كانت السماء تميل إلى زرقة رمادية، كأنها تحتبس أنفاسها قبل هطول المطر. وعلى سطح القصر العالي الذي يعتلي قلب المملكة، جلس رايو وإيزومي بصمتٍ هادئ، يراقبان الأفق الممتدّ كحلمٍ بعيد.
ضحكت إيزومي برقة وهي تنظر إليه:
«هل كنتَ تتخيل يومًا أنك ستكون ملكًا؟»
ابتسم رايو، ونظر إلى يديه كما لو كان يحمل التاريخ بين أصابعه.
«لطالما ظننتُ أن العرش عبء، لا أمنية... لكن يبدو أن الزمن يحب السخرية.»
هبت نسمة عليلة حرّكت شعر إيزومي الطويل، فقالت بتنهيدة خفيفة:
«كل شيء تغيّر... من نحن الآن؟ ومن كنا؟»
لم يجبها مباشرة، بل نهض واقفًا، ناظرًا إلى المدينة تحتهم.
«ما زالت بعض الأشياء كما هي... الليل ما زال يخفي أكثر مما يكشف.»
صمتٌ ثقيل خيّم للحظة، ثم قال بنبرة خافتة:
«تلك الحرب لم تنتهِ بعد، إيزومي... لقد بدأت للتو. فقط بثوب جديد.»
أومأت برأسها، بعينين تواريان ألماً دفينًا، وقالت:
«الظلال بدأت تتحرك مجددًا... يسعون لشيء ما. شيء لا يجب أن يحصلوا عليه.»
ثم أضافت بصوت منخفض كأنها تخشى أن يسمعها الهواء:
«تخليهم عن العواطف، سعيهم نحو النقاء العقيم... كل ذلك ليس إلا البداية. لكن ما يُخيف حقًا... بحثهم عن القوة. تلك القوة.»
أطرق رايو قليلاً، ثم قال:
«القوة وحدها ليست الهدف. بل من يحملها. من يَقبل أن يُستخدم... أو من يُجبر أن يكون السلاح.»
تبادلا نظرة طويلة، كأن الزمن ذاته توقّف. ثم نطقت إيزومي بما يشغل قلبيهما:
«كي...»
قال رايو ببطء، كمن يلفظ جرحًا:
«لماذا فقدها؟ كيف يمكن لمن كان... أن يصبح خاليًا؟»
أومأت إيزومي بحزن:
«هو لا يمتلك مانا الآن. هذا واضح. لا أثر... لا نبض. كأن شيئًا اقتُلع منه.»
اقتربت من رايو، همست:
«أتعرف ما يُخيفني أكثر؟ ليس أنهم سيأتون من أجله... بل أنه قد لا يتذكّر من كان.»
قال رايو:
«هو الآن مجرد طفل. لا ذاكرة، لا قوة. مجرد قلب نقي في عالم لا يرحم. لكنه كان...»
صمت. كأن الكلمات تخونه.
قالت ايزومي بنبرة مرحة:
"ابننا الذي نحبه دائما".
جاءت صرخة طفل من داخل القصر، فأفلت الصمت قليلاً، وعاد الحاضر ليلفّهما. نظرا من السطح إلى حيث يلعب كي في الباحة مع كايسن، ضحكاتهما تملأ المكان ببراءة.
قالت إيزومي:
«أتمنى أن يبقى الأمر هكذا...»
قال رايو:
«لكنه لن يفعل. لن يتركوه. ليس هو.»
فجأة، وسط سكون المساء، جاء صوت طفولي من أسفل السطح، ناعمٌ لكنه قويٌ كأنما يحمل ما لا يستطيع عمره تحمله:
«أمّي، أبي! كي نام بين ذراعي!»
كان كايسن ذا السبعة أعوام يقف عند مدخل السطح، يحمل كي النائم بين ذراعيه ككنزٍ ثمين، وجهه متّسخ من اللعب، لكنه يبتسم بفخر، كأن حمله لأخيه مسؤولية لا يستهان بها.
ابتسمت إيزومي، وقلبها يتقلب ما بين حنان الأم وغصة المرأة التي تعرف ما لا يجب أن يُقال. اقتربت منه، ومرّرت يدها برفق على رأسه، ثم نظرت نحو رايو.
