لم يكن هذا اليوم مختلفًا عن غيره، في ظاهره. الشمس أشرقت على المدينة كما اعتادت، والناس واصلوا أعمالهم كأن لا شيء استثنائيًا يحدث. ومع ذلك، كان هذا اليوم يحمل خصوصية لا يجهلها أحد: موعد افتتاح أبواب الأكاديمية، ذلك الصرح الذي لا يُقبل فيه إلا من تجاوز اختبارًا لم ينجُ منه إلا العشرة الأوائل.
من بين أولئك العشرة... "كايسن"، "كي"، و"كايغو".
في العادة اي ممتحن يتم قبوله في دخول اكاديمية لأنه نجح في اختبار سيكون فرحا ومتحمسا او حتى فلفل ، لم يُبدِ "كايغو" أيّ مظهرٍ من هذه مظاهر ...الحماسة، أو حتى القلق. لم يكن هنالك فرحٌ في ملامحه، ولا أثرٌ لتوترٍ في خطواته. كان يسير على قدميه بهدوءٍ بالغ ولا مبالاة صارخة، كأنّ دخوله للأكاديمية أمر ثانوي، أو حتى بلا قيمة.
لم يبقَ سوى ساعة ونصف على بدء مراسم الدخول. الطريق إلى الأكاديمية يستغرق ساعتين مشيًا على الأقدام. هذه معلومة يعرفها الجميع، بما فيهم "كايغو".
ومع ذلك، لم يغيّر من سرعته. لم يُسرع، لم يركض، لم يستعن بأي وسيلة نقل. اختار أن يسير وحده، بخطوات ثابتة، وبعينين لا توحيان بالانشغال ولا بالتفكير. كأنّ الزمن نفسه لا يعنيه.
تابع كايغو مشيه بنفس الوتيرة، لا يُسرع ولا يبطئ، وكأنّه يتحرّك وفق نظام داخلي لا يتأثر بالعوامل الخارجية. الأرض تحت قدميه، والسماء فوق رأسه، والزمان لا يعنيه.
لكن ما لم يكن في حسابه، هو أن يظهر رايجو.
من جهة الطريق الأخرى، كان رايجو يتقدّم بخطًى أسرع، وعندما لمح كايغو على مقربة، ارتسمت على وجهه ابتسامة تلقائية وقال بصوت مرتفع:
"هاااه! من بين كل الطرق، نلتقي هنا؟ هل هذا حظ سيئ لك أم حسن لي؟"
لم يلتفت كايغو، ولم يردّ.
اقترب رايجو أكثر، وبدأ يسير بمحاذاته، متخذًا ذلك الحضور الودّي الذي يرافق الأشخاص كثيري الكلام. نظر إليه جانبيًا وقال بنبرة خفيفة:
"أتعرف؟ لا زلت أتذكر وجهك البارد في مركز الشرطة. ظننتك تمثالًا وقتها... لم تقل حتى كلمة."
ثم ضحك، وأضاف:
"ربما كنت نائمًا بعينين مفتوحتين؟ أو لعلك لم تستوعب ما كان يجري؟"
كايغو لم يلتفت. بل ظل محافظًا على وتيرته، لا يرد ولا يعلّق. كان يعلم منذ اللحظة الأولى أن وجود رايجو سيسبب له إزعاجًا، ليس لأن رايجو خطر، بل لأن صوته عالٍ، وأفكاره خفيفة، وحديثه تافه.
رايجو لم يستسلم، بل واصل قائلاً:
"هاه، هل أنت أصم؟ أم أنك تجاوزت مرحلة الملل وأصبحت ميتًا نفسيًا؟"
ثم بدأ بإلقاء نكاتٍ سريعة، لا تتجاوز سطحية المراهقة، تتعلق بالزمن، والقبول في الأكاديمية، والوجوه المتجهمة.
كان ذلك ثقيلاً على كايغو.
لم يكن الانزعاج ظاهرًا على وجهه، بل بقيت ملامحه كما هي. لكنه داخليًا كان يرفض كل كلمة تُقال، ويزدري هذا النوع من التفاعل.
