ناطحات سحاب شاهقة.
نسيمٌ بارد.
وشَعرٌ ذهبي يتطاير مع الريح.
“…المنظر من هنا جميل، أليس كذلك؟ كلما شعرتُ بالتعب أو الإرهاق، آتي إلى هذا المكان لأقضي بعض الوقت مع نفسي. إنه مريح…”
استدارت المرأة ببطء، كاشفةً عن ملامحها المذهلة وعينيها المتألقتين.
“ألا تظن ذلك أيضًا، يا إيميت؟”
نفخة
ارتفع الدخان في الهواء.
رجلٌ كان يقف غير ببعيدٍ عنها، يحدّق بصمت في الدخان المتصاعد أمامه.
“ليس سيئًا، أعتقد ذلك."
لم ينظر إلى ما يحيط به ولو لمرة واحدة
كان في نظراته شيء يوحي بأنه لا يرى فعلاً ما أمامه؛ كأنه ينظر… ولا ينظر في الوقت ذاته.
“هاي…”
تدللت المرأة بعبوسٍ خفيف وهي تحدّق بالرجل أمامها بانزعاج.
“هناك الكثير من الناس يصطفّون فقط لرؤيتي، ومع ذلك أنت تتعامل مع مظهري وكأنه أمر عادي. أنت تعلم أنني أحبك، فلماذا لا تحبني أنت أيضًا؟"
نفخة
أخذ إيميت نفسًا آخر من السيجارة التي بيده، شاعرًا بوخزة خفيفة في مؤخرة حلقه.
استمتع بالإحساس للحظة قبل أن يزفر الدخان كله ببطء.
“أنا أحب التدخين.”
كان هذا كل ما قاله.
——————
شعور الدفء الذي أحاط بي من عناق المرأة المعروفة باسم 'سامية' جعلني أتجمد في مكاني، عاجزًا عن التفاعل في الوقت المناسب. وحتى لو استطعت، لم أكن أظن أنني كنت سأتمكن من تفاديه.
“…لقد—لقد مر وقت طويل.”
ارتجف صوتها وهي تعانقني، تضغط رأسها على صدري كما لو كانت تحاول أن تزرع رائحتها في جسدي.
ارتجفتُ بشكل لا يمكن السيطرة عليه من هذا الفعل، محاولًا إبعاد نفسي عنها.
لكن قبضتها كانت قوية جدًا.
“هيه…”
“أعلم… استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى أكتشف الحقيقة، لكن الآن بعد أن علمت، يمكننا أخيرًا أن نكون معًا من جديد. اشتقت إليك كثيرًا. لا تتركني كما فعلت في الماضي. لا أعلم ما الذي سأفعله إن تركتني مرة أخرى.”
تركتها… أنا؟
كلماتها جلبت لي صداعًا مفاجئًا.
لم أستطع تذكر أي شيء من هذا القبيل، وحتى ذلك الحين، كانت ذكرياتي عنها ضبابية إلى حد كبير. كل ما استطعت تذكره هو مشهد معين على سطح أحد المباني. في ذلك الوقت، لم أكن قد أوليتها أي اهتمام
كانت أفكاري مشوشة بآلاف وآلاف من رؤى الماضي والحاضر والمستقبل.
كان كل ما أراه وأفكر فيه.
كانت آخر شيء يشغل بالي.
ولكن الأهم من ذلك…
“كيف اكتشفتي الأمر؟”
“اكتشف ماذا؟”
رفعت سامية رأسها لتنظر إليّ، ونيران عينيها تلمع بما اعتقدت أنه يمكن وصفه بـ'الحماس'.
شعرت بقشعريرة تسري في عمودي الفقري.
مخيف.
كنت حقًا أرغب في دفعها بعيدًا، لكنني كدت أحافظ على تماسك نفسي بصعوبة. كنت بحاجة لفهم كيف تمكنت من اكتشاف هويتي الحقيقية. لم أظن أن الأمر كان واضحًا هكذا. هل يمكن أن تكون قد شعرت بشيء ما من خلال دمي؟
…أو ربما، تورين قد أخبرها.
