كان الظلام مختلفًا عن أي ظلام اعتدتُ عليه من قبل.

كان عميقًا… خانقًا.

داخل ذلك الظلام، بدت الحياة نفسها وكأنها غير قادرة على الوجود.

اختفت مدينةُ الجليد التي كانت تملأ رؤيتي قبل لحظات. لم يبقَ شيء… سوى الظلام. فيلار، إيفلين… كلاهما اختفى. شعرتُ برهبةٍ ثقيلة وأنا أتلفّت حولي.

شيءٌ هائل تحرّك داخل الظلام. كان بطيئًا، لكن ضخمًا… أشبه بقارةٍ تستيقظ من سباتٍ تحت نسيج العالم. الهواء تموّج، ومع كل نبضة شعرتُ بأفكاري تتشوش، وكأن عقلي لم يُخلق ليدرك ما يقف أمامه.

با… ثومب! با… ثومب!

لم أعد أسمع سوى نبضات قلبي وهي تتردّد داخل رأسي بقوة.

بالكاد استطعت التركيز، وشعرت بشيء يحاول غزو عقلي.

ثم…

كراااك–!

صوت بعيد… لكنه يصم الآذان، مثل انقسام الواقع نفسه.

خطوطٌ من ضوءٍ قرمزي خافت راحت تنسج نفسها عبر الفراغ، تمتد بلا نهاية، وتلتفّ في أشكالٍ ترفض أن تبقى ثابتة. كانت تومض…

رموز… أطراف… أو ربما عيون… لكن في كل مرة أحاول التركيز عليها، كانت تتغيّر.

ثم جاء الهمس.

لم يكن صوتًا. بل شيئًا آخر. شيءٌ أقدم من الصوت نفسه. كلمات حفرت مباشرة داخل أفكاري، متجاوزة أذني تمامًا.

– لقد بدأ مجددًا.

الصوت لم يكن ينتمي لكائنٍ واحد.

بل إلى كل شيء في آنٍ واحد.

ثَدْ!

أرسل كل مقطع لفظي شقوقًا تتسلل عبر وعيي، مما أجبر ركبتي على الانحناء بينما اندفع الدم إلى أذني. كان الوزن الذي يضغط عليّ لا يُطاق. كأن الجاذبية كلها قررت أن تركز عليّ وحدي.

شيءٌ ما… ظلٌّ خافتٌ تلألأ في قلب الظلام. في البداية ظننته إيفلين. كان شكلها يهتزّ، تبدو رقيقة… هشة… لكن ذلك استمر فقط إلى أن تغيّر.

مال رأسها بزاويةٍ لا يمكن لرقبة بشرية أن تنحني إليها. شعرها ارتفع للأعلى، يبتلعه السواد، وكل خصلة تمددت ثم تحطمت إلى أشكال لم تعد شعرًا. الأطراف استطالت… ثم انكمشت… تلوّت في أشكالٍ لا يمكن التعرف عليها، قبل أن تذوب من جديد في العتمة.

ناداني صوتها… كان خافتًا، لكنه موجود.

”…ســاعــدنــي…"

للحظةٍ واحدة، صدّقتُ أنها ما زالت هي.

لكن بعدها تكررت الكلمات ذاتها—ليس منها، بل من حولي. نفس النبرة، نفس الصوت، يتضاعف ويصدى من كل اتجاه.

”…ســاعــدنــي…"

”…ســاعــدنــي…"

”…ســاعــدنــي…"

”…ســاعــدنــي…"

”…ســاعــدنــي…"

مئات الأصوات . آلاف.

تهمس من كل اتجاه، تلتهمني وأنا أنظر حولي، يتسارع نبضي بينما أقبض على رأسي محاولًا إيقاف الصوت.

”…ســاعــدنــي…"

”…ســاعــدنــي…"

”…ســاعــدنــي…"

كل همسة كانت عالية… منحرفة بدرجة طفيفة، كأنها نسخة مشوّهة من الأخرى.

توقف… أرجوك، توقف…!

بدأت أفقد عقلي، أشعر بأن دماغي ينهار تحت الضجيج بينما أضغط عليه بكلتا يديّ.

ولكن كما لو أن ذلك لم يكن كافيا، فسرعان ما رأيته.

لمحة عن الكائن الخارجي.

من خلال السواد، بدا شيئًا هائلًا. لكن مجرد نظرة واحدة كانت كافية لجعل عقلي يصبح فارغًا تمامًا وهو يكافح لاستيعاب ما كان أمامه.

لم يكن جسدًا، بل مفهومًا أعطي شكلًا. عيناه اشتعلتا كنجومٍ تحتضر، وشكله نزف هندسةً وظلًا، يطوي نفسه ويمتد بلا نهاية، داخل ذاته وخارجها. مجرد وجوده كان يلتهم كل شيء—المعنى، المنطق، اللون—حتى لم يبقَ سوى فراغ وجوده.