فجأة، من دون أن ينطق، زاد من سرعته.ليس لأن الوقت يداهمه بل فقط... كي يبتعد.
تعجّب رايجو من ردة فعل كايغو، لكنه – وعلى خلاف أي شخص يملك ذرة حس اجتماعي – لم يفهم الرسالة. أيّ شخص آخر، لو رأى ذلك البرود المتعمد، وذلك التجاهل الواضح، وتلك الخطى المتسارعة بلا كلمة، لأدرك أن كايغو قد ضاق به ذرعًا ويريد الابتعاد.
لكن رايجو... رايجو كان أحمق.
لا عن غباءٍ فطري، بل عن تلك الخفّة الطائشة التي لا تتوقف لتحلّل، بل تقفز مباشرة إلى أكثر التفسيرات بهجة وسذاجة.
ظنّ أن كايغو أسرع لأن الوقت ضيّق، فابتسم وقال لنفسه:
“آه، إذًا هو متحمّس أيضًا، لكنه يخجل من إظهار ذلك.”
شدّ خطواته، وركض قليلًا حتى عاد بمحاذاة كايغو من جديد، وقال بنبرة مرحة:
"لا ألومك على إسراعك! فعلاً الوقت بدأ يداهمنا، لكن... كان بإمكانك أن تقول لي مثلاً: هيّا نسرع، أو تنتظرني، أليس كذلك؟"
صمت رايجو للحظة، ثم أشار بإصبعه نحو كايغو وقال وكأنّما اكتشف سرًا عظيمًا:
"آه! صحيح... نسيت... أنت أصم! لا تتكلم!"
ضحك من كلامه، وكأنّه أطلق نكتة بارعة، بينما كان كايغو يسير بصمت، لا يُظهر انفعالًا، ولا حتى علامة ضيق.
لكن داخليًا، كان يتساءل:
كم من الوقت أحتاجه لأترك هذا الكائن وراء ظهري؟
ومع ذلك، لم يقل شيئًا.
لم يكن من طبيعته الرد على الضوضاء. بل كان يؤمن أن الجواب الوحيد على العبث... هو التجاهل الصارم.
استمر رايجو في الحديث، وكأن الصمت الطويل الذي يحيط بكايغو ليس رفضًا بل مساحة ينتظر أن يملأها. بدأ يثرثر عن تفاصيل سخيفة من اختبار القبول، وعن فتاة سقطت أمامه، وعن كيف أن أحدهم أغمي عليه من التوتر، وضحك وحده على نكاته.
كايغو لم يسرّع هذه المرة.
كان يعلم أن الإسراع لن يُجدي. رايجو، بحماقته الطفولية، سيلحق به على أي حال، بل وقد يعتبر ملاحقته نوعًا من التحدي اللطيف.
ابتسم رايجو فجأة، وكأن فكرة لمعت في رأسه للتو، ثم قال بحماسة:
"أنا رايجو! سياف! سررت بلقائك!"
مدّ يده بخفة إلى كايغو، وهو يتوقع المصافحة، أو على الأقل ردة فعل إيجابية.
ساد صمت ثقيل لا يحمل أي توتر، بل جمودًا خالصًا.
قال رايجو بنبرة تشبه الاكتشاف:
"لن يكفينا الوقت، صحيح؟"
لم يرد كايغو. تجاهل تام، لم يُظهر أدنى اهتمام.
لكن رايجو، كما اعتاد، تابع بلا اكتراث:
"حسنًا... لدي خطة للوصول بسرعة. لكن، لدي سؤال لك."
التفت إليه بنظره، لا رغبة في التفاعل، بل لمجرد الإدراك البصري.
قال رايجو بثقة لا تنسجم مع الموقف:
"هل لديك غريم في الأكاديمية؟"
لم يجب كايغو. الصمت هذه المرة لم يكن تجنبًا، بل تقييمًا لحماقة السؤال.
