كان الجو مظلماً.
امتدّ الظلام من حولي، يلتفّ عليّ بلمسته الباردة.
'ما الذي يحدث؟'
لم أكن أفهم ما الذي كان يجري.
شعرت وكأنني أنجرف في هذا الظلام اللامتناهي، دون أي نهاية في الأفق.
'....هل أنا ميت؟'
عندها فقط تذكّرت ما حدث قبل أن أجد نفسي في هذا الوضع، وهبط قلبي بشدّة.
بالفعل، لم تكن هناك أي فرصة للنجاة من شيء كهذا.
تعرّضت لهجوم من عدّة خصوم في وقتٍ واحد — بعضهم أقوى مني — كان من المعجزة أنني تمكنت من تنفيذ ما فعلته.
ولكن حتى مع ذلك....
'لم يكن كافياً.'
لم أتمكن من النجاة.
تركني هذا الإدراك غارقاً في الاستسلام بينما واصلت الانجراف في هذا الظلام الدامس. كان الظلام يزداد كثافة، ويزداد برودة مع مرور كل ثانية — كل واحدة منها تبدو وكأنها لن تنتهي أبداً.
كنت فقط أنجرف في الظلام، في انتظار أن تتلاشى روحي ببطء.
فكرت في كل شيء. من نويل، إلى ليون، وكل من كنت أعرفهم. والأهم من ذلك.... فكرت فيها أيضاً.
هل كانت ستكترث لو متّ؟
....بدت غاضبة مني في نهايات الأمور.
غاضبة بما يكفي لتنظر إليّ بتلك النظرة.
'ربما، من الجيد أنها كرهتني في لحظات حياتي الأخيرة.'
جعل ذلك الألم في صدري يهدأ.
على الأقل، كنت أعلم الآن أنها لن تتأثر كثيراً بموتي.
شعرت بتحسّن لمعرفتي بذلك.
ومع ذلك، بقي الألم. كان يتشبث بي، مدفوناً في أعماق صدري، يحاول أن يشقّ قلبي من الداخل.
كان مؤلماً.
كان مؤلماً جداً.
وكلما زاد الألم، زاد شعوري بأن هناك شيئاً خاطئاً. بالنسبة لمن يُفترض أنه ميت، كان هذا الألم حقيقياً جداً.
حقيقياً بشكل مؤلم.
كيف يكون ذلك؟
ثم شعرت به —
'همم؟'
ذلك الدفء الخافت القادم من عدة اتجاهات.
بدأ الظلام من حولي ينقشع بينما رفعت رأسي ببطء، لأجد نفسي محاطاً من كل الجهات بعدد لا يحصى من الكرات المضيئة، تطفو برفق في الفراغ.
حدّقت في تلك الكرات، وشعرت بوخز في صدري.
'ما هذا....؟'
الكرات.... بدت وكأنها تناديني. تستدعيني.
بينما ظلّ بصري معلقاً على الكرات، راقبتها بذهول وهي تبدأ بالنمو، تتوسع بسرعة في رؤيتي قبل أن تنطلق نحوي بسرعة لا تُصدّق.
شعرت بالصدمة في البداية. كدت أشعر بالخوف.
لكن الصدمة سرعان ما تلاشت، إذ لم أشعر بأي تهديد من الكرات. رغم أنها لم تصل إلي بعد، كان هناك شعور داخلي عميق يخبرني بأنها لا تريد إيذائي. وبالفعل، عندما اقتربت، توقفت، معلّقة في الفراغ أمامي مباشرة.
وقفت في صمت، أحدّق فيها دون أن أنطق بكلمة.
كان هناك عدد لا بأس به منها، ومع نظري من حولي، بدت كلها مثل نجوم متوهجة.
مددت يدي ببطء نحوها، وبدأ البرد الذي اجتاح جسدي يختفي تماماً. كلما اقتربت من الكرة، ازداد دفؤها، وما إن دخلت يدي داخل الكرة، حتى شعرت فجأة وكأن عقلي قد خَلَا.
في تلك اللحظة، شعرت وكأنني أتحكم بكل شيء.
كأن العالم بين يدي.
ومع ذلك، رغم ذلك الإحساس، لم أشعر أنني أصبحت أقوى بالمعنى التقليدي. لا — هذا التغيير كان أعمق. وكأنني حصلت على سيطرة جديدة على طاقتي السحرية وسحري العاطفي، بدرجة من التحكم لم أكن أحلم بها من قبل.
