لم يكن هذا اليوم مختلفًا عن غيره، في ظاهره. الشمس أشرقت على المدينة كما اعتادت، والناس واصلوا أعمالهم كأن لا شيء استثنائيًا يحدث. ومع ذلك، كان هذا اليوم يحمل خصوصية لا يجهلها أحد: موعد افتتاح أبواب الأكاديمية، ذلك الصرح الذي لا يُقبل فيه إلا من تجاوز اختبارًا لم ينجُ منه إلا العشرة الأوائل.
من بين أولئك العشرة... "كايسن"، "كي"، و"كايغو".
في العادة اي ممتحن يتم قبوله في دخول اكاديمية لأنه نجح في اختبار سيكون فرحا ومتحمسا او حتى قلقا، لم يُبدِ "كايغو" أيّ مظهرٍ من هذه مظاهر ...الحماسة، أو حتى القلق. لم يكن هنالك فرحٌ في ملامحه، ولا أثرٌ لتوترٍ في خطواته. كان يسير على قدميه بهدوءٍ بالغ ولا مبالاة صارخة، كأنّ دخوله للأكاديمية أمر ثانوي، أو حتى بلا قيمة.
لم يبقَ سوى ساعة ونصف على بدء مراسم الدخول. الطريق إلى الأكاديمية يستغرق ساعتين مشيًا على الأقدام. هذه معلومة يعرفها الجميع، بما فيهم "كايغو".
ومع ذلك، لم يغيّر من سرعته. لم يُسرع، لم يركض، لم يستعن بأي وسيلة نقل. اختار أن يسير وحده، بخطوات ثابتة، وبعينين لا توحيان بالانشغال ولا بالتفكير. كأنّ الزمن نفسه لا يعنيه.
تابع كايغو مشيه بنفس الوتيرة، لا يُسرع ولا يبطئ، وكأنّه يتحرّك وفق نظام داخلي لا يتأثر بالعوامل الخارجية. الأرض تحت قدميه، والسماء فوق رأسه، والزمان لا يعنيه.
لكن ما لم يكن في حسابه، هو أن يظهر رايجو.
من جهة الطريق الأخرى، كان رايجو يتقدّم بخطًى أسرع، وعندما لمح كايغو على مقربة، ارتسمت على وجهه ابتسامة تلقائية وقال بصوت مرتفع:
"هاااه! من بين كل الطرق، نلتقي هنا؟ هل هذا حظ سيئ لك أم حسن لي؟"
لم يلتفت كايغو، ولم يردّ.
اقترب رايجو أكثر، وبدأ يسير بمحاذاته، متخذًا ذلك الحضور الودّي الذي يرافق الأشخاص كثيري الكلام. نظر إليه جانبيًا وقال بنبرة خفيفة:
"أتعرف؟ لا زلت أتذكر وجهك البارد في مركز الشرطة. ظننتك تمثالًا وقتها... لم تقل حتى كلمة."
ثم ضحك، وأضاف:
"ربما كنت نائمًا بعينين مفتوحتين؟ أو لعلك لم تستوعب ما كان يجري؟"
كايغو لم يلتفت. بل ظل محافظًا على وتيرته، لا يرد ولا يعلّق. كان يعلم منذ اللحظة الأولى أن وجود رايجو سيسبب له إزعاجًا، ليس لأن رايجو خطر، بل لأن صوته عالٍ، وأفكاره خفيفة، وحديثه تافه.
رايجو لم يستسلم، بل واصل قائلاً:
"هاه، هل أنت أصم؟ أم أنك تجاوزت مرحلة الملل وأصبحت ميتًا نفسيًا؟"
ثم بدأ بإلقاء نكاتٍ سريعة، لا تتجاوز سطحية المراهقة، تتعلق بالزمن، والقبول في الأكاديمية، والوجوه المتجهمة.
كان ذلك ثقيلاً على كايغو.
لم يكن الانزعاج ظاهرًا على وجهه، بل بقيت ملامحه كما هي. لكنه داخليًا كان يرفض كل كلمة تُقال، ويزدري هذا النوع من التفاعل.
فجأة، من دون أن ينطق، زاد من سرعته.ليس لأن الوقت يداهمه بل فقط... كي يبتعد.