تابع رايجو دون أن يتأثر بالصمت:
"إذا لم يكن لديك، فبالفعل لديك الآن واحد. أنا لدي غريم. ذلك الفتى ذو الشعر الرمادي والعيون الزرقاء..."
في بادئ الأمر، ظن كايغو أنه يقصد كايسن. التفسير منطقي، فكايسن سياف أيضًا، والصفات تطابقه، بل إن كايغو لم يكن يرى سوى احتمال واحد في ذهن رايجو حينها.
لكن رايجو قال فجأة، وكأنه استعاد شيئًا:
"لقد نسيت اسمه... قصير جدًا... ربما... آه، نعم! ذلك الفتى الذي وضعت نصلك على عنقه وجرحت وجهه... أنت تعرفه، أليس كذلك؟"
توقف كايغو للحظة. توقُّف ميكانيكي لا يحمل دهشة، بل مراجعة.
في ذهنه، لم يكن هناك سوى شخص واحد انطبقت عليه هذه الجملة: كي.
رفع بصره نحو رايجو، وقد تلاشت من وجهه كل ملامح اللامبالاة. كانت نظرته هذه المرة تحمل صلابة متجمّدة، لا غضبًا ولا انفعالًا، بل شيئًا أعمق، شيء أقرب إلى الاشمئزاز المدروس.
قال بنبرة منخفضة، لكن شديدة الصرامة:
"لماذا كي تحديدًا؟ من بين الجميع؟
هو لا يحمل سيفًا حتى. ليس من صنفك."
ابتسم رايجو، وكأن السؤال كان مدحًا. لم يتأثر بنظرات كايغو، بل قال وكأن الأمر بسيط:
"اسمه كي، صحيح. لقد اشتبكت معه في الاختبار... لا أعلم، فيه شيء مذهل. لم استشعر مانا منه ، ومع ذلك... كان وجوده غريبًا. ممتعًا."
في هذه اللحظة، كانت نظرة كايغو لا تحتمل التأويل. كانت غضبًا باردًا، صامتًا، حادًا.
"أن تراقب مخلوقًا لا تفهمه ثم تضحك، تلك حماقة لا تُغتفر."
قفز كايغو في اللحظة التالية بين المباني، بسرعة مفرطة، لا تُناسب بروده المعتاد.
توقف رايجو في مكانه، وظهرت على وجهه علامات دهشة وحيرة. لم يفهم.
قال بصوت خافت، وكأنه يتحدث لنفسه:
"ماذا؟ هل قلت شيئًا أغضبه؟"
لكنه لم يحصل على جواب ...كايغو قد اختفى.
في تلك الأثناء، وبينما كان كايغو يقفز بين المباني، بعيدًا عن ثرثرة رايجو السطحية، استيقظ كايسن بهدوء غامض.
فتح عينيه ببطء. لم يشعر بألم، بل بحالة ارتباك خالص. نظر إلى السقف الخشبي فوقه، ثم أدرك أنه في مكان مألوف. ليس مكانًا محددًا، بل مجرد شعور دافئ ومأمون لم يفهم سببه.
رفع جسده بصعوبة، فانبثق أمامه وجه صغير.
كان الطفل ذاته، الذي وجّهه كايغو سابقًا إلى المنزل. لم يكن خائفًا، بل بدا قلقًا بصدق.
إلى جانب الطفل، وقف رجل في منتصف العمر، بملامح جامدة لكنها تفيض بمسؤولية ثقيلة.
لم يحتج كايسن إلى سؤال، عرف على الفور أن هذا هو "نوتسوا"؛ الرجل الذي تحدّثوا عنه.
وعند طرف السرير، كانت هناك فتاة صغيرة، بالكاد تبلغ الثامنة، تحدّق إليه بفضول حذر.
ابتسم كايسن، برقة نادرة تخللت الحيرة العميقة التي تغلّفه. ما زال لا يفهم ما حدث، ولا كيف وصل إلى هذا المكان، لكن وجوههم كانت هادئة.
هرع الثلاثة إليه، كلٌّ بطريقته.
قال الطفل بسرعة: "هل أنت بخير؟! لقد كنت فاقدًا للوعي!"
