الاسم ميري
_____________________________
نظر كايزر إلى كاجيرو نظرة حادة، اتسمت بنفاد الصبر. لم يتكلف في إخفاء ضجره، بل قال بصوت منخفض خالٍ من الانفعال:
"أين كنت، كاجيرو؟ وكيف أصبحتَ بهذه الحالة؟"
كان كاجيرو مستندًا إلى الجدار، بثيابه الممزقة وآثار الغبار تغطي كتفه. ورغم مظهره الفوضوي، ضحك بهدوء وأجاب بنبرة ساخرة:
"في الحقيقة... كنت أقاتل شخصًا باردًا، مجنونًا، لا يبالي بشيء على الإطلاق."
لم يعلّق كايزر مباشرة. اكتفى بزفرة ثقيلة، كأنها تحمل تاريخه مع هذا الرجل، ثم قال:
"أنت لا تكفّ عن اللهو مع خصومك."
رفع كاجيرو كتفيه، كمن يرفض الاتهام، وقال بلا ندم:
"وما ذنبي إن كان خصمي ممتعًا؟"
لم يستمر النقاش، إذ تدخّل رايشفوت بنبرة جادة، كأنه أراد إيقاف الانجراف نحو التفاصيل غير المهمة. قال بوضوح:
"لا يهم. المهم أننا وصلنا هنا لأن خصمنا دهسنا. هذا ما حدث حرفيًا. دهسنا حتى سقطنا من الأعلى. وأنا لا أمزح."
خيم الصمت لوهلة. لم يكن الموقف مضحكًا، لكنه بدا عبثيًا بما يكفي ليجعل الصمت أكثر تعبيرًا من الكلام.
فجأة، شعر الجميع بحرارة مرتفعة تنبعث من الأعلى. لم تكن مجرد تيار دافئ، بل موجة متصاعدة أربكت أنفاسهم لثوانٍ. رفعوا رؤوسهم في الوقت نفسه، كأنهم استجابوا لنذير غير مرئي.
قال كاجيرو بحماس واضح، دون أن يشرح:
"إنه قادم."
لم يكن كايزر بحاجة إلى استيضاح، بل قال بنبرة ثابتة:
"من؟"
جاءه الرد من رايشفوت، بصوت منخفض وكأنه يتذكر شيئًا لم ينتهِ بعد:
"العائد من العدم... القادم من اللاشيء... أو هكذا وصف نفسه."
تراجعت الحرارة تدريجيًا، كأن الهواء نفسه امتثل لهيبة القادم. ساد صمت قصير، لم يقطعه أحد.
في تلك اللحظة، نظر كيزوكي حوله، ثم تمتم في نفسه:
"تبا... عن من يتحدثون؟ من الذي قاتلهم؟ هل يوجد حليف خفي بيننا؟ وأين ذلك المغفل... كي؟"
لم يمنحه الزمن فرصة أطول. انشق السقف جزئيًا، ثم سقط منه جسد واحد. لم يكن مضطربًا في سقوطه، بل بدا كمن اختار نقطة الهبوط بعناية.
كان "كي".
هبط بثبات وسط الأنقاض، وأول ما فعله بعد نزوله هو النظر مباشرة إلى كايزر. التقت أعينهما بلا تردد. لم يكن في نظرة كي ترحيب، ولم يحمل كايزر أي بادرة شك.
في اللحظة نفسها، وقبل أن تلامس قدماه الأرض بالكامل، انطلقت قبضته باتجاه وجه كايزر. لكمة مباشرة، دون تحذير، ارتطمت بوجهه ودفعته بقوة إلى الوراء.
سقط كايزر أرضًا.
لم يتكلم أحد. فالجميع، بما فيهم من يعرف كي ومن لا يعرفه، أدركوا أن شيئًا تغيّر.
عندما سقط كي من الأعلى، كان هبوطه دقيقًا، بلا تردد، واستقر على الأرض مباشرة أمام كاجيرو ورايشفوت.
