وقف كي في مواجهة كيوجو وكايغو، ووقف كايسن بجانب الأخير بصمت يشي بعدم رضا واضح. نظرات كي لم تكن عادية، بل امتزجت بين البرود والضيق، إشارة إلى توتر داخلي يرفض الإفصاح عنه بسهولة. توجه كي إلى كيوجو بنبرة تملؤها جدية لا تقبل الاستهانة، قائلاً: «أيها الملك، أين كنت بينما شعبك في أمس الحاجة إليك؟» كان السؤال يحمل ضمن طياته اتهامًا غير مباشر، لكنه احتفظ بالسيطرة على أعصابه.
رد كيوجو بسخرية واضحة، لم يكن في كلامه رغبة في الإجابة، بل تعبير عن استخفاف بما طرحه كي، قائلاً: «كي، لم تهتم أبدًا بما يجري حولك، فلماذا أتوقع منك أن تهتم بي؟» كانت السخرية محاولة لإثبات التفوق واحتقار الطرف الآخر، إلا أن كي لم يُظهر استجابة عاطفية تذكر، بل أبدى برودًا يكاد يقطع التواصل.
ثم أضاف كيوجو وهو يلهج بكلمات استهزاء مرفقة بخبرة السلطة: «على أية حال، كي، لقد تم قبولك في الأكاديمية.» كانت تلك العبارة مفاجئة، أظهرت رغبة في إحداث تغيير أو حتى زعزعة استقرار. تمالك كي انفعاله لحظة، وأجاب بتردد واضح رغم محاولته إخفاءه: «هاه؟»
بادله كايسن التعبير ذاته، لكنه ظل ثابتًا في موقعه، متابعًا بتركيز. أما كايغو، فكان أكثر برودًا، لم يعطِ الأمر اهتمامًا كبيرًا.
ضحك كيوجو بسخرية تزيد عن اللزوم، متمتمًا: «نعم، نعم، لقد قبلنا عشرة طلاب جدد بناءً على اختياراتي الاعتباطية. استعد جيدًا، كي. هذا قرار لا رجعة فيه.»
نظر كي إلى الثلاثة، بلا تعجُّل، لكن بلا ودّ أيضًا. نظراته لم تكن حادة، بل أثقل من أن تُفهم على عجل.
ثبت بصره على كيوجو، وقال بصوت خافت، لكنه خالٍ من أي تردّد:
ــ "لماذا تريد إدخالي إلى الأكاديمية بهذا الشكل؟"
ثم أضاف، دون أن يمنح أحدهم فرصة للمقاطعة:
ــ "كذب ذلك الحارس عليّ بشأن غرفة الملك، لذلك لا أجد سببًا واحدًا يدعوني للانضمام. وربما كنتما... أنتما الاثنان... في كذبةٍ واحدة."
كان كيوجو قد استعد لهذا الاتهام. لم يتردد، ولم يغضب. ردّ بثقةٍ لا ترتجف:
ــ "دعني أوضح لك الأمر، لأنك لم تعد تملك ترف سوء الفهم."
توقف لحظة، كأنه يعطي لحديثه وزنًا، ثم أكمل:
ــ "لقاؤك بالحارس لم يكن عبثًا، ولم يكن صدفة، ولم يكن اختبارًا عابرًا."
بقي كي صامتًا. لم يهزّ رأسه، ولم يبدِ استنكارًا، لكنه لم يسلّم بكلمة.
تابع كيوجو بنبرة خلت من المواربة:
ــ "أنا أعلم منذ مدة أنك تتجول في الغابة. ما بين وقتٍ ليس بقريبٍ ولا بعيد ..وايضا لاحظنا ارتفاعًا غير طبيعي في عدد جثث الوحوش.
كانت تموت تِباعًا، وبمعدلات لا يمكن تفسيرها. وحوشٌ خطيرة، بل حيوانات لا يجرؤ حارسٌ ملكي على الاقتراب منها، كأنها تُباد... كأنّ يدًا خفية تسبق الجميع إليها."
تحرك كايغو قليلًا في مكانه. كايسن لم يعلّق، لكنه كان يُصغي بعينٍ لا تهدأ.
أكمل كيوجو، دون أن يسمح لتوتر الصمت بأن يعكر نبرته:
ــ "في الأعوام الماضية، دخول الغابة كان إعلان موت. حتى الحُراس يُفقدون دون أثر. أما في العام الأخير، فالوضع انقلب.
بدأت الوحوش بالاختفاء، لا لأن الخطر انتهى، بل لأن الخوف صار متبادلاً.