تعجّب رايجو من ردة فعل كايغو، لكنه – وعلى خلاف أي شخص يملك ذرة حس اجتماعي – لم يفهم الرسالة. أيّ شخص آخر، لو رأى ذلك البرود المتعمد، وذلك التجاهل الواضح، وتلك الخطى المتسارعة بلا كلمة، لأدرك أن كايغو قد ضاق به ذرعًا ويريد الابتعاد.
لكن رايجو... رايجو كان أحمق.
لا عن غباءٍ فطري، بل عن تلك الخفّة الطائشة التي لا تتوقف لتحلّل، بل تقفز مباشرة إلى أكثر التفسيرات بهجة وسذاجة.
ظنّ أن كايغو أسرع لأن الوقت ضيّق، فابتسم وقال لنفسه:
“آه، إذًا هو متحمّس أيضًا، لكنه يخجل من إظهار ذلك.”
شدّ خطواته، وركض قليلًا حتى عاد بمحاذاة كايغو من جديد، وقال بنبرة مرحة:
"لا ألومك على إسراعك! فعلاً الوقت بدأ يداهمنا، لكن... كان بإمكانك أن تقول لي مثلاً: هيّا نسرع، أو تنتظرني، أليس كذلك؟"
صمت رايجو للحظة، ثم أشار بإصبعه نحو كايغو وقال وكأنّما اكتشف سرًا عظيمًا:
"آه! صحيح... نسيت... أنت أصم! لا تتكلم!"
ضحك من كلامه، وكأنّه أطلق نكتة بارعة، بينما كان كايغو يسير بصمت، لا يُظهر انفعالًا، ولا حتى علامة ضيق.
لكن داخليًا، كان يتساءل:
كم من الوقت أحتاجه لأترك هذا الكائن وراء ظهري؟
ومع ذلك، لم يقل شيئًا.
لم يكن من طبيعته الرد على الضوضاء. بل كان يؤمن أن الجواب الوحيد على العبث... هو التجاهل الصارم.
استمر رايجو في الحديث، وكأن الصمت الطويل الذي يحيط بكايغو ليس رفضًا بل مساحة ينتظر أن يملأها. بدأ يثرثر عن تفاصيل سخيفة من اختبار القبول، وعن فتاة سقطت أمامه، وعن كيف أن أحدهم أغمي عليه من التوتر، وضحك وحده على نكاته.
كايغو لم يسرّع هذه المرة.
كان يعلم أن الإسراع لن يُجدي. رايجو، بحماقته الطفولية، سيلحق به على أي حال، بل وقد يعتبر ملاحقته نوعًا من التحدي اللطيف.
ابتسم رايجو فجأة، وكأن فكرة لمعت في رأسه للتو، ثم قال بحماسة:
"أنا رايجو! سياف! سررت بلقائك!"
مدّ يده بخفة إلى كايغو، وهو يتوقع المصافحة، أو على الأقل ردة فعل إيجابية.
ساد صمت ثقيل لا يحمل أي توتر، بل جمودًا خالصًا.
قال رايجو بنبرة تشبه الاكتشاف:
"لن يكفينا الوقت، صحيح؟"
لم يرد كايغو. تجاهل تام، لم يُظهر أدنى اهتمام.
لكن رايجو، كما اعتاد، تابع بلا اكتراث:
"حسنًا... لدي خطة للوصول بسرعة. لكن، لدي سؤال لك."
التفت إليه بنظره، لا رغبة في التفاعل، بل لمجرد الإدراك البصري.
قال رايجو بثقة لا تنسجم مع الموقف:
"هل لديك غريم في الأكاديمية؟"
لم يجب كايغو. الصمت هذه المرة لم يكن تجنبًا، بل تقييمًا لحماقة السؤال.
تابع رايجو دون أن يتأثر بالصمت:
"إذا لم يكن لديك، فبالفعل لديك الآن واحد. أنا لدي غريم. ذلك الفتى ذو الشعر الرمادي والعيون الزرقاء..."
في بادئ الأمر، ظن كايغو أنه يقصد كايسن. التفسير منطقي، فكايسن سياف أيضًا، والصفات تطابقه، بل إن كايغو لم يكن يرى سوى احتمال واحد في ذهن رايجو حينها.