كاجيرو لم يتردد. سحب سكينه بسرعة ووجّهها نحو عنق كي، بينما رايشفوت رفع بندقيته بدقة وثبّتها نحو رأسه. كلاهما تصرف بتلقائية، كأن جسديهما استجابا قبل عقولهم.
لكن كي لم يبقَ في مكانه.
في لحظة واحدة، تجاوزهما، واختفى من مجال رؤيتهما، ثم ظهر خلفهما بلا أثر للحركة. لم يفهم أيٌّ منهما كيف تحرك.
قال كي ببرود، دون أن يلتفت إليهما:
"لو كنتُ عدواً، لما كنتما على قيد الحياة الآن."
توقف الاثنان عن الهجوم. لم يكن في صوته تهديد، بل حقيقة لا تقبل النقاش.
بدأ كي يتقدّم بخطوات ثابتة نحو بقية الفريق. لم يتوقع أحد ظهوره بهذا الشكل، ولا في هذا التوقيت تحديدًا. كانت ملامحه متجمّدة، خالية من التوتر، وكأن كل من حوله مجرد تفاصيل لا تستحق اهتمامًا زائدًا.
في الجهة المقابلة، كان المقنّعون يراقبون المشهد. رفعوا أسلحتهم وصوّبوها نحوه. لم ينتظر كي. أخرج من جيبه زجاجة صغيرة تحتوي على سائل أحمر، وكسرها برفق في الهواء.
ما إن تناثر السائل حتى تحوّل إلى غبار ناعم أحاط بالمقنّعين. لم يستغرق الأمر أكثر من ثوانٍ حتى فقدوا توازنهم، ثم وعيهم، وسقطوا أرضًا واحدًا تلو الآخر، بلا مقاومة.
لم يقل كي كلمة واحدة بعد ذلك. كان الصمت وحده كافيًا لشرح ما حدث
تمتم كاجيرو، وهو ينفض الغبار عن سلاحه:
"هذا الوغد... حقير."
لكن على الطرف الآخر، كان كايسن يبتسم بوضوح، وعيناه تلمعان بشعور لا لبس فيه. قال بصوت عالٍ:
"أخي!"
لكن كي لم يتوقف عند النداء. قال دون أن يلتفت:
"لستُ أخاك... اخرس."
ثم أكمل طريقه بهدوء. توقف عند كيزوكي، نظر إليه مباشرة وقال:
"أنت تدين لي بتفسير عمّا حدث... أيها القائد."
ارتبك كيزوكي. لم يفهم كيف عرف كي منصبه، خصوصًا أن إعلان القيادة حدث في غياب كي تمامًا. لم ينبس بكلمة، فقط نظر إليه بدهشة لم يستطع إخفاءها.
في اللحظة نفسها، عاد كايزر إلى المشهد.
كان يمشي بخطى ثابتة. لم يتسرّع، لم يتأخر. عيناه كانت مركّزتين على كي، لا تزيغان. لم يظهر عليه الغضب، بل بدا كمن يستعدّ لاختبار طويل.
الصمت تمدد بينهما، كأن الجميع انتظر ما سيقوله أحدهما... أو ما سيفعله.
نظر كي إلى كايزر بثبات. نصف وجهه كان مغمورًا في الظل، وعينه الوحيدة الظاهرة كانت باردة، خالية من أي شعور. لم يُظهر غضبًا، لم يبتسم، ولم يرمش. كان واقفًا هناك بلا خوف، بلا تردد، كأن كل شيء حوله لا يعنيه.
كايزر رفع رأسه ببطء، وعيناه لا تتحركان عن كي. لم تكن نظرته تحديًا، بل أقرب إلى صدمة لم يستعد لها. صدره ارتفع مع كل نفس غير منتظم، وشفته ارتجفت قليلاً، لكنه لم يقل شيئًا فورًا.
وأخيرًا قال كايزر بصوت منخفض:
"إذاً... أنت ما زلت حيًّا."