سأل نوتسوا، بنبرة قلقة لكنها متزنة: "ماذا حدث لك، بني؟ كيف فقدت وعيك؟"
أما الفتاة، فلم تقل شيئًا، بل وقفت بثبات، تراقب بانتباه بالغ، كأنها تحاول استيعاب ملامحه وتفسير خلفيته.
كايسن لم يجب مباشرة. نظر إلى الجميع، ثم أدار بصره حول الغرفة، كأنه يتحقق من واقعه، كأنه يشك في كونه حلماً.
كان ذهنه يعمل ببطء. أشياء كثيرة جرت، ولا شيء منها واضح تمامًا.
رفع بصره نحو نوتسوا، ثم قال بصوت خافت:
«لا تخافوا، أنا بخير... ليس وكأنني سأموت». اقترب منه طفل صغير واحتضنه، ثم قال وهو يرتجف: «كنت خائفًا أن تتركني». رد كايسن بهدوء وبصوت لا يخلو من الحزم: «لن أتركك».
ثم اقتربت طفلة، كانت تحبس دموعها، واحتضنته بقوة. شعر كايسن بسعادة غريبة تتسلل إلى وجدانه، لكنه ظل يدرك أن هذه اللحظة ليست أكثر من صورة مؤقتة لما يعرفه من تعلق وتوازن داخلي.
نظر إليهم جميعًا، وتحدث في نفسه بصوت خافت:
«هؤلاء ليسوا عائلتي الحقيقية. هم أسرتي بالتبني، التي قبلتني بعد المذبحة التي استهدفت عشيرتي. بعد أن أُلقي أخي الصغير كأنه لا شيء، مرت عليّ أيام كثيرة من الغربة والخذلان. لم يتعرف عليّ أحد، وكان ذلك واضحًا في كل مكان.
أبي الحقيقي لم يظهرنا أمام الشعب، بل فقط أمام سكان عشيرتنا، وهذه كانت خطأً فادحًا لم أتمكن من فهم سببه يومًا. كنت أتساءل عن ذلك باستمرار، حتى وصل بي الأمر إلى كراهية أبي أحيانًا.
عشت أيامًا صعبة إلى حد لا يوصف: جوعًا، خوفًا، وبكاءً مستمرًا. هناك مشاعر أخرى لا تزال عالقة في ذهني، لكن بعدها تبنتني هذه الأسرة المتواضعة. أنا ممتن لهم، وسعيد أيضًا، لكنني أعلم أن تلك السعادة ليست هي نفسها التي شعرت بها مع عائلتي الحقيقية.
تبا، لماذا أقول هذا الآن؟»
كان هذا التساؤل يختلج في أعماقه، وكأنه نداء صامت ينبعث من أعماق جرح قديم لا يندمل، يحمل معه ثقلًا نفسيًا عميقًا، لا يمكن تجاوزه بسهولة أو نسيانه.
وقف كايسن بصعوبة، واهتز جسده قليلاً تحت وطأة الإرهاق. تحرّك نوتسوا بسرعة ليمنعه من السقوط، إلا أنّ كايسن رفع يده، وقال بصوت منخفض لكنه حازم:
«أنا بخير، أبي... لا تقلق».
ثم التفت إلى الطفلة الصغيرة التي كانت تراقبه بقلق، وربّت على رأسها بحنان. كانت أخته بالتبني، ولم يشأ أن يرى الخوف في عينيها. رفع بصره قليلًا وسأل:
«من أحضرني إلى هنا؟»
أجابه أخوه الصغير، وكان جالسًا إلى جوار الباب:
«سياف ذو شعر أخضر... كان مرعبًا، وباردًا للغاية».
توقف كايسن لبرهة، ثم قال في نفسه:
«ذلك لا شك فيه... إنه كايغو. لكن... لماذا أحضرني إلى المنزل؟ ظننت أنه شخص بارد لا يهتم بأحد».