لكن رايجو قال فجأة، وكأنه استعاد شيئًا:
"لقد نسيت اسمه... قصير جدًا... ربما... آه، نعم! ذلك الفتى الذي وضعت نصلك على عنقه وجرحت وجهه... أنت تعرفه، أليس كذلك؟"
توقف كايغو فجأة، تذكّر ذلك الشخص الوحيد الذي اشتبك معه خلال الاختبار، الذي وضع نصله على عنق رايجو، كان كي.
نظر كايغو إلى رايجو بنظرة حادة قاتلة، وقال بصوت يقطر استياءً واحتقارًا: "لماذا كي تحديدًا؟ تريده أن يكون غريمك من بين الجميع؟ هو ليس سيافًا حتى مثلك."
لم يهتم رايجو بنظرات كايغو المليئة بالغضب والبرود، وكرر بثقة: "صحيح، اسمه كي. لقد اشتبكت معه في الاختبار، ورأيت فيه أمورًا مذهلة، وأمورًا لم أستشعر منها أي مَنا غريبة حتى الآن. غريب جدًا، فعلاً."
غاص كايغو في غضبه، لم يتحمل الحديث أكثر، قفز بين المباني بسرعة مذهلة، تاركًا رايجو في دهشة وحيرة لا تخفيها ملامحه.
فتح عينيه ببطء، وقد خيّم عليه ارتباك عميق. لم يعرف مكانه فورًا. تملّكته حيرة حقيقية، كيف انتقل من لحظة السقوط إلى هذا السرير الهادئ؟
حاول الجلوس، لكنه شعر بثقل في رأسه، وكأن جسده يرفض الانصياع له تمامًا. تنفس ببطء، ثم نظر حوله.
رأى طفلًا صغيرًا يقف قربه. وجه مألوف. لم ينسَ ملامحه: هو الطفل نفسه الذي وجّهه كايغو في الظلال، حين حمله بين ذراعيه فاقدًا للوعي.
لم يكن وحده.
إلى جانبه، وقف رجل تجاوز منتصف العمر، بثبات وقلق واضح. نوتسوا. لم يكن كايسن بحاجة إلى تأكيد، فالنظرات المرتكزة عليه من الرجل حملت معنىً أبويًا مباشرًا.
إلى جوارهما، كانت فتاة صغيرة في نحو الثامنة من عمرها، تراقبه بفضول وخوف مبطّن.
ابتسم كايسن، بهدوء خافت. ليس لأنه شعر بالراحة، بل لأنه أراد أن يطمئنهم دون أن ينطق. ذلك النوع من الابتسامة التي يقدّمها الإنسان حين لا يجد تفسيرًا، لكنه لا يريد إثارة الذعر.
ركض الطفل الصغير نحوه وقال: "أنت بخير! لقد كنت فاقدًا للوعي تمامًا، أنا من دللت الرجل الغريب إلى المنزل!"
ثم اقترب نوتسوا أكثر وقال بنبرة حازمة يملؤها القلق: "كايسن... ما الذي حدث؟ كيف فقدت وعيك؟ من الذي أسقطك؟"
حدّقت الفتاة الصغيرة بعينيها المتسعتين نحو كايسن، وكأنها تنتظر أن يكشف لها لغزًا من عالم غريب.
لم يجب كايسن فورًا.
كان يفتّش في ذاكرته، يبحث عن لحظة الخلل، عن السبب، عن الصورة الأخيرة التي رآها.
لكنه، حتى تلك اللحظة، لم يجد سوى فراغ مبهم.
كان كايسن ينظر إليهم جميعًا بعين هادئة، لكنه يشعر بثقل داخلي لا يزول. قال بصوت منخفض وثابت: «لا تخافوا، أنا بخير... ليس وكأنني على شفا الموت». ثم اقترب طفل صغير واحتضنه بقوة وهو يقول: «كنت خائفًا أن تتركني». رد كايسن بهدوء: «لن أفعل ذلك».
لحظات بعد ذلك، جاءت طفلة صغيرة، عيناها تحبسان دموعًا، واحتضنت كايسن. شعر بشعور غريب من السعادة يتسلل إلى قلبه، لكنه كان يعلم أن هذا ليس هو ماضيه الحقيقي.