كي لم يرد. لم يغير وقفته، لم يُبدِ أي رد فعل. انتظر فقط حتى أنهى كايزر كلماته، ثم حرّك رأسه نحو نيفيلار والفريق، وتكلم بصوت واضح:
"إذاً، الأمر واضح الآن. الأب جنون... خان فريقه."
ارتعش نيفيلار فورًا. لم ينبس ببنت شفة، فقط انخفضت نظراته، وتجمّد في مكانه.
كي التفت إليه ببطء، نظره حاد ومباشر:
"أخبرتك سابقًا... إن خنتني، سأقتلك."
سكت لحظة، ثم أكمل بنفس الهدوء:
"وها أنت ذا... تخونني."
الصمت سيطر على المكان، ولم يتجرأ أحد على مقاطعته.
اندفع كي فجأة نحو نيفيلار، جسده تحرك بقوة حادة، واستهدف منطقة البطن مباشرة. نيفيلار لم يتحرك، لم يمتلك حتى الوقت لرفع ذراعه. كي قطع نصف المسافة في لحظات.
رايشفوت، من موقعه، لم يتردد. صوب بندقيته نحو رأس كي وأطلق.
كان يظن أن الطلقة ستصيبه، لكنها لن تكون قاتلة... تمامًا كما حدث من قبل.
لكن كي انبطح بسرعة، قبل أن تصل الرصاصة إليه. لم تصبه. سرعته انخفضت للحظة، لكنه لم يتوقف. أكمل الاندفاع وهو شبه منبطح، يزحف نحو هدفه.
وفجأة... توقف.
جسده تجمّد في مكانه. لم يكن السبب رصاصة، ولا نداء.
بل رمح.
رمح رمادي، مائل إلى الشكل الصخري، كان موجهًا مباشرة نحو رقبته. قريب جدًا، أقرب من أن يتجاهله.
كايزر كان واقفًا فوقه، يمسك بالرمح بيد واحدة. نظرته كانت ثابتة، لا تحمل تهديدًا صريحًا... لكنها لم تكن بحاجة إلى ذلك.
قال كايزر بصوت منخفض وهو لا يزال ممسكًا بالرمح قرب رقبة كي:
"لم أتوقّع ظهورك هنا أبدًا... كنت أظنّك ميتًا، رغم أنني لم أملك دليلًا حقيقيًّا. على الأغلب... أنك تحقد عليّ. وتكرهني، أليس كذلك؟ يا فتى الزهور."
لم يلتفت كي بجسده، فقط حرّك رأسه قليلًا نحو الوراء، باتجاه الصوت خلفه. قال ببرود:
"هل نعرف بعضنا من قبل؟... آسف، إن كنّا قد التقينا، فأنا نسيتك."
توقّف كايزر لحظة، ثم قال بهدوء:
"إذاً... نسيتني. كم هذا مؤسف."
تنفس ببطء وأكمل:
"لا بأس. على أيّة حال، أنا... أحتاجك."
حينها، حرّك كي عينيه بين الاثنين. لا هو واقف تمامًا، ولا ساقط تمامًا. وضعه كان منخفضًا، لكن جسده لا يزال نشطًا.
في لحظة واحدة، وجّه ركلة سريعة بعقب قدمه نحو عنق كايزر.
لم يتوقّعها كايزر. ضُرب بقوة وارتطم بجدار خلفي، سقوطه أحدث صوتًا مكتومًا.
لكن في نفس اللحظة، انطلق الرمح الرمادي الذي كان بيده في حركة لا إرادية. طرفه جرح عنق كي عند مروره، وترك خطًا أحمر رفيعًا بدأ يسيل منه الدم.
كي لم يتراجع. رفع عينه بهدوء، وضع إصبعه على الجرح، نظر إلى الدم، ثم نهض دون استعجال.
صرخ كايسن بتوتر:
"كي، لا تقاتله! إنه خطير!"