في هذه الحالة، شعرت أنني قادر على استخدام السحر العاطفي لدرجة تمكّني من التأثير كما لو كنت ألمس الشخص الآخر بكلماتي فقط.
وفي نفس الوقت، شعرت وكأنني أستطيع التحكم بالخيوط والمهارات بطريقة لم أفكر بها من قبل.
هذا الإحساس....
كان مبهجاً. مُدمناً.
وكلما انغمست فيه أكثر، زاد شعوري بأن عقلي بدأ يتلاشى تدريجياً.
'لا!'
أفقت بسرعة من ذلك الشعور، وسحبت يدي مبتعداً عن الكرة البيضاء.
'ما الذي كان ذلك....؟'
اجتاح صدري شعور جديد بالخوف بينما أحدّق في الكرة. لوهلة، ظننت أنني سأختفي.
ومع ذلك، فكّرت في القوة الغريبة التي منحتني إياها الكرة.
لسبب ما.... شعرت أنها مألوفة.
نعم، مألوفة.
وكأنني لمست مثل هذه القوة من قبل.
'لكنني لا أذكر أنني لمست شيئاً كهذا من قبل؟'
بدأ ذهني يعجّ بالتفكير بينما انطلقت أفكاري نحو هذه القوة الغريبة. وكلما حاولت التفكير، ازداد فراغ ذهني.
'لا، لا شيء.'
لم أتمكن من تذكّر أي تجربة مماثلة.
كانت هذه أول مرة أختبر فيها شيئاً كهذا. عالم غريب أسود مليء بكرا—
آه.
عندها فقط تذكّرت شيئاً، وثقل صدري أكثر.
بالفعل، لم يسبق لي أن شعرت بهذا الإحساس من قبل. أصبحت متأكداً من ذلك الآن.
لكن هذا ينطبق فقط على ذاتي الحالية.
ماذا عن نفسي السابقة؟
'هذا....'
تذكّرت شرح ليون وجاكل السابق، وفجأة، بدأ كل شيء يتّضح لي. ما كنت أعيشه الآن.... لم يكن سوى المصدر الذي تحدّث عنه جاكل.
القوة الغريبة التي قيل إنها تعود للسّاميين.
....وما إن أدركت ذلك، حتى بدأت الكرات من حولي تتحرك فجأة.
'ما الذي يحدث؟!'
لاحظت التغير، فتوتّرت على الفور. بناءً على ما اختبرته سابقاً، كان المصدر مرعباً — قوة هائلة تشعرك بأنها قادرة على التهامك في أي لحظة.
لم أشعر بالراحة تجاه هذا التغيّر المفاجئ.
بدأت الكرات من حولي بالاهتزاز، تتحرك وتتشكل في الفراغ، وجسدي كله توتر من القلق. بقيت عيني معلقة عليها، وكل عضلة في جسدي مستعدة للتصرف عند أول علامة خطر.
كنت مستعداً.
مستعداً للتحرك.
لكن بعدها....
'كيف!؟'
تجمّد جسدي بالكامل في مكاني بينما فغرت فمي من الصدمة.
مشهد غير متوقع تماماً انكشف أمام عيني بينما توسعت الكرات، تتغير وتتلاعب لتكشف سلسلة من المشاهد — كل واحدة منها حيّة وسريالية. وداخلها.... رأيت نفسي. نسخة جوليان. نسخة إيميت. أنا في الماضي. كل جزء، كل حياة، كل نسخة — كنت في جميعها.
وببطء، بدأت المشاهد تدخل إلى ذهني.
ليس كلها، ولكن بعضها.
'آخ—!'
شعرت بألم حاد يخترق عقلي بينما كانت المشاهد تندفع إلى ذهني، كل واحدة مختلفة عن الأخرى. بدأت أتذكّر أشياءً كنت قد نسيتها منذ زمن، والخط الفاصل بيني وبين النسخ الأخرى مني في الرؤى بدأ يختفي.
....كنت أبدأ بالاندماج تدريجياً مع كل ذكرياتي السابقة.
'آغك!'
أو على الأقل، حاولت.
كان هناك عدد هائل جداً من الذكريات واللحظات.
أدركت أنه من المستحيل عليّ أن أستوعب كل شيء دفعة واحدة. سيستغرق الأمر وقتاً.
وما إن بدأ الألم في رأسي يتفاقم، حتى توقف كل شيء.
وساد الصمت العالم.
إلى أن....
'في مرحلة ما، سأحتاجك أن تتدخل.'
سمعت صوتي يتردد في الفراغ.
