ـ”رشش!"

تلاطمت الأمواج القرمزية على جانب الرصيف، متناثرة قطرات حمراء على الألواح البالية بينما انجرفت القوارب واستقرت بجانب الرصيف.

“أخرجوا البضائع!”

“…تأكدوا من أن لا يحدث أي خطأ! هناك مواد ثمينة جدًا بداخلها!”

“هيه! كونوا حذرين…!”

كانت فيريلّيث تعجّ بالحياة كعادتها. امتلأت الشوارع بالتجار، بعضهم يرسو بسفنه ويُفرغ البضائع القادمة من أراضٍ بعيدة تقع وراء الجنوب المتبقي.

وفي تلك اللحظة بالذات—

“توقفوا للحظة.”

تردّد صوت في الهواء. لم يكن عاليًا، لكنه انساب بسلاسة إلى آذان كل تاجر موجود، فأوقفهم في أماكنهم. سرعان ما التفتت جميع الرؤوس نحو السوق الرئيسي المتصل بالميناء، حيث ظهرت عدة شخصيات ترتدي الملابس البيضاء من بين الحشود.

اختفى كل ضجيج من المكان، وتوجّهت كل الأنظار نحو رسل سامية النور.

على مقدّمة الحشد وقف شاب يرتدي زيًّا أبيض رسميًّا. وبمجرد ظهوره، اجتاحت المكان موجة ثقيلة من التوتر، ضغطت على صدور الجميع الحاضرين.

مسح المكان بنظرة باردة قبل أن تستقر عيناه على عددٍ من الصناديق الخشبية.

وبجوار تلك الصناديق، وقف عدد من الأشخاص بوجوه متوترة، يتبادلون النظرات القلقة وهم يحاولون التحدث بصوتٍ مرتجف.

“سـ-سيدي… أيها الجابي. هل هناك… ما يمكننا مساعدتك به؟”

( مترجم: الجابي الشخص المسؤول عن جمع الأموال أو الضرائب أو الرسوم نيابةً عن سلطة معيّنة — مثل الحكومة أو المعبد أو المنظمة)

ظل واقفًا بلا حراك، شعره البني الفاتح يتحرك بخفة في الهواء، بينما تلألأ قناعه الفضي تحت ضوء الشمس الشاحب. ثم، من دون أن ينطق بكلمة، استدار نحو الرسل الواقفين خلفه وأشار بيده نحو الصندوق.

“افتحوا الصندوق وتفقدوا محتواه.”

“مـ-مهلًا، سيدي! انتظر! لا يمكنك فعل هذا!”

احتجّ التجار على الفور، لكن الجابي لم يُبدِ أي اكتراث، وظلّ يحدّق ببرود نحو الصناديق.

“لا، انتظر!"

على الرغم من احتجاجات التجار ونظرات الفضول من المارة القريبين، ظلّ الجابي غير مبالٍ تمامًا.

“تابعوا التفتيش. تجاهلوهم.”

أطاع الرسل أوامره، وتقدّموا نحو الصناديق وبدأوا بفتحها واحدًا تلو الآخر.

في داخلها، كانت صفوف من الشموع مرتّبة بعناية، تنبعث منها رائحة عطرة انتشرت في الأجواء، فملأت المكان بنفَسٍ دافئٍ ومريح.

“شموع…؟”

“…وهنا أيضًا، شموع أخرى.”

كانت الشموع بألوانٍ مختلفة، يحمل كل نوعٍ منها عبيرًا مميزًا وجميلًا بطريقته الخاصة.

واصل الرسل التفتيش، لكن جميع الصناديق احتوت على الشيء نفسه — شموع فقط.

في المجموع، كان هناك ستة عشر صندوقًا، كلها ممتلئة بالشموع ذاتها.

“سيدي، هذا كل شيء. لا يوجد سوى شموع.”

عندما قدّم الرسل تقريرهم، لم يتغيّر تعبير وجه الجابي.

حدّق بالشموع للحظة، ثم رفع نظره نحو التاجر الذي بدا وكأنه استجمع بعض الشجاعة أخيرًا.