قال نوتسوا بعد لحظة صمت:
«بني... كايسن، لماذا فقدت وعيك؟ لقد سمعت أن الأشرار اقتحموا ساحة الاختبارات، هل فقدت وعيك أثناء قتالهم؟»
رد كايسن بهدوء، دون أن ينظر مباشرة في عينيه:
«لا... لم يُصب أي منّا في تلك المعركة».
قالت فتاة كانت تقف إلى جانب نوتسوا:
«إذًا، ما السبب؟»
صمت كايسن، وأغمض عينيه للحظة، كأنّه يبحث في داخله عن تسلسل الأحداث. رأى في ذهنه ذلك الممر الضيق، حيث كان مع كايغو وكيوجو و... كي. سمع آنذاك حديث كيوجو عن ماضي كي، وتذكّر تمامًا لحظة الضربة التي وجهها كي له.
تحدث كايسن في نفسه، بصوت داخلي صادق وواضح:
«فقدت وعيي لأن كي ضربني... لكنه لم يفعل ذلك بدافع الغضب، ولا لأنه أراد إيذائي فعلاً. كنت أستمع حينها إلى كيوجو وهو يروي تفاصيل ماضي كي... كيف عاش في الغابة بين الوحوش، كيف كان يأكل لحومهم، ويقتلهم دون توقف، حتى خافت منه الوحوش نفسها. حين سمعت ذلك، شعرت بالذنب... وبكراهية لنفسي. لم أستطع تحمّل القصة، ولا تصديقها، لكنها لم تكن كذبة... كيوجو لم يكن ليفتعل شيئًا كهذا.
أردت أن أموت في تلك اللحظة. بدأت أُخرج نصلي ببطء... شيئًا فشيئًا، لم يرني كيوجو ولا كايغو. الوحيد الذي لاحظني... كان كي. هو من أنقذني».
نهض كايسن فجأة بنشاط مبالغ فيه، وقال بصوت عالٍ وبملامح مصطنعة الحيوية: «حسنًا، عليّ الذهاب إلى الأكاديمية، أليس اليوم هو يوم الدخول؟ أنا متحمّس حقًا!»
كلماته كانت متقنة، حركته كانت واثقة، لكن باطنه لم يكن كذلك. كان لا يزال يعاني من تَبِعات الحادثة الأخيرة، وما زالت روحه مثقلة. لم يشفَ بعد. لم يتجاوز ما حدث، لكنه أراد أن يتظاهر بالعكس.
تفاجأ الجميع بتصرّفه، وظلّت نظرات الحيرة تحيطه. حاول نوتسوا أن يوقفه ويسأله عن حاله، لكن كايسن تهرّب منه، ارتدى ثيابه الرسمية على عجل، وعلّق سيفه خلف ظهره كمن لا يريد أن يعطي أي فرصة للنقاش.
خرج من الباب دون أن يلتفت، ووراءه بقي الجميع في حالة من الذهول.
وفجأة، شهق أحد الأطفال وقال بصوت مرتفع: «أخبرني السياف ذو الشعر الأخضر ألا ندعه وحده... أو قريبًا من أي شيء حاد!»
استدار نوتسوا بسرعة وحدّة، وقال: «لماذا؟»
رد الطفل ببراءة وارتباك: «وكأنني أعلم...»
هرع نوتسوا إلى الخارج، والقلق يسبق خطواته، وعيناه تبحثان عن ابنه كأنما فُقد منه للتوّ. وعندما لمح كايسن، توقّف فجأة.
كان كايسن يمشي بهدوء إلى جانب شاب طويل، شعره أخضر قاتم، وسيفه يتدلّى من خصره. لم يكن أحد سواه... إنه كايغو.
اندهش نوتسوا، وتسارعت في داخله الأسئلة: «هل هو... حارسه الشخصي؟ متى قرّب نفسه منه؟ وكيف؟»
لكن في الحقيقة، لم يكن الأمر صدفة. فبعد أن ابتعد كايغو عن رايجو، وقفز بين المباني بسرعة مذهلة، غيّر وجهته. قرر في لحظة عابرة أن يعود إلى كايسن. لم يكن ذلك قرارًا عقلانيًّا بالكامل، بل كان دافعًا غريبًا دفعه للرجوع، وكأن شيئًا ما بداخله لم يرضَ أن يتركه على ذلك الحال.
