم السؤال:

"لماذا...؟ لماذا ما زلت تمشي؟! لماذا لا تلمس عينيك؟!"

لكن كي لم يجب.

كان صامتًا، وعيناه المتوهجتان بالبرود تواصلان السير نحوه...

كأنهما الشيء الوحيد في العالم الذي لا يُسمح للموت أن يلمسه.

كان نيفيلار يصرخ في داخله، عيونه تتسع، وجهه يقطر ذهولًا:

"لماذا... لماذا ما زال يمشي؟! جسده... جسده كله ممزق! إنه ينزف حتى الموت!"

نظره مسح جسد كي الملطخ بالدماء. الجروح غائرة، الجلد ممزق، اللحم مكشوف في بعض المواضع، لكن خطواته لا تتباطأ. لا يتأوه. لا يتردد.

وفجأة...

وصل كي.

وقف أمام نيفيلار، جسده لا يكاد يحمل نفسه، لكنه واقف. عيونه لا تزال صافية... وباردة كالجليد.

مدّ يده... لا حركة سريعة، لا قوة خارقة. فقط يد ثقيلة مليئة بالهدوء.

بضربة واحدة، هوت يد كي على رأس نيفيلار، فطرحه أرضًا كدمية مهشّمة.

نيفيلار تلوى محاولًا النهوض، لكنه ما إن رفع ذراعه حتى أحس بثقلٍ يسحق صدره.

رفع رأسه... فرأى قدم كي تضغط عليه بثبات، تمنعه من التنفس، من الحركة، من الوجود.

كي انحنى بهدوء، تناول المنجل من الأرض.

قلب نصلَه ببطء، وجعله يستقر على رقبة نيفيلار المرتجفة.

رفع كي عينيه الملطختين بالدماء، ثم قال ببرود مطلق:

"قلت لي إن ظلالك ستبتلع نوري..."

صمت للحظة، ثم أضاف:

"آسف، لكنني لا أمتلك نورًا من الأساس."

"ولهذا ظلالك... لم تجد شيئًا لتبتلعه."

سقطت أنفاس نيفيلار ببطء... صوت قلبه يتلاشى وسط سكون الظلال.

تجمّدت عيناه على وجه كي، ثم بدأت ترتخي شيئًا فشيئًا.

(هل هذه... نهايتي؟)

همس بها داخله، دون صوت.

ومع آخر ذرة مقاومة، انكمش قلبه بحزنٍ لا يُرى، وهمس في داخله مجددًا:

"آسف... لم أَفِ بوعدي لكِ... آسف جدًا..."

ثم أُغلق كل شيء.

توقّف كي فجأة، يده ما تزال تمسك منجل نيفيلار، وعيناه معلّقتان في تلك العينين الطويلتين الصفراء، وكأنهما نافذة لشيء أعمق.

انحنى قليلاً، يحدّق بنظرة تحليلية باردة، لا تحمل شفقة... بل شيئًا آخر، أكثر عمقًا.

نيفيلار تمتم بضعف وهو يزفر:

"هيا... أسرع، أنهِ الأمر... هل تستمتع برؤيتي هكذا؟ مثيرًا للشفقة؟"

لكن كي ردّ دون أن يرمش:

"لا... فقط كنت أنظر في عينيك... إنهما تشبهان عيون أولئك الذين فقدوا كل شيء... ولم يعودوا يملكون شيئًا ليخسروه."

تجمّد نيفيلار لحظة، لم يفهم. شيء في نبرة كي لم يكن عاديًا.

ثم، ببطء... مد كي يده نحوه، كأنه يعرض عليه النهوض.

توسّعت عينا نيفيلار في دهشة صامتة... ينظر إلى اليد، ثم إلى وجه كي. لم يكن هناك ازدراء... ولا شفقة.

(هل يعرض... المساعدة؟ بعد كل ما حدث؟)

ثم نظر للأسفل، فرأى قدم كي قد ابتعدت عن صدره. تلك اللحظة تحديدًا، شيء انكسر داخل نيفيلار، وشيء آخر اشتعل.

"أحمق..."

تمتم بها، ثم فجأة وجّه لكمة قوية إلى بطن كي، دفعته قليلًا، واستعاد منجله بحركة خاطفة.