وجدنا جثثًا لزواحف لم يستطع القضاء عليها إلّا فرقٌ كاملة،
وجدنا الوحوش مختبئة، ترتعد بلا سبب مرئي، كأنها نجَت من شيءٍ أسوأ من الموت."
ثم أضاف بصوت أكثر جديّة، يخلو من أي مسحة عاطفية:
ــ "كأن الغابة قد رأت شيئًا لا تريد تكراره."
صمت كيوجو لحظة. راقب عيني كي. لم يكن يبحث عن اعتراف، بل عن ردّ فعل، مهما خفّ وزنه.
لكن كي لم يُجب. لم يُنكر، ولم يُقرّ.
ظلّ واقفًا، وكأنّ كل هذا الكلام لا يعنيه، أو كأنّه سمع ما هو أدهى من قبل.
تابع كيوجو حديثه دون أن يمنح كي فرصة الانقطاع، كأن الكلمات كانت تنتظره منذ زمن:
ــ "بدأ السكان يشعرون بالأمان، لا لأن شيئًا تغيّر في وعيهم، بل لأن الغابة تغيّرت أمام أعينهم.
ما كانت تُعرف بمقبرةٍ مفتوحة، تحوّلت إلى ساحة لهو، بل صارت وجهة للعائلات، حيث يذهبون للشواء ويتركون صغارهم يركضون بين الأعشاب التي كانت تبتلع أقوى المقاتلين في السابق."
لم تكن النبرة ساخرة، بل واقعية حد القسوة.
أكمل بنبرة لم تعد تشرح، بل تُدين:
ــ "تحوُّلٌ غير طبيعي، لكنه لم يُثِر الدهشة في نفوس البسطاء.
أما نحن ــ السلطة ــ فقد وجدناه مدعاةً للريبة.
ظنّ الشعب أن الحُرّاس الملكيين قد أحكموا سيطرتهم، لكن الحقيقة أنكّأ من ذلك."
سكن للحظة، كأنه يعطي لِما سيُقال وزنًا آخر.
ــ "الحراس أنفسهم اعترفوا... لا، بل لنقل الحقيقة كما هي: أنكروا أن يكونوا السبب.
لكن حتى إن كذبوا، فنحن نعلم. نعلم أن قوتهم لا ترقى لمحو هذه الوحوش من الوجود بهذه الدقة، ولا ترك هذه الآثار دون أن تُكتشف هويتهم."
ثم نظر إلى كي نظرة خالية من الاتهام، لكنها لم تخلُ من الصرامة:
ــ "أنا شخصيًا، بدأت أشك.
توجهت للغابة ليلاً، دون إعلان، دون مرافقة، دون إذن. كنت أبحث عن شيء لا أستطيع تسميته... ووجدتك."
لم يتغير وجه كي. لكن داخله أدرك أن هذا الجزء من الحديث لا يحتمل المراوغة.
تابع كيوجو:
ــ "رأيتك وحدك، ظننتك ضائعًا، أو ربما تبحث عن مخرج.
لكنني لم أقترب.
كنت تشعل نارًا... لا بالأغصان، بل فوق العشب مباشرة.
ولم تكن نارًا عادية، بل شعلة كبيرة، مستقرة، خالية من الدخان، وكأنها مألوفة لمكانها."
ثم قال بجملة واضحة، لا تقبل التأويل:
ــ "كنت تأكل.
لحمًا... بدا أنه لذيذ.
لكن مصدره؟
كان واضحًا."
أغمض عينيه لحظة، ثم فتحهما وقال:
ــ "وحوش. حيوانات. جثثٌ كانت حولك، غارقة في دماءٍ لا تزال دافئة.
العشب من حولك كان قد احمرّ.
ليس من حرارة النار، بل من نزيف المكان."
سكت كيوجو.
أما كي، فبقي واقفًا بلا تراجع.
لم يُنكر، لم يعترف، ولم يعلّق.
لكنه عرف أن ما قيل الآن... لا يُمحى بإنكار، ولا يُخادَع بصمت.
أغمض كي عينيه ببطء، كأنما يُغلق على نفسه بابًا لا يريد لأحد أن يدخله.
بدا على "كايسِن" الارتجاف، لا خوفًا، بل استشعارًا لما سيحدث.
أما "كايغو" ــ وكعادته ــ فقد بقي ثابتًا، كأن لا شيء في هذا العالم قادر على زعزعته.
ثم نطق كي بصوت خالٍ من الدفء، صوتٍ جاف كالتقرير العسكري:
ــ "أكمل."