قال رايو بنبرة دافئة تُخفي ما وراءها:
«أحسنت، يا كايسن. أخوك يعتمد عليك كثيرًا.»
نظر كايسن إلى وجه كي النائم، وقال ببراءة:
«سيكبر ويصبح قويًا مثلي، أليس كذلك؟»
صمتٌ لحظيّ، كأن الهواء نفسه امتنع عن الإجابة.
قالت إيزومي أخيرًا، وهي تُصلح غطاء رأس كي بلطف:
«ربما... سيصبح شيئًا أعظم مما نظن. لكن ليس كل ما هو عظيم... سهل.»
نظر كايسن إلى أمه باستغراب، ثم إلى والده، وسأل:
«لماذا تتحدثون بغموض دائمًا؟ وكأنني لا أفهم...»
أجابه رايو بابتسامة غامضة:
«لأن بعض الأمور، يا بني... لا تُفهم إلا عندما تكبر قلوبنا بما يكفي.»
ثم أشار له بيده:
«اذهب الآن، خذ أخاك إلى غرفتكما. أريد التحدث مع أمك في أمرٍ ما.»
تردد كايسن قليلًا، ثم قال بنبرة نصف متمردة:
«لكنّي أريد البقاء!»
ضحك رايو بخفة، واقترب منه، وانحنى حتى صار وجهه قريبًا من وجهه:
«وهل تظن أنني أرسل قائد الفرسان المستقبلي إلى النوم؟ لا، أنا أرسلك لتحمي أخاك. هذه مهمّتك الليلة.»
ابتسم كايسن بفخر، ثم حمل كي بحرص، وغادر دون أن يعرف أن الأبوين خلفه يرمقانه بعينين تخفيان خوفًا لا يُقال، وأملًا هشًا في مستقبلٍ لا يضمنه أحد.
وحين اختفى عن أنظارهم، قال رايو بنبرة منخفضة:
«هل سيختارون كي من جديد؟»
قالت إيزومي:
«لا أعلم.. لكن لو فعلوا، لن أسمح لهم هذه المرة.»
سكنت أصوات الخطوات، وغاب ضوء كايسن في ممر القصر الحجري. بقي رايو وإيزومي واقفين في صمت، نظراتهما معلقة حيث اختفيا الطفلان، كأن الظل الذي تبعهما حمل معه زمنًا كاملاً لا يريد أن يعود.
قالت إيزومي بصوت خافت، بالكاد يُسمع:
«أتعلم... لازلت أتساءل إن كانت ستختار نفس الطريق هذه المرة.»
لم يُجب رايو، فقط أنزل عينيه إلى الأرض، وعضّ شفتيه.
همست مجددًا:
«هي كانت الأقرب إلى قلبه... ومع ذلك...»
قاطعها بصوت مرير:
«الطعنة لا تأتي إلا من حيث نأمن.»
سادت لحظة صمت أخرى، كأن الكلمات أصبحت عبئًا أكبر من قدرتهم على حمله.
ثم قال رايو وهو ينظر إلى السماء المعتمة:
«هي لم تخن الجميع... كانت دائمًا تحبهم... بطريقتها.»
أجابت إيزومي بنبرة شبه شاردة:
«لكنها لم تحبه بما يكفي.»
ثم نظرت نحوه وسألت، وكأنها تحاول إقناع نفسها:
«ربما كانت... تجربة؟ تجربة لم تكتمل؟»
أدار رايو ظهره بهدوء، وسار نحو حافة السطح، يراقب النجوم التي لم تعد تشبه ما كانت عليه. ثم قال:
«أحيانًا... التجارب لا تفشل لأنها كانت خاطئة... بل لأنها لم تكن مستعدّة.»
تقدمت إليه إيزومي، ووقفت بجانبه.
قالت:
«هل تظن أنها ستقف معه هذه المرة؟»
هزّ رأسه ببطء، وقال:
«ربما... لكن حتى لو فعلت، لن يكون الأمر كما كان. لأن كي... لم يعد كما كان.»
كان الوقت صباحًا، والسماء تغازل الأرض بشمس خفيفة كأنها تهمس لها: "يوم جديد… لا شيء سيتغير."
