قال كي بصوتٍ هادئ، وقد مال قليلًا إلى الأمام:

"دلّني على الأكاديمية."

اتسعت عينا الحارس كأنّ حلمًا سقط من السماء. هتف بفرحٍ لا يستطيع إخفاءه:

"حقًا؟! هل... هل ستنضم؟! كنت أعلم أنك مختلف!"

لكن قبل أن يُكمل فرحته، قهقه كي، قهقهة قصيرة خافتة، مشوبة بالسخرية، ثم قال:

"كنت أمزح، أيها الحارس الحالم."

تجمّد الحارس في مكانه، وارتجفت ملامحه بين خيبةٍ وارتباك، فأكمل كي بصوتٍ حاد وبارد كحدّ السيف:

"هل تظن أنني سأدخل مكانًا يُدار بالأمل؟ لا أثق بأحد، لا بك، ولا بهم، ولا حتى بأنفسهم. الأكاديميات، الأنظمة، القوانين... كلها مجرد واجهات يغطي بها الضعفاء فشلهم."

اقترب خطوة واحدة، ونظر في عيني الحارس مباشرة:

"أُفضل أن أُطرد من هذا العالم على أن أنضم إلى قطيعٍ يقوده الحلم. أنا لا أؤمن بالحلم، بل أُؤمن بالقوة. وبالمناسبة... لا تعِدني بشيء، لأني لا أنتظر من أحد شيئًا."

ثم استدار كي بهدوء، كأنّه لم يترك خلفه قلبًا انكسر.

وقف الحارس في مكانه، ساكنًا كتمثال نُسي في زاوية الزمن.

كلماته التي خطّط لها، أحلامه التي علّقها على هذا الفتى الغريب... كلها سقطت دفعة واحدة في حفرة الصمت.

همس بصوت بالكاد سُمع:

"كنت... أظنّ أنك تفهمني."

لكن كي تابع سيره دون أن يلتفت.

تردّد الحارس، ثم ركض خلفه، توقف أمامه وقال برجاء:

"ربما لا تثق بي، لكنك قوي... أنت مختلف عن الجميع، ألم تتعب من السير وحدك؟ فقط... جرب أن ترى العالم بطريقة أخرى."

حدّقه كي ببرودٍ لثانية... ثم انفجر.

صرخ بصوتٍ منخفض لكنه مشحون كأنه انفجار صامت:

"ألا تفهم؟! أنا لا أريد رؤيتك، ولا طريقتك، ولا عالمك!"

اقترب حتى بات وجهه أمام وجه الحارس، عينيه تلمعان بغضب مكتوم:

"لا تتبعني. لا تحاول إنقاذي. لأنني لست ضائعًا... أنا الذي أحرق الطريق!"

أدار ظهره بعنف هذه المرة، وترك الحارس واقفًا وسط الريح، صامتًا، عاجزًا عن الرد...

لكن في عينيه، لم تختفِ بعد

تلك الشرارة الصغيرة.

تجمّد الحارس في مكانه، يُحدّق في الأرض كمن كُسرت روحه، لكن شفتيه تحرّكتا أخيرًا، بصوتٍ خافت بدأ يهمس، كمن يحدث نفسه:

"أتعلم؟ الأكاديمية ليست كما تظن... ليست فقط للضعفاء."

رفع رأسه، ونظر إلى كي الذي ابتعد عنه، ثم قال بنبرة أكثر وضوحًا:

"فيها من هم أقوى مني بكثير. مَن قاتلوا مئة خصم بمفردهم. فيها من علّموا الأجيال كيف يُصنع التاريخ."

توقف كي للحظة، دون أن يلتفت.

تابع الحارس، وقد أدرك أن شيئًا ما استوقفه:

"لكن... هناك شيء ربما لم تسمع به، شيء لا يُعلن عنه علنًا."

رفع صوته قليلًا:

"غرفة الملك."

استدار كي ببطء، حاجبه مرفوع، عينيه تضيقان باهتمام غامض.

ابتسم الحارس ابتسامة خفيفة، لم تخلُ من الانكسار:

"اختبار خاص، يُفتح مرة كل عدة سنوات. يدخل إليه ألف طالب وأستاذ. مكان مغلق... بلا قواعد. ومن ينجُ من ذلك الجحيم، يصل إلى الملك نفسه."

اقترب خطوة، ثم أضاف بصوتٍ أقرب إلى التحدي:

"ومن يهزم الملك... يمكنه تغيير قوانين البلاد."

صمت تام. الهواء نفسه كأنّه توقف.

كي لم يتكلم، لكنه لم يتحرك أيضًا.

عينيه أصبحتا أكثر تيقظًا، أكثر ظلامًا... وكأن شيئًا في داخله بدأ بالاشتعال.

التفت كي ببطء، عيناه تحدقان بثبات في الحارس، وصوته يخرج منخفضًا، متوتر الحواف:

"وتظن أنني سأصدقك؟ البشر... حقيقتهم كذب. لا أحد يقول الحقيقة دون مقابل."

اقترب أكثر، حتى صار الحارس قاب قوسين من أن يتراجع، لكن كي استمر:

"ما الضامن؟ أن هذا الملك ليس بطاغية؟ أن الاختبار حقيقي؟ أم أنك مجرد أحمق آخر يبيع الوهم؟"

رد الحارس بثبات، رغم نبرة كي الحادة:

"أنا لا أضمن شيئًا، لكن... الأكاديمية تفتخر بهذا الاختبار، ويُقال إن من صممه لم يكن إنسانًا عادياً."

صمت كي. رفع عينيه قليلًا نحو السماء، كأنه يرى ما وراءها.

"تغيير قوانين البلاد..."

تمتم بالكلمات كأنها ترنّ في داخله لا في الهواء.

"إن كان ما تقول حقيقيًا... فهذا ليس اختبارًا، بل فرصة."

تأمل الحارس بصمت، وكأن شيئًا ما في كي قد تغيّر للحظة.

"غرفة ملك..."

كررها ببطء، ثم تنفّس بعمق وقال:

"مجرد فكرة جيدة... لكنها لا تُغيّر شيئًا."

استدار ليكمل طريقه، لكن خطواته هذه المرة... لم تكن بالثقل السابق.

تنهّد الحارس بخيبة، وقد رأى كي يدير ظهره مجددًا.

"كنت أحمقًا كالعادة..."

همسها لنفسه، وبدأ يستدير ليعود أدراجه.

لكن فجأة—

توقف كي عن المشي.

كان ذلك التوقف وحده كافيًا ليزرع الحيرة في وجه الحارس، الذي تجمّد مكانه مرة أخرى.

رفع كي صوته دون أن يلتفت:

"أين هي؟"

ارتبك الحارس: "ماذا؟"

استدار كي، ملامحه ما تزال باردة، لكن عينيه تحملان شيئًا جديدًا:

رغبة خفية، مغطاة بالغضب.

"أين تقع الأكاديمية؟ خذني إليها."

انفتح فم الحارس قليلاً، مصدومًا، غير مصدق.

ابتسم بعفوية، لكنه سرعان ما تجمّد حين أكمل كي بصوت منخفض وحاد:

"لكن اسمعني جيدًا... إن اكتشفت أنك كذبت عليّ، أو أن غرفة الملك مجرد خرافة..."

اقترب منه خطوة واحدة، عينيه كجمرتين في ليل بارد:

"لن تموت بسرعة."

ابتلع الحارس ريقه، وتراجع خطوة دون وعي، لكن ابتسامته عادت، هذه المرة ممتزجة بالخوف.

"فهمت... أيها السيد المتشائم."

قالها بابتسامة مائلة، وأشار بيده نحو الطريق:

"اتبعني... يا من تحرق الطريق."

خطواتهما كانت تتردد على التراب الرطب، والحارس يثرثر بحماس عن أسماء الأساتذة، المباني الضخمة، ونظام النقاط داخل الأكاديمية...

لكن كي لم يكن يسمع.

كان يمشي إلى جانبه، جسده حاضر، لكن عقله في مكان آخر.

"لماذا أوافق على هذا؟ لماذا أضع نفسي مرة أخرى وسط بشر؟"

ضاقت عيناه قليلًا وهو ينظر أمامه دون تعبير.

"أنا لا أحتاجهم. لم أحتج أحدًا قط. قوتي كافية... ذكائي يكفي... وحدي، صنعت نجاتي. وحدي، سأسحق كل من يقف في طريقي."

ضغط على قبضته بخفة.

"فما الفائدة من دخول مكان يضجّ بالضعف؟ بالنفاق؟ بالرغبة في صنع الأبطال من تراب؟"

صوت الحارس يعود خافتًا إلى أذنه:

"... وسترى أن المبنى المركزي وحده يشبه قلعة من زمن الأساطير، أما غرف الاختبارات فهي—"

"غرفة الملك فقط... هذا كل ما يعنيني. لا مكان، لا قانون، لا وجه... فقط قتال، وفقط النتيجة."

توقف للحظة، نظر نحو الحارس الذي لم ينتبه لتوقفه.

"سأدخل... فقط لأنني أريد أن أرى إن كان أحدٌ قادر على الوقوف في وجهي."

ثم همس لنفسه، بصوت بالكاد يُسمع:

"وإن لم أجد أحدًا... فربما حان وقت أن أصبح أنا الملك."

ثم تابع سيره.

كان كي يمشي بصمت، نظراته ثابتة، لكن داخله لم يكن كذلك.

"سأصبح الملك..."

رددها في ذهنه مرة أخرى، وكأنها صدرت من شخص آخر داخله، لا منه.

"لكن لماذا؟ لا أريد أن أحكم أحدًا. لا أريد اتباعًا ولا قوانين ولا شعارات."

توقّف قليلًا، نبرة داخله تنقلب إلى سخرية هادئة:

"أليس هذا ما يفعله الضعفاء؟ يلهثون خلف كرسي الحكم ليخفوا ضعفهم؟"

ثم ضحك بخفة، بلا صوت:

"وأنا؟ أقولها كأنها مزحة... لكني أعنيها."

هزّ رأسه، كأنه يرمي الأفكار جانبًا.

"لا يهم. لا شيء يهم."

استمر في المشي، حتى بدأ المبنى العملاق يظهر من خلف التلال، شامخًا، كأن الجبال نفسها تراجعت أمامه.

نظر كي إلى الأعمدة السوداء، والزخارف التي بدت وكأنها تنبض، وأبواب من الحديد الثقيل تصدر همسات قديمة.

قال الحارس بحماسة وهو يشير:

"وصلنا! هذا هو مبنى الاستقبال الرئيسي. من هنا تبدأ الرحلة."

رفع كي حاجبه، وكأن شيئًا استوقفه:

"رحلة؟"

ضحك الحارس بخفة:

"لا تظن أنك ستدخل مباشرة، صحيح؟ عليك اجتياز اختبارات الدخول. ثلاث مراحل على الأقل... ولا أحد يُقبل إلا إن أثبت نفسه."

صمت كي للحظة، ثم قال بسخرية باردة:

"اختبارات؟ ظننتهم يبحثون عن أقوياء، لا عن مهرجين."

قبل دخوله المبنى، ابتعد كي قليلًا، ووقف عند زاوية مرتفعة تطل على جزء من المدينة المحيطة بالأكاديمية.

المكان يعجّ بالحركة... بائع يضحك مع زبونه، امرأة تمسك بيد طفلها وتشتري حلوى، شباب يتبادلون النكات أمام متجر...

الوجوه مبتسمة. الأصوات دافئة.

لكن كي لم يرَ شيئًا من ذلك.

نظر إليهم بصمت، شفتاه مطبقتان، وعيناه تزدادان ظلمة.

"كل هذا تمثيل... مزيف من الجذر حتى القشرة."

مرّت صور من ماضيه في ذهنه، كأن الزمن أعاد بثه على شاشة لا تُطفأ:

...طفل يجلس وحده في زاوية مظلمة، بينما الآخرون يتهامسون ويضحكون.

...نظرات الاشمئزاز حين اكتشفوا أنه بلا مانا.

...همساتهم خلف ظهره: "ابن لا أحد... غريب... مَسكون."

"كانوا يبتسمون في وجهي... ثم يرمون الحجارة حين أُدير ظهري."

ضغط على قبضته، صوته الداخلي يزداد حدّة:

"كان كل شيء فيهم يرفضني. اسمي. صمتي. عيني. حتى دمي. كنت مختلفًا؟ نعم. وبدل أن يمدوا يدًا... أحرقوني."

نظر إلى امرأة تسقي زهرة في شرفتها، ثم همس ساخرًا:

"حتى الزهور، لا تسقيها لأنها تحب الحياة... بل لتتباهى برقتها."

ثم أدار ظهره وقال ببرود:

"لا أحد طيب حقًا... الطيبة مجرد سلاح من لا يملك القوة."

حدّق كي في المدينة أكثر، عيناه لا تريان الوجوه بل ما خلفها.

"ابتساماتهم ناعمة... لكن قلوبهم خشنة."

نظر إلى طفل يضحك مع صديقه، ثم إلى رجل يُطعم قطة، ثم إلى فتاة تساعد عجوزًا على حمل السلال.

"لطيفون... أليس كذلك؟ يبدون كأنهم ينتمون إلى عالم نقي."

ابتسم بسخرية.

"لكن لو أزلت قوانينهم... لو نزعت رقابة المجتمع عن أعناقهم... لو منحت كل واحدٍ منهم قوة تُعفيه من العقوبة..."

تغيرت ملامحه، صوته الداخلي صار أكثر حدة:

"سوف ينهبون. يخونون. يقتلون. فقط لأنهم يستطيعون."

"البشر لا يختارون الخير... إنهم يُجبرون عليه."

تقدم بضع خطوات، وحدق في سوق صغير يعجّ بالناس.

"إن أعطيتهم السلطة، سيتحوّلون إلى وحوش. وإن أعطيتهم القوة، سيسحقون كل ضعيف. وإن نزعت عنهم الخوف... فلن يتركوا حجرًا فوق حجر."

مرّت صور في ذهنه من الماضي— أناس اعتادوا التحدث إليه بلطف، ثم باعوه لأجل لقمة، أصدقاء ضحكوا معه ثم طعنوه حين رأوا فرصة للتقدّم، أناس قالوا "نحن عائلة"... ثم تركوه حين احتاج إليهم.

"كل ما يفعلونه، يفعلونه ليظهروا بشكل أفضل... لا لأنهم أفضل فعلاً."

ثم هتف داخله، كمن نطق حكمًا نهائيًا:

"البشر لا يُصلحهم الحب، ولا التعليم، ولا الدين... البشر لا يُصلحهم إلا العجز."

سكت.

ثم همس وهو يتراجع عن الشرفة متوجهًا نحو مبنى الأكاديمية:

"لهذا لن أثق بواحدٍ منهم... أبدًا."

خرج الحارس من مبنى التسجيل بخطوات مسرعة، يحمل بيده لوحًا معدنيًا صغيرًا يحوي استمارة بيانات إلكترونية، واقترب من كي بوجه مشرق ونبرة رسمية مبالغ فيها:

"آه، آسف على التأخير! بقيت بعض التفاصيل البسيطة لتسجيلك يا صديقي... فقط بعض المعلومات الإدارية لا أكثر."

لم يرد كي بشيء، بل ظل يحدّق إليه ببرود.

تابع الحارس وهو يقرأ من القائمة:

"اسم العائلة؟ نسبك؟ هل لديك والدان؟ من أي عشيرة تنحدر؟ هل تستخدم مانا أم تنتمي إلى نوع آخر من المستخدمين؟"

توقفت خطوات كي فجأة.

انخفضت درجة حرارة الهواء حوله، لا بفعل الطقس، بل من شدة السكون الذي خيّم عليه.

رفع كي عينيه ببطء، ونظر إلى الحارس كأنما نظر إلى شيء قذر.

"اكتب اسمي فقط... والباقي لا شأن لك به."

ارتبك الحارس وتراجع خطوة إلى الوراء، يبتلع ريقه في توتر.

"أ-أفهم، لكننا نحتاج للمعلومات... فقط من أجل السجلات الرسمية... الأمر ليس شخصيًا..."

قاطعه كي بنظرة خاطفة كالسيف:

"قلتُ... لا تتدخل."

شعر الحارس بخطرٍ غير مرئي يسحق أنفاسه، لكن ما لبث أن خطر له شيء... تذكّر اسمًا قديمًا سمعه في أحد دروس التاريخ:

"كي... كي؟ لحظة، أليس هذا هو اسم ابن الملك رايو؟! ذلك البطل الأسطوري؟! صدفة عجيبة!"لكن مستحيل، أنت لا تشبهه أبدًا. أنا متأكد أنه الآن في مكان آخر تمامًا، أو ربما...ميت الان؟ من يدري؟...كل شي حدث بسبب مذبح عشيرتهم"

تغيّر وجه كي فورًا.

العينان اشتعلتا، لمعة خطيرة لم يرها الحارس من قبل، كأن الغضب المكبوت كله انطلق من مكانٍ ما عميق.

اقترب كي بخطوة بطيئة.

"ماذا قلت؟"

قال حارس بتوتر كبير :

" لا شيء، فقط كنت أمازحك! أعني، من الغباء أن تكون أنت ابن الملك، أليس كذلك؟ ابن رايو الحقيقي لابد أن يكون نبيلاً، ملكيًا... وأنت، أقصد، أنت مجرد..."

لم يُكمل الجملة.

صوت كي خرج كالخنجر:

"تابع. قلها."

تراجع الحارس خطوة، وبلع ريقه:

"أنا... آسف. لم أقصد إهانتك."

اقترب كي حتى لم يبق بينهما سوى نفسٍ واحد، همس له بجليد:

"في المرة القادمة التي تنطق فيها اسم رايو أمامي او تذكر امر مذبحة ... سأجعل لسانك ينسى كيف يتكلم."

صمتٌ ثقيل أعقب كلماته.

رفع كي عينيه إليه ببطء، نظرة هادئة... لكنها كانت كفيلة بأن تُسكت المدينة كلها.

خطا نحوه خطوة واحدة فقط، وقال بصوت منخفض حادٍّ:

"إن لفظت هذا الاسم مرةً أخرى... سأكسر فمك."

ارتجف الحارس، وأمسك اللوحة بكلتا يديه كأنما يحتمي بها من سكينٍ خفي.

"آ-آسف! لم أقصد شيئًا! فقط كنت... أمزح؟ ربما؟"

لم يجب كي، بل تابع سيره نحو مبنى الفحص، كأن شيئًا لم يحدث.

لكن داخله كان يغلي.

"ابن رايو؟ لا... أنا لست ابن أحد. ولا أنتمي لأحد. اسمي كي... وهذا كل شيء."

مرّت دقائق ثقيلة، وكي واقف عند سور المبنى، يراقب المارة بوجه جامد.

خرج الحارس مسرعًا مرة أخرى، يلوّح بيده محاولًا التقليل من وطأة ما سيقوله:

"أعتذر! لقد حاولت فعلًا، لكن النظام رفض تسجيلك... لا يمكننا إدخالك دون بيانات أو نسب واضح..."

لم يتفوّه كي بكلمة.

اكتفى بنظرة واحدة، صامتة، جعلت الحارس يشيح بوجهه خجلًا وكأن كي كشف ضعفه في لحظة.

ثم استدار كي وغادر، خطواته هادئة، لكن كل عضلة في جسده كانت مشدودة.

"سخيف... كنت أعلم. البشر لا يصدقون شيئًا لا يفهمونه. لا يقبلون ما لا يستطيعون تصنيفه."

لكن ما إن ابتعد قليلًا، حتى توقّف فجأة.

هبّت نسمة غريبة في الجو.

ضغط خفيف على جسده... شيء يشبه الحضور الملكي.

رفع كي عينيه، فرأى رجلاً يقف في الهواء، يهبط بخفة، برداء أسود مزركش بخيوط فضية، عيناه كأنّ فيهما قرونًا من السطوة.

"قوة هائلة... هذا ليس بشريًا عاديًا."

"إنه ملك..."

"أو كما يُلقّبون في هذه البلاد... كيوجو."

ثبتت نظرات كي عليه، لكنه لم يُظهر انبهارًا، بل مجرد اهتمام عابر.

وقف "كيوجو" أمامه مباشرة، ونظر إليه كما ينظر الصقر إلى فريسة لا يفهم بعد هل هي تهديد أم فرصة.

قال الملك بهدوءٍ نادر:

"هل تحتاج إلى خدمةٍ ما، أيها الغريب؟"

صمت كي لثوانٍ، ثم قال في نفسه:

"قوة نادرة، حديثٌ بسيط... ونبرةٌ لا تعرف الخوف."

"كيوجو حقيقي."

رفع كي رأسه نحوه.

لا انبهار، لا انكسار، لا حتى احترام في النظرة.

بل برودٌ هائل، كأنما هذا اللقاء لا يعني له شيئًا.

"خدمة؟ لا أذكر أنني طلبت منك شيئًا."

مرّت لحظة بدت أطول من الدهر.

همسات ارتفعت في الخلفية، خافتة، مرتعشة، تصطدم بالجدران ثم تتلاشى كأنها تخشى أن تُسمع.

"هل قالها فعلًا؟"

"إنه لا يعرف… لا يعرف مع من يتحدث!"

"الكيوجو… سيُسحق حالًا."

الفرسان تراجعوا خطوة بلا وعي، أحدهم كتم أنفاسه، وآخر شبك يديه كأنه يصلي.

حتى الهواء شعر بثقل الموقف، كأن الطبيعة ذاتها توقعت انهيارًا وشيكًا.

لكن...

ضحك الكيوجو.

ضحكة هادئة… لا قهقهة، بل نغمة رفيعة، دقيقة، لكنها اخترقت جدران المكان.

ضحكة لا تُشبِه فرحًا، بل دهشة… أو ربما إعجابًا نادرًا.

"لم يحدث منذ زمن… أن خاطبني أحد هكذا."

عيناه لا تزالان معلقتين بوجه كي، لكن في داخلهما تغيرٌ طفيف… كأن شيئًا أضاء في عتمة الاهتمام.

أما كي، فقد تقلّصت دهشته في عينيه، لكنها لم تهرب… بل ازدادت عمقًا.

"هل يسخر مني؟ أم… يُراقبني؟ هذا الرجل… ليس كالبشر."

قال الكيوجو بنبرة فيها أثر ابتسامة:

"أنت عصبيّ جدًا… لكنك لا تخاف. مثير."

كي ضيّق عينيه، نبرة الصبر في داخله بدأت تتآكل.

لكنه صمت.

تقدّم الكيوجو خطوة.

الأرض نفسها شعرت بوطأته، وصرير خافت ارتجف تحت قدميه.

ثم قال، بنبرة رخيمة لكنها تحمل ثقل العروش:

"لم تأتِ إلى هذه المدينة منذ فترة طويلة… صحيح؟"

أجفلت عين كي.

"كيف يعلم…؟"

لم يُجب، لكن صدره ارتفع وانخفض بهدوء.

الكيوجو أكمل، وعيناه الآن أكثر حدة:

"نظرتك للبشر… تشبه نظرتي لهم منذ زمن بعيد. لكنك أصغر من أن تحمل هذه الكراهية. شيء ما… كسر فيك."

تجمّد كي.

لأول مرة، شعر أن الكلمات أصابت شيئًا دفينًا فيه.

"من هو هذا الرجل…؟ كيف يقرأني بهذه السرعة…؟"

لكنه لم يرد، بل اكتفى بجملة حادة:

"إذا كنت تقرأ النفوس… فأبقَ بعيدًا عني."

ابتسم الكيوجو، ليس بسخرية… بل كأنه وافق على الطلب:

"كما تشاء، أيها الغريب… لكن اعلم هذا:"

"في هذا العالم، هناك مَن يكسرون، ومَن يُكسرون… أنت… لست بينهما."

ثم التفت ببطء، ومضى خطوة، قبل أن يتوقف ويقول دون أن يلتفت:

"غرفة الملك… بانتظارك."

وقف كي بعد أن خطا الكيوجو خطواته الأولى، كأن كلمات ذلك الملك حفرت نفسها في صدره.

"غرفة الملك… بانتظارك."

كأنها لم تكن جملة، بل تحدٍّ، استدعاء، نبشٌ متعمّد لغريزة دفينة في كي.

استدار كي ببطء، وعيناه تلتمعان بثقة تكاد تُولد نارًا.

قال بصوت هادئ لكن حادّ كحدِّ السيف:

"هل تظن أنه لا يوجد أحد يمكنه أخذ العرش منك؟"

توقّف الكيوجو، دون أن يلتفت.

بقي ظهره مواجهًا لكي، وصوته خرج بثبات مهيب:

"كل من جلس على العرش… عليه أن يكون مستعدًا لفقدانه."

ثم التفت إليه، وعيناه الآن مليئتان بذلك الغموض المهيب الذي لا يُفهم بسهولة:

"السؤال ليس إن كان هناك من يستطيع... بل إن كان هناك من يستحق."

تقلّصت نظرة كي للحظة، لكنه رفع ذقنه بغرور دفين:

"ومن قال إنني لا أستحقه؟"

اقترب خطوة للأمام، كأنه يستفزه عمدًا:

"هل يوجد في هذه البلاد من هم بقوتي… أو أقوى مني؟"

ساد صمت عميق.

الهواء كأنما ينتظر الردّ، حتى الطيور تراجعت عن التحليق فوقهم.

رد الكيوجو بنبرة بطيئة كمن يزن كلماته:

"في هذه البلاد؟ نعم… يوجد."

"لكن لا أحد يشبهك."

رفعت هذه الجملة حاجبي كي للحظة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة… لكنها لم تكن مرحة، بل كانت تلك الابتسامة التي تسبق العاصفة.

همس كي:

"حسنًا…"

ثم رفع صوته قليلًا، بنبرة حادة كأنها نصل يخترق جدار الصبر:

"سأدخل تلك الغرفة… لا لأُغيّر القوانين… بل لأُسقط من ظنّ أنه بلا ند."

التفت دون أن ينتظر رد الكيوجو، خطواته تحمل غضبًا مكتومًا لا يُشبه الصخب… بل القوة المستترة خلف الكبرياء.

أما الكيوجو، فقد نظر إليه وهو يبتعد، وابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه:

"الوحوش لا تتكرر كثيرًا… لكن عندما تولد… لا تحتاج إذنًا لتُغير العالم."

كان كي قد ابتعد خطوات حين صاح الكيوجو به:

"انتظر."

توقف كي والتفت نحوه، ليجده يتقدّم بخطى ثابتة نحو موظف التسجيل المذهول، ثم قال له بنبرة لا تقبل التراجع:

"سجّل هذا الفتى في اختبارات القبول."

ارتبك الموظف، حدّق في كي للحظة، ثم تمتم مرتبكًا:

"لكن... أوراقه، بياناته، الأختام اللازمة..."

قاطع الكيوجو بهدوء تام، لكن ذلك الهدوء كان أثقل من صرخة:

"قلت لك… سجّله."

بلمسة واحدة على حجر تسجيل مانا، أضاءت الشاشة باسم "كي". لا نسب، لا تفاصيل. مجرد اسم... لكنه الآن يحمل ختم الكيوجو نفسه.

رمش كي ببطء. لم يكن من السهل إثارته، لكن هذه الحركة البسيطة أدهشته. نظر إلى الكيوجو وقال بهدوء يحمل شيء من الترقب:

"بدون أوراق؟"

ابتسم الكيوجو ابتسامة غامضة:

"هل يحتاج من يملك القوة… إلى ورقة تُثبته؟"

خفض كي نظره للحظة، كأن شيئًا داخله أكّد ما يعرفه سابقًا.

"هكذا إذًا… البشر لا يتعاملون إلا بمراتبهم..."

همس بها لنفسه، لكن الحروف كانت مرّة، كأنها تخرج من جرح قديم عاد ينزف. تذكّر كيف وقف الحارس عاجزًا قبل دقائق فقط، كيف تجاهلوه لأنه "لا يملك شيئًا". والآن؟ الملك نفسه سجّله بكلمة واحدة.

وفي الخارج… لم يكن الناس صامتين.

الهمسات انتشرت كالنار في الهشيم، تتسلل بين الأفواه والأنفاس:

"من يظن نفسه؟!"

"سجلّه الكيوجو بنفسه؟!"

"لقد استخفّ به، لكنه الآن يحظى باهتمام الملك!"

"مجرد فتى مغرور... سينهار في أول اختبار!"

لم يسمع كي كلماتهم بدقة، لكن عينيه… كأنها عبرت الضجيج.

وجهه لم يتغيّر، لكن كيوجو، الذي كان يتأمله بصمت، ابتسم قليلًا:

"يبدو ان جميع يتحدث عنك ".

لم يجبه كي، بل رفع عينيه إلى الناس من حوله، ثم قال بهدوء:

"احاديث السخرية… لا احتاج إلى أذنين كي تسمع."

أُسقط في يد الكيوجو، نظر حوله ثم تمتم بدهشة صادقة:

"لكنهم يهمسون… حتى أنا لم أسمع كل شيء."

التفت إليه كي بعينين لا تحملان سوى جليد:

"ما يُقال لا يهمني. لكن أن أرى… كيف تُزهر الكراهية من لا شيء، تلك نعمة لا يمتلكها كثيرون."

ثم استدار، وكأن الكلمات انتهت، وكأن العالم كله لم يعد يستحق حتى التفاتة.

كان كيوجو لا يزال واقفًا، يراقب كي وهو يستعد للمغادرة، لكن صوته اخترق السكون فجأة، عميقًا كأنما يصعد من قاع جبل:

"هل تود أن تنتقم؟"

توقف كي دون أن يلتفت، نبرة كيوجو كانت أكثر جدية من قبل، تحمل شيئًا لا يقال صراحة.

"أولئك الذين سخروا منك… إن أردت، يمكنني أن أفتح لك المجال. اقتلهم. أو على الأقل، أذقهم شيئًا من مرارتك."

ساد صمت ثقيل… لكن عينا كي لم ترفّا، ثم استدار ببطء، حدّق في الكيوجو بنظرة لا تعرف المفاجأة، بل وكأنها نظرة من قرأ الكتاب قبل أن يُكتب.

"تختبرني."

رفّت حاجبا كيوجو بخفة، لأول مرة تظهر على وجهه لمحة اندهاش حقيقية، رغم أنه لم ينبس ببنت شفة عن نواياه.

"كيف عرفت؟"

اقترب كي خطوة واحدة، تكفي لتجعل الهواء بينهما أثقل، ثم قال ببرود:

"لأن كلماتك ليست منطقية. تعلم أنني قادر على ذلك. لكنك تعلم أيضًا… أن من يملك الغضب، لا يحتاج إلى إذن."

سكت لحظة، ثم أضاف بنبرة فيها ازدراء هادئ:

"قل لي… هل قتلهم سيجعلني أقوى؟ هل سيزيد من فرصي في الفوز؟ هل سيضمن لي شيئًا ذا قيمة؟"

كيوجو لم يرد… فتابع كي بصوت أخفض، أشبه بصفعة فكرية:

"لو كانت الإجابة نعم، لفعلتها منذ اللحظة الأولى."

الجو من حولهما ازداد كثافة، حتى الطيور التي كانت تمر فوق رؤوسهم بدت وكأنها اختارت طريقًا آخر.

كيوجو أطرق لوهلة، ثم رفع عينيه، نظراته حادة كالثلج حين يقطع الجلد:

"لكنهم آذوك. سخروا منك. جرحوك بكلماتهم. ألا ترغب… في إسكات ذلك الألم وتلك المشاعر؟ ألا تريد أن تأخذ حقك؟"

ضحك كي، لا بسخرية، بل كأنما يسخر من الفكرة ذاتها:

"مشاعر؟ لم تعد لي واحدة منها منذ زمن."

ثم حدّق مباشرة في عين الكيوجو، وقال بجفاف:

"أما الانتقام الذي يرضي ويشبع الرغبات… فهو حماقة."

كانت كلمات كي كسكين تسير على حافة الروح، باردة، عميقة، وتقطع دون أن تترك دمًا.

لحظة صمت… ثم تمتم الكيوجو، بصوت بالكاد يُسمع:

"أنت لست عاديًا… وهذا ما يقلقني."

اقترب الحارس بخطى متسرعة ووجهه يحمل مزيجًا من الحماسة والارتباك، ثم وقف أمام كي وأعلن بصوتٍ عالٍ:

"لقد تم تسجيلك رسميًا في اختبارات الأكاديمية، أيها الفتى!"

رمقه كي بنظرة سريعة، ثم أدار وجهه وقال ببرود:

"حسنًا… متى تبدأ؟"

أجاب الحارس وهو يلهث قليلًا:

"غدًا عند شروق الشمس!"

أومأ كي برأسه، كأنه لم يعطِ الأمر أكثر من ثقل حبة غبار، ثم استدار مبتعدًا وهو يقول:

"وداعًا."

بدأت قدماه تقودانه نحو الغابة القريبة من المدينة، غير عابئ بنظرات الناس ولا بالأنظار المتعجبة التي ما تزال تلاحقه… لكن قبل أن يبتعد كثيرًا، انطلق صوت الكيوجو بنبرة حازمة وهادئة:

"لن تذهب إلى الغابة، سأهيّئ لك فندقًا ترتاح فيه الليلة."

توقف كي في منتصف الطريق، التف نصف التفافة، نظر إليه بشك، عينيه ضاقتا قليلًا:

"لماذا؟ ما الذي تريده بالضبط؟"

هز الكيوجو رأسه بخفة، وهو يرد بنبرة هادئة تخلو من أي استفزاز:

"لا شيء… فقط لا أترك من يلفتون انتباهي ينامون على التراب."

قبل أن يرد كي، اندفع الحارس مرة أخرى قائلاً:

"أنا سأأخذه إلى فندق ما! سأبحث له عن مكان جيد!"

لكن الكيوجو أشار إليه بيده، كأنما يسكته بهدوء، ثم قال بثقة:

"لا حاجة لذلك. هناك فندق أعرفه جيدًا، يملكه شخص أثق به… سيكون في أمان هناك."

ظل كي صامتًا للحظات، عيناه تنتقلان بين الرجلين… بين الشك والفحص… ثم قال بصوت منخفض:

"حسنًا، طالما أنك لا تنوي وضعي في قفص ذهبي… لا مانع لدي."

ثم أردف وهو يمر بجانب كيوجو دون أن ينظر إليه:

"لكن تذكّر… إن شعرت بلحظة واحدة أنني محاط بأوهام الثقة… سأجعل من المكان ذكرى سيئة جداً."

ابتسم الكيوجو ابتسامة خفيفة، وقال:

"أتمنى فقط ألا تجعلها ممتعة جداً."

كان الليل قد بدأ ينسدل على المدينة، وداخل عربة ملكية فاخرة تُجرّ بهدوء عبر الطرق المعبدة، جلس "كي" متكئًا على حافة المقعد المخملي، عيناه مثبتتان على النافذة، لكنه لم يكن يرى المناظر تمر… بل كان يحدق في أفكاره.

(هل أنا أغير المسار؟)

سؤال خافت تردد في أعماقه، لم يطرحه بصوت مسموع، لكن صداه ضرب عقله كجدارٍ صلب.

(هل أنا… أفتح بابًا جديدًا؟)

نظر إلى يديه للحظة، ثم ضمّهما ببطء، كأنه يختبر قوة قراره.

"البشر… لا يمكن الوثوق بهم."

همس لنفسه، ببرود شديد.

"الخطأ ليس فيهم فقط… بل فيمن يصدقهم أيضاً."

لحظة صمت… ثم بدأت ذاكرته، بخيانة منه، تقلب صفحات قديمة، وتدفعها أمام ناظريه رغماً عنه.

ذكرى دافئة… من زمن كان فيه شيء اسمه "أمل".

كان يقف بجانب فتى يشبهه قليلًا، ابتسامته مشرقة، وصوته يحمل طاقة الحياة:

"كي! عندما نكبر سندخل الأكاديمية معًا، أليس كذلك؟"

"أجل، معًا دائماً يا كايسن."

لكن كي أدار وجهه بعيدًا الآن، وتلاشت الذكرى دون أن تهز جدار مشاعره:

"الوعد؟ الحلم؟ كلمات يمضغها الضعفاء."

"حتى كايسن… لو رآني الآن، لما عرفني."

أسند رأسه على المقعد، زافًا نفسًا هادئًا كمن أنهى حربًا داخلية:

"لا أحد يدخل هذا القلب مجددًا… لا أحد."

2025/04/23 · 20 مشاهدة · 3716 كلمة
Mouad Kei
نادي الروايات - 2025