“هل يهم؟ المهم هو أننا اجتمعنا أخيرًا. يمكننا أخيرًا أن نكون معًا مرة أخرى. لقد فكرت بالفعل في كل أنواع الأشياء التي يمكننا القيام بها سويًا. يمكننا القيام بجولة في بُعد المرآة. يمكننا الذهاب لتناول الطعام في أماكن معينة رأيتها. ويمكننا أيضًا البدء بالتخطيط لما بعد خروجنا. أفكر في الزواج تحت الشمس الصفراء الساطعة.”
شَدّت قبضتها على ذراعي، ولبرهة شعرتُ بصعوبة في التنفس.
“لن أتركك، إيميت. الآن بعد أن وجدتك أخيرًا، لن أتركك أبدًا.”
كدت أصرخ يائسًا.
هذه الفتاة!
كانت مجنونة تمامًا!
“أبدًا. لن أتركك أبــدًا. أبــدًا. أبــدًا. أبــدًا.”
بدأ شيء ما في الجو يتغير، وارتجف جسدي كله بينما كانت بانثيا تعانقني أكثر فأكثر.
كما بدأ نبر صوتها يصبح أكثر برودة.
“لا أعلم ماذا سأفعل بدونك. لا أستطيع أن أتحمل أن تتركني مجددًا. إذا غادرت مجددا ، سأصبح خاوية مرة أخرى. لقد وجدت بالكاد معنى حياتي من جديد، ولا أظن أنني سأستطيع العيش بدونك. سأحرص على ألا تغادر أبدًا."
كنت حقًا أريد أن أصرخ هذه المرة.
أي سيناريو سخيف هذا بحق الجحيم؟!
لماذا يجب أن تكون سامية مهووسة بي إلى هذا الحد؟ لدرجة أنها قد تفعل أي شيء لتُبقيني معها؟ لا! اللعنة…!!
“هل يجب أن أقطع ذراعيك وساقيك؟ بهذه الطريقة، لن تتمكن من الهرب. لا أمانع في ذلك حقًا. طالما أنك معي، فكل شيء سيكون على ما يرام. حتى لو أصبحت قبيحًا، لا يهمني. كل ما أريده… هو أنت فقط.”
كلما تكلمت، ازدادت كلماتها جنونًا.
اشتعلت النيران داخل محجري عينيها بعنفٍ أكبر، وشعرت بشيء خطير يملأ الهواء.
…الآن أفهم أخيرًا لماذا لم يكشف نويل هويتي لها. إنها مجنونة تمامًا!!!
لكن الأهم من ذلك كله، أنني استطعت أن أقول إن هذا الجنون لم يكن طبيعيًا. كان هذا على الأرجح الأثر الجانبي للقوى التي كانت تمتلكها. لقد جنّ كل سامي بسبب هذه القوى، ولم تكن بانثيا استثناءً.
“يمكننا العيش معًا إلى الأبد. بدم نويل، يمكنني أن أضمن ذلك. حتى لو كنا عالقين في بُعد المرآة، فلا بأس بذلك بالنسبة لي. هيهي…”
اشتدّ انقباض صدري مع كل كلمةٍ تنطقها.
كان عليّ أن أفكر بسرعة.
هذا الوضع…
أصبح في غاية الخطورة بالنسبة لي.
'فكّر! عليّ أن أفكر في شيء…! فكّر! فكّر! فكّر!'
“ماذا عن الأطفال؟ هل ننجب أطفالًا؟ أظن أنني سأكون بخير مع اثنين. ولدان. فقط تخيّل أن يكون لي ولدان يشبهانك… هيهي–”
"….."
"….."
قبل أن أدرك ما حدث، كانت يدي قد وصلت إلى رأسها، ودَفعتُها بعيدًا عني مباشرة. وبحلول الوقت الذي استوعبت فيه ما فعلت، كان الأوان قد فات.
