نعم، أعتقد أنني تائه بالفعل.
لم يمر وقت طويل منذ عودتي، وها أنا قد ضللت طريقي. كانت الشوارع هي نفسها، لكن رغم ذلك، الكثير من الأشياء لم تكن تمامًا كما أتذكرها. كانت ذكرياتي عن هذا الزمن ضبابية بعض الشيء، وكلما نظرت حولي، بدا كل شيء أكثر غرابة عن ذي قبل.
أعتقد أنني اعتدتُ كثيرًا على العالم الذي أعيش فيه حاليًا.
آخذًا نفسًا عميقًا، سرتُ على طول طريق المشاة بينما أنظر إلى الأعلى.
كانت الشمس تغرب عند الأفق، تلقي بوهجٍ برتقالي عبر السماء. بين ناطحتي سحاب، وعلى جانب طريقٍ ينحرف نحو المشهد، بدا المنظر خلابًا.
أو هكذا كان ينبغي أن يكون… لولا الشق الهائل المعلّق في الهواء.
ارتعشت حاجباي.
طفَت ذكريات باهتة إلى ذهني.
ذلك يجب أن يكون أولى علامات صدع المرآة.
لقد بدأ كل شيء بشق.
هذا كل ما أتذكره.
لم يكن أحد يعرف ما الذي يُشير إليه ذلك الشق، لكن مجرد وجوده كان كافيًا ليدفع العالم بأسره للشعور بالقلق.
'أتساءل كم من الوقت سيستغرق الأمر حتى يسيطر بُعد المرآة بالكامل على هذا الو-أوك'
اخترق ألمٌ حادّ ذهني فجأة.
لم يكن شيئًا خطيرًا، لكن مع حدوثه، طفت إلى ذهني عدة ذكريات دفعة واحدة، فتوقفت في مكاني.
ومن دون حتى أن أفكر مرتين، استدرت وسرت في الاتجاه المعاكس.
أعرف..!
زدتُ من سرعتي.
…أعرف إلى أين يجب أن أذهب.
—————
كان العالم بعد ظهور الشق مختلفًا تمامًا عمّا كان عليه في الماضي.
اتحدت الأمم، وظهرت أمم جديدة.
كانت المدينة تُدعى نيو هوب. مدينة مترامية الأطراف تُعدّ من أهم وأقوى المدن في العالم. كانت موطنًا لمعظم النقابات والقوى. كما كانت المكان الذي أقامت فيه أغلب حكومات العالم مراكزها لإدارة الأزمة العالمية التي اجتاحت كل شيء.
وفي قلب المدينة، وقف مقر الحكام السبعة.
كان برجًا شاهقًا يمكن رؤيته من أي مكان في المدينة. هيكلٌ هائل يهيمن على الأفق، ورأسه الحادّ يشقّ الغيوم البرتقالية التي تنساب ببطء فوقه.
قد يظن المرء أنني سأذهب إلى هناك لألتقي بنفسي، لكن بدلًا من ذلك، ذهبت إلى مكان مختلف تمامًا.
مكان كنت على دراية تامة به.
[جيه.دي إلكترونيكس]
توقفت أمام المبنى، ورفعت رأسي لأحدق فيه وهو يشمخ فوقي.
بأكثر من ثلاثين طابقًا، كان المبنى هائلًا. إطاره المعدني الداكن ونوافذه الزجاجية العريضة أعطته إحساسًا باردًا ومؤسسيًا بينما استقرت عيناي على الأبواب المنزلقة أمامي.
دون تفكير ثانٍ، دخلت المبنى، ودخلت قاعة الاستقبال المألوفة.
وبينما أخفيتُ وجودي باستخدام [رثاء الأكاذيب]، تسللت متجاوزًا نقطة التفتيش الأمنية وتوجهت نحو المصاعد.
دخلتُ أحدها، وضغطت زر [11]، متابعًا الأبواب وهي تُغلق بنغمة خافتة.
كان المصعد سريعًا، ولم يستغرق الوصول إلى الطابق المطلوب سوى لحظات.
طنين—
انزلقت الأبواب لتفتح بعدها بلحظة.
وكانت تلك اللحظة نفسها التي انكشفت لي فيها الفوضى الموجودة خلف الأبواب.
“أستطيع أن أؤكد لك أننا سنقدّم لك أفضل الخدمات الممكنة! اسمعني جيدًا عندما أقول لك هذا… يمكنك أن تجرّب أي منافس آخر في السوق، لكنهم لن يتمكنوا من تقديم ما نقدّمه نحن. أؤكد لك هذا بحياتي.”
