'يا لها من حالةٍ عبثيّة.'
ظلّ القماش يتحرّك، يلمّع ويزيل الطبقة الرقيقة من الثلج التي تراكمت فوق التماثيل.
…إذن هذا ما كان يفعله إيلين عندما وجدته.
كان هذا جهدهم في محاولة الحفاظ على المدينة التي ابتلعها الجليد.
“هناك أوقات تتحرّك فيها التماثيل عادةً. ليست خطيرة جداً، لكن مع ضعفي المتزايد يوماً بعد يوم، بدأت تتحوّل إلى تهديد حقيقي.”
واصل فيلار تنظيف التماثيل القريبة منه.
وعلى الرغم من قوّته وقدرته على مسح الثلج بمجرد حركة من معصمه، إلا أنّه كان يفعل ذلك يدويًا.
“كما لاحظت على الأرجح، البرد يستنزف مانا أجسادنا. كل ذرة منها ثمينة، ومع تبخّرها تدريجيًا نصبح أكثر عرضة للمخاطر التي تحيط بنا.تمامًا مثل هذه التماثيل.”
سحب القماش وأزال عنه البلورات التي التصقت به.
ثم توقّف لوهلة، ونظر إليّ.
“إن كنت تخطط للهروب، فالآن هو الوقت المناسب. التماثيل لن تتحرّك أو تهاجم، والضباب يكون في أرقّ حالاته في الصباح. بحلول الظهر، يزداد سمكًا من جديد. وبمجرّد أن تصل إلى أطراف المدينة، ستكون بأمان. اللعنة لا تمتدّ لما وراء هذه الجدران.”
“أقدّر عرضك، لكن ليس لديّ الكثير من الخيارات أيضًا."
مررتُ يدي على أحد التماثيل، أقدّم ما أستطيع لمساعدة فيلار.
لم يكن هناك ما أفعله غير ذلك على أي حال.
“أصدقائي تجمّدوا أيضًا وتحولوا إلى تماثيل. أحاول أن أجد طريقة لمساعدتهم والخروج بهم من هذه الورطة.”
“…آه، فهمت.”
خفت صوت فيلار.
لم يقل شيئًا آخر، لكن صمته كان كافيًا للتعبير عمّا بداخله. لم يكن يعتقد بوجود علاج… أو وسيلة لإعادة الآخرين إلى ما كانوا عليه. ولكن هل كان هذا صحيحًا حقًا؟
إن لم يؤمن بوجود علاج، ما كان ليبقى هنا بهذه العناد.
تمامًا مثلي، كان بإمكانه الهرب بسهولة. لكنه لم يفعل.
لماذا؟
لأنه، في أعماقه، كان يتمسّك بالأمل في أنّ لهذه اللعنة علاجًا ما.
*
“يبدو أن التماثيل على وشك أن تبدأ بالتحرّك. علينا أن نعود.”
لقد فقدت إحساسي بالوقت. قبل أن أدرك ذلك، بدأ الضباب يزداد كثافة، وشعرت باهتزاز خفيف يصدر من التماثيل. وبملامح مطمئنة، أعاد فيلار المنشفة إلى جيبه قبل أن يتجه نحو الملجأ.
وأثناء عودتنا، لم نواجه أيّ مشاكل.
لم ينطق أيّ منا بكلمة بينما وصلنا أخيرًا إلى المباني المألوفة ودخلنا.
خطوة… خطوة—
ارتدّ صدى الخطوات الهادئة عبر الممرّ المظلم، وسرعان ما وقفنا أمام باب الملجأ.
لكن—
“–هيه! هيه…! أول’سال! أول’سال!! ** تم تعديل ان عجوز
–أين فيلار؟! ما الذي يحدث!؟”
ترددت صرخات مكتومة من الجهة الأخرى للباب، وبمجرد أن فتحه فيلار، استقبلتني رؤية الرجل العجوز من قبل، ممدّدًا على الأرض ووجهه شاحب، وعيناه مغمضتان.
“إنه لا يفتح عينيه!”
“سال!!”
حاول الجميع هزّه، لكنه لم يتحرّك.
بدأ الطفلان بالبكاء، بينما تابع الرجل الضخم محاولة إيقاظه بلا جدوى.
كانت إيفلين تنظر إلى كل هذا بقلق، وما إن لاحظت وجودي حتى تغيّرت ملامحها. بدا عليها القلق، وهذا مفهوم… لقد ابتعدت عنهم لفترة طويلة دون أن أخبرها.
“اهدؤوا. دعوني ألقي نظرة.”
