اختبر اللومنارك الكثير من الأمور في حياته.
لقد شق طريقه بصعوبة إلى منصبه الحالي. قدّم العديد من التضحيات، والتقى بأُناسٍ أقوى منه بكثير.
كان يظن أنه رأى كل شيء.
وأنه قد خَبِر كل شيء…
لكن، وفي هذه اللحظة بالذات، شعر بإحساس لا يمكن السيطرة عليه يتصاعد من أعماقه وهو يحدّق في الشكل الواقف خلفه.
منذ أن فَتَح عينيه، تغيّر شيءٌ ما.
شعر جبرائيل برعشةٍ تعبر جسده بالكامل تحت نظرته، وقلبه ينقبض بشدة في صدره.
(لا، عليّ أن أفعل شيئًا بسرعة!)
صرخت كل غرائزه في هذه اللحظة.
صرخت...
خطر.
"ل-لا، هذا لا معنى له."
لم يكن يفهم ما الذي يحدث، لكنه كان يعلم أنه يجب أن يتحرّك بسرعة. مدّ يده، فتوهّج السيف الذي يمسك به أكثر، وظهر الالتواء في ملامحه، ثم خطا خطوة للأمام محاولًا مهاجمة التاجر.
لكن، وقبل أن يتمكن من الحركة، رفع التاجر يده وسحبها بحركة واحدة.
"م-ماذا…"
توقفت قدما جبرائيل فجأة في تلك اللحظة.
أراد أن يتحرّك، لكنه لم يستطع التحرك على الإطلاق.
"هاه… هاه…"
ارتفع صدره وهبط بشكل غير منتظم، وأصبحت أنفاسه أكثر خشونة.
بدأ العرق يتشكّل في كفّيه، واهتز صدره أكثر، بينما بقيت ساقاه ملتصقتين بالأرضية الخشبية.
'تحرك، تحرك، تحرك…'
صرخ جبرائيل في جسده.
أمره أن يتحرك، لكن وكأنه فقد السيطرة الكاملة عليه، رفض جسده أن يطيع.
ما الذي يحدث بحق السماء!؟
رفع جبرائيل رأسه ببطء ليرى التاجر يحدّق فيه، عيناه الصافيتان تخترقان عينيه.
تتغلغل فيه.
"آه."
وهنا، أدرك جبرائيل فجأة الحقيقة.
بينما كان يحدق في الشكل البعيد، شعر بأن أنفاسه انقطعت.
(لماذا يبدو كبيرًا هكذا؟)
تراجع خطوة إلى الوراء.
وهذه المرة، استجاب جسده له.
لكن الارتجاف لم يتوقف.
وهو يحدق في التاجر أمامه، شعر بإحساس عميق وبدائي يتصاعد داخله.
لم يفهمه في البداية، لكنه سرعان ما فهمه.
الخوف...
نعم، كان يشعر بالخوف.
"آه."
خوف؟ أنا…؟
حاول جبرائيل إنكار ذلك، لكن مع تزايد العرق في كفّيه والشعور الثقيل في صدره، أصبح الإحساس أكثر وضوحًا، ومع غرقه في ذهنه، بدا شكل جوليان أكبر وأكبر في عينيه.
اتسعت حدقتاه، وارتجفت عيناه.
'ل-لا…'
بدأ يبدو بائسًا.
لكن هذا لم يكن أمرًا بيده.
فقد فقد منذ وقتٍ طويل القدرة على السيطرة على عقله.
في هذه اللحظة بالذات، كان عقله تحت سيطرة جوليان، في الوقت الذي ارتفع فيه الجرم البنفسجي داخل جسد جبرائيل دون أي تحكم.
توسّع بشكل هائل، طاغيًا على باقي الكرات في جسده تمامًا.
"آ-ها… آه…!"
ولم تمر تصرفاته دون أن يلاحظها الآخرون، حيث حدّق الجميع في المشهد بصدمة.
ما الذي يحدث؟
هل هذا حقًا اللومنارك؟ ليُصبح بهذا الشكل…؟
كيف يكون ذلك ممكنًا؟
لم يصدّق أحد عينيه.
لكنهم جميعًا حوّلوا أنظارهم إلى مصدر كل هذا.
إلى جوليان، الذي وقف ببرود أمام اللومنارك.
كانت نظراته تتبدّل باستمرار.
ضبابية. صافية. ضبابية. صافية. ضبابية. صافية. ضبابية. صافية.
كان مشهدًا مرعبًا.
جعل الكثيرين يرتجفون.
…في هذه اللحظة، بدا جوليان مخيفًا للغاية.
بدأت الكرات البنفسجية في صدور من حوله ترتفع. كان هذا تأثيرًا غير مقصود لأفعاله.