وقف بتمايل، الدم يسيل من فمه، لكنه كان يبتسم بصمت... ابتسامة غامضة لا يُفهم منها إن كانت حزنًا، أم تقديرًا، أم رغبة أخيرة في القتال.

نيفيلار أطلق ضحكة قصيرة ممزوجة بالمرارة، يمسح الدم عن زاوية فمه ويهز رأسه ساخرًا:

"أنت... غبي فعلًا. هل تظن أنني سأدعك ترحل؟ ما زال هناك وعد عليّ أن أفي به."

رفع منجله، وحركه بسرعة نحو رقبة كي... لكن ما إن لامس النصل جلده حتى صدر صوت "طَق" واضح... وانكسر طرف المنجل كأنه زجاج هش.

تجمّد نيفيلار. عيناه اتسعتا بعدم تصديق. نظر إلى النصل المكسور في يده، ثم إلى كي، الذي وقف بلا أي حراك، كأن شيئًا لم يحدث.

"مستحيل..."

همس بها نيفيلار، وكأن آخر خيط من إرادته قد انقطع. كتفاه ارتخيا، وحدقتاه فقدتا وهجهما القتالي.

لكن كي تكلم أخيرًا، بنبرة باردة تلامس شيئًا عميقًا:

"لا يمكنك قتلي... وهذا مؤسف. كان سيكون جميلًا لو استطعت."

تراجع خطوة، ونظر في عيني نيفيلار، ثم أضاف:

"وجهك ليس بشريًا... لكنه يصرخ بالبشرية."

كأن الكلمات صفعته. ارتجف نيفيلار بخفة، وعيناه تهربان من نظرات كي. ثم، بصمت ثقيل، أنزل غطاء وجهه وكشف ملامحه للمرة الأولى.

وجه بشري، تآكلت أطرافه بندوب من الظلال... لكن العيون؟ كانت عيون إنسان، محطم، ضائع، مكسور.

قال بصوت خافت وهو يطأطئ رأسه:

"أنا... في النهاية... مجرد بشري."

ثم ابتسم ابتسامة حزينة، كأن اعترافه هذا كان النهاية التي تهرب منها روحه منذ زمن طويل.

ارتسمت ابتسامة واثقة على شفتي كي وهو يقول بنبرة هادئة تخفي حدة داخليّة:

"كنت أعلم... مهما حاولت إخفاءه، يبقى البشر بشرًا. لا أعلم سبب قتالك، لكن إن لم يكن نابعًا من قلبك… انسحب."

تراجع نيفيلار خطوة، ونظر إلى يديه المرتعشتين، كأنما يحمل فيهما حياة شخص آخر.

تمتم بصوت مكسور، بالكاد يُسمع:

"أنا لا أحب القتال... لكنني مضطر... من أجل ابنتي."

توقّف كي، وبدت عليه لحظة صمت غريبة، كأن جدارًا داخليًا قد تصدّع.

"ابنتك؟" قالها بهدوء عميق، قبل أن يضيف بنبرة أخفت جرحًا دفينًا:

"وهل القتال هو السبيل الوحيد لحمايتها؟"

صمت كثيف خيّم بينهما، لا يُسمع فيه سوى أنفاس نيفيلار المتقطعة، والدماء تسيل من جراحه بينما لا يزال راكعًا على الأرض، مكسور السلاح، مكسور الروح.

نظر إلى كي... ذلك الفتى الذي كان من المفترض أن يهزمه، فإذا به يقف أمامه الآن، عاري القلب لكن ثابت النظرات.

همس نيفيلار بصوت مبحوح، دون أن ينظر في عينيه:

"هل تسمح لي أن... أقول شيئًا؟ لا، ليس لك. لنفسي... فقط... دعني أفرغ هذا. لقد كان في داخلي لسنوات، ولم أجد يومًا أحدًا يسمعه. حتى أنا... لم أسمعه من نفسي.... وبما انك سالتني...دعني ارد على سوالك "

رفع رأسه قليلًا، وعيناه تلمعان بتلك الرطوبة التي لا تعود للبكاء بل لأشياء أعمق... لما لم يُقال قط.

"لستُ آلة يا فتى... ولا ظلًّا... أنا بشر... وكل بشري لديه بداية، وها هي بدايتي..."