“ما رأيك بهذا؟ إذا اشتريتَ طرازنا الجديد X7، سأغطي لك تكلفة التوصيل. مباشرة إلى باب منزلك.”
“…اطمئن، منتجاتنا هي الأفضل في السوق. هذا مثبت من قِبل الـSNNSL. نعم، لدينا الشهادة.”
“الضمان؟ لا تقلق بشأنه. نحن نغطيك لمدة 10 سنوات.”
كانت فوضى.
فوضى خالصة.
تطايرت الأوراق في كل مكان بينما كان الناس يرتدون بدلات فوضوية يتجولون في كل مكان، ينظرون في الأوراق التي في أيديهم
رائحة الحبر والورق النفاذة كانت تملأ المكان، ومع نظري حولي، شدّ ابتسامة خافتة أطراف شفتي.
هذه الرائحة…
هذا الجو…
كان تمامًا كما أتذكره، فيما ثبتّ نظري على شخصٍ معيّن.
كان يجلس في حجرته الصغيرة، هاتفه ملتصق بأذنه، ويرتدي نظارات لإخفاء ملامحه. لكن بمجرد النظر إليه… كنت أعلم.
عرفتُ أنني أنا، وكأنه شعر بوجودي، فأدار رأسه سريعًا والتقت أعيننا.
بدا العالم وكأنه تجمد للحظة.
لكن… فقط للحظة، إذ أغلق عينيه وقال بصوت منخفض:
“أعتذر عن الإزعاج، لكنني لن أتمكن من خدمتك بسبب ظرف طارئ. سأحوّلك الآن إلى أحد زملائي. كما قلت… أعتذر.”
أغلق الخط بعد لحظة، ثم نهض من مقعده وأخذ معطفه.
“هاه؟ إيميت…؟ تغادر باكرًا؟”
“إيميت؟ ماذا تفعل؟”
“ما الذي بك؟”
تساءل الجميع من حوله، لكنه اكتفى بالابتسام والرد،"لا شيء… فقط سأخذ استراحة سريعة للتّدخين.”
مرّ بجانبي دون أن يعترف حتى بوجودي، وتوجّه نحو المصاعد. وعارفًا بنفسي جيدًا… لم أقل شيئًا ولحقت به إلى داخل المصعد.
وقبل أن تُغلق الأبواب، اندفعت يد فجأة وأوقفتها بضربة حادة.
بعد لحظة، دخلت امرأة ذات شعرٍ أشقر ناعم، ونمش، وملامح ليست جميلة جدًا.
“استراحة تدخين؟”
نظرت المرأة إلى إيميت… لكنه لم يُجب.
وكأنها معتادة على هذا النوع من “التجاهل البارد”، اكتفت بالابتسام والاتكاء على طرف المصعد.
ولمّا أُغلقت أبواب المصعد، بدأت ابتسامتها تتلاشى ببطء عن وجهها.
رفعت يدها لتفك ربطة عنقها، ثم نزعت نظّارتها، كاشفةً عن وجه مختلف تمامًا تحتها. كانت ملامحها مثالية، وشعرها الأشقر الناعم ينسدل على ظهرها، فيما ظهرت عينان ذهبيتان… عينان تشبهان شمسين صغيرتين.
وبمجرد أن وقعت عيناي على تلك النظرة، كاد قلبي يقفز من بين أضلعي.
اللعنة!!!
اجتاحتني الذكريات دفعة واحدة.
أتذكر!
بانثيا…
لقد كانت زميلتي اللعينة في العمل!
“بصراحة، لا أستطيع أن أصدق أنك ما زلت ترغب في العمل رغم أننا أصبحنا نحمل مسؤوليات أثقل. عليك أن تنظر إلى تورين. إنه أصغر منك، ومع ذلك، يعرف تمامًا ثِقَل الوضع. إنه يتنقّل يمينًا ويسارًا ليتحمّل معظم المسؤوليات التي كان من المفترض أن تكون عليك.”
ظل إيميت صامتًا، محدقًا في الأرقام الرقمية التي تُظهر الطوابق التي يتوقف عندها المصعد.
“هل ستستمر في تجاهلي؟”
بدت بانثيا منزعجة.
“أنت تعرف أن تورين ينظر إليك بإعجاب كبير، صحيح؟
ألن يكون من الأفضل لو درّبته بشكل أفضل؟ فهو ما زال صغيرًا. أصغر حتى من نويل. إنه غير ناضج بطريقته الخاصة، وإذا لم تُرشدْه جيدًا، سينتهي به الأمر—”
“لا يهم.”
تمتم إيميت أخيرًا، متحدثًا.