على الرغم من الموقف الحرج، بقي فيلار هادئًا.
اتجه فيلار نحو الرجل العجوز ووضع يده فوق صدره.
ولم تمضِ لحظة حتى أغلق عينيه محاولًا استشعار حالته. خيّم الصمت على المكان، وتوترٌ خافت بدأ يتراكم في الغرفة.
لكن سرعان ما فتح عينيه وابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه.
“لم يتحوّل بعد. أستطيع إعادته.”
بدأت يده تتوهّج، وبدأ الشحوب يتلاشى من وجه الرجل العجوز.
لم يستغرق الأمر طويلًا حتى عاد اللون إلى وجهه، وبدأ صدره يتحرّك من جديد.
أضاءت أعين الطفلين والرجل الضخم فرحًا.
“أول’سال!”
“سال!”
بدوا في غاية السعادة عند رؤيته، وسرعان ما بدأت جفون الرجل العجوز ترتجف قبل أن يفتح عينيه أخيرًا.
“هاه؟”
نظر حوله، مشوّشًا من المشهد الذي استقبله.
لكن سرعان ما —
“سال!”
“أول’سال!"
قفز الطفلان عليه، بينما بالكاد تمكّن الرجل الضخم من كبح نفسه وهو يرفع قبضته إلى وجهه ويكحّ بخجل.
“ما الذي يحصل هنا بحق الجحيم!؟”
بطبيعة الحال، تفاجأ الرجل العجوز من تصرّفات الطفلين المفاجئة، محاولًا إبعادهما عنه، لكنهما لم يتحرّكا قيد أنملة. وفي النهاية، لم يستطع إلا أن يرفع يديه استسلامًا وهو يوجّه نظره نحو فيلار.
يبدو أنه أدرك ما حدث، وبعد لحظة صمت قصيرة، حرّك شفتيه قائلاً بصوت خافت:
“شكرًا… على ما أظن.”
ثم بدأ في توجيه الشتائم للطفلين.
“توقفا! اذهبا…! ابتعدا عني!”
في هذا المكان الصغير البارد، دبّت الحياة فجأة من جديد.
وقفت أتأمّل المشهد بصمت، حتى شعرت بشيء يسحبني من كتفي. وعندما التفت، رأيت إيفلين تحدّق بي بعبوس وهي تهمس“أين ذهبت؟”
“…لأتنفّس قليلًا.”
“حقًا؟”
“نوعًا ما…"
توقفت للحظة، ثم انحنيت لأهمس لها بكل ما اكتشفته خلال الوقت الذي قضيتُه في الخارج. تغيّر تعبيرها تقريبًا على الفور، ووجّهت نظرتها نحو فيلار. الطريقة التي نظرت بها إليه تغيّرت قليلًا.
“وأنت متأكد من هذا؟”
“متأكد إلى حدّ كبير.”
“هذا…”
بدت إيفلين وكأنها فقدت الكلمات، لكن—وكأنها تذكّرت فجأة شيئًا مهمًا—دفعتني مرة أخرى.
“صحيح، هناك شيء آخر أردت التحدث معك بشأنه.”
“ما هو؟”
“في الواقع…”
ضغطت إيفلين شفتيها معًا، وأمسكت بذراعي وسحبتني إلى الخلف أكثر. وبعد أن تأكدت من أن لا أحد يولي اهتمامًا، همست:
“لست متأكدة تمامًا، لكن أظن أنني قد أستطيع علاج الجميع.”
كدت أُصدر صوتًا عند سماع كلماتها.
لحسن الحظ، وضعت إيفلين يدها على فمي قبل أن أفعل.
“توقّف..! خفّض صوتك! كما قلت لك، لست متأكدة بالكامل. لم أختبر الأمر بعد، ولم أرد أن أقول شيئًا في السابق. كنت خائفة من أن أمنحهم أملًا زائفًا. لكن عندما تفقدتُ الرجل العجوز في وقت سابق، شعرتُ… أنه قد يكون بإمكاني المساعدة. كنت أنتظر فقط أن تسأل."
نظرت إيفلين إلى الرجل العجوز بتردد.
"...قد أكون أتحدث هراءً، لكن-"
"مهلاً."
ناديتُ فجأةً على فيلار والآخرين، وجذبتُ انتباههم نحوي.
اتسعت عينا إيفلين، وربتت يدها على كتفي بضع مرات، لكنني لم أهتم بذلك وأنا أنظر إلى فيلار. كان ينظر إليّ بالفعل، وتعابير وجهه غير قابلة للقراءة.
ومع ذلك، كنت واثقًا تمامًا مما حدث. لقد سمع كل شيء بوضوح.
لكنه اختار ألا يقول شيئًا.
“ما الأمر…؟”
تحدّث الرجل العجوز أخيرًا، وصوته يحمل بحة خفيفة.
بدلًا من الإجابة، تقدّمت نحوه خطوة. لحقت بي إيفلين من الخلف، وعندما توقفت أمامه، مددت يدي نحوه.
“أعطني يدك للحظة.”
“هاه؟”
بدت الصدمة واضحة على وجه الرجل العجوز — وهذا أمر مفهوم.
ينطبق الأمر نفسه على الآخرين، لكن صوت فيلار الهادئ كان كافيًا لتهدئة الجميع.
“لا تقلق. يمكنك أن تعطيه يدك."
تردّد أول’سال للحظة، لكنه أومأ في النهاية، ومدّ يده إلى الأمام.
أمسكت يده أولًا، وبدأت أضخ المانا في جسده. أردت أن أرى إن كان بإمكاني فعل أي شيء، لكنني صُدمت في اللحظة التي فعلت فيها ذلك.
هذا الرجل…
كيف بحق الجحيم لا يزال حيًا؟!
نصف أعضائه تقريبًا كان متجمّدًا تمامًا، ودمه من بينها. حقيقة أنه ما زال قادرًا على الكلام والحركة كانت معجزة بحد ذاتها. كما جعلتني أتساءل أكثر فأكثر عن هذه “اللعنة”.
ما هي بالضبط؟
ولماذا لم أشعر بأي شيء له علاقة بديلايلا منها؟
“وهكذا؟”
كانت كلمات الرجل العجوز هي ما أخرجني من أفكاري.
رفعت رأسي لألاقي نظرته، لكنني لم أقل شيئًا. بدلًا من ذلك، التفتُّ نحو إيفلين. رمقتني بنظرة حادة للحظة، لكنها تنفّست أخيرًا بعمق، وأمسكت باليد، ثم أغلقت عينيها.
ساد الصمت المكان.
إلى أن—
كرا كراك! كرا كراك!
ترددت أصوات تكسّر مكتومة في أرجاء الغرفة، مفاجِئةً الجميع الحاضرين.
“انتظر، ماذا تفعلين!”
“مهلًا!”
“هي لن تقتلني، أليس كذلك؟”
“لا تقلق. أنا هنا.”
حملت كلمات فيلار سلطة هادئة. في اللحظة التي نطق بها، ساد الصمت المكان. ورغم التردد الذي كان يلوح في أعين الجميع، كانت طمأنته كافية، وسرعان ما ازدادت أصوات التصدّع والطرقات المكتومة، بينما كانت حاجبا إيفلين تتقوّسان بشدة.
“هاه؟”
بدأ تنفس الرجل العجوز البطيء يتغيّر، وارتجف جسده بعد لحظة.
رسم هذا القلق على وجوه الجميع، لكن تحت هدوء فيلار، لم يصدر أحد أي صوت.
دق! دق! دق!
تصبّب العرق على جانب وجه إيفلين وهي تركز، وبدأ جسد الرجل العجوز يهتز، وامتدت تعابيره المؤلمة نتيجة ما كانت تفعله. توتّر الآخرون، وارتسم القلق على وجوههم، لكن فيلار رفع يده، كبحهم بصمت.
وسرعان ما—
توقفت إيفلين، وسحبت يدها من يد الرجل العجوز بينما كان صدره يرتفع ويهبط بشكل غير منتظم.
عمّ الصمت المكان، واستقر توتر خافت بينما التقطت إيفلين أنفاسها.
ومع ذلك، رفعت رأسها في النهاية ونظرت إلى الآخرين.
بعد لحظة من التردد، نطقت.
“من الممكن…”
ضغطت شفتيها في خط رقيق، وتحوّل تعبيرها إلى شيء مشدود ومضطرب.
“أعتقد أنني أستطيع أن أجد طريقة لإصلاح الجميع.”
لم أحتفل بعد.
وبينما كنت أحدق في تعبيرها، أدركت أن هناك ما هو أكثر من ذلك. وبالفعل، أكدت كلماتها التالية هذه الفكرة.
“لكن… لم أتمكّن بعد من اكتساب المهارة الكافية،” قالت بهدوء. “سأحتاج لمزيد من الوقت. سيطرتي… لا تزال ناقصة. إذا استطعت تحسينها، قد أتمكّن من إزالة كل الجليد بالكامل. لا أستطيع أن أقدّم أي ضمانات، لكن يمكنني المحاولة."