“أرأيتم…؟ ماذا قلت لكم؟ لا يوجد شيء هنا! كلها شموع أبيعها، فقط شموع! هل ستعوّضونني عن الأضرار التي سببتموها؟”

رفع التاجر صوته عمدًا، عاليًا بما يكفي ليسمعه كل من في الجوار.

ومع ذلك، لم يتغيّر وجه الجابي قيد أنملة. نظر إلى التاجر بثبات، ثم حوّل نظره نحو الشموع ومدّ يده ليلتقط إحداها.

“ماذا… ماذا تفعل؟ لماذا تلمس الشموع؟ أقول لك إنك أفسدت البضائع بما فيه الكفاية! من الأفضل أن تتوقف قبل أن تجعل الأمور أسوأ!"

تجاهل الجابي كلمات التاجر، وقرّب الشمعة من أنفه واستنشق بعمق. أغمض عينيه، وبعد لحظة، لانَت ملامحه قليلًا. وحين فتحهما مجددًا، كانت محمرّتين بخفّة.

“خذوه.”

كانت أوامره قاطعة لا تقبل النقاش.

وبمجرد أن نطقت شفتاه بالكلمات، تحرّك الرسل بسرعة، وأمسكوا بالتاجر وسحبوه بعيدًا.

“ماذا!? لا يمكنكم فعل هذا بي…! أنا بريء! أقول لكم إنني بريء!!"

على الرغم من صرخاته، لم يلتفت إليه أحد.

بقيت جميع الأنظار مركّزة على الجابي، الذي التقط شمعة أخرى ووجّه انتباهه نحو أحد الرسل.

تقدّم الرسول بخطوة إلى الأمام ومدّ يده، لتظهر دائرة سحرية حمراء باهتة أمامه، قبل أن تندلع منها شعلة نارٍ صغيرة بعد لحظة.

وضع الجابي الشمعة فوق النار، فبدأت تذوب فورًا.

ثم وضع وعاءً خزفيًّا أسفلها ليجمع الشمع المتساقط.

تقطّ… تقطّ…!

كانت العملية بطيئة، إذ كان الشمع يذوب تدريجيًا، لكن الجابي ظلّ صبورًا، يراقب بصمت إلى جانب الرسول بينما يتحوّل المزيد من الشمع إلى سائل.

استغرق الأمر عشر دقائق كاملة حتى ذابت الشمعة بالكامل تحت حرارة اللهب.

وحين تجمّعت بركة من الشمع في الوعاء، أخذ الجابي يحدّق فيها باهتمام، قبل أن يمدّ يده فوقها.

توهّج الخاتم الذهبي في إصبعه بعد لحظة قصيرة، وبدأ الشمع بالتحرّك والاضطراب.

فقّاعة… فقّاعة…!

بدأت الفقاعات تتكوّن بعد لحظات، وراح الشمع يغلي ويتقلب بعنف كأنه ماء فوق نار. تناثر بعضه على يد الجابي، لكنه لم يتزحزح قيد أنملة، وظلّت عيناه معلّقتين بثباتٍ على الشمع.

ثم—

“هناك…”

“…!؟”

“أيها الجابي!”

بدأ سائلٌ أسود يتصاعد من بين الفقاعات، وكان ظهوره كافيًا ليُجمِّد الجوّ من حولهم، وينشر برودة ثقيلة في الهواء.

توقّف الجابي على الفور عمّا كان يفعله، وسحب يده بعيدًا بينما انطفأت الشعلة في اللحظة نفسها.

ثم وضع الوعاء جانبًا، واستدار نحو الرسل قائلاً بنبرة حاسمة:

“أنتم تعرفون ما عليكم فعله. اجمعوا كل شيء وأرسلوه إلى الكنيسة.”

“حاضر!”

“نعم، سيدي!”

“همم."

راضياً عمّا جرى، حوّل الجابي نظره إلى مكانٍ آخر وبدأ بالتحرّك. كانت خطواته بطيئة، وهيئته مستقيمة تمامًا. ومع كل خطوة يخطوها في شوارع المدينة، كان من حوله يخفضون رؤوسهم بصمت، إذ كان حضورُه وحده يبعث ضغطًا خافتًا يثقل الجوّ من حوله وهو ينعطف عند الزاوية.