[من منظور نيفيلار]

عندما كنت طفلًا، لم أكن مختلفًا عن البقية. كنت أركض في الشوارع الترابية بحذاء ممزق، أصرخ ضاحكًا، أركض خلف الأمل كأي طفلٍ يجهل ما سيأتي.

لكن الموت... لا يطرق الأبواب. في يومٍ واحد، تحولت ضحكتي إلى صمت. سيارة مسرعة، صرخة واحدة، ووالديّ اختفوا. لا وداع. لا فرصة للفهم.

أُرسلت إلى دار الأيتام. جدرانها رمادية كقلوب المشرفين عليها. هناك، اكتشفوا أنني أملك جسدًا سريع التعلم... ويدًا لا تخطئ بالسلاح. كنت موهوبًا، أو هكذا قالوا.

لكن ما فائدة الموهبة إن كانت لعنة؟

كانوا يخافونني. حتى الأطفال الآخرون. كلما رفعت يدي لأصافح أحدهم، تراجع. كأنني لست طفلًا، بل وحش بهيئة إنسان.

كرهت القتال. كرهت كل ما يجعلني مختلفًا. كنت أريد فقط أن ألعب... أن أُعانق.

لكنني بقيت وحيدًا، حتى تعوّدت على الصمت.

عندما كبرت، تركت ذلك الجحيم. اشتريت فرنًا صغيرًا في حي ناءٍ، وبدأت أعمل خبازًا. كنت أصحو قبل الشمس، أعجن بيديّ، أملأ المكان برائحة الدفء.

لم تكن حياة عظيمة... لكنها كانت هادئة.

ولكن داخلي... كان فارغًا. الفراغ ينهشني ببطء، يذكرني أن لا أحد ينتظرني في نهاية اليوم.

ثم... التقيت بها.

كانت تشتري الخبز صباحًا. عيناها تضحكان، كأنها اعتادت على الحياة رغم قسوتها. لم تخف من يديّ القويتين، لم تسأل عن ندباتي. بل قالت:

"أشعر بالأمان بقربك."

حينها فقط... أحببت قوتي لأول مرة.

ذهبت إلى والدها، طلبت يدها، فوافق. لم أكن أملك الكثير، لكنها رأت ما لا يراه أحد. تزوجنا. كان قلبي ممتلئًا كأن الزمن بدأ من جديد.

ثم جاءت ابنتي... ملاك من نور. كانت نسخة مصغرة من والدتها، لكن فيها شيءٌ مني... القوة في جسدها الصغير، الابتسامة الواسعة، والشجاعة.

لم تكن تناديني "أبي"... بل "بطلي".

كنت أطهو لها صباحًا، وأحملها على ظهري مساءً. أخبرتها قصصًا عن السيوف والملوك، وكانت تصرخ فرحًا وتقول:

"عندما أكبر، سأكون أقوى منك!"

وفي كل مرة كنت أضحك... وأبكي داخليًا. لأنني كنت أعلم أن السعادة لا تدوم.

عندما بلغت الخامسة... عاد الماضي ليلطخ كل شيء.

رجال من الظلال... وجوه أعرفها من دار الأيتام. ذات المنظمة التي حاولت أن تستعبدني صبيًا. كانوا يريدونني... كأداة. قاتل مأجور بقلبٍ ميت.

كنت قد رفضتهم زمانًا. وهددتهم. قلت لهم:

"أي أحد يقترب من حياتي… سأمحو ظله من هذا العالم."

ويبدو أنهم صدقوا… لكن ليس للأبد.

جاؤوا ليأخذوا ابنتي. لم يقتلوا أحدًا، فقط… اختطفوها. قالوا:

"إن أردتها حية، تعال. وعِش في هذا المكان… اعمل لدينا، اجمع المال، وسنُعيدها لك."

ومنذ ذلك اليوم، أصبحت عبدًا. أعيش هنا… وأقتل، وأقاتل، وأُذل.

كل يوم أعدّ الدقائق. كل عملة أحصل عليها أقيسها بأمل… وألم.

أقسمت أنني سأحرّرها... لكن كلما طال الأمر، كلما بدأت أفقدها في داخلي. كأنها تصبح ذكرى... وهذا أكثر ما يرعبني.

2025/05/07 · 6 مشاهدة · 1751 كلمة
Mouad Kei
نادي الروايات - 2025