رفعت رأسي ونظرت حولي، أبحث عن مصدر الصوت. لكن لم يستغرق الأمر طويلاً لأدرك — لم يكن يأتي من حولي. كان يتردد من أعماق ذهني.
هذا الحديث....؟
بدأت أتذكّر قولي لمثل هذه الكلمات في الماضي.
كانت موجهة لشخص ما.
لـ....؟
'لجعل هذا ينجح، عليّ أن أموت — وأتخلى عن هذه القوى. إنها الطريقة الوحيدة لصرف انتباه تورين عني. إنه ذكي. وبحلول الآن، ربما يكون قد جمع بعض الأجزاء من هويتي. سيحاول الاقتراب، دراستي، وضربتي حين لا أتوقع.... عليّ أن أجعله يعتقد أنني مجرد طُعم. وهم صُمم لإلهائه عني الحقيقي.'
كلما طال الحديث، كلما بدأت أفهم أكثر.
بدأ مشهد يتجسد في ذهني.
....وسرعان ما، تردّد صوت آخر.
'أنا أفهم.'
انقبض قلبي.
كان ذلك صوت نويل.
'....سأفعلها، لكن....'
كان صوته كما عهدته دائماً. ولكن، استطعت سماع آثار التردد والخوف في نبرته.
عندها تذكّرت أنني حاولت مواساته.
'لا تقلق. سنلتقي بمجرد أن ينتهي كل هذا. أعلم أنك ستكون بجانبي طوال الوقت. أريدك أن تراقبني بينما تلتهم كل ما حولك بجشع. قبل ذلك، يجب أن تصمد.'
'....لن يُسمح لي بفعل أي شيء؟'
'عليك أن تفهم مكانتك، نويل. لا يمكنك فعل شيء سوى استخدام عقلك. استخدمه لصالحك. سأكون بانتظارك.'
'أنا.... أفهم.'
توقف الصوت هناك.
لكن ذهني لم يتوقف. ظل يعيد المشاهد مراراً وتكراراً.
'أعلم أنك ستكون بجانبي طوال الوقت؟'
كان نويل معي طوال الوقت؟ ضغط قلبي. ثم، فجأة، بدأت الصدمة تصيبني.
ليون.... نويل، ليون.... نويل.
ليون هو نويل مقلوباً.
انقبض قلبي مع هذا الإدراك.
هل يمكن أن يكون؟!
لكن بعدها....
'لا، ليس هو.'
ذلك الجزء مني الذي بدأ يندمج ببطء مع ذكرياتي أخبرني أن الأمر ليس كذلك.
والأهم من ذلك، بدأت الأدلة تتسلل إلى ذهني.
'اسم ليون الحقيقي ليس ليون. من الذي منحه اسم ليون؟'
ألدريك.
هو من سمّاه ليون.
آه.
منذ البداية، كان الأمر أمام عيني.
'هوس جوليان الغريب بالسيوف. من زرعه في عقله؟'
فكرت في أن إيميت كان في الأصل مبارزاً، وارتعشت شفتاي. فجأة، بدأ كل شيء يصبح منطقياً.
ألدريك.
'فن السيف الغريب لدى ليون. الذي شعرت بألفة نحوه. من منحه إياه؟ وماذا عن قدرته الغريبة على الشفاء؟'
أعلم أن ليون أخبرني أنه وجده، ولكن هل فعلاً؟
لم أحتج إلى التفكير لأعرف الجواب.
....لقد كان مرة أخرى، ألدريك.
والأهم، ذلك الفن الفريد للسيف، لمن كان يعود في الأصل؟
في تلك اللحظة، بدأ كل شيء يصبح منطقياً.
ذلك الإحساس الغريب بالكتمان الذي شعرت به منه في كل مرة تفاعلت معه، وقدرته على التفكير بخطوات متقدمة، ولماذا شعرت بذلك التوافق مع فن السيف الغريب الخاص بليون من اللحظة التي رأيته فيها رغم أنني لم أكن موهوباً في السيف في هذا الجسد.
ألدريك.
كان نويل.
أخي.
....ومع تردد ذلك الفكر في ذهني، انفجر العالم من حولي في ضوء ساطع. وفي اللحظة التالية، كنت أحدّق في سقفٍ أبيض.
جلست ببطء، وأدرت رأسي، فرأيت زوجاً من العيون العسلية تحدّق نحوي.
حدّقت في وجهه لعدّة لحظات، لكن تلك اللحظات بدت وكأنها امتدت لأبدية. ببطء، فتحت شفتيّ، وخرج اسم من فمي.
"نويل...."
اسمٌ رغبتُ في قوله منذ وقت طويل.