وبفضل سرعته الخارقة وقدرته على القفز من بناء إلى آخر دون أن يلمسه أحد، وصل إلى منزل كايسن في وقت مثالي... قبل أن يفيق، وقبل أن يُترك وحده. لم يكن حارسًا رسميًا، ولم يُكلَّف بذلك. لكنه كان حاضرًا. وكان ذلك كافيًا، بل ضروريًا، في هذه اللحظة.
تمشّى كايغو وكايسن في صمتٍ مشحون، لا يتبادلان سوى خطوات حذرة على الرصيف المتشقق. ثم، دون أن ينظر إليه، قال كايغو بصوت منخفض، لكن حاد كالسيف: «لقد كنتَ تُخرج نصلك قبل قليل، أمام باب منزلك... لماذا؟»
تجمّد كايسن للحظة، وبدت عليه علامات الارتباك، ثم قال بسرعة محاولًا تغطية اضطرابه: «كنتُ... فقط أختبر وزنه. أظن أنني سأحتاج لتعديله في الأكاديمية.»
لم يعلّق كايغو. بل أخرج هاتفًا صغيرًا من جيبه، توقّف عن السير، وأجبر كايسن على التوقف أيضًا.
ثم التفت إليه، ونظراته لم تكن مشككة فحسب، بل كاشفة، ووجهه لا يحمل أي تردد. قال بهدوء مريب: «ما اسم هذا الحيّ... أو هذه المنطقة؟»
ارتبك كايسن مجددًا، فالنبرة في صوت كايغو لم تكن عابرة. كأنه يريد أن يتحقق من شيء ما. أجاب بعد تردد بسيط: «حيّ تيراسال...»
كرّر كايغو الكلمة، بصوت مسموع أكثر، وهو ينظر إلى شاشة الهاتف: «تيراسال...»
ثم ساد صمت عميق.
مرّت دقائق ثقيلة. كان الصمت ممتدًا، متوتّرًا، أشبه بقرار لم يُعلَن بعد. نظر كايسن جانبًا نحو كايغو، دون أن يجرؤ على الحديث، ثم قال في نفسه بنبرة مترددة:
"لماذا نحن واقفان هكذا؟ ما خطبه؟ هل ينتظر شيئًا؟ أم يتقصّد إحراجي؟"
لم يكن كايسن يرغب في أي حديث مع كايغو، لا بسبب الخوف، بل لأن وجود هذا الشخص يفرض شعورًا خانقًا لا تفسير له. كل جملة ينطق بها كايغو تحمل ثقلًا مبهمًا.
وفجأة، ظهر صوت عجلات معدنية يقطع السكون.
عربة ملكية.
اندفع رأس كايسن نحو مصدر الصوت، وبدت عليه الدهشة الفورية. عربة ملكية مزينة بختمٍ رسمي، تحيط بها هالة من الاحترام والمكانة. حين توقفت أمامهم، تلاشت حيرة كايسن فورًا. لقد فهم الآن سبب وقوف كايغو الطويل في هذا المكان تحديدًا.
ركبا العربة دون كلمة، وكأن الأمر كان مخططًا مسبقًا، أو على الأقل... من جهة واحدة.
وحين دخل كايسن إلى مقصورتها الداخلية، وقعت عيناه على كي .
اتسعت حدقتاه على نحو غير طبيعي، وكأن وجود كي في هذا المكان لا يُمكن أن يكون عابرًا. وحتى كي، على الرغم من بروده المعتاد، بدت عليه المفاجأة نفسها. لم يتحدث أي منهما، لكن الصدمة كانت حاضرة بوضوح في نظراتهما.
أما كايغو، فجلس بهدوء في مقعده، دون أن يظهر عليه أي اهتمام. وكأن كل ما يجري لم يكن أكثر من مشهد مألوف بالنسبة له، أو أنه قد رآه في ذهنه عشرات المرات من قبل.