كلّما توغّل أكثر، بهت لون الشوارع المرصوفة بالحجارة، وبدت المباني المحيطة أكثر اهتراءً وكآبة.

كانت اللافتات المضيئة معلّقة بشكلٍ مائل، وحين عبر بركة ماءٍ عكست ألوانَ اللافتات النيونية المشوّهة، توقّف الجابي أمام بابٍ خشبيٍّ متآكل.

(مترجم: كلمة النيونية مأخوذة من كلمة نيون (وهو غاز يُستخدم في الأضواء والإعلانات المضيئة التي تراها عادة في الشوارع أو المحال التجارية، وتكون زاهية وملوّنة — مثل الأحمر، الأزرق، الوردي، والأخضر)

نظر حوله ليتأكد من أن لا أحد يراقبه، ثم نزع القناع الفضي عن وجهه وخلع معطفه الخارجي.

وبزفرةٍ هادئة، دفع الباب الخشبي فُتح أمامه، كاشفًا عن حانةٍ مهترئة يلفّها ضوءٌ خافت متقطّع، ولم يبقَ فيها سوى قلةٍ من الزبائن المنهكين.

مسح المكان بعينيه، ثم اتجه إلى طاولةٍ معيّنة وجلس.

“هل ترغب بشيء…؟”

اقترب منه رجل ضخم الجثة بعد لحظات، وسأله بصوتٍ خفيض.

رفع الشاب رأسه، ونظر إلى الرجل قبل أن يتمتم، "نفس الشيء."

“حسنًا.”

غادر الرجل الضخم بعد لحظات قصيرة.

ولبرهةٍ وجيزة، خيّم الصمت التام على الحانة.

لكن ذلك لم يدم طويلًا، إذ قطع السكون صوتُ احتكاك كرسيٍ على الأرض، حادًّا كهمسةٍ تخترق الهواء الساكن.

جلست هيئةٌ غامضة امام الجابي، بينما ظلّ رأسه منخفضًا. عاد الصمت مجددًا… لكن للحظاتٍ فقط.

“توقف عن هذا التصرف الغامض، إنه يثير أعصابي. انظر إليّ، وإلا أرمي هذا الكوب على رأسك."

ارتسمت ابتسامة مريرة على وجه الجابي وهو يرفع رأسه لينظر إلى المرأة الجالسة أمامه، ممسكة بكوب زجاجي فارغ بينما تعقد ساقيها وتتكئ للخلف على الكرسي الخشبي.

“أخيرًا نظرت إليّ؟”

“…نعم.”

لم يستطع أنّس سوى أن يحدّق بالمرأة الجالسة أمامه مستسلمًا للأمر الواقع.

على الرغم من وصوله إلى رتبة جابي وكونه يُعدّ أحد أكثر الأعضاء الواعدين في كنيسة سامية النور، إلا أنه لم يكن شيئًا يذكر أمام المرأة الجالسة أمامه.

“ماذا؟ من نظرة وجهك، يبدو أن لديك مشكلة. هل لديك مشكلة؟”

“لا، ليس لدي.”

“هل أنت متأكد؟”

“متأكد.”

ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجه المرأة.

“من الجيد سماع ذلك."

وضعت الكوب، وخفت حدة تعبيرها قليلاً. ومع ذلك، لم يدم الأمر طويلًا، حيث مدت يدها إلى جيبها وأخرجت شيئًا ما، ووضعته على الطاولة.

قعقعة!

تردد صوت خافت للمعدن يصطدم بالخشب في الحانة الهادئة، فحول انس عينيه نحوه.

تحوّل تعبير وجهه على الفور إلى الجدية التامة.

“هذا…؟"

"إنه شيء اكتشفته مؤخرًا. يُقال إنه ينتشر بسرعة بين القراصنة وفي جميع أنحاء المدن المجاورة. يقولون إنه إذا جربته، ستزداد قوتك. يبدو وكأنه نوع من المخدرات. لم أجربه بعد، ولكن مما جمعته، لا يبدو أن له أي آثار جانبية."