في فناء الأكاديمية، ركض كي خلف أخيه كايسن، يضحك من أعماق طفولته، يلهو كأن العالم كله يخصه.
"كايسن! انتظرني!"
صاح كي، وقد تعثّرت خطواته قليلاً فوق الحصى المصقول.
استدار كايسن، وجهه متعرّق وعيناه تلتمعان كأن القتال يسكن في دمه حتى في اللعب، ثم رفع يده نحو أخيه صارخًا:
"أسرع! أنا لا أنتظر البطيئين!"
لكنه أبطأ خطواته دون أن يقول لماذا.
ركضا معًا. لعبا معًا. لكن العالم حولهما لم يتحرّك.
الأطفال كانوا قريبين، لكنهم كانوا غرباء.
كلما حاول كي الانضمام، تباعدوا.
أحدهم همس لصديقه:
"إنه لا يمتلك مانا… غريب الأطوار."
ضحك الثاني وقال:
"حتى كلامه غريب… من يتحدث عن معنى الحلم في لعبة قتال؟"
كي لم يفهم. أو ربما فهم… ولم يعرف كيف يرد.
وقف بينهم مرة، محاولًا أن يروي لهم نكتة سمعها من أخيه، فحدقوا فيه، ثم أشاحوا وجوههم كأن لا شيء قيل.
كايسن اقترب منهم، عينيه مشتعلة:
"هو أخي! تتجاهلونه مرة أخرى وسأكسر أسنانكم!"
ضحك أحد الأطفال بتحدٍّ:
"حتى إن دافعت عنه، لن تصنع له مانا."
كايسن دفعه أرضًا، واندلع شجار خفيف، انتهى بصرخة مشرفة تهددهم جميعًا بالعقاب.
عاد كي إلى زاويته في الحديقة، يطالع دفتره الصغير، يرسم خريطة لمكان لا يعرفه.
كتب في الأعلى:
"لو كانت لدي مانا… هل كانوا سيضحكون معي؟ أم فقط سينظرون إلي؟"
كان كايسن يجلس بجانبه، يتنفس بعنف من شدة الغضب.
قال كي بصوت ناعم:
"شكراً لأنك دافعت عني."
هز كايسن كتفيه بعنف.
"أنا لا أدافع عنك. أنا فقط لا أحبهم."
ثم صمت قليلاً…
ومد يده يمسح الغبار عن يد أخيه.
في داخله، كي كان يعلم أن كايسن يحبه.
وفي داخله… كان يعلم أنه وحيد.
في ذلك الصباح، جلس كي على عتبة الدرج، يحتضن دفتره الصغير، يتأمل خطوطًا رسمها في الليلة الماضية. كانت صورة عائلة، مرسومة بأيدٍ مرتجفة.
خطوات خفيفة اقتربت.
كانت إيـزومي.
انحنت أمامه، وعيناها تتفحصانه كأنها تقرأ ألمًا تحاول إخفاءه.
قالت بنعومة:
"ما هذا؟ هل رسمت شيئًا جديدًا؟"
مد الدفتر نحوها بصمت.
نظرت... ثم ابتسمت بحنانٍ مكسور، كأن قلبها يُجلد بنظرته.
"جميل جداً... هذا أنا، وذاك أبوك؟"
أومأ كي برأسه، ثم همس:
"وذاك كايسن… وهذا أنا."
مرّت لحظة صمت.
ثم قال فجأة:
"أمي… لماذا أبي لا يبتسم لي أبداً؟"
تجمدت ملامحها.
عانقته بهدوء، ويدها تمر على شعره كأنها تسكت سؤالًا لا تعرف كيف تُجيب عليه.
قالت:
"أبوك... يحبك... لكنه لا يعرف كيف يُظهر ذلك."
في الجانب الآخر من البيت، كان رايو واقفًا يحدق عبر النافذة، ذراعيه معقودتان.
دخل كي بخطوات خفيفة، تردد قليلًا، ثم قال:
"أبي… هل أنت مشغول؟"
لم يلتفت رايو.
"أكتب الآن."
"آه… آسف."
استدار كي لينصرف، لكنه تمتم قبل أن يخرج:
"هل… هل تحبني يا أبي؟"
صمت.