نظر كايسن إلى الجميع من حوله، وهم ليسوا عائلته البيولوجية، بل أسرته بالتبني، التي احتضنته بعد المذبحة التي اجتاحت عشيرته الحقيقية.
في صمت داخلي، قال لنفسه: «مذبحي كانت لعشيرتي الحقيقية. قُتلوا بوحشية، وألقي أخي الصغير كأنّه لا قيمة له. مررت بأيام لا تعد ولا تحصى، كنت كائنًا منسيًا، لا يعترف بي أحد. أبي الحقيقي لم يظهرنا أمام الشعب، بل فقط أمام سكان عشيرتنا، وكانت تلك أكبر غلطاته. لم أفهم السبب يومًا، وكنت أجد نفسي أكره أبي أحيانًا.
عشت أوقاتًا شديدة القسوة: جوع، خوف، بكاء، ووجع لا يلين. رغم كل ذلك، تبنّتني هذه الأسرة المتواضعة، وأنا ممتن لهم حقًا. سعادتهم كانت لي سندًا، لكنني أعلم أن هذه ليست السعادة التي كنت أشعر بها مع عائلتي الحقيقية. تبا، لماذا أقول هذا الآن؟»
كان هذا السؤال ينبض في قلبه بلا جواب، لكنه كان يعرف أن جرح الماضي لا يشفى بسهولة، وأن السعادة الحقيقية لم تزر قلبه بعد.
وقف كايسن بصعوبة، واهتز جسده قليلاً تحت وطأة الإرهاق. تحرّك نوتسوا بسرعة ليمنعه من السقوط، إلا أنّ كايسن رفع يده، وقال بصوت منخفض لكنه حازم: «أنا بخير، أبي... لا تقلق».
ثم التفت إلى الطفلة الصغيرة التي كانت تراقبه بقلق، وربّت على رأسها بحنان. كانت أخته بالتبني، ولم يشأ أن يرى الخوف في عينيها. رفع بصره قليلًا وسأل: «من أحضرني إلى هنا؟»
أجابه أخوه الصغير، وكان جالسًا إلى جوار الباب: «سياف ذو شعر أخضر... كان مرعبًا، وباردًا للغاية».
توقف كايسن لبرهة، ثم قال في نفسه: «ذلك لا شك فيه... إنه كايغو. لكن... لماذا أحضرني إلى المنزل؟ ظننت أنه شخص بارد لا يهتم بأحد».
قال نوتسوا بعد لحظة صمت: «بني... كايسن، لماذا فقدت وعيك؟ لقد سمعت أن الأشرار اقتحموا ساحة الاختبارات، هل فقدت وعيك أثناء قتالهم؟»
رد كايسن بهدوء، دون أن ينظر مباشرة في عينيه: «لا... لم يُصب أي منّا في تلك المعركة».
قالت فتاة كانت تقف إلى جانب نوتسوا: «إذًا، ما السبب؟»
صمت كايسن، وأغمض عينيه للحظة، كأنّه يبحث في داخله عن تسلسل الأحداث. رأى في ذهنه ذلك الممر الضيق، حيث كان مع كايغو وكيوجو و... كي. سمع آنذاك حديث كيوجو عن ماضي كي، وتذكّر تمامًا لحظة الضربة التي وجهها كي له.
تحدث كايسن في نفسه، بصوت داخلي صادق وواضح: «فقدت وعيي لأن كي ضربني... لكنه لم يفعل ذلك بدافع الغضب، ولا لأنه أراد إيذائي فعلاً. كنت أستمع حينها إلى كيوجو وهو يروي تفاصيل ماضي كي... كيف عاش في الغابة بين الوحوش، كيف كان يأكل لحومهم، ويقتلهم دون توقف، حتى خافت منه الوحوش نفسها. حين سمعت ذلك، شعرت بالذنب... وبكراهية لنفسي. لم أستطع تحمّل القصة، ولا تصديقها، لكنها لم تكن كذبة... كيوجو لم يكن ليفتعل شيئًا كهذا.
أردت أن أموت في تلك اللحظة. بدأت أُخرج نصلي ببطء... شيئًا فشيئًا، لم يرني كيوجو ولا كايغو. الوحيد الذي لاحظني... كان كي. هو من أنقذني».