تابع كيوجو، ونبرته تزداد اتزانًا كلما اقترب من لبّ الحقيقة:
ــ "عندما اقتربت منك أكثر، لم أعرف ماذا أفعل.
بصراحة... لم أشعر بالخطر، شعرت بنوع من الغموض الذي لا يُطاق.
وجلست.
جلست إلى جوارك، دون أن تستدعيني، دون أن تطردني.
كأن وجودي لا يعنيك، أو كأنك قبلت بي كظلٍ لا يُزعج."
ابتلع كيوجو نفسه، ثم قال:
ــ "لم تلتفت إليّ حقًا... حتى بدأت تتحدث."
سكت كي قليلاً، لكن عينيه بقيتا مغمضتين. لم يكن يتذكّر، بل يعيد تقييم كل شيء.
أكمل كيوجو:
ــ "أخبرتني حينها... أنك أنت من قتلت الوحوش، كلّها، وأنك لم تنتهِ بعد.
كنت تبحث عن البقية، عن من تبقّى منها، لتقتلهم أيضًا."
ثم قال بهدوء لم يكن فيه عتاب، بل كشف:
ــ "سألتك: لماذا؟
قلتَ لي..."
لكن كيوجو لم يُكمل.
ففي تلك اللحظة، تحرك كي.
لم يُصدر صوتًا، لم يُحذّر.
كانت حركته حادة، خاطفة، تشبه قرارًا لا رجعة فيه.
ضرب بقبضته نحو وجه كيوجو بلا تردد.
كيوجو، وبكل وضوح، كان قادرًا على تفادي الضربة... لكنه لم يتحرّك و ترك جسده مكشوفًا.
لكن من تحرّك ليس كيوجو.
بل كايغو.
بسرعة تسبق حتى الفكرة، وقف أمام كي، جسده بين الاثنين.
نصله كان في عنق كي مباشرة، حادًا، بلا رعشة.
قال بصوت هادئ لا يحمل تهديدًا، بل تقريرًا:
ــ "كفى."
الهواء تجمّد.
كي بقي في وضع الضرب، وكايغو في وضع الحسم، وكيوجو واقف لا يزال لا يرمش.
في تلك اللحظة، بدا كل شيء معلقًا.
نظر "كايغو" إلى "كي" بثبات بارد، لا يدل على غضب ولا رضى، بل على استنكار عقلاني. قال بصوت منخفض لكنه حاسم:
ــ "توقّف. من تظن نفسك لتهاجم كيوجو؟"
لم يتأخر "كي" في الرد. نظر إلى كليهما بحدة ظاهرة، وعينين مشحونتين بالغضب المكبوت، ثم نطق بوضوح:
ــ "أنا لا أتذكّر هذه الحكاية السخيفة. لا تختلق قصصًا باسمي، أيّها المتطفّل."
تقدّم "كايغو" خطوة، ودفع "كي" بيده إلى الوراء، لا بقوة العنف، بل بقوة الموقف.
في الخلف، بدأ "كايسن" يظهر عليه الارتباك. توتّره لم يكن مدفونًا، بل كان مرئيًا في ارتجاف كتفيه، في شدة قبضته على غمد سيفه، وفي نظراته المترددة.
كان يتحرك ببطء، بيدٍ مرتعشة، محاولًا إخراج سيفه تدريجيًا دون أن يلفت الانتباه.
"كيوجو" و"كايغو" لاحظا ارتجافه، لكنّهما لم ينتبها إلى ما هو أخطر من ذلك: إخراج السيف.
الوحيد الذي التقط الحركة الكاملة... كان "كي".
في ذات الثانية، ودون سابق إنذار، تحرّك "كي" خلف "كايسن"، وضربه بقوة دقيقة على عنقه. الضربة لم تكن عشوائية، بل محسوبة لإسقاطه فورًا دون ضرر دائم.
سقط "كايسن" على الأرض، فاقدًا وعيه.
لم يلتفت "كي" إلا لحظة واحدة، نظر إليه بازدراء صامت، ثم ركل بطنه ركلة ثابتة، لا لإيذائه، بل لإنهاء لحظة الشفقة.
قال "كيوجو" بدهشة صادقة:
ــ "أتفرغ غضبك على أخيك؟"
رد "كي" بحدة متزنة:
ــ "انقلاه إلى مكان آمن. أبعداه عن أي شيء حاد. ولا تتركاه وحيدًا."
رفع "كيوجو" حاجبه باستفهام جاد:
ــ "لماذا تقول هذا الآن؟"
أجابه "كي" دون أن ينظر إليه:
ــ "ألست ملكًا؟ ألا تخاف على شعبك؟"
لم ينتظر ردًّا.
