رغم التغيّرات التي كانت تحدث حولنا والتوسع المفاجئ في الشق، بقي إيميت غير متأثر تمامًا.
نفخة
في الصمت الذي خيّم على المكان، أخذ نفسًا من السيجارة بين أصابعه. كانت حركاته لا بطيئة ولا سريعة، وأغمض عينيه للحظة قصيرة وكأنه يتذوّق طعم الدخان بتمعّن.
وفي النهاية، فتح عينيه مجددًا، وبدأ يتحدث.
“…يوجد ما مجموعه تسعة منهم.”
تلاشى خيط الدخان في الهواء.
“لا أحد يعرف عددهم الحقيقي، لكنني أعرف… أنا متأكد أن عددهم تسعة. وإن لم أكن مخطئًا، في المستقبل سيكونون ثمانية.”
“ثمانية..؟”
فكرتُ قليلًا قبل أن أتذكر شيئًا.
صحيح… نويل وبانثيا تمكّنا من قتل أحد الكائنات الخارجية!
ازدادت نظرات إيميت ضبابية وهو يتحدث. بدا وكأنه ينظر إلى مكان بعيد… حاضرٌ وغائبٌ في آنٍ واحد.
ماذا كان يرى؟
وفي النهاية، عاد شيء من الوضوح إلى عينيه، ثم تابع حديثه.
“هدفهم هو أن يحبسونا هنا حتى لا نصل إلى المصدر. يريدون الاحتفاظ بالمصدر لأنفسهم. أو على الأقل… هكذا أفسّر الوضع. ما زلت غير متأكد، لكن إن كان هناك شيء واحد أنا واثق منه، فهو تلك القوة…”
توقف إيميت، رافعًا يده نحو شفتيه ليأخذ نفسًا بطيئًا آخر. هذه المرة، ارتجفت عيناه الضبابيتان للحظة.
وارتجفت يده أيضًا.
“…ليست شيئًا قد يرغب أحدٌ بالحديث عنه. إنها مُعدية… مدمنة. وهي الجذر الحقيقي لهذا العالم كله… وللـكون ذاته.”
نفخة
“لهم عيون وآذان في كل مكان. رسّخوا تأثيرهم في كل ركن من أركان العالم، وكلمات قليلة قد تستفز انتباههم. وحتى الآن… على الأغلب أنهم يراقبون. يستمعون.”
ارتسمت ابتسامة ضبابية على ملامحه وهو ينظر نحو الشق.
نبض شيءٌ ما من داخله.
وكأنه يحذّره… لكن ابتسامته اتسعت بينما كان يرمي عقب السيجارة باتجاه الشق.
وبينما فعل ذلك، التفت لينظر إليّ مجددًا.
“لا تقلق كثيرًا. قد يستمعون… لكن ليس إن لم أرغب أنا بذلك."
تحوّلت عينا إيميت إلى البياض الكامل لجزءٍ من لحظة، وانطلقت قوّة غريبة من جسده. وبمجرد أن شعرت بتلك القوّة، تجمّد ذهني… إذ كانت مألوفة لي بطريقة ما، فأحبست أنفاسي.
المصدر…
ولم تمضِ لحظة حتى بدا وكأن شيئًا تغيّر من حولنا.
لم يكن التغيير ملحوظًا… لكنني استطعت أن أدركه.
نظرة الكائن خلف الشق…
لقد ابتعدت عنا.
ما هذا الـ…
“قد أكون أضعف من أنتَ الحالي… لكن اتصالي بالمصدر أقوى بكثير من اتصالك. في الواقع… لا يمكن حتى مقارنته.”
أضعف مني…؟
أيقظت العبارة دهشتي وقطعت حبل أفكاري، لكن قبل أن أطرح أي سؤال، بدأ يتحدث مجددًا.
“هل تعرف لماذا تم إنشاء بُعد المرآة؟”
جعلني سؤاله أتوقف.
هذا السؤال…
كنت أعرف إجابته جيدًا، لكنه بدا وكأنه سؤال استنكاري، إذ تابع كلامه مباشرة دون أن يمنحني فرصة للرد.
“إنه سجن. سجن صُمّم ليُبقيَنا محبوسين، دون أن يمنحنا ولو فرصة واحدة للهروب. وحتى لو تمكّنا من كسر قيود البُعد، فلن تتحمل أجسادنا العالم الحقيقي بعد ذلك. إنه سجن مُحكم التصميم، وُضع لضمان أننا لن نتمكن من الهروب أبدًا.”