ثم قال رايو، بصوت بارد لكنه مهزوز:
"المحبة ليست مهمة يا كي… المهم أن تصبح قويًا."
كي يدخل المطبخ بعد اللعب تحت المطر، يرتجف بردًا.
تسرع إيزومي نحوه، تضع عليه منشفة، وتبدأ بفرك شعره.
تقول بلطف:
"سوف تمرض، قلت لك لا تخرج دون معطف."
كي يبتسم:
"لكن المطر جميل… أمي، هل تعدين لي شوكولا ساخنة؟"
تضحك:
"أعددتها منذ بدأت تمطر."
تحمله وتجلسه على المنضدة… بينما في الخلف، يظهر رايو يعبر المطبخ، لا ينظر إليهم، يأخذ كأس ماء ويخرج دون كلمة.
كي ينظر له، ثم يخفض عينيه ويهمس:
"أبي… لا يحب الشوكولا، "
كي يرسم تحت شجرة في الحديقة.
يرى رايو يمر، فيركض نحوه حاملًا ورقته.
"أبي! انظر ماذا رسمت! رسمتك وأنت تقتل الوحش الأخير في الحصن!"
رايو يأخذ الورقة، ينظر إليها ببرود، ثم يقول:
"خطأ في وضعية السيف، يدك لم تمسكها بشكل صحيح."
يعيدها له ويمضي.
كي ينظر إلى الورقة، ثم يمزقها ببطء، دون أن يقول شيئًا.
إيزومي تراقب المشهد من النافذة، وعيناها ت
لمعان دموعًا.
في الليل، كي لا يستطيع النوم.
يذهب إلى غرفة والدته، تدخل عليه وتغني له تهويدة بهدوء.
كي يقول:
"أمي، هل كنت تغنين لي عندما كنت رضيعًا؟"
ترد بابتسامة شاحبة:
"كنت أفعل ذلك كل ليلة… حتى عندما لم تكون موجودًا بعد."
بعد أن ينام، تخرج من الغرفة وتلتقي رايو في الممر.
تقول له:
"كي يحتاجك، فقط كلمة واحدة منك تكفي."
إيزومي تهمس وهي تبتعد:
"وغدٌ جبان… تخشى أن تُحب."
كان كي يجلس على الأرض، يحدّق في حجر صغير، يحركه بأصابعه بتركيز غريب.
أصوات الأطفال من حوله تمتلئ بالصخب والضحك، لكنه لا يضحك… فقط ينظر.
كايسن يركض نحوه بعد أن دخل في شجار مع أحد الأولاد الأكبر:
"هيه! كي! لماذا لم تساعدني؟ ذاك الأحمق دفعني عمداً!"
كي يرفع رأسه ببطء، يقول بهدوء بالغ لا يناسب عمره:
"كان يمكنني أن أصرخ… أو أرمي الرمل على وجهه… لكن هل كنت ستشعر بالفخر بعدها؟"
كايسن يعبس:
"ما الذي تقوله؟ تتحدث كأنك عجوز حكيم! أنت طفل مثلي!"
كي يبتسم، نظرة ناضجة في عينيه:
"ربما… لكن أحيانًا أشعر أنني كنت شيئًا آخر… قبل أن أولد. لا أدري لماذا أفكر كثيرًا."
**
يقترب منهم صبيٌّ آخر، يقول بازدراء:
"انظروا إليه، يتكلم وكأنه معلم كبير! كي غريب… دائمًا يقول أشياء لا نفهمها."
يلتفت كي إليه، لا يغضب، فقط ينظر له… نظرة هادئة… مخيفة قليلًا.
صوت كي يتغير فجأة، عميق وثابت:
"ربما لأنني وُلدت لأقودكم… لا لتسخروا مني."
لحظة صمت غريبة تمر بين الأطفال. حتى كايسن يُفاجأ.
ثم يعود صوت كي ناعمًا من جديد، يضحك بلطف، كأن شيئًا لم يكن:
"أمزح، أمزح… أنا فقط غريب الأطوار قليلاً."
**
كايسن يمسك يد أخيه، يقول بعصبية ناعمة:
"أنت غريب… لكنك أخي. ومن يلمسك سأكسر أنفه."