قفز إلى الأعلى. هبط على سطح أحد المباني القريبة، وبدأ بالتحرك بسرعة بين الأسطح، دون أن يترك أي مساحة للكلام.
نظر "كيوجو" إلى "كايغو" بنظرة امتنان حذرة، ثم قال بصوت منخفض:
ــ "شكراً لك."
لم يُجب "كايغو" مباشرة. لم يلتفت. واكتفى بالكلمات الآتية، بنبرة جافة لا تخلو من توبيخ:
ــ "لا تظن أنني أوقفت كي من أجلك… أيّها الملك."
تجمّدت ملامح "كيوجو" لثانية. لم يكن يتوقع الرد، ولا طريقته.
شعر بانقباض طفيف في صدره، لكنه قرر المبالغة عمداً، لا لدفع الحرج، بل لاستكشاف نبرة "كايغو" أكثر. قال بنبرة متعجّبة ظاهرياً:
ــ "مهلاً… أأنت و(كي) من نفس النوعية؟ لم أظنك تشبهه قط."
لم يُعلّق "كايغو". بدأ بالمشي باتجاه "كايسن"، ثم حمله على ظهره بهدوء مدهش، دون أن يطلب مساعدة أحد.
قال "كيوجو"، بنبرة نصفها دعابة ونصفها اختبار:
ــ "إذا لم تفعلها لأجلي، فلمن فعلتها إذن؟"
لكن "كايغو" لم يُجبه، ولم ينظر إليه. تجاهله كليًّا.
وفي اللحظة التالية، اختفى "كايغو" من أمامه بسرعة مذهلة، كأن جسده تبخّر في الهواء.
ظل "كيوجو" واقفاً، ينظر إلى المسار الذي سلكه، ثم تنهد بهدوء وسخر قائلاً:
ــ "من الواضح أنني محاط بأشخاص لا يعيرون كلمة (ملك) أي وزن."
بدأ "كايغو" يمشي بخطى هادئة، يحمل "كايسن" على ظهره بثبات. نظر إليه للحظات، تأمّله بنظرة خالية من الارتباك أو العطف، ثم أعاد بصره إلى الطريق أمامه وقال بصوت منخفض:
ــ "أنت لا تشبه (كي) إطلاقًا... نقيضه تمامًا."
في تلك اللحظة، تغيّر إيقاع خطاه. بدأ بالإسراع تدريجيًا، ثم انطلق كمن أدرك فجأة ضرورة الوصول بسرعة. لم يكن يركض، لكنّ حركته كانت محسوبة، خاطفة، لا تتيح مجالًا للشك في جديته.
وصل إلى إحدى النقاط الحيوية في المدينة. لم يتوقف أكثر من اللازم. أنزل "كايسن" بلطف على الأرض، ثم أحضر ماءً من بائع قريب دون أن يطلب الإذن، وسكبه على وجه الفتى في محاولة لإفاقته.
شيئًا فشيئًا، بدأ المارّة يلاحظون المشهد. تجمّع عدد من السكان، وبدؤوا يتحدثون بفضول لا يخلو من قلق.
قال أحدهم:
ــ "هل تحتاج إلى مساعدة؟"
تجاهلهم "كايغو" تمامًا. لم يرد.
ظهرت على وجوه الحاضرين ملامح ارتباك واضحة. كانت نظراته الباردة، وصمته المطلق، يضعان حاجزًا نفسيًا أمام كل من يفكر بالاقتراب.
قالت عجوز، بانفعال مفاجئ:
ــ "ذلك الفتى... أنا أعرفه… إنه ابن (نوتسو)."
قال رجل آخر بسرعة:
ــ "إنه (كايسن)... ما الذي يحدث له؟"
قالت امرأة واقفة بالقرب من رأس "كايسن":
ــ "إنه فتى لطيف… لطالما ساعدني في حمل مشترياتي."
أضاف رجل خلفها:
ــ "أنا أيضًا…"
قالت العجوز مجددًا، وكأنها أرادت أن تُسمع الجميع:
ــ "لطالما كان يحملني على ظهره إذا تعبت…"
بدأت الأصوات تتصاعد. تعددت، لكن كلماتها توحّدت. كلّها موجهة إلى "كايغو"، وكلها متكررة:
ــ "ماذا حدث له؟"
ــ "هل هو بخير؟"
ــ "هل فقد وعيه؟"
ــ "هل تحتاج إلى مساعدة؟"
حاول أحد الرجال التدخل، اقترب لينحني نحو "كايسن" بغرض حمله، لكن "كايغو" التفت إليه ببطء، ونظر إليه ببرود جاف. لم ينبس بكلمة.