ورغم أنني كنت أعرف الحقيقة مسبقًا، إلا أن سماعها منطوقة… وبصوتي أنا… جعل حلقي يجف.
إن كنتُ أنا من قال إنه من المستحيل الهرب، فهذا يعني حقًا أنه لا يوجد سبيل للهروب!
“أنا ” كان شخصًا رأى كل شيء. وبذلك، عندما يقول “أنا ” إنه لا يمكن الهرب… فهذا يعني أنه صحيح تمامًا.
“وهنا يأتي دور الكوارث الثلاث.”
تابع إيميت حديثه، وهو يخرج سيجارة أخرى ويشعلها.
نفخة
“أخيرن…فور’سايل…وليث’رون.”
للحظة، اهتزّت الأجواء من حولنا. الشق البعيد في السماء نبض بقوة، و”نظرة” ما انحرفت نحو اتجاهنا.
توقف قلبي عند هذا المشهد، واجتاحت جسدي قشعريرة رعب كاملة.
العالم، الذي كان صامتًا أصلًا، أصبح أكثر صمتًا.
لا ضجيج،لا صوت…لا شيء.
ساد توتر خانق في أرجاء المكان بينما استمرت "النظرة" في تمركز حولنا.
لكن لحسن الحظ، لم يدم طويلًا.
سرعان ما نظر بعيدًا، ونبض الشق في الهواء.
نفخة
وبلا أي اكتراث، اتكأ إيميت إلى الخلف وأخذ سحبة بطيئة من سيجارته.
“…هم مهندسو بُعد المرآة، والوحيدون القادرون على التأثير على العالم نفسه.”
انعقد حاجباه قليلًا بينما كان ينظر إلى الشوارع أسفلنا.
“المصدر يعيش على وجود وإيمان جميع الكائنات الحية. إنه المفتاح لكل شيء.”
“الإيمان…؟”
“همم. بالفعل.”
ضغط إيميت شفتيه، ووجهه الشاحب ينصرف عن الشوارع أدناه ليعود بنظره نحوي.
حين حدّقت فيه، وجدت صعوبة في تقبّل أن الرجل الواقف أمامي… هو أنا.
كنت أعلم أنه أنا، ومع ذلك…
كان يبدو كشخص مختلف تمامًا.
هو…
لم يكن يبدو وكأنه ينتمي إلى هذا العالم من الأساس.
“المصدر هو الحاكم الحقيقي. لا يهم أي حاكم يختاره المرء للعبادة، فكل الإيمان يصبّ في النهاية في المصدر، ويحافظ على التوازن.”
بدأت عيناي تتسعان.
“كلما كان الكائن أكثر وعيًا وإدراكًا لذاته، كان إيمانه أقوى، مما يدعم توازن المصدر. أخذُ حياةٍ كهذه يخلّ بذلك الانسجام، وعندما يُقتل هذا الإيمان، يضعف المصدر. وهذا ينطبق بشكل أكبر إذا كان هؤلاء الكائنات قد اكتشفوا طريقة للاتصال بالمصدر أو لمسه. قتلهم لن يؤدي إلا إلى إضعاف المصدر. لهذا السبب نحن مسجونون بدلًا من أن نُقتل. هذه هي الحقيقة الكاملة وراء كل شيء.”
وقفتُ بصمت، أستوعب المعلومات بهدوء.
لم أفكر في الأمر كثيرًا في الماضي، لكن كل شيء أصبح منطقيًا فجأة. السبب وراء حبس الكائنات الخارجية للحكام بدلًا من قتلهم، إلى جانب بقية البشر.
وأصبح من الواضح أيضًا لماذا سُمح للبشرية بالظهور من جديد.
المصدر يحتاج إلى “الإيمان”.
لم يكن الأمر غرورًا منهم، ولا نظرة دونية للبشر… بل كان القضاء على جنسٍ كهذا يعني أنهم سيصبحون أضعف، لأن الكائنات الخارجية مرتبطة بالمصدر.
ولكن… كان ما يزال هناك شيء يثير فضولي.
“ماذا عن الكوارث؟ لم تُعطني شرحًا حقيقيًا بعد.”
كان إيميت قد ذكر شيئًا عن “المهندسين” و”الوحيدين القادرين على التأثير في العