في غرفة مظلمة، حيث كانت النوافذ مغلقة بإحكام والهواء خانقًا، غمرت العتمة المكان بأكمله. كان الظلام سيدًا مطلقًا في الغرفة، إلا أن بريق عيون ذهبية تلمع في الزوايا المظلمة. الصمت سيطر على الأجواء، لم يكسره سوى صوت قطرات الماء البطيئة التي سقطت من سقف مهترئ، مما زاد من كآبة المكان.

في وسط هذا الظلام، جلس شخص وحيد على مقعد خشبي قديم. ملامحه بالكاد كانت مرئية، ولكن الصدمة كانت واضحة على وجهه. عيناه متسعتان، وجسده متصلب وكأن الحقيقة التي اكتشفها قد سلبت منه كل قوته. فجأة، تحرك بحركة غريزية وقفز من مقعده، متوجهًا بسرعة نحو الحمام القريب. بالكاد وصل إلى هناك، وعندما اقترب من المغسلة، انحنى بشدة وبدأ يتقيأ. جسده كان يعكس ما بداخله؛ مشاعر الاشمئزاز، الخوف، والغضب، كلها كانت تتدفق بلا توقف.

بعد لحظات من التقيؤ، انهار على أرضية الحمام، جسده المنهك يرتعش بخفة. همس بصوت مذعور بالكاد يُسمع، وكأنه يحاول إقناع نفسه بأن كل هذا غير حقيقي:

"كيف يمكن... كيف يمكن أن يكون كل شيء... مجرد خيال؟"

جلس البطل في الحمام المتجمد بعد أن تعرض لصدمة لا تُحتمل، يحاول لملمة شتات أفكاره. قطرات الماء كانت تواصل سقوطها ببطء، لكنها بدت بعيدة وسط ضوضاء فكره المتشظي. كانت كل فكرة تدور في رأسه تعيد نفس السؤال المرعب: كيف يمكن أن تكون حياته مجرد كلمات على ورق؟ كيف يمكن أن تكون أفعاله وقراراته، وحتى مشاعره... مجرد خيال لشخص آخر؟

تذكر اللحظات التي بدأ فيها يشك في حقيقته. كانت الإشارات واضحة، لكنها مرَّت عليه دون أن يدركها: الأحداث التي تتكرر، الأشخاص الذين بدوا وكأنهم يتصرفون وفق نص مكتوب مسبقًا. لكنه رفض التفكير في الأمر حينها، معتبرًا إياها مجرد هلوسات. لكن الليلة، كانت الحقيقة واضحة: حياته كلها مجرد فصل في كتاب، وهو مجرد تابع لشرير من الدرجة الثالثة، مكتوب له الفشل والخيانة من الجميع، حتى من حبيبته التي خانته مع سيده.

تساقطت الدموع من عينيه، لكنها لم تكن دموع حزن وألم فحسب، بل دموع خيانة لكل ما عاش من أجله. "من أنا؟" كان يسأل نفسه، "وما الهدف من حياتي؟" القرار الحاسم جاء بعد لحظات من الصمت. لم يعد يرغب في أن يكون أداة تُستخدم ليصعد بها الآخرون. إذا كانت نهايته مكتوبة مسبقًا، فسوف يختار هو كيف ومتى تنتهي.

بنظرة مليئة بالعزم، وقف بصعوبة، يجر جسده المنهك خارج الحمام. اتجه نحو حقيبته وأخرج منها حبلًا قديمًا. ربط الحبل في السقف وأعد مشنقة بسيطة. وقف على كرسي صغير ووضع الحبل حول عنقه. أخذ لحظة من الصمت، تنفس بعمق، ثم دفع الكرسي بعيدًا بقدمه.

في اللحظات الأولى، شعر بصدمة مفاجئة عندما بدأت المشنقة تضغط على عنقه. جسده ارتجف بعنف، وبدأت قدماه تتخبط في الهواء، باحثة بيأس عن أرضية لم تعد موجودة. الهواء كان يهرب منه، وكل ما شعر به هو الألم الذي يجتاح حنجرته وصوت الخنق في أذنيه.

رؤيته بدأت تتلاشى تدريجيًا، والعالم من حوله أصبح مظلمًا. الجسد قاوم لفترة، لكن القوة كانت تخذله شيئًا فشيئًا. اليدان حاولتا عبثًا الوصول إلى الحبل، لكن دون جدوى. كان يعلم أن هذه هي النهاية التي اختارها بنفسه، لكن حتى في تلك اللحظة، لم يشعر بالسلام.

الألم بدأ يخف تدريجيًا، والظلام تغلغل أعمق، حتى اختفت كل الأصوات والآلام، وكأن العالم بأسره قد تلاشى.

لكن فجأة، تمزق الحبل وسقط على الأرض مغشيًا عليه. الظلام الذي كان يلف المكان ازداد رعبًا، ولم يبقَ سوى صوت قطرات الماء وصوت تنفسه الهادئ. مرت ساعة قبل أن يبدأ بفتح عينيه الذهبيتين، التي بدت كشموس صغيرة في وسط الظلام.

نظر حوله، متسائلًا إن كان هذا هو الجحيم. لكن المكان بدا أكثر كآبة وغموضًا من أي شيء تخيله. عندما لاحظ الحبل لا يزال ملتفًا حول عنقه، تمتم بصوت هادئ:

"يبدو أنني فشلت حتى في إنهاء حياتي."

بينما كان يشعر بالألم حول رقبته بسبب المشنقة، حاول الوقوف، لكن جسده المنهك لم يمتلك ذرة قوة، فسقط على الأرض مرة أخرى. تمتم بين أنفاسه المتقطعة:

"هل هذا هو قدري؟ أن أبقى ضعيفًا إلى الأبد؟"

حاول النهوض مرة أخرى، وبصعوبة بالغة، استطاع الوقوف. بدأ يسير مترنحًا نحو كرسيه القديم، وفتح درجًا وأخرج زجاجة نبيذ. فتحها بسرعة، وبدأ يشرب منها بنهم. رغم أنه لم يبلغ السن القانونية بعد، إلا أنه لم يهتم. أراد فقط أن ينسى ألمه.

شرب نصف الزجاجة في جرعة واحدة، ثم همس بصوت مملوء بالكراهية:

"حياتي كلها كانت مثيرة للشفقة... حتى الشخص الوحيد الذي كنت أظنه مهمًا، خانني. عائلتي تخلت عني، والنجوم نفسها تركتني وحيدًا." تلك النجوم التي كان يعتقد أنها تراقبه، كان يظن أنها لن تتخلى عنه، وأنها ستمنحه مباركتها. لكنها، مثل الجميع، خانته.

بدأت يداه ترتعشان بينما كانت أصابعه تشتد على عنق زجاجة النبيذ حتى كادت تتحطم تحت قبضته. عيناه ذهبية اشتعلتا ببريق قاتم. تنفسه ازداد سرعة، كل شهيق كان يعمق الألم في صدره. قبل أن يدرك، رمى الزجاجة على الأرض بكل قوته، تحطمت الزجاجات كما تحطمت كل الآمال التي حملها يومًا.

وقف بشراسة وبدأ بتحطيم كل شيء من حوله مثل حياته التي تحطمت، صرخ بصوت مليء بالغضب:

"لماذا؟! ألا أستحق السعادة؟ ألا أملك الحق في الحياة؟!"

سقط على ركبتيه في وسط الغرفة، يبكي بحرقة. بكى وبكى حتى جفت دموعه، ثم رفع رأسه، عيناه الحمراوان مليئتان بالحقد.

"إذا كانت حياتي مجرد رواية كتبها مؤلف، فسأدمرها. سأعيد كتابة القصة بنفسي. سأكسر هذا القدر المكتوب. سأجعل كل من خانني يندم... سواء كانت عائلتي، أو تلك العاهرة، أو ذلك النبيل الغبي... حتى النجوم نفسها ستندم."

___

رايك في فصل

2024/10/22 · 12 مشاهدة · 828 كلمة
نادي الروايات - 2024