لكن كلماته لم تكن ما ترغب بانثيا في سماعه، فعبست.
“ماذا تقصد بـ لا يهم؟ بالطبع يهم! أنت، من بين الجميع، يجب أن تعرف قوة تورين وإمكاناته. كلانا يعرف جيدًا كم نحن محدودون في قوتنا. إنه أملنا الأكبر في هزيمتهم!”
“…أتعتقدين ذلك؟”
نظر إليها إيميت، ثم—ولوهلة قصيرة جدًا—حوّل نظره نحوي.
كان ذلك مجرد جزء صغير من ثانية، قبل أن يعيد نظره بعيدًا.
مستندًا إلى جدار المصعد، أكمل حديثه:
“حتى لو قُمتُ بتدريب تورين… فلن يغيّر ذلك شيئًا.”
“ولماذا تقول ذلك؟"
“…لأن السلطة ستفسدنا جميعًا.”
“هاه.”
غطّت بانثيا وجهها بيدها، وهي تتمتم أشياء من قبيل“السبب الوحيد الذي يمنعني من ضربك الآن هو أنني أحبك. اللعنة… كيف انتهى بي الأمر بالإعجاب بشخص مثلك؟”
وفي النهاية، هزّت رأسها.
“أنت تقول هذا دائمًا، لكنه لم يحدث بعد. ربما يكون كلامك صحيحًا، لكن هذا سببٌ أكبر لأن ندرّبه. لنساعده على الحفاظ على عقله، ونمنع القوة من التهام ذهنه.”
“…ربما.”
هذا كل ما استطاع إيميت الرد به بعد لحظة صمت قصيرة.
وهو ما جعل تعابير بانثيا تلتوي. وللحظة، بدا وكأنها تريد خنقه، لكن قبل أن تتمكن من ذلك، توقف المصعد وبدأت الأبواب بالانفتاح.
ومن دون أي تردد، أعادت نظارتها إلى مكانها ورتّبت ربطة عنقها.
“هذه المحادثة لم تنتهِ بعد.”
أُغلقت الأبواب بعدها بلحظة، وواصل المصعد صعوده حتى توقف مجددًا.
طنين!
استقبلتنا مجموعة من السلالم بمجرد أن فُتحت الأبواب، مما أدى إلى باب معدني في الأعلى. صعدنا الدرجات، وعندما دفع إيميت الباب، هبت علينا عاصفة من الرياح الباردة. وخلفه كانت تقع منطقة كبيرة وخالية.
ازدحمت المباني حولنا بينما أغلق إيميت الباب خلفه وسار نحو النهاية، مدّ يده إلى الدرابزين الرخامي وأخرج علبة سجائر بينما كان يحدق بغموض في اتجاه السيارات في الأسفل.
وفي تلك اللحظة، ألغيتُ [رثلء الأكاذيب] وظهرت أمامه.
هو… أو بالأحرى أنا، مدّ يده ليعرض علبة السجائر.
“سيجارة؟”
هززت رأسي.
“لا أدخن.”
“حقًا…؟”
فكرت قليلاً قبل أن أضيف“أحيانًا… لكنني أفضل عدم ذلك.”
“حسنًا، كما تشاء.”
أشعل إيميت السيجارة بولاعة عادية، ثم أخذ منها نفسًا، تاركًا الدخان يتناثر في الهواء.
نفخة
وقف بلا حراك، مستمتعًا بصمته وهو يتذوّق السيجارة قبل أن يتمتم"لقد قابلتَ أحدهم أخيرًا، أليس كذلك؟”
تجمّد وجهي لثانية.
ولوهلة، كدت أسأله'كيف عرفت؟'
لكنني سرعان ما تذكّرت من هو الشخص الذي أتحدث إليه… فابتسمتُ بمرارة.
“نعم.”
“أفهم.”
نفخة
أخذ إيميت نفسًا آخر من السيجارة، وقد ازدادت نظراته ضبابية.
وفي النهاية، تمتم بكلمة—أو بالأحرى… اسم.
“أخيرن.”
وبمجرد أن نطق به، بدا العالم وكأنه توقف تمامًا؛ تجمّدت السيارات في الأسفل، وكذلك الغيوم في السماء.
ولم تمر لحظة…
كراااك—!
تمدد الشق في السماء، وتدفقت طاقة مرعبة عبر المكان.
طاقة… شعرتُ أنها مألوفة بشكل غامض.
نفخة.
ومن دون أن يبدي أي اهتمام، أخذ إيميت نفسًا آخر من السيجارة بين أصابعه قبل أن يتمتم
“…الكارثة الثالثة."