كي ينظر إليه، وفي عينيه حزن خافت:
"شكراً لأنك الوحيد الذي يبقى."
**
في الخلفية، بعض الكبار يراقبونهما من بعيد، أحدهم يهمس:
"ذاك الطفل… كي… هناك شيء غير طبيعي في هدوئه."
والآخر يرد:
"أمر واضح جدا سبب عدم امتلاكه مانا ."
في زاوية الصف، جلس كي صامتًا، يكتب ملاحظاته بخط أنيق.
المعلم يتحدث عن تدفق المانا وأساليب التحكم بها، بينما أغلب التلاميذ يلعبون بأنفسهم أو يتفاخرون بقدراتهم الصغيرة.
فجأة، سأل المعلم سؤالًا صعبًا، فترددت الأصابع… إلا يدًا واحدة ارتفعت بثقة.
المعلم (بابتسامة مجاملة):
"كي؟… أنت بلا مانا. كيف ستفهم هذا السؤال؟"
كي (بهدوء):
"أنا لا أحتاج أن أشعر بالمانا لأفهم كيف تتدفق. فهم المبدأ ليس حكرًا على الموهوبين… بل على من يفكرون بعمق."
ضحك الصغار، وقال أحدهم بصوت ساخر:
"هو لا يشعر بشيء، فقط يتفلسف!"
كي يبتسم، ثم ينظر إلى الولد مباشرة:
"أنت تشعر بالمانا… لكنك لا تفهمها. أراك تكرر نفس الأخطاء يومًا بعد يوم، لأنك لم تسأل نفسك لماذا تفشل."
توقفت الضحكات… للحظة قصيرة فقط، قبل أن تعود أقوى.
"يا له من متكبر بلا مانا!"
"إنه مجرد طفل غريب الأطوار!"
"حتى عيونه كأنها لا تشعر بشيء!"
جلس كي مجددًا في مكانه، يهمس لنفسه:
"أنا أفهمهم… كلهم. لكنهم لا يستطيعون فهمي. ربما لأن أصواتهم مليئة بالقوة
… وعقلي فقط، هو من يتكلم."
[ليلٌ هادئ، في شرفة منزلهم الصغير. كي وكايسن نائمَين، ورايو ينظر نحو السماء، بينما تقف إيزومي خلفه، تحضن ذراعيها.]
إيزومي (بصوت منخفض):
"رأيتِه اليوم؟ كي... كان ينظر إليّ وكأنّه يريد أن يسأل شيئًا... شيئًا عميقًا."
رايو (دون أن يلتفت):
"لأنه يعرف. حتى دون أن يتذكّر، يعرف أن شيئًا ليس على ما يُرام."
إيزومي:
"عشيرة أكامي... منذ أن عدنا، وهم يتحرّكون في الظلال. البعض منهم فقط ما يزال وفيًا. الآخرون... لا أثق بهم."
رايو (بهدوء يشوبه التوتر):
"ليس فقط عشيرتنا، هناك من يسعى خلف عيون سيرافان. من يظن أنها مفتاح القوة القديمة."
إيزومي (بهمس):
"لكنها ليست قوة. إنها لعنة... ذكريات، دماء، نبوءات كاذبة، وطرق تؤدي إلى الجنون."
رايو (يغمض عينيه):
"وأيًّا كان من يتحرك الآن، فهو لا يبحث عن السلام. بل يريد أن يعيد المذبحة من جديد."
إيزومي:
"وكي...؟"
رايو (نظرة حادة):
"لن نسمح لهم بالوصول إليه. لكن... إن فشلنا، علينا أن نتركه يكرهنا... ذلك أهون من أن يعيش وهو يتمنى أن نكون موجودين."
[صمتٌ ثقيل يسود بينهما. ثم تنزل إيزومي رأسها بحزن.]
إيزومي:
"أحيانا أشعر وكأننا نكتب له مأساته بأيدينا."
رايو (ببرود ظاهر يخفي ألمه):
"المأساة كُتبت قبل أن يولد، نحن فقط نمنحه بعض الوقت... وبعض القوة ليعيشها."
قال رايو، وعيناه تحدقان في السقف:
"إنه لأمر غريب... أن يُنسب طفل مثل كي لعشيرة كالـ'أكامي'."