حاول كاجيرو التحرّك، لكن كايزر قال بنبرة حاسمة دون أن يصرخ:
"لا تتحرّك."
تجمّد كاجيرو في مكانه. رفع كايزر رأسه ببطء نحو كي، كانت نبرته منخفضة لكنها مشبعة بالضيق:
"هل قلت... كي؟... لهذا الفتى؟"
توقف لحظة، ثم تابع بصوت أثقل:
"أخبرتكم سابقًا... أن هذا اسم أكرهه كثيرًا. لكن لم أكن أعلم... أنّك تحديدًا من يملكه."
الجميع تبادلوا النظرات، لم يفهم أحد ما يقصده. فقط كايزر كان يعلم ما يعنيه.
أكمل وهو يتقدّم خطوة:
"في لقائنا الأول... سألتك عن اسمك. لكنك رفضت الإجابة. صمتّ، كأنك لا تملك اسمًا. وها أنت الآن... يقفون حولك، ينادونك به."
انحنى كايزر قليلًا، مدّ يده، وانتزع رمحًا رماديًا من الأرض وكأنه كان بانتظاره.
قطع المسافة نحو كي في لحظة واحدة. لم ينادِ، لم يحذّر.
وغرس الرمح في صدره مباشرة.
توقّف جسد كي.
قال كايزر بصوت خافت، وهو لا يزال ممسكًا بالرمح المغروس في صدر كي:
"أردت أن أتأكد... إن كان هذا الاسم سيصمد بعد الطعنة."
في تلك اللحظة، ظل كايزر وكي يحدّقان في بعضهما بصمت ثقيل، كأن الزمن توقف.
عينا كايزر تتفحصان ملامح كي كما لو كان يحاول أن يستخرج من وجهه شيئًا يعرفه، شيئًا ضاع منه منذ زمن.
وكي، رغم بروده المعتاد، بدت عليه لمحة من التركيز، نظراته لم تعد لامبالية. كأنه هو الآخر يحاول تذكّر مَن أمامه، أو فهم دوافعه.
همس كاجيرو بدهشة وهو يراقب المشهد:
"انظر إلى الزعيم… إنه يركز على كي بجدية."
رايشفوت عقّب بتساؤل غامض:
"هل يعرفان بعضهما من قبل؟ هذا التوتر ليس عاديًا."
أما نيفيلار، فكان بعيدًا عنهم جسديًا، لكنه غارق في دوامة داخلية من الذنب والخوف.
وقف مرتجفًا، عيناه زائغتان، وأنفاسه ثقيلة.
(خواطر نيفيلار، بتعبير أعمق):
تبا… كي سيقتلني، أعلم ذلك.
لقد خنته، ووعدني إن خنته مرة أخرى سيقطعني إربًا… وها أنا ذا، أخون من وثق بي.
لكن… لم أكن أملك خيارًا، أليس كذلك؟
ما زلت أريد أن أرى ابنتي… أريد أن أعيش معها ما تبقى لي، أن أسمع ضحكتها مجددًا.
أحتاج أن أعتذر منها، عن كل تلك السنوات التي تركتها فيها وحيدة، عاجزًا، غارقًا في العجز.
أريد أن أعود إلى زوجتي… إلى البيت الذي كانت تملؤه رائحتها، إلى دفء الأمسيات، إلى الهدوء الذي كنت أهرب إليه بعد كل معركة.
أنا لا أريد الموت… لا الآن. لا قبل أن أستعيد تلك الحياة التي سرقها مني هذا العالم.
ثم نظر إلى كي، قلبه يخفق بعنف.
هل سأموت الآن؟ قبل أن أُصلح كل شيء؟
قال كايزر وهو يزيح نظره عن كي أخيرًا:
"حسنًا، تبادل النظرات بيننا طال أكثر من اللازم… هذا الملل لا يطاق. كأن الجو ممتلئ بالحزن، وهذا لا يليق بي."