سكن المكان تمامًا، وشعرت بقشعريرة باردة تجتاح الغرفة.
كدت ألعن بصوتٍ عالٍ، لكنني علمت أنه لا جدوى من ذلك، فحوّلت انتباهي نحو بانثيا ببطء ووضعت إصبعي أسفل ذقنها.
“أنتِ متحمسة أكثر من اللازم.”
“…هاه؟”
رفعتُ ذقنها قليلًا ونظرت إليها مباشرة.
“أنتِ تجعلينني أشعر بعدم الارتياح.”
تغيّرت ملامح وجهها، وللحظةٍ خاطفة لاحظتُ لمحات من الذعر في عينيها.
يمكنني أن أستغل هذا.
كان من الواضح أنها مهووسة بي. وفي هذا الصدد، آخر شيء كانت ترغب برؤيته هو غضبي واستيائي منها.
بالطبع، كان لا بد لي من الحذر.
كانت مجنونة تمامًا.
“أنتِ تتحدثين عن المستقبل هذا والمستقبل ذاك، لكنك لم تسألي عن حالي حقًا. أشعر ببعض الحزن بسبب ذلك.”
“آه، هذا…”
“هل تحبني حقًا كما تقولين؟”
تراجعتُ عدة خطوات، ونقرت على خاتمي وأخرجت علبة سجائر. رغم أنني لم أعد أمانع التدخين، إلا أنني ترددت للحظة. لكنها كانت مجرد لحظة قصيرة قبل أن أشعل واحدة وأخذ نفسًا عميقًا.
نفخة
ارتفع الدخان مرة أخرى في الهواء بينما كنت أنظر إلى سامية.
كيف سأخرج من هذا الموقف بحق الجحيم.
على الرغم من أنها بدت مطيعة، إلا أنني كنت أعرف أنها بعيدة كل البعد عن الطاعة. كان بإمكانها بسهولة أن تبقيني محبوسًا، وإذا حاولت الإفلات، فمن المحتمل أن تنفذ كلامها السابق عن قطع ساقيّ وإبقائي في مكاني.
…يا له من إزعاج بحق الجحيم.
نفخة
أخذت نفسًا آخر من السيجارة.
بالنظر إلى إصابتها الحالية، لا أعتقد أنه سيكون من المستحيل هزيمتها. المشكلة الوحيدة هي أنني على الأرجح لن أستطيع هزيمتها بسرعة. بل… بحلول الوقت الذي أتمكن فيه من فعل شيء، سيكون القديس الحي والمقاعد قد وصلوا بالفعل.
كان هذا موقفًا مزعجًا للغاية.
“يبدو أنك… لم تتخلَّ بعد عن عادة التدخين.”
وصلني صوت سامية من أمامي.
نظرت إليها، ثم نقرت بأصبعي على طرف السيجارة، تاركًا الرماد يتساقط على الأرض قبل أن أومئ برأسي.
“أظن ذلك.”
نفخة
كانت هذه سجائر رديئة…
سجائر رديئة تخص كيرا. ومع ذلك، ستفي بالغرض في الوقت الحالي.
“أتعلم، هذا ليس جيدًا لك. أعلم أنك لم تعد إنسانًا عاديًا، لكن ما زلت أشعر أنه ضار لك. لو فقط… توقفت عنه.”
“همم؟”
ضيّقت عينيّ وأنا أحدّق في بانثيا .
رؤيتها الآن جعلتها تبدو مختلفة تمامًا عما كانت عليه قبل قليل. بدت خجولة، مترددة تقريبًا.
المرأة المجنونة التي كانت هنا قبل لحظات اختفت تمامًا.
مثير للاهتمام.
سيجعل هذا الأمر أسهل بكثير بالنسبة لي.
طرقتُ بأصبعي على طرف السيجارة مرة أخرى، وكنت على وشك التحدث عندما طرقت سامية أصابعها ببعضها، وقد بدا عليها الخجل قليلًا.
