لم أفهم ما حدث.

في لحظة، بدأت أفقد نفسي في خضم الجنون والاستياء، وفي اللحظة التالية، شعرت بإحساس مهدئ ومريح يغمر جسدي بالكامل، مخففًا الكثير من الظلام الذي حاولتُ استيعابه.

رفعت رأسي ونظرت حولي، لكن–

“لا شيء.”

وجدت أنني الوحيد الذي يقف داخل ذلك العالم الأبيض.

لم يكن هناك سوى أنا… والصمت.

جوليان…

لقد اختفى.

وكانت تلك أيضًا اللحظة التي أدركت فيها فجأة الحقيقة.

“أفهم الآن.”

إذن كان هو…

هو السبب في انقشاع كل تلك المشاعر السلبية فجأة.

مع أنني لم أره ولم أشعر به، كنت شبه متأكد من ذلك.

وخاصة حينما تذكرت الشظايا الصغيرة من الماضي التي لمحتها وأنا في تلك الحالة، اتضح لي الأمر. كانت تلك اللحظة التي بدأتُ فيها حقًا أفهمه.

كان جوليان حقًا كتلةً متجسدة من الظلام والضغينة.

لكنّه في الوقت نفسه كان ضحيةً لتلك الضغينة وذلك الظلام.

فقد كان يومًا ما طفلًا بريئًا لا أكثر، قبل أن يتشوه ببطء وتلتهمه العتمة. وكنت أعلم، أكثر من أي أحد آخر، كم يمكن أن تكون الأصوات مخيفة وغازية للعقل. لقد كدتُ أفقد عقلي بسببها.

أما جوليان، فقد عاش عمره كله برفقة تلك الأصوات في رأسه.

ليس غريبًا أن يصبح ما أصبح عليه… فأي إنسان سيجنّ إن عُرِّض لذلك.

وكلما أمعنت التفكير في الأمر، ازداد شعوري بالشفقة تجاهه.

لكنني، في الوقت ذاته، أدركت أنه لم يعد مضطرًا إلى تحمّل ثقل تلك الأصوات أو ذلك الحقد. فقد أخذتُ معظمها داخلي، وكان صدري يخفق مع كل نفس، والظلام في داخلي يعلن عن وجوده بوضوح لا يُمكن إنكاره .

"قد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى أستوعب كل شيء تمامًا، لكن هذه بداية. يمكنني التحكم فيه، وهذا هو المهم."

لقد شكّل هذا دفعة هائلة لسحر عاطفي خاصتي.

فعلى الرغم من أنني ما زلت في المستوى الخامس من سحر المشاعر، إلا أنني الآن أستطيع أن أرى بوضوح الطريق الممتد أمامي… إلى المستوى السادس.

أيُّ مفهومٍ سخيف سيكون هو المستوى السادس؟

“إنه أمر مثير للاهتمام.”

كنت أعلم أنه سيكون قويًا على نحوٍ لا يُصدَّق.

ومع ذلك، كان هناك أمور أخرى عليّ التعامل معها أولًا.

بينما كنت أحدق حولي ولم أجد أي روح أخرى في الأفق، أدركتُ حقًا أنني أنا فقط الآن. لقد رحل جوليان تمامًا..

ومن هذه اللحظة فصاعدًا، سيكون هذا الجسد لي وحدي.

لقد أصبحتُ الآن… الروح الوحيدة في هذا الجسد.

“هاه…”

أخذت نفسًا عميقًا، ثم أغمضت عينيّ، ممدًّا إحساسي إلى الداخل لأتحقق من صلتي بالجسد.

كان موجودًا، خافتًا لكن لا يمكن إنكاره.

السيف...

عندما فتحتُ عيني مرة أخرى، ركزتُ عليه، وأصبح العالم من حولي ساطعًا بشكل لا يُطاق بينما مزق ألم حاد صدري

"هويرك-!"

اندفع الدم من فمي، ورائحة الدخان النفاذة غمرت أنفي، مختلطةً بحدّة طعم الحديد، فيما كان صدري يعلو ويهبط باضطراب. وعندما نظرت إلى الأسفل، أبصرت زوجًا من الأحذية، ثم رفعت رأسي ببطء، لتتلاقى عيناي مع زوجٍ من العيون الرمادية الباردة .

في اللحظة التي التقت فيها أعيننا، ارتجفت نظراته. لم يتكلم، لكنني فهمت على الفور ما يريده.

ولوهلة عابرة، غرق العالم في صمتٍ خانق.

لكن بعدها—

أومأت برأسي.

“ن-نعم. لقد… عدت.”