تلاشت رؤيتي.

وبدأ العالم حولي يتقشّر… طبقات الضوء والصوت تتمزق بينما ذلك الشيء… الكيان… يميل نحوي.

ليس جسديًا.

بل اقترابًا تشعره الروح.

– لقد نظرت.

اخترق الهمس كياني من كل اتجاه.

كان ناعمًا… ومع ذلك—

“آآاااه!!”

بالنسبة لي، بدا كأنه صرخة .

انتزع تأوّهٌ حلقي قبل أن أدرك، وقبضت على رأسي بينما الهواء من حولي يتحطّم، يتشظّى إلى آلاف الألوان المختلفة التي تموّجت ونزفت في بعضها البعض.

ثم-

كرا! كراك–!

بدأ الواقع ينشقّ مجددًا.

شعرت بالتشوّه في الهواء، والضغط الذي سيطر على المكان ازداد أكثر فأكثر.

صار تنفّسي أثقل، وتنامى الشعور بالرهبة داخلي.

'إنه قادم… إنه قادم…'

اهتزّ الظلام. لم يكن اهتزازًا بسبب قوة أو اصطدام، بل لأن الوجود نفسه كان يمزّق الظلام تمزيقًا. الهواء صرخ، وصفير حاد شقّ الفضاء بينما عظامي ارتجفت.

كل غرائز جسدي كانت تصرخ بي أن أهرب، أن أختبئ… أن لا أنظر.

لكن لم يكن هناك أي مكان أذهب إليه.

العالم أمام عيني بدا وكأنه يتلاشى.

شقّ خطّ رفيع من لون الأحمر الفراغَ بلا أفق، متوهّجًا كجرحٍ لحميّ شُقّ في نسيج الواقع نفسه. ومن داخله، دفع شيءٌ هائل إلى الخارج، والعدم من حوله نزف ضوءًا أحمر خافتًا.

ورغم أنني رأيته… لم أستطع رؤيته حقًا.

عقلي رفض أن يستوعبه.

حواف وجوده لامست حدود فهمي، وكل ثانية أحدّق فيها أرسلت صدمة تكاد تشقّ جمجمتي.

انحدرت خطوطٌ حارقة على عينيّ.

ليست دموعًا.

– لقد فتحت البوابة.

جاءت الهمسة مجددًا، أقرب… كأنها نَفَسٌ يلامس مؤخرة عنقي.

انقبض صدري.

نبض الضوء الأحمر بإيقاع مع قلبي، كل نبضة أسرع وأعلى صوتًا-

با… ثَمب! با… ثَمب!

شيء ما امتدّ نحوي. ليس يدًا، ولا طرفًا… بل فكرة يد. شكله تومض بين أشكال وصور لا نهائية، يمزّق نفسه ويتكوّن مجددًا في كل ثانية.

وحيثما لمس، تموّج الفراغ كزجاجٍ سائل.

وفي داخله… رأيت وجوهًا.

آلاف الوجوه.

معروفة وغير معروفة.

أفواه مفتوحة تصرخ، ملامحها تلتوي وتنصهر في بعضها البعض. رأيت وجه إيفلين بينها، عيناها خاويتان، وشفاهها تتحرك مرددة الكلمات نفسها كما من قبل…

“ساعِد…ني…”

لكن الأكثر رعبًا من كل شيء… أنني رأيت وجهي هناك.

ليس كجوليان… بل كإيميت.

نبض صداعٌ مرعب داخل رأسي، يكاد يحطّم ما تبقّى من ذرة عقلٍ احتفظت بها.

لكن هذا لم يكن كافيًا على الإطلاق.

فجأة فهمت كل شيء.

يأسُ الحكام… والسبب الحقيقي لضرورة إتقان السحر العاطفي.

هذه الكيانات…

كانت التجسيد نفسه لليأس.

انكشفت أمامي أمور كثيرة دفعة واحدة.

سبب حصولي على تلك المهمة… وما كان عليّ فعله.

'الكوارث هي بوابات… أو بالأحرى، الوسيلة التي تستطيع بها الكيانات الخارجية دخول هذا العالم. بمجرد أن تصل إلى مستوى معيّن، ستتمكن من الدخول بالكامل. ورغم أنني لا أعرف لماذا يجب أن يتم الأمر بهذه الطريقة، إلا أنني أدركت الآن أن عليّ إيجاد طريقة لمنع إيفلين والآخرين من الفساد بهذا القوة.'

حدّقتُ في المخلوق أمامي، ورؤيتي تومض بصور لا تُحصى بينما الدم ينساب على وجهي. خفضت رأسي، وأخذت نفسًا عميقًا.

'حسنًا.'

أغلقت عينيّ.