فتح عينيه ببطء، لكنه لم يتحدث. لم يكن مستعدًا لأن يُفصح عن ذلك علنًا. كان يعلم أن هذا الألم أكبر من أن يُقال بسهولة. ومع ذلك، بدأت أول بذور الإدراك تنبت داخله: أن كي ليس كما كان يظن، وأن الظلمة التي كانت تحيط به تخفي قلبًا لم يفهمه بعد.
نهض كايسن فجأة بنشاط مبالغ فيه، وقال بصوت عالٍ وبملامح مصطنعة الحيوية: «حسنًا، عليّ الذهاب إلى الأكاديمية، أليس اليوم هو يوم الدخول؟ أنا متحمّس حقًا!»
كلماته كانت متقنة، حركته كانت واثقة، لكن باطنه لم يكن كذلك. كان لا يزال يعاني من تَبِعات الحادثة الأخيرة، وما زالت روحه مثقلة. لم يشفَ بعد. لم يتجاوز ما حدث، لكنه أراد أن يتظاهر بالعكس.
تفاجأ الجميع بتصرّفه، وظلّت نظرات الحيرة تحيطه. حاول نوتسوا أن يوقفه ويسأله عن حاله، لكن كايسن تهرّب منه، ارتدى ثيابه الرسمية على عجل، وعلّق سيفه خلف ظهره كمن لا يريد أن يعطي أي فرصة للنقاش.
خرج من الباب دون أن يلتفت، ووراءه بقي الجميع في حالة من الذهول.
وفجأة، شهق أحد الأطفال وقال بصوت مرتفع: «أخبرني السياف ذو الشعر الأخضر ألا ندعه وحده... أو قريبًا من أي شيء حاد!»
استدار نوتسوا بسرعة وحدّة، وقال: «لماذا؟»
رد الطفل ببراءة وارتباك: «وكأنني أعلم...»
هرع نوتسوا إلى الخارج، والقلق يسبق خطواته، وعيناه تبحثان عن ابنه كأنما فُقد منه للتوّ. وعندما لمح كايسن، توقّف فجأة.
كان كايسن يمشي بهدوء إلى جانب شاب طويل، شعره أخضر قاتم، وسيفه يتدلّى من خصره. لم يكن أحد سواه... إنه كايغو.
اندهش نوتسوا، وتسارعت في داخله الأسئلة: «هل هو... حارسه الشخصي؟ متى قرّب نفسه منه؟ وكيف؟»
لكن في الحقيقة، لم يكن الأمر صدفة. فبعد أن ابتعد كايغو عن رايجو، وقفز بين المباني بسرعة مذهلة، غيّر وجهته. قرر في لحظة عابرة أن يعود إلى كايسن. لم يكن ذلك قرارًا عقلانيًّا بالكامل، بل كان دافعًا غريبًا دفعه للرجوع، وكأن شيئًا ما بداخله لم يرضَ أن يتركه على ذلك الحال.
وبفضل سرعته الخارقة وقدرته على القفز من بناء إلى آخر دون أن يلمسه أحد، وصل إلى منزل كايسن في وقت مثالي... قبل أن يفيق، وقبل أن يُترك وحده. لم يكن حارسًا رسميًا، ولم يُكلَّف بذلك. لكنه كان حاضرًا. وكان ذلك كافيًا، بل ضروريًا، في هذه اللحظة.
تمشّى كايغو وكايسن في صمتٍ مشحون، لا يتبادلان سوى خطوات حذرة على الرصيف المتشقق. ثم، دون أن ينظر إليه، قال كايغو بصوت منخفض، لكن حاد كالسيف: «لقد كنتَ تُخرج نصلك قبل قليل، أمام باب منزلك... لماذا؟»
تجمّد كايسن للحظة، وبدت عليه علامات الارتباك، ثم قال بسرعة محاولًا تغطية اضطرابه: «كنتُ... فقط أختبر وزنه. أظن أنني سأحتاج لتعديله في الأكاديمية.»
لم يعلّق كايغو. بل أخرج هاتفًا صغيرًا من جيبه، توقّف عن السير، وأجبر كايسن على التوقف أيضًا.
ثم التفت إليه، ونظراته لم تكن مشككة فحسب، بل كاشفة، ووجهه لا يحمل أي تردد. قال بهدوء مريب: «ما اسم هذا الحيّ... أو هذه المنطقة؟»
ارتبك كايسن مجددًا، فالنبرة في صوت كايغو لم تكن عابرة. كأنه يريد أن يتحقق من شيء ما. أجاب بعد تردد بسيط: «حيّ تيراسال...»