" في الوقت الحالي…"

مدّ أنّس يده نحو الصندوق المعدني الموضوع على الطاولة وأخرج حبّة سوداء صغيرة. للوهلة الأولى، بدت عادية، مجرد حبة بسيطة لا تثير الانتباه، لكن عينيه الحادتين لاحظتا أن ثمة شيء غريب فيها.

‘يشبه ما وجدته داخل الشموع.لا يمكن أن يكون هذا مجرد صدفة…'

في الآونة الأخيرة، بدت الأمور غريبة بشكل غير عادي. بدأت أشياء وحبوب غريبة في الظهور في جميع أنحاء المدينة وعبر بُعد المرآة بأكمله.

النظام الهش الذي كان يحافظ على تماسك كل شيء بدأ يتصدع، وأصدرت الكنيسة الرئيسية مرسومًا بوقف أي توزيع لمثل هذه الأشياء.

“هل لديك أي فكرة عما هذا؟”

“لا، لست متأكدًا تمامًا.”

هز انس رأسه.

“حتى أنت لا تعرف؟ كنت أظنّك جابي.”

“أنا كذلك.”

“إذن لماذا أنت عديم الفائدة هكذا؟”

ظلّ أنّاس صامتًا. ماذا تعني بعديم الفائدة؟! كان جابي بحقّ! أحد أعلى الرتب الممكنة في الكنيسة بأكملها، لا يأتي بعده إلا أعضاء مقعد سولاس.

مع ذلك، اكتفى بالشكوى في قلبه.

لم يكن لديه الجرأة للاعتراض بصوتٍ عالٍ.

“همم.”

وبسعالٍ جاف، استمرّ في الحديث.

“مستوى صلاحياتي لا يسمح لي بالوصول إلى هذه المعلومات. حاليًا، وظيفتي تقتصر على تحديد أي شيء يحتوي على هذا النوع من المواد والتحقيق فيه. قبل لحظات، صادفت دفعة من الشموع الممزوجة بها، وتمكنت من كشف محتواها بفضل الخاتم الذي تلقيته من الكنيسة.”

أظهر أنس الخاتم في إصبعه. ارتفعت حاجبا آن عند رؤيته، لكنها لم تقل شيئًا.

إذا كان هناك شيء—

“تسك.”

نقرت على لسانها، مما جعل انس يرتجف.

“أم…”

سعل مرة أخرى، محاولًا تغيير الموضوع، وهو يشعر بالعرق البارد يتصبب على ظهره.

“هذا هو الوضع الحالي. نحاول تحديد مواقع الموزعين، لكننا لم نجد شيئًا حتى الآن. إنهم مختبئون بعمق، والمقاعد بدأت تشعر بعدم الصبر. قد يقومون بالتحرك بأنفسهم قريبًا.”

“سيكون ذلك مشكلة كبيرة.”

تمتمت آن، وهي تغير وضع ساقيها المتقاطعتين.

“إذا بدأوا بالتحرك، فهذا يعني أن البحر سيُستولى عليه لفترة. وهذا سيكون أقل من المثالي بالنسبة لي.”

“أ… أعلم.”

“هاه."

تنهدت آن شاعرةً بألم نابض في رأسها بسبب الخبر المفاجئ. إذا كان البحر سيُغلق فعلاً فسيتعين عليها البدء في وضع بعض الخطط بشأن ما يجب عليها فعله. هل يجب عليها الاختباء قليلاً؟

آه...

تأوهت، ووجهت انتباهها نحو أنس، وسقطت نظراتها على يده.

لو كان هذا الوغد...

صَك!

فجأة، فتح باب الحانة، وتوجهت كل الأنظار في آنٍ واحد.

ظهرت عدة شخصيات بعد قليل، وفي اللحظة التي التفتت فيها آن شعرت بكل شعرة في جسدها تقف منتصبة. خاصة عندما لمحت الشخصية المتقدمة، شاعرةً بالضغط الهائل المنبعث من جسده.

‘خطر!!’

قبل أن يتسنى لها حتى رد الفعل، وجه الرجل المعني انتباهه نحوهم.

بدت اللحظة وكأن الزمن قد تباطأ.

ثم—

“لقد وجدتك أخيرًا.”

2025/10/29 · 149 مشاهدة · 1576 كلمة
𝒜𝒜
نادي الروايات - 2025