ارتجفت شفتا ليون، وارتخت ملامح وجهه.

دوي!

سقط على ركبتيه، مستسلمًا للإرهاق، وأمسك بالأرض محاولًا جاهدًا أن يُبقي نفسه ثابتًا. وفي تلك الأثناء، بدأ السيف المغروس في جسدي يتحرك ببطء، قبل أن يسقط على الأرض.

كلانك! كلانك! كلانك!

وبمجرد أن سقط، عادت الأشياء من حولنا التي كانت متجمدة في الزمن إلى الحركة مجددًا، بينما اجتاحتني موجة هائلة من الكراهية الموجهة نحوي.

“أنت…!”

“سوف أقت—هاه؟ ما الذي… يحدث؟"

عندما رأوا حالتي، وحالة ليون، والسيف خلفي، شعرت الفتيات بالارتباك. استطعت أن أفهم ارتباكهن.

في لحظة، طعنني ليون بالسيف، وفي اللحظة التالية، كان على الأرض أمامي.

كان الزمن قد تجمّد، ولهذا لم يكن الثلاثة على دراية بما حدث خلال تلك الفترة.

أملت عنقي قليلًا، ودلّكت جانبه بينما أنظر إليهم.

“يمكنكم التوقف عن هذه الترهات. لقد عدت.”

“ماذا…؟”

“عمّ تتحدث؟”

تدفّقت اضطرابات قوية من أجسادهم، تحمل كل موجة منها وطأة خانقة ضغطت على صدري. كانت قوتها كافية لشدّ معدتي وإيقاف أنفاسي، ومع ذلك أجبرت نفسي على التماسك، ملاقياً نظراتهم دون أن أرمش.

“أعلم أن أياً منكم ليس غبيًا. لا بد أنكم أدركتم أن شخصًا آخر استولى على جسدي. أما الآن… فقد عدت.”

رمقتُ إيفلين للحظة وجيزة، قبل أن أحوّل نظري نحو اويف .

"أنتِ من بين جميع الناس يجب أن تكوني على دراية بهذا. بعد كل شيء، لقد أخبرتكِ بكل شيء عن هذا."

تجمّد تعبير اويف في اللحظة التي وقعت عيناها عليّ. كان الارتباك واضحًا عليها، وشعرها القرمزي—الذي اعتاد الانسياب بسلاسة حول وجهها—تراجع قليلًا بينما قوّتها تخلخلت.

“أ-أنت، هذا…”

تجاهلتها، وأدرت بصري نحو إيفلين.

“أعلم أنكِ شديدة الملاحظة. ومن المفترض أنكِ أكثر من يفهم أن من استولى على جسدي لم يكن أنا… بل كان جوليان القديم.”

عضّت إيفلين شفتها، وانعكس على ملامحها ما حاولت أن تخفيه. لقد فهمت بوضوح، ومع ذلك ظلّت ومضة تردّد تتلألأ في عينيها. كنت أعلم أنها تكافح لتُصدّقني.

ماذا لو كان مجرد خدعة؟ قد يكون الأمر كذلك…

كانت أفكارها واضحة أمامي كما لو كُتبت في العلن.

حوّلت نظري نحو كيرا.

كانت آخر من وقع بصري عليها، وأكثر من واجهت صعوبة في التعامل معه. تألّقت عيناها القرمزيتان وسط الظلام الذي أحاط بها بينما فتحتُ فمي مستعدًا لتبديد الشكوك حين—

“إنه… هو.”

اخترق صوت ليون الضعيف الأجواء، رافعًا رأسه ببطء.

“ه-هذا… جوليان. لقد… عاد. أنا واثق من ذلك.”

ساد الصمت من حولنا بعد كلماته مباشرة، فيما تنقّلَت أنظار الفتيات بيني وبين ليون. لا يزال التردّد بادياً على ملامحهن، لكنني شعرت تدريجيًا بالاضطرابات التي ملأت الجو وهي تخفت شيئًا فشيئًا.

رفعت يديّ كلتيهما عندها.

“إن أردتن، يمكننا التحدث جميعًا. يمكنني أن أزيل بعض هذا الالتباس."

لم أكن في حالة تمكّنني من قتالهم.

صحيح أن المانا داخل جسدي كانت أكثر مما كانت عليه سابقًا، لكنني كنت منهكًا ذهنيًا مما جرى.

كل شيء… بدا غريبًا عليّ.

فعلى الرغم من أن ساعة واحدة فقط قد مرّت عليّ وأنا أستخدم الورقة الثالثة، إلا أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لهذا العالم. الزمن مضى، وحين نظرت إلى ليون والبقية، كانوا مألوفين في نظري، لكن شيئًا فيهم بدا غريبًا بشكل مقلق.