نظرت إليه إيزومي ببطء، وكأنها تعرف إلى أين يأخذها هذا الحديث.
"أتعني أن دمه لا يحمل النقاء؟"
هز رأسه نفيًا.
"بل أقصد أن نقاء دمه... قد يكون مصيبته."
تقدمت بخطوات خفيفة وجلست قبالته.
"قوة عشيرة الأكامي ليست في عيونهم وحدها... بل في لعنة تُولد معهم، تجعلهم دائمًا في المنتصف بين الحماية والدمار."
سكتت لحظة، ثم همست:
"هل تظن أن كي سيرث تلك العيون؟"
أجاب رايو دون تردد، بنبرة باردة:
"هو لا يملك مانا، لكن... عيون سيرافان لا تُظهر نفسها حين نرغب. بل حين تختار هي اللحظة."
ثم أضاف بصوت منخفض:
"والعشائر الأخرى تعلم هذا... وتخافه."
تجمد وجه إيزومي، ووضعت يدها على صدرها كأنها تداري خفقانًا مفاجئًا.
"هل تعتقد أنهم سيتحركون؟ بعد كل هذه السنين؟"
"ليسوا هم فقط... هناك أطراف أقوى، تترقّب لحظة الضعف."
"وأنت ماذا ترى؟" سألت بصوت يختلط فيه الذعر بالإصرار.
"أرى أن العاصفة تقترب، وأننا... لن نستطيع حمايتهما إلى النهاية."
نظرت إليه بعينين ممتلئتين بالقهر، تشبثت بنظرته:
"لن أترك كي مجددًا، لا أستطيع."
ثم همست إيزومي وهي تنظر عبر النافذة:
"سأفعل ما تطلب... لكنك تتحمل كل شيء، يا رايو. كل شيء."
في باحة المنزل الخلفية، كانت الشمس تتسلل خجولة من بين أغصان الشجر، حيث جلس كي وكايسن يلعبان بالسيوف الخشبية. ضحك كايسن بصخب، كعادته، بينما كي كان يبتسم بلطف، لكنه لم يكن مندمجًا تمامًا.
من بعيد، خرجت إيزومي حاملةً بعض المشروبات، نادتهما بحنان:
"كايسن، كي... خذوا قسطًا من الراحة، تعالوا."
ركض كايسن نحوها فورًا وألقى بنفسه في حضنها كالصغير الذي لا يخجل من حبه.
"أمي! لقد ربحت عليه خمس مرات!"
ضحكت إيزومي وربّتت على شعره:
"أيها الفارس الشجاع."
أما كي، فتقدّم بخطى أبطأ، وفي عينيه تردد غريب.
"أمي..." قالها بصوت خافت، "هل رأيتني؟ كنت جيدًا اليوم، أليس كذلك؟"
نظرت إليه إيزومي، ترددت للحظة... كادت أن تبتسم وتفتح ذراعيها له، لكن من خلفه، رأَت رايو واقفًا عند الباب، عينيه الصارمتين لا ترمشان.
تجمدت ابتسامتها، وأجابت ببرود :
"كنت... مقبولًا، كي. تابع التدريب، ربما تصبح أقوى لاحقًا."
اتسعت عينا الطفل قليلاً، كأن شيئًا داخله انكسر دون صوت.
"حسنًا..." همس وهو يدير وجهه، ثم جلس بجانب الحائط، ممسكًا سيفه الخشبي بهدوء. كايسن لم ينتبه لما حصل، وانشغل باللعب.
اقترب رايو من إيزومي، وقال بصوت منخفض لا يسمعه الأطفال:
"هكذا أفضل. دعيه يعتاد على الوحدة."
همست إيزومي دون أن تلتفت إليه، وعيناها تدمعان دون أن تبكي:
"إنه لا يفهم... لكنه يشعر."
في وقت متأخر من النهار، بينما كانت الشمس تغيب وتصبغ السماء بلونٍ برتقالي حزين، كان رايو واقفًا في ساحة التدريب، يتأمل هدفًا خشبيًا مزروعًا في الأرض.
ركض كايسن نحوه بحماس، يحمل سيفًا حقيقيًا – صغيرًا لكنه حاد.