مدّ كي يده بهدوء إلى جيبه، وأخرج زجاجة صغيرة تحتوي على سائل أزرق لامع. كسرها في لحظة واحدة، فتحطمت وانتشر غبار أزرق كثيف في الهواء، غطّى المكان بسرعة.
لم تمر ثوانٍ، حتى بدأت الأرض تهتز تحته، وصوت تشقق الصخور يتصاعد من كل الجهات.
ظهرت من وسط الغبار وحوش صخرية ضخمة، هياكلها صلبة كأنها من جبل، وعيونها تلمع بلون رمادي ميت. حجمها كان يفوق أي توقّع، وبعضها تجاوز ارتفاع البشر بثلاثة أضعاف.
انطلقت الوحوش في هجومها فجأة، بلا تمييز، تهاجم الجميع — الأعداء والحلفاء.
كي نفسه تراجع خطوة للخلف وهو يحطم رأس أحدها بقبضة نارية دون تردد، بينما صرخ كايزر وهو يسحق وحشًا آخر برمحه:
"تبا لك أيها الوغد! أتجرؤ على إدخالي في فوضاك؟ سأجبرك على تغيير اسمك اللعين هذا، حتى لو اضطررت لتحطيم عظامك قطعة قطعة!"
كي لم يرد عليه، لم يلتفت حتى.
كان يتحرك بين الوحوش بضربات دقيقة، كل ضربة تسقط صخرة عملاقة. عيناه لا تحملان غضبًا، فقط تركيز مميت.
أما الفريق، فقد وجد نفسه في مأزق.
الفتيات بالكاد كنّ يتفادين الهجمات المتسارعة، أصوات أنفاسهن متلاحقة، وعرق التوتر يبلل جباههن.
الفتيان بدأوا القتال بشراسة، لكنهم لم يعتادوا على مواجهة خصوم بحجم الجبال.
المشهد كان فوضى نارية من غبار، وصرير الصخور،
كان كاجيرو ورايشفوت يخوضان القتال جنبًا إلى جنب، يتبادلان الضربات مع الوحوش الصخرية بقوة ومهارة. لكن وسط هذا الجنون، كان هناك شخص واحد لم يرفع سلاحه، لم يحاول حتى الدفاع عن نفسه… نيفيلار.
الوحوش لم تلتفت إليه. لم تشعر بأي خطر منه.
وكأنه لم يكن سوى ظل يمر بينهم.
تراجع خطوتين إلى الوراء، وحدّق في فوضى المعركة بعينين شاحبتين.
تمتم بصوت يكاد يُسمع:
"حتى هذه المخلوقات لا تعتبرني تهديدًا... ما تبقى مني؟... لا شيء... مجرد خائن بلا قيمة."
ضرب قبضته على الحائط بجانبه، ثم استدار فجأة وركض نحو الدرج المؤدي إلى الطوابق العليا، حيث تُحتجز ابنته. قلبه كان يخفق بعنف، لكن ملامحه كانت متحجرة.
في الطابق الثالث، وجد أحد رجال كايزر يتجول بلا هدف، يبحث عن مخرج أو أمر جديد.
اندفع إليه نيفيلار وأمسكه من قميصه بقوة، دفعه نحو الجدار حتى كاد يخنقه.
صاح بغضبٍ انفجر من قاع قلبه:
"أين الفتاة التي تحتجزونها؟!!"
قال الرجل ببرود وهو يحاول التملّص:
"ما بك أيها المجنون؟ لدينا عشرات الأطفال! أي فتاة تقصد؟"
زمجر نيفيلار وصرخ بصوت مختنق بالغضب:
"ذات الشعر البني والعيون البنية! أرشدني إليها فورًا، وإلا مزّقتك!"
قال الرجل بارتباك وهو يتلعثم:
"مستحيل أعرفها فقط من وصف! ما اسمها؟"
اقترب وجه نيفيلار منه أكثر، وصوت أنفاسه الغاضبة كان يُرعب الرجل:
"اسمها ميري!… ابنتي… اسمها ميري!"