الظلام المحيط اتّسع، والهمسات داخل رأسي ازدادت حدّة وقربًا.

لكن وسط الفوضى، تسرّب إلى عقلي صوتٌ واحد فقط.

تك… تك–!

وعندما فتحت عينيّ مجددًا، كان العالم مختلفًا.

البرودة التهمتني بينما ركّزت انتباهي على الشكلين الواقفَين أمامي.

“تلك القوة…”

توهّجت نظرة فيلار، وضغطٌ ثقيل انبعث منه، ملأ الهواء بينما عينيه تستقرّان على إيفلين.

وبما أنني شاهدت كل هذا مسبقًا… كان عليّ أن أتحرّك.

لم يكن لدي خيار آخر.

“اللّعنة تفسدها.”

ولحسن الحظ، كنت أعرف تمامًا ما يجب أن أقوله.

وفي اللحظة نفسها التي نطقت فيها تلك الكلمات، حاولت أيضًا تهدئة مشاعر فيلار باستخدام السحر العاطفي. لم أحتج سوى أن يكون هادئًا… عاقلًا بما يكفي ليفهم ما أحاول قوله.

لكن… هل كان هذا كافيًا؟

فيلار ضحك فجأة.

“اللّعنة تفسدها؟”"

حوّل نظره إلى إيفلين من جديد. شعرها يتطاير مع الريح، وعروق سوداء تنتشر عبر جسدها، تنبض بخفوت تحت الجلد. وبهيئتها تلك… كان من المنطقي لفيلار أن يعتقد العكس تمامًا.

“نعم، اللعنة تفسدها. لقد أثّرت عليها، كما ترى.”

أشرتُ إلى إيفلين.

“أنت، من بين الجميع، يجب أن تكون أكثر من يعرف كيف هي. قضيتَ وقتًا طويلًا معها. لا بد أنك تدرك أن هذه ليست حقيقتها. إنها تتعرّض للفساد، وما نحتاج إليه الآن هو إيجاد طريقة لتهدئتها. إذا سيطرت اللعنة عليها بالكامل، فسينتهي الأمر بالنسبة لنا نحن الاثنين. لا، ليس نحن فقط… بل الجميع.”

هذا لم يكن كذبًا.

ومع تذكّري لما رأيته للتو، شعرت بإلحاحٍ شديد يعصر صدري.

ما زال قلبي يخفق بعنف بينما أحدّق في فيلار.

“فساد… لعنة…؟ من…؟ أنا؟”

بعد أن سمعت كل كلمة، تردّد صوت إيفلين في الهواء وهي تنظر إليّ. وما إن التقت نظراتنا، حتى شعرت بقشعريرة تجتاح جسدي بينما سيلٌ من الإشعارات عبر رؤيتي.

[+1]

[+1]

أدركت أنني لا أملك الكثير من الوقت.

ومن دون انتظار ردّ فيلار، اندفعت مباشرة باتجاه إيفلين.

الهدف الآن كان أن أفقدها الوعي قبل أن تتزعزع مشاعرها أكثر وتخرج الأمور عن السيطرة.

“ساعديني!”

صرختُ باسم فيلار وأنا أندفع راكضًا نحو إيفلين.

ومن دون تفكير، استدعيتُ كتابي، فأضاءت صفحاته أمام عينيّ. وفي ثوانٍ معدودة، كنتُ واقفًا أمامها. ارتسمت الدهشة على ملامحها—لم تتوقع مطلقًا أن أتحرك، فضلاً عن أن أهاجمها بهذه السرعة.

لكن بعد ما رأيته… كنت أعلم أن عليّ أن أفقدها الوعي.

سوووووش—

من دون أن أحبس شيئًا بداخلي، دمجتُ الكرتين الحمراء والخضراء داخل عقلي. أخذ جسدي يلتوي ويطعج، بينما ركّزتُ كل انتباهي على يدي. الصور تتتابع أمام ناظريّ، والمشاعر الخام تتدفق وتشتعل في صدري، فيما الخيوط تتشكل في كل اتجاه، تطوّق إيفلين من جميع الجوانب.

صررتُ على أسناني، وتشققت الخيوط، وتساقطت عليها من الأعلى بينما أجبرتُ يدي على التقدم، محاولًا الوصول إلى جسدها

لكن… تمامًا عندما ظننت أنني نجحت—

بانغ!

تشقّق البرق من الأعلى، معيقًا هجومي، فيما استدارت إيفلين لتنظر إليّ، وعيناها متسعتان صدمةً.

“أنت… أنت…”

[+1]

[+1]

[+1]

[+1]

عندما رأيت سلسلة الإشعارات، غرق قلبي.

'اللعنة...'

سيكون هذا حقًا صعبًا.

2025/12/04 · 25 مشاهدة · 1349 كلمة
𝒜𝒜
نادي الروايات - 2025