"أبي! أريد أن تريني تلك الضربة التي علمتني إياها الأسبوع الماضي! أريد أن أجربها معك!"
نظر إليه رايو، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة – نادرة – وقال له:
"تعال. دعني أرى مدى تقدمك."
قفز كايسن فرحًا وبدأ يتدرب أمام والده، بينما رايو يراقبه بتوجيهات دقيقة وصوت صارم أحيانًا، لكنه مليء بالثقة.
"أحسنت... حركة ساقك أفضل. تحكمك بالوزن صار أقوى."
من بعيد، كان كي يراقب المشهد، جالسًا على الدرج الخشبي المؤدي للمنزل، يداه مطويتان حول ركبتيه. كان يريد التقدّم... يريد أن يقول لرايو إنه قرأ كتابًا عن القتال العقلي، وإنه جرب تقنيات تنفس متقدمة... لكنه لم يتحرك.
أراد أن يسأل:
"هل ستدرّبني أنت أيضًا؟"
لكنه لم يفعل.
كلما نظر إلى وجه رايو، رأى الصرامة فقط، لا دفء. وكلما نظر إلى كايسن، رأى الطفل الذي يمتلك ما لا يستطيع لمسه.
بعد لحظات، أدار كي وجهه بهدوء، ودخل المنزل دون أن يُصدر صوتًا.
بين أروقة قصر العشيرة، كان كي يسير بجانب والدته، رأسه مرفوع بثقة طفولية مصطنعة، يوزّع التحايا بتهذيب.
مرّ بأحد القادة الكبار، فانحنى له الرجل قليلًا وقال بنبرة مصطنعة:
"أميرنا الصغير... نتمنى لك مستقبلًا باهرًا، كما يليق بابن العشيرة."
ابتسم كي بأدب، لكن حين ابتعد خطوتين فقط، التقط همسات خافتة من خلف ظهره:
"بلا مانا... مجرد طفل طيب لا فائدة منه."
"لو لم يكن ابن رايو، لما بقي هنا ساعة."
تظاهر كي بأنه لم يسمع شيئًا، لكنه شدّ على يد والدته بقوة.
أيـزومي نظرت إليه بصمت، ثم أبعدت يدها برفق دون أن ترد.
ابتعد كي وحده في الممر الطويل، وهمس لنفسه:
"يبتسمون لي... لكنهم لا يروني."
في ساحة التدريب الصغيرة خلف القصر، تجمّع عدد من أطفال العشيرة، أعمارهم بين السادسة والعاشرة. كانوا يتبارون في استدعاء شرارات المانا وتحريك الأجسام الخفيفة.
اقترب كي بخطى مترددة، حاملاً عصاه الخشبية الصغيرة.
قال بحماسٍ صادق:
"أيمكنني اللعب معكم؟ لدي خطة لتعاوننا ضد التدريب القادم، إن ركّزنا على—"
قاطعه أحد الفتيان ضاحكًا:
"خطة؟ أنت لا تملك مانا أصلًا، ما الذي ستفعله؟"
ضحكت فتاة أخرى بسخرية:
"ربما سيقاتلنا بكلامه! هذا كل ما يجيده... الحديث كالكبار."
تراجع كي قليلًا، لكنه قال بهدوء فاق سنّه:
"أنا لا أحتاج إلى مانا كي أفهم ما يجري حولي... أنتم تهاجمون بلا تنسيق، وتضيعون طاقتكم في الاستعراض."
صمت الأطفال للحظة، ثم رمقه أحدهم بنظرة مستفزة:
"ما دمت تفهم كل شيء، فلماذا لا تفهم أن لا مكان لك بيننا؟"
ظل كي واقفًا مكانه، عيناه تلمعان بنظرة لا تشبه الأطفال، وقال بنبرة غامضة:
"ربما لأنني لم أجد بعدُ مكانًا يليق بي."
ثم استدار ومضى، بينما الضحكات تلاحقه.
لكن في داخله، كانت النار تشتعل... صامتة.
في تلك الليلة، جلس كي على سطح المنزل، حيث كانت السماء صافية، مليئة بنجومٍ لا تُعد، كما لو أنها تراقبه بصمت.
كان يحمل كتابًا صغيرًا لا يقرأه. فقط يضمه إلى صدره.