ذلك ترك في عقلي إحساسًا عجيبًا. وبرغم محاولاتي الحثيثة للتأقلم، ظل الشعور غريبًا.

كم من الوقت يا ترى قد مضى؟

“…حسنًا.”

قطع الصمت أخيرًا صوت إيف وهي تُنزل يدها وتعود لتجلس على الأرض، وملامحها لا تزال باردة وهي تحدّق بي.

“يمكننا التحدث بشأن هذا. أريد أن أسمع بالضبط ما الذي حدث.”

ضيّقت عينيها.

“…كل شيء.”

للحظةٍ عابرة، أقلقني نبرتها. الطريقة التي تحدثت بها، والهيبة التي غلّفت حضورها… لم تكن كما في السابق. لقد باتت تشعّ بهالة سيّدة بحق، حضورها أكثر سلطة وجديّة.

ألقيتُ نظرةً خاطفةً على إيفلين وكيرا ، وأدركتُ أنهما قد تغيرتا أيضًا.

ارتسمت ابتسامةٌ مريرةٌ على شفتيّ وأنا أومئ برأسي.

"بالتأكيد..."

كنت أنا أيضًا فضوليًا لمعرفة ما الذي جرى خلال غيابي.

ما الذي حدث في الوقت الذي كنت فيه بعيدًا؟

في اللحظة التي وافقت فيها على الحديث معهم، خفّت حدّة عدائهنّ. ظللن حذرات للغاية، لكن مع سير ليون إلى جانبي، وضعن قدرًا من الثقة فيه.

كان طريق العودة هادئًا نوعًا ما.

لم ينطق أحد بكلمة واحدة، وصدى خطواتنا هو الصوت الوحيد الذي ملأ المكان.

في مرحلةٍ ما، اضطررتُ لتغيير مظهري عندما ظهر جيشٌ يقودنا نحو خيمةٍ كبيرة. كانت هناك طاولةٌ كبيرةٌ في منتصف الغرفة، وبينما دخل الجميع الخيمة وتمكنت آويف من بناء حاجزٍ صوتيٍّ حولها، تركز كل الاهتمام عليّ بينما جلست آويف على رأس الطاولة، وذراعيها متقاطعتان.

“تكلّم.”

لم تُقيّد نبرتها وهي تتحدث.

“…اشرح لنا ما الذي حدث؟ هل أنت حقًا جوليان الذي نعرفه؟ وإن كنت كذلك، لماذا لم تظهر إلا الآن؟ وكيف يمكننا أن نثق بك؟.

وضعت إيف يدها على الطاولة وانحنت للأمام، وضيّقت عينيها بينما ظلّ صوتها باردًا.

“تأكد من ألا تترك شيئًا. أحتاج إلى شيء مقنع بما يكفي لأكون متأكدة من أن شيئًا كهذا لن يحدث مرة أخرى. لا أعلم إن كنت حقًا جوليان، لكن خلال الفترة التي غادرت فيها، العالم في الخارج أصبح فوضى عارمة.”

أصبح فوضى عارمة…؟

ضغطت على شفتيّ، متناوبًا بين النظر إلى كل من كان موجودًا، حتى اصطدمت عينيّ بعيني ليون.

نظرة واحدة نحوه، وكأنني أرى الفضول يتسلل إلى وجهه أيضًا.

كانوا جميعًا يريدون أن يعرفوا بالضبط أين كنت طوال هذه المدة، ومع شعوري بنظراتهم، لم أستطع إلا أن أبتسم ابتسامة مُرّة.

“إذن…؟”

“هل ستصدقونني إذا قلت أنني لم أغادر إلا لعشر دقائق فقط؟”

ساد الصمت في الغرفة، وتوقفت كل تعابير الوجوه.

رأيت الجو يتغير تدريجيًا، وعيني إيف تتلوى ببطء إلى جانب الآخرين. حتى ليون كان ينظر إليّ بنظرة غريبة، ومع شعوري بأن الموقف بدأ يتوتر، تنهدت.

“آخر الذكريات التي أحتفظ بها هي من وقتي في حفل الخطوبة."

ساد الصمت التام في الغرفة، واختفى كل الضجيج من المكان.

عضضت على شفتي، وحدقت في يدي.

"...أنا لست شخصًا ينتمي إلى هذا العصر."

2025/10/03 · 235 مشاهدة · 1363 كلمة
𝒜𝒜
نادي الروايات - 2025