ارتجف الرجل للحظة، ثم قال وهو يتجنب نظرات نيفيلار:
"اتبعني… إنها هناك… في غرفة الحجز الشرقي…"
أطلق نيفيلار قبضته عنه، ودفعه أمامه بقوة:
"سر أمامي… أي حركة خاطئة وسأسحب لسانك من حلقك."
ثم تابعا السير… خطوة بخطوة، نحو الغرفة التي سُجنت فيها ميري…
تقدّم نيفيلار بخطى متسارعة، والرجل يمشي أمامه مرتجفًا وهو يرشده بصوت خافت. أما نيفيلار، فقد غمره شعورٌ لم يعرفه منذ زمن… سعادة ممزوجة بالأمل، كأن العالم كلّه بات ينتظر تلك اللحظة.
وفي داخله، ترددت كلمات كأنها ترتّل نفسها:
"سأعتذر لها… سأضمّها… سأخبرها أنّني لم أنسَ… أنّني قاتلت لأجلها…
لن أتركها مرةً أخرى… مهما حدث… لن أتركها."
وصل الرجل إلى بابٍ حديدي صغير، فتحه بحذر…
وفور فتحه، انقطعت أنفاس نيفيلار.
كانت ميري قد نامن و مقيّدة بسلاسل إلى الحائط، تجلس على الأرض كأنها فقدت الشعور بوجودها.
أمامها صحن طعام متعفّن لم يُمس.
وجهها شاحب، وجفونهما نصف مغلقة، أنفاسها بطيئة ومتقطعة.
اتسعت عينا نيفيلار، وارتجف فكه، ثم استدار ببطء نحو الرجل…
نظرة واحدة كانت كافية.
بغضب لا يوصف، وجّه ضربة خاطفة إلى عنق الرجل أفقدته وعيه على الفور، فسقط أرضًا بلا صوت.
أسرع نيفيلار نحو ابنته، جثا على ركبتيه، ومدّ يديه المرتجفتين إلى السلاسل، حاول فكّها بأصابعه لكنه فشل.
"لا! لا الآن!" تمتم وهو يلهث.
ركض نحو غرفة جانبية، وجد منجلًا صدئًا، وعاد مسرعًا.
بدأ يقطع السلاسل بعنف وهو يضغط على أسنانه حتى كاد يُمزق جلده.
وأخيرًا… سقطت السلاسل.
ضمها إلى صدره بصمت، قلبه يكاد ينفجر من الألم والندم.
حملها بذراعيه برفق وكأنها قطعة من روحه، وتوجه نحو باب الخروج…
لكنه توقف فجأة.
كان كي واقفًا أمامه مباشرة، جسده ملطخ بالغبار والدماء، ونظرته باردة كالجليد.
صمت مشحون خيّم على المكان، لم يتحرك أحد.
ونهض داخله سؤال لم يجرؤ على نطقه:
"هل جئت لتنقذني… أم لتحاسبني؟"
كانت نظرات كي باردة، قاتلة، خالية من أي تعبير إنساني.
أما نيفيلار، فابتلع ريقه، وقال بصوت مبحوح، محاولًا أن يُخفي رجاءه:
"كي… أنا…"
لكن كي قاطعه ببرود مروع:
"لا تقلق… لم آتِ لأقتلك وحدك. بل معها أيضاً."
ثم اندفع فجأة ووجّه لكمة مباشرة إلى وجه نيفيلار أسقطته أرضًا وهو يحتضن ابنته.
لم يمنعه ذلك من متابعة الركل…
ركلة في الصدر، ثم في الوجه، تلتها ضربة موجّهة نحو ميري، لكن نيفيلار استدار بسرعة ليتلقى الضربة على ظهره بدلاً منها، رغم أن أنفاسه كانت تضعف.