لكن جوليان لم يكن قادرًا على التحكم به.
فهو لم يسيطر بعد على كامل قواه.
لكن ذلك لم يكن يهمّه. كان لديه هدفٌ واحد في هذه اللحظة، وهو القضاء على اللومنارك الذي أمامه.
لتحريك السفينة.
كل شيء آخر كان عديم المعنى.
ولذلك، واصل جوليان التلاعب بمشاعر اللومنارك. وفي هذه الحالة، شعر بسيطرة تامة وكاملة.
كان يعلم أن اللومنارك بين يديه.
وكذلك الجميع من حوله.
في هذه اللحظة، لم يكن أحد قادرًا على إيقافه.
لكن في نفس الوقت…
بدأ جوليان يشعر به. بدأ يشعر بتلاشي شخصيته ببطء وثبات.
أصبحت عيناه أكثر ضبابية.
الوضوح الذي كان موجودًا منذ لحظات بدأ يتلاشى تمامًا.
وفي هذه اللحظة، شعر جوليان بأن وعيه بدأ يخدر.
كان...
يبدأ بالتلاشي.
كان يخطو داخل مناطق بالغة الخطورة.
لكن ذلك كان ضروريًا.
لم يكن باستطاعته التخلي عن هذا الشعور بينما بدأ لازاروس بالسيطرة.
سواء كان جوليان أو لازاروس…
فكلاهما أدرك تمامًا مدى أهمية التمسك بهذا الإحساس.
كان هذا الإحساس هو المفتاح للوصول إلى المستوى الخامس من السحر العاطفي. لقد كان هذا هدفهما طوال الوقت، ولهذا، لم يكن بإمكانهما التخلي عن الشعور.
كل ما أراداه هو التعلق بهذا الإحساس. حفظه. استيعابه. وأخيرًا، احتضانه.
ظهرت المزيد من الكرات داخل أجساد كل من حوله.
رفع لازاروس يده.
فارتفعت الكرات داخل مجموعة مختارة منهم.
مثل بالونات، بدأت تتضخم أكثر وأكثر.
أراد لازاروس أن يرى ما الذي سيحدث إن رفعها أكثر. ففعل ذلك. ركّز انتباهه على شخص معين بينما رفع الجرم البنفسجي داخله.
"لا، لا…"
وكأنه شعر بأنه الهدف، تراجع الرجل خطوة إلى الوراء، لكن جسده رفض التحرك.
ثبّت لازاروس نظراته عليه.
أو بالأحرى، على الجرم البنفسجي داخل جسده.
دفع كفه إلى الأعلى، فزاد حجم الجرم البنفسجي داخل جسد الرجل. واصل لازاروس الضغط.
توسّع الجرم.
"آ-هاك…"
صدر صوت أشبه باختناق.
انتشر في الأرجاء بينما تجاهله لازاروس واستمر في الضغط. ازداد حجم الجرم البنفسجي.
شحب وجه الرجل تمامًا.
فتح فمه وأغلقه، لكن لم تخرج أي كلمات. كان جسده كله يرتجف، وظهر على سرواله علامات البلل. بدا وكأنه غمره الخوف تمامًا.
حدّق لازاروس في النتيجة أمامه، ثم أعاد تركيزه نحو اللومنارك.
ماذا سيحدث لو جرب الأمر عليه؟
راودت الفكرة عقل لازاروس بينما رفع يده.
لكن، وقبل أن يعيد المحاولة، سمع صوت آن المضطرب بجانبه.
"التعزيزات من المعبد وصلت! حرّكوا السفينة للأمام! ارفعوا الدروع!"
ما إن ترددت كلماتها، حتى أدار لازاروس رأسه ورأى عدة مجموعات تقترب من بعيد.
ضيّق عينيه قبل أن يعود بنظره إلى اللومنارك المتجمد.
لا زال يرى القليل من التحدي في عينيه، وفكّر لازاروس في إنهائه فورًا، لكنه توقف.
ازدادت عينيه ضبابية.
طق!
خطا خطوة إلى الأمام، وصوت خطواته تردّد في المكان وهو يتقدّم نحو جبرائيل.
"ماذا تفعل؟"
تشنّج جسد اللومنارك وهو يرى لازاروس يقترب منه.
'(لا، ليس بعد. ليس بعد…!'
كان يحتاج إلى القليل من الوقت. فقط القليل من الوقت للخروج من هذا المأزق.
كان قد ذُعِر في البداية، لكنه بدأ يفهم الموقف.
الرجل أمامه كان ساحرًا عاطفيًا.
ساحرًا مرعبًا في ذلك.
...وبما أنه ساحر من المستوى الثامن، فقد كانت قوة جبرائيل الذهنية قوية جدًا. وكان ذلك طبيعيًا بالنظر إلى قوته. لكن، أمام الرجل الذي يقف أمامه، كان كل شيء عديم الجدوى.