همس بصوت خافت، لا يسمعه أحد:
"الناس يضحكون... يتحدثون... يغضبون... ثم ينسون.
وأنا... أبتسم لأنني أفهمهم. لكن لا أحد... يفهمني."
أغمض عينيه للحظة، ثم فتحهما بنظرة خافتة أكبر من سنّه، فيها شيء لا يشبه الطفولة.
"أبي لا يريدني أن أقترب. أمي تبتعد كلما اقتربت...
وأخي... يحبني، لكنه لا يعرف كيف يظهر ذلك."
وضع يده على قلبه، وقال همسًا:
"أنا أحبهم جميعًا... لكن لماذا... أشعر كأنني غريب في هذا العالم؟
هل لأنني بلا مانا؟ أم لأنني كنت... شيئًا آخر من قبل؟"
سكت، ثم ابتسم فجأة... ابتسامة هادئة، لكن غريبة على وجه طفل في الخامسة.
"لا بأس... سأكون بخير.
لأنني... لن أخسر هذه الأسرة. حتى لو لم أفهم السبب بعد."
تحت ضوء القمر الفضي، جلس كي بجوار كايسن على صخرة مرتفعة تطل على الوادي، حيث كانت أضواء العشيرة تلمع في البعيد كنجوم خافتة.
قال كايسن، وذراعاه متشابكتان:
"أتعلم، ربما عندما أكبر سأصبح مثل أبي… قويًّا، يحترمه الجميع."
أجاب كي بصوتٍ خافت، ناضج على غير سنّه:
"وأنا… فقط أريد أن أبقى معكم، لا أكثر."
ابتسم كايسن ابتسامة سريعة، ثم ضرب كتف أخيه بلطف:
"ستفعل… أنت مزعج، لكنك أخي."
فجأة…
اهتز الهواء حولهما بصوتٍ بعيد، كأن شيئًا تمزق في عمق السماء.
أعقبه وهج أحمر شاحب ارتفع من العشيرة البعيدة… ثم انفجار.
أضاء اللهب وجه كايسن وكيّ، وساد صمت ثقيل.
همس كي، وكأن أنفاسه انقطعت:
"هذا… من اتجاه منزلنا…"
صرخ كايسن:
"أمي! أبي!"
وانطلق راكضًا، وركض كي خلفه دون أن يشعر بقدميه… ركضا وركض
ا، والسماء تمطر رمادًا.
وفجأة…
صرخة.
لم تكن عادية. كانت صرخة رجل وهو يُذبح حيًّا.
نهض كايسن فورًا، قبض على يد أخيه، وقال:
"ابقَ خلفي، كي!"
ركضا بين الأزقة، والريح تحمل رائحة الحديد والنار. نار… أين؟!
بيتٌ يحترق. ثم آخر. ظلال تتساقط… أجساد؟ أجل، أجساد!
مرّا بجثة امرأة مقطوعة الرأس. كانت أحدى الجارات.
"لا تنظر!" صرخ كايسن، لكن كي كان قد نظر.
كل شيء يتباطأ…
جنود بعيونٍ لا حياة فيها يذبحون من يقاوم.
رايات لا يعرفها كي… وأمام أحد البيوت، رأى ظهرًا عريضًا.
رجل بعباءة سوداء…
يلتفت قليلًا.
وجهه مألوف… ميدشوشوجي.
خطواته ثقيلة… وكأن الموت يسير معه.
ثم سمع صوتًا من الداخل.
"كي!"
"كايسن!"
صوت أمه… إيزومي.
صوتها ينكسر، لكن لا يُكمل.
كي يتجمد. يد كايسن تفلت.
ضوء ساطع من انفجار…
دماء.
كي يهمس:
"أمّي…؟"
يبدأ جسده بالارتجاف.
صوت السيوف، صوت النار، صوت البكاء، كلها تتداخل.
عيناه تتسعان… ثم تغلقان بشدة.
"لا… لا أريد أن أرى… لا أريد أن أراهم يموتون… لا أريد…"
سكون.
...
يفتح عينيه.
صوت الأمواج.
ريح بحرية تهب على وجهه.
هو وكايسن وحدهما، مستلقيان قرب الميناء.