كرّر كايغو الكلمة، بصوت مسموع أكثر، وهو ينظر إلى شاشة الهاتف: «تيراسال...»
ثم ساد صمت عميق.
مرّت دقائق ثقيلة. كان الصمت ممتدًا، متوتّرًا، أشبه بقرار لم يُعلَن بعد. نظر كايسن جانبًا نحو كايغو، دون أن يجرؤ على الحديث، ثم قال في نفسه بنبرة مترددة:
"لماذا نحن واقفان هكذا؟ ما خطبه؟ هل ينتظر شيئًا؟ أم يتقصّد إحراجي؟"
لم يكن كايسن يرغب في أي حديث مع كايغو، لا بسبب الخوف، بل لأن وجود هذا الشخص يفرض شعورًا خانقًا لا تفسير له. كل جملة ينطق بها كايغو تحمل ثقلًا مبهمًا.
وفجأة، ظهر صوت عجلات معدنية يقطع السكون.
عربة ملكية.
اندفع رأس كايسن نحو مصدر الصوت، وبدت عليه الدهشة الفورية. عربة ملكية مزينة بختمٍ رسمي، تحيط بها هالة من الاحترام والمكانة. حين توقفت أمامهم، تلاشت حيرة كايسن فورًا. لقد فهم الآن سبب وقوف كايغو الطويل في هذا المكان تحديدًا.
ركبا العربة دون كلمة، وكأن الأمر كان مخططًا مسبقًا، أو على الأقل... من جهة واحدة.
وحين دخل كايسن إلى مقصورتها الداخلية، وقعت عيناه على كي .
اتسعت حدقتاه على نحو غير طبيعي، وكأن وجود كي في هذا المكان لا يُمكن أن يكون عابرًا. وحتى كي، على الرغم من بروده المعتاد، بدت عليه المفاجأة نفسها. لم يتحدث أي منهما، لكن الصدمة كانت حاضرة بوضوح في نظراتهما.
أما كايغو، فجلس بهدوء في مقعده، دون أن يظهر عليه أي اهتمام. وكأن كل ما يجري لم يكن أكثر من مشهد مألوف بالنسبة له، أو أنه قد رآه في ذهنه عشرات المرات من قبل.
بدأ كي في الصراخ فجأة، بنبرة لم تحمل إلا الغضب المطلق:
"هل فقدت عقلك؟! لماذا أحضرت هذا الغبي معك يا كايغو؟! ومن سمح لك أن تقتحم شؤوني بهذه الطريقة؟!...وكيف اتيت الى هنا انت ايضا ".
ثم التفت بسرعة نحو كايسن، دون أن يمنحه فرصة للكلام:
"وأنت، ألا تعرف حدودك؟! هل تظن أنك الآن صرت جزءًا من شيء؟ من سمح لك بالاقتراب حتى؟!"
كان كايسن مذهولًا من شدة حدة الكلمات، لم يكن يتوقع هذا الانفجار، ولا كان مستعدًا له. حاول تهدئة كي بصوت خافت، متردد:
"كي... أرجوك، ليس الآن، لسنا وحدنا..."
لكن كي لم يصغِ. بل صرخ على كايغو مجددًا:
"أنت تتجاهلني عمدًا، أليس كذلك؟! دائمًا تتصرف وكأنك لا ترى أحدًا! هل تعتقد أن سكوتك يجعلك أذكى؟! أنت لا تملك الحق أن تقرر من يأتي ومن لا يأتي!"
كايغو لم يحرّك ساكنًا. لم يرمِه بنظرة واحدة. كان جالسًا على المقعد المقابل، يُحدّق في الفراغ خارج النافذة، كأن الصوت لا يخترق أذنيه أصلًا. صمته كان أقسى من أي ردّ.
ومع تصاعد التوتر، التفت كي نحو السائق وصرخ:
"هل تسمعني؟! أوقف هذه العربة! لا أريد البقاء معهم ثانية واحدة! توقف فورًا وإلا سأقفز!"