تجمّد الرجل في مكانه، ثم قال بخوف فوري:
ــ "آسف... فقط أردت المساعدة."
ثم جاء صوت "كايغو"، حادًا، قاطعًا، منخفضًا لكنه قاهر:
ــ "ابتعد."
ساد الصمت فجأة. انكمشت الأصوات في حناجرها. حتى ملامح التجمّع تراجعت عن فضولها.
ثم، وسط هذا السكون، سُمِع صوت أقدام صغيرة تركض.
كان طفلًا في العاشرة تقريبًا، يركض وهو يلهث، على وشك البكاء. صرخ:
ــ "كايسن... كايسن!!"
وصل بسرعة، سقط على ركبتيه قرب أخيه. كان يتنفس بسرعة، وصوته يختنق بين نداءات ودموع.
نظر "كايغو" إليه وسأله بنبرة ثابتة:
ــ "هل لك صلة به؟"
أجابه الطفل مباشرة:
ــ "نعم... إنه أخي الكبير."
نهض "كايغو" من جديد، حمل "كايسن" على ظهره كما كان، وقال للطفل بهدوء:
ــ "أرني الطريق إلى منزلكم."
بدأ الطفل يسير أمامه دون تردد. أما الجمع، فقد بقي واقفًا، ينظر بصمت إلى الظهر الهادئ لذلك الشاب الغامض، الذي لم يترك لهم فرصة للحكم عليه، ولم يطلب منهم إذنًا في أي شيء.
وصل "كايغو" إلى منزل "كايسن" بعد دقائق من السير المتسارع. الطفل الذي كان يسبقه، التفت نحوه مرارًا، كأنه يبحث عن فرصة لبدء حديث بسيط، لكن كلّما نظر إلى وجه "كايغو"، تراجع. الجمود في ملامح ذلك الغريب، وانعدام أي أثر للعاطفة، سحَق الرغبة في الكلام وقتلها في مهدها.
وقف الطفل أمام الباب، وطرقه ثلاث مرات.
فتح الباب رجل بدا في أواخر الأربعينات من عمره، قوي البنية، يحمل ملامح الريف وأثر التعب في عينيه. لم يحتج "كايغو" إلى تأكيد. كان هذا هو "نوتسو"، كما وصفه أهل المدينة قبل قليل.
قال الرجل بنبرة ودودة، دون أن يلحظ ما خلف الطفل:
ــ "أهلًا بني... أين كن—"
توقّف فجأة.
رأى كايسن فاقدًا للوعي، محمولًا على ظهر شاب غريب، بملابس داكنة وعينين خاليتين من التفسير.
قال "نوتسو" بقلق فوري:
ــ "كايسن...؟ ما الذي حدث؟!"
أجاب الطفل بسرعة:
ــ "وجدناه فاقدًا للوعي قرب السوق… كان هذا الشخص يعتني به."
لم يتأخر "كايغو". أنزل "كايسن" بلطف، دون تعليق. همّ "نوتسو" بشكره، لكنّ "كايغو" قاطعه بنبرة باردة، وهو يدير رأسه دون أن ينظر إليه مباشرة:
ــ "لا تتركوه وحيدًا. أبعدوا عن غرفته أي شيء حاد. وإذا لم يستيقظ خلال ساعة ونصف… أيقظوه. الأكاديمية ستفتح أبوابها اليوم لاستقبال المقبولين الجدد. ابنك نجح في الاختبار."
ساد الصمت لثوانٍ.
فرحة غير متوقعة علت وجه "نوتسو"، رغم قلقه على كايسن . أما الطفل، فابتسم بتوتر، وكأنه لم يعرف هل يبكي أم يضحك.
في تلك اللحظة، خرجت امرأة في منتصف الأربعينات تقريبًا،ما إن رأت كايسن ممددًا حتى هلعت وركضت نحوه دون أن تفهم شيئًا.
نظر "كايغو" إلى الثلاثة بنظرة فاحصة. رصد كل تعبير، كل حركة، كل اهتزاز في نبراتهم.
ثم اختفى.
تحرك من مكانه بسرعة لم يتمكن أحد من تتبّعها. ابتعد عن المنزل، وتوقّف بعد دقائق على سطح مرتفع.
نظر إلى السماء بثبات.
قال بصوت خافت، لا يسمعه أحد سواه:
ــ "البوابة فُتحت... واللعبة قد بدأت."