صرخ نيفيلار بألم:
"كي… أرجوك… اقتلني فقط! دعها تعيش… دعها تعرف أن والدها أنقذها!"
لكن كي لم يُجِب، ظلّ يركله بلا رحمة، وأحيانًا يوجه ركلات عشوائية نحو الطفلة التي يحتضنها والدها وكأنها درع.
وبينما يحاول نيفيلار حماية ابنته بجسده المهشم، اقترب منها وهمس لها بلطف وسط الألم:
"لا تقلقي… والدك… سينقذك… مهما كلّف الثمن."
فجأة، نهض الرجل الذي أرشد نيفيلار للغرفة، واندفع نحو كي، ثم أمسكه من ذراعه بشدة قائلاً:
"توقّف! ستقتله!"
تجمّد كي لثوانٍ، ثم رمقه بنظرة حادة كالسيف.
ارتبك الرجل، لكن يده لم تهتز، وتمسّك بكي رغم التهديد.
في ذهن كي:
"هذا الرجل... يملك قوة جسدية غير عادية… حتى أنا لا أستطيع الإفلات منه فوراً؟"
ثم ضيّق عينيه:
"إنه يكذب... إنه يمثل التوتر... لكنه قوي."
صرخ الرجل فجأة:
"اهرب وأنقذ ابنتك!"
لكن نيفيلار لم يتحرك.
قال بهمس مكسور:
"لا أستطيع… عظامي… مكسورة…"
شهق الرجل بدهشة:
"مستحيل..."
وفي تلك اللحظة، تحركت ميري، فتحت عينيها بصعوبة وهمست:
"أين… أنا؟"
أول ما رأته كان وجه أبيها المدمّى، احتقنت عيناها بدموع الصدمة:
"أبي… أبي؟!"
حاولت النهوض، لكنها لم تستطع، كانت في حضنه، وذراعاه يحيطان بها بقوة، كأنهما يرفضان السماح لها بالاختفاء من جديد.
رفعت عينيها نحو كي، رأت عينيه الباردتين، فارتعدت، ودفنت وجهها في صدر أبيها.
لحظتها فقط، تمكّن كي من الإفلات من الرجل، دفعه بعنف حتى كاد يسقط، ثم اندفع نحو نيفيلار.
رفع قدمه، نية القتل تشتعل فيه، وكأنها قرار لا رجعة فيه.
صرخ نيفيلار بصوت منخفض:
"ميري… أنا أحبك… كي… أنا آسف…"
لكن قبل أن تهبط القدم، تجمّد كي فجأة.
رأى شيئًا ...وجه سيف صغير موضوع تحت قدمه…
تراجع ببطء، ثم التفت ببطء…
ليجد كايغو يقف هناك، ينظر إليه بصمت.
نظر كي إلى كايغو ببرود، نبرته خالية من المشاعر:
"كيف أتيت إلى هنا؟"
لم يُجِب كايغو، بل ظلّ واقفًا بصمت.
تلفّت كي من حوله، وفجأة تذكّر.
التفت مجددًا إلى كايغو، وقال بشك:
"ذلك الرجل… الذي أمسك بي… هل كنت أنت؟ منذ البداية؟"
أخفض كايغو عينيه، ثم قال بهدوء وبرود:
"وأنت… كنت تنوي قتل أبٍ أمام ابنته؟"
ثم تقدّم خطوة، وغرس سيفه في الأرض بصوت معدني حاد. دوى انفجار هائل.
المبنى كله اهتز، ثم انهار عليهم، وسقط السقف على الجميع.
نهض كي ببطء من تحت الأنقاض، الغبار يملأ المكان، عينه تمسح الدمار بحثًا عن شيء مألوف.
رأى أعضاء فريقه يخرجون من تحت الركام، متّسخين لكن دون إصابات خطيرة.
نظر حوله بسرعة، ولم يجد كايزر، كاجيرو، أو رايشفوت…
لكن ما رآه كان أسوأ…
بعض الرجال المقنّعين ملقون على الأرض بلا حراك، وآثار القتال واضحة.