لكن السائق لم يجرؤ على التصرف من تلقاء نفسه، خاصة بوجود كايغو. أما كايسن ، فكان محاصرًا بين نظرات كي ونظرات الصمت.
استمر الصراخ والشتائم طوال الطريق، حتى توقفت العربة أخيرًا أمام بوابة الأكاديمية. نزلوا جميعًا، لكن الجو كان مشحونًا على نحو ثقيل.
كي نزل أولًا، بخطوات غاضبة. كايسن تبعه مترددًا، لا يعلم إن كان قد ارتكب خطأً بوجوده. أما كايغو ، فقد نزل أخيرًا، بذات البرود، وكأن ما حدث داخل العربة لم يُوجد من الأصل.
قفز كي من نافذة العربة بقفزة مفاجئة وحادة، دون أن ينطق بكلمة واحدة.
صرخ السائق، وانهار في مقعده من الصدمة:
"أيها الشاب! هل جُننت؟! إنها نافذة ملكية!"
أما كايسن ، فهرول خارج العربة معتذرًا بانكسار وخجل:
"أنا آسف حقًا! آسف! لم أقصد... أعني... لم يكن يجب أن—" توقف عن الكلام حين رأى كي واقفًا أمام بوابة الأكاديمية.
كان كي يحدّق بالباب بجمود. لحظة صمت، ثم... انفتح الباب فجأة. ودخل كي بهدوء غريب، كأن شيئًا لم يحدث، كأن كل ذلك الصراخ والانفعال تبخّر تمامًا.
زالت ملامح الغضب من وجهه، واستبدلها ببرود قاتل. كانت عيناه زرقاوين كالجليد، تنظران للأمام دون اكتراث.
في قلب ساحة الأكاديمية، كان يقف سبعة طلاب ، ينتظرون التوجيه. كان من بينهم: رايجو ، زايكو ذو اللسان السليط، تايغا ، و ريوسكي ، الذي بدا كأذكى من في المجموعة.
رفع زايكو حاجبه باحتقار وقال:
"هاه؟ الصعلوك تم قبوله؟ من هذا الذي يفترض أن يكون؟"
لم يرد كي . ولم يتوقف. مرّ بجانبهم وكأنهم غير موجودين. عيناه على الأرض، خطاه ثابتة.
دخل كايغو الساحة خلفه بهدوء، ووراءه كايسن بتوتر ظاهر في وجهه.
توقّف كي على بُعد خطوتين منهم، ثم انزاح قليلاً إلى الجانب، كأنه لا يريد أن يقف في صفّ أحد.
ثم... خرج فجأة من بوابة المبنى المشرف سيلفا . كان يسير بخطى ثقيلة لكن واثقة. نظر إلى المجموعة، ثم توقفت عيناه على كايسن ..
لكن سيلفا لم يعلّق أكثر. اكتفى بنظرة صامتة، ثم أشار لهم جميعًا:
"أنتم السبعة... اتبعوني. قد تم قبولكم رسميًا."
بدأت خطواتهم الأولى في قلب الأكاديمية. لكن النظرات، التوتر، والعداوات، بدأت تظهر منذ اللحظة الأولى.
سار الطلاب السبعة خلف سيلفا في صفّ منظم، خطواتهم متقاربة، وأنفاسهم مشحونة بتوقّعات مجهولة.
كان الجو مشحونًا بصمت غريب، لا يقطعه سوى وقع الأقدام على الأرضية الرخامية.
تقدّم كايسن بخفة وهمس:
"مشرف سيلفا... أين الثلاثة الآخرون؟ ألم يكن من المفترض أن نكون عشرة ممتحنين؟"
أجابه سيلفا دون أن يلتفت:
"سيأتون... فقط تأخروا قليلاً."
نظر كايسن حوله بدهشة، لكنه لم يعلّق.
وصلوا إلى ممر واسع تتوزع فيه الغرف، وأشار سيلفا نحو أربع غرف متجاورة.
"كل غرفة تحتوي على فريق... أنتم الأربعة ستوزّعون الآن."
دخل زايكو غرفته وهو يضحك باستهزاء، وتبعه وتايغا .
لكن كايسن لاحظ شيئًا غريبًا، فرفع يده وسأل:
"مشرف... هل يعني هذا أننا لسنا في فريق واحد؟"
هز سيلفا رأسه:
"بالضبط. بعضكم في فرق مستقلة. العدد الإجمالي أقل من المعتاد هذا العام."