“…كنت فقط أريد أن أعرف شيئًا. لا أعلم إن كنتَ مستعدًا للحديث عنه، لكنني… فضولية جدًا، هذا كل ما في الأمر.”
“همم؟”
حدقت في السيجارة، وبما أنها كانت قد انتهت تقريبًا، رميتها إلى الجانب. لم تُعِر سامية الأمر أي اهتمام، وظلت تنظر إلى الأرض بخجلٍ أكبر. لسببٍ ما، حين نظرت إليها، اجتاحتني مشاعر غريبة من القلق.
لا يعجبني اتجاه هذا الحديث.
“هل أنت في علاقة مع أحد؟”
حبست أنفاسي، وشعرت بعينيها تلمعان نحوي.
لسببٍ ما، بدا السؤال وكأنه يحمل أكثر مما يظهر على السطح.
ابتلعت ريقي بعصبية محاولًا أن أبدو متماسكًا قدر الإمكان، وفي النهاية هززت رأسي.
“أنا… لست كذلك.”
“هل تكذب؟”
سألت مرة أخرى. هذه المرة، كان لحن صوتها أقل رقة، وأكثر برودة إلى حد ما.
فتحت شفتيّ، لكنّي هززت رأسي سريعًا.
“لا.”
لا ينبغي أن يكون بإمكانها المعرفة إلا لو لديها صلات مع العالم الخارجي. لكن بحسب علمي، ليس لديها شيء من هذا. لكن ماذا لو تورين أخبرها؟ ربما لو أنه—
“هل أنت متأكّد؟”
وصل صوت بارد إلى أنحاء الغرفة، ما جعل قلبي يتوقف فجأة.
تشنّجت كل أجزاء جسدي وأنا أُثبت نظري عليها.
ثم—
قضمت أظافرها وبدأت تتحدث مع نفسها.
“لماذا سيكذب عليّ؟ كنت أظن أن علاقتنا قوية جدًا. لماذا يكذب؟ أعني، هل يظن أنني غبية؟ رأيتُها. تلك العاهرة ذات الشعر الأسود الغبية.”
سرت كلماتها في أذنيّ فاتسعت عيناي.
هل هي تعرف؟!
لكن بعد ذلك…
“ظننت أنها مجرد تمثيلية منه. كنت على ما يرام بقبول شيء كهذا. لهذا لم أفعل شيئًا. كان يجب أن أقتلها عندما سنحت لي الفرصة، لكن لا — لا أستطيع إظهار شكلي الحقيقي في العالم الواقعي.
بَــدَم… بَــدَم…
الإيقاع المنتظم، لكن الصاخب، لنبضات قلبي تردّد بقوة في أذنيّ.
حدّقت بالسامية، وشفتي ترتجفان.
تلك…
كلماتها…
هي كانت تعرف… كانت تعرف طوال الوقت.
لا، في الواقع…
يبدو أنها قابلتني في الماضي.
لكن من؟
من يمكن أن تكون قد… انتظر.
ظهرت صورة معينة في ذهني، وبدأت عيناي تتسعان ببطء.
كلمات معينة بدأت تتردد في رأسي — كلمات سمعتها في الماضي البعيد، قبل أن أنهار وأتسبب في “موتي”.
'قُل… بشأن ما قلته سابقًا، ما رأيك في الزواج بي؟'
“فكرت في الأمر. إن انتهى بك الأمر بالزواج مني، فلن يجرؤ أحد في العالم على مضايقتك. أعلم أنك موهوب جدًا، لذا لو كان هناك من يحميك دائمًا، فستتمكن من التطور بلا أي مشكلة.”
التوقيت…
الكلمات…
كلّ شيء…
هي…
كانت هناك منذ البداية.
كانت…
القدّيسة التابعة للطاولة المستديرة.
———
بتتوقف رواية يومين او ثلاث ايام بسبب انني سبقت فصول عادية كالعادة