إلى أي مدى وصلت قوته الذهنية؟
حاول جبرائيل أن يثبت عقله، وبذل جهده لفك الأغلال عن ذهنه.
لكن محاولاته باءت بالفشل بينما صوَتٌ ناعمٌ تردد في الهواء.
"لا فائدة من المقاومة بعد الآن."
تجمد عقل جبرائيل عند سماع الصوت، ورفع رأسه ببطء نحو التاجر... الذي أصبحت عيناه أكثر ضبابية من قبل.
"يجب أن تتخلى عن صراعك الذي لا معنى له. لقد انتهى. لا توجد تعزيزات قادمة لإنقاذك."
كان في صوته شيء ساحر.
...وكأنه يشدّ أفكاره وعقله.
وأخيرًا، بعدما عاد إلى وعيه قليلًا، شعر جبرائيل بيدٍ توضع على كتفه.
"لماذا تواصل المقاومة؟ لقد انتهى كل شيء. لقد خسرت… الجميع يرون ذلك إلا أنت. لم يتبقَ سوى الألم. ومع ذلك، تتمسّك به، وكأنه يعني شيئًا. لكنه لا يعني شيئًا. فقط تخلَّ عنه. أنهِ الأمر. ستشعر أخيرًا بالسلام... ربما لأول مرة في حياتك."
كلمات التاجر لامست أعماق جبرائيل.
فكّر في ماضيه. كيف شق طريقه إلى منصبه الحالي. كل شيء ضحّى به ليصل إلى ما هو عليه الآن.
فكّر في كل شيء، ثم...
السلام.
متى شعر بالسلام من قبل؟
غرق جبرائيل في صمته وهو يفكر في هذه الكلمات.
حاول أن يسترجع ماضيه. كل ما مرّ به، وبغض النظر عن مدى بحثه في ذاكرته، لم يستطع أن يجد لحظة واحدة شعر فيها بالسلام حقًا.
ولا لحظة.
وهذا التفكير…
هو ما حطّمه تمامًا.
"لماذا تواصل الضغط على نفسك هكذا؟ ماذا تحاول إثباته… ولمن؟ الحياة لم تُخلق لتكون صراعًا. بل لتكون سلامًا. هدوءًا. أليس هذا ما كنت تبحث عنه دومًا؟ فقط ارتح. دع كل شيء يذهب. لا عيب في إنهاء الألم. أنا هنا. سأبقى معك حتى النهاية."
تسللت كلمات التاجر إلى أذنيه، ناعمة وهمسة، كوسوسة شيطان، تدفعه نحو الحافة مع كل همسة.
"إذاً.. ما رأيك؟ لماذا لا تـ—"
"لاااا!!!"
ارتد صراخ جبرائيل عاليًا، وعيناه تحوّلتا إلى اللون الأحمر.
وانفجر ضغط هائل من جسده مباشرةً، ليتطاير التاجر بعيدًا فجأة.
".....!"
لم يكن لديه حتى الوقت الكافي ليرد قبل أن ينقض عليه جبرائيل، وقد تكوّنت عدة دوائر سحرية حوله، وانطلقت نحو التاجر العاجز.
بوم! بوم!
كان الفارق في القوة بينه وبين التاجر هائلًا.
لم يكن لدى التاجر حتى وقت ليرد قبل أن يُلقى خارج السفينة ويسقط على الرصيف.
"هاه… هاه…"
بأنفاسٍ متثاقلة، لم يضيع جبرائيل ثانيةً وانقض نحو التاجر، مهاجمًا بكل ما لديه.
"هاااا!"
بوم!
كان غارقًا في الغضب.
كان صدره يرتفع ويهبط بشكل غير منتظم وهو يهاجم التاجر بكل قوته. ورغم أن التاجر كان مراوغًا، إلا أنه بالكاد كان يصمد.
مُت! مُت! مُت! مُت! مُت!
سيطر الغضب عليه تمامًا.
وكان غارقًا فيه لدرجة أنه لم يُدرك أن لازاروس لم يكن حتى قريبًا منه.
كل شيء أمامه كان مجرد وهم، و...
الأشخاص الذين كان يهاجمهم لم يكونوا سوى التعزيزات التي أرسلها المعبد.
"آآآه!!"
"ساعدونا! أوقفوه أحدكم!"
بوم!
ومع تصاعد الفوضى، كانت عينان ضبابيتان تراقبان المشهد من بُعد بينما كانت السفينة تبتعد.
بقيت عيناه ثابتتين على اللومنارك في البعيد، تزداد ضبابية أكثر فأكثر مع كل لحظة.
حتى...
تلاشت كل مظاهر الوضوح.