قطب كايسن حاجبيه:
"لكن... أليس من المفترض أن نكون عشرة؟ عددنا قليل."
رد سيلفا بنبرة هادئة:
"هناك طلاب دخلوا عبر التوصيات الخاصة من خارج نظام الامتحان، لذا العدد غير متوازن هذه السنة."
في تلك اللحظة، تململ كي قليلًا، وبدت عليه علامات انزعاج خافتة.
لم يقل شيئًا، لكنه عبس، وكأنه لا يرتاح لفكرة "القبول بالتوصية".
استدار سيلفا أخيرًا نحو نهاية الممر، حيث بقي ثلاثة طلاب دون توزيع بعد:
كي، كايسن، ورايجو.
وقفوا أمام بابٍ واحد.
لم ينطق أحد.
نظروا لبعضهم بصمت...
رايجو يبتسم بنصف فم،
كايسن يتصبب توترًا،
وكي... ينظر إلى الباب ببرود تام، كأنه لم يسمع شيئًا.
قال سيلفا أخيرًا:
"أنتم الثلاثة... فريق واحد."
وساد الصمت.
تجمّد كي في مكانه للحظة، كأنما لم يستوعب ما سمعه لتوّه.
ثم التفت ببطء نحو كايسن ورايجو، نظراته تحمل مزيجًا من استغراب ورفض غريزي.
وفجأة، صرخ:
"مهلًا... هل سأكون مع هذين الغريبين؟!"
كانت كلماته حادّة، نبرة صوته تنضح بالغضب، كأنه تلقّى إهانة شخصية.
لكن خلف هذا الغضب، لم يكن أيٌّ منهم يعلم أن كي لم يعتد من زمن بعيد على وجود فريق حقيقي.
ابتسم كايسن بخفة، لكنها كانت ابتسامة مخفية بمهارة، كأن قلبه وجد راحة عابرة.
أما رايجو، فقد قفز فرحًا، وقال بمرح:
"أجل! هذا أفضل فريق يمكن أن أحصل عليه!"
أجابه سيلفا دون اكتراث:
"بلا تذمّر. هذه هي تركيبة الفريق، ولا مجال للاعتراض."
فتح الباب ودفعهم للدخول.
دخل كي أولًا، والغضب لا يزال يتطاير من ملامحه، لكن ما رآه هناك جعله يتوقف فجأة.
في منتصف الغرفة الكبيرة، وقف فتى بشعر أزرق بلون البحر، وعينين بنفس الدرجة.
كان واقفًا بكل هدوء، لكن كي عرفه على الفور:
"كيزوكي"... الفتى الذي أهان كي سابقًا، وأبعد كايسن عنه في بداية لقائهما.
تجمّد كايسن بدوره وهو يراه، وبدا عليه الارتباك المفاجئ.
أما كيزوكي فعبس بوضوح، وقال بسخط:
"أنت مرة أخرى؟"
تقدم كي بخطوة وقال:
"هل شاركت في الامتحانات؟ كيف وصلت إلى هنا؟"
أجابه كيزوكي دون أن يغير نبرته:
"دخلت بتوصية من أحد القادة. لكنني أردت فقط أن أرى أجواء الامتحانات."
في تلك اللحظة، قاطعهم صوت ناعم قادم من الطابق العلوي للغرفة.
كانت الغرفة واسعة للغاية بشكل مبالغ فيه، وتضم طابقًا علويًا أشبه بشرفة داخلية مفتوحة على الطابق السفلي.
قال الصوت بنبرة هادئة:
"أوه... إذًا، اكتمل الفريق. كم يسعدني هذا."
رفع الجميع رؤوسهم، حتى كي نفسه نسي توتره لوهلة، ونظر للأعلى.
ظهرت فتاة ذات شعر أسود طويل، تتخلله خصلات خضراء فاتحة.
كان وجهها هادئًا، وعيناها فيهما ذكاء لامع وهدوء خطير.
ابتسمت ابتسامة خفيفة، لا يمكن تصنيفها بالبريئة ولا بالمتعالية، بل مبهمة تمامًا.
وتابعت بنغمة خافتة:
"أخيرًا... فريقنا اكتمل."