صرخ كيزوكي بغضب:
"أين كنت، أيها الوضيع؟ بينما كنا نقاتل تلك الوحوش التي أرسلتها؟!"
لكن كي تجاهله تمامًا، عينيه تبحث عن شيء…
شيء واحد فقط.
مشّى خطوات قليلة، ثم توقّف أمام صخرة كبيرة مقلوبة جزئيًا، حدّق تحتها…
ورأى ما لم يكن يتوقعه أحد.
نيفيلار، مستلقٍ على خاصرته، يحتضن ابنته ميري بقوة شديدة، كأن العالم ينهار من حوله وهو يرفض أن يتركها.
اقترب كي وأزاح الصخرة، وانضم الفريق إليه.
شهقت الفتيات، ووضعت يوكي يديها على فمها، مشهد لم يكن في حسبان أحد.
همس هانزو:
"لقد… ضحّى بنفسه لحمايتها…"
قال كيزوكي بنبرة متوترة:
"لا يمكن… أنه ما زال حيًّا؟"
أما رايجو فاقترب قليلاً، ثم قال بصوت خافت:
"كان يستطيع أن يهرب وحده… لكنه اختار أن يبقى معها حتى النهاية."
ظلّ كي صامتًا، يدور برأسه ببطء، عيناه تبحثان عن كايغو…
لكنه لم يكن هناك. اختفى.
تمامًا كما ظهر
كايسن تقدّم بسرعة، صوته مفعم بالقلق:
"أخي… هل أنت بخير؟"
لكن ما إن أنهى جملته حتى التفت إليه كي فجأة، ولكمه بقسوة على وجهه، فسقط كايسن أرضًا مذهولًا.
حدّق الجميع بـكي بذهول وصدمة، وتجمّدت أنفاسهم.
قال كي ببرود قاتل:
"أكره هذه الكلمة... (أخي)."
ثم أعاد بصره إلى نيفيلار، وتقدّم نحوه، جثا بجانبه، وأمسك رأسه بقسوة، وبدأ يضغط عليه ببطء.
شهق نيفيلار من الألم، واستفاق من الإغماء، وعيناه تتسعان تدريجيًا… ثم أدرك.
نظر حوله، رأى الفريق كلّه… كل الوجوه التي خانها.
همس بصوت مرتجف:
"أنتم... جميعًا هنا..."
خفض رأسه، وقال بصوت مكسور:
"صحيح... أنا خنتكم... بعد أن وثقتم بي... أنا آسف... أعلم أن الأسف لا يمحو الجرح، لكن..."
قاطعه كيزوكي بنبرة حادة أولًا، لكنه خففها تدريجيًا:
"اصمت. ما فعلته لا يمكن تبريره... لكنك عدت بابنتك، ووقفت حتى النهاية... أنت على الأقل لم تهرب."
تقدّمت يوكي وركعت بجانبه، وضعت يدها على كتفه، وقالت بلطف:
"لقد أنقذتها... أنت أب، وهذا ما يفعله الآباء. لسنا غاضبين كما تظن."
قال هانزو وهو يعقد ذراعيه:
"خطؤك كان كبيرًا... لكننا أيضًا لم نكن واضحين معك. لم نفهم ألمك."
إيكا، وقد كانت صامتة طوال الوقت، همست:
" حيّة، بفضلك. ونحن هنا، بفضلك أيضًا. ما زال لديك طريق طويل… فلتكمله معًها".
رفع نيفيلار رأسه، عيناه دامعتان، وحدّق في وجوههم جميعًا، فلم يرَ سوى الحزن… والصفح.
قال بصوت مبحوح:
"أنتم... سامحتموني؟"
أجاب رايجو وهو يبتسم :
"بالطبع انت شخص قوي ...انقذتك ابنتك حتى لو على حساب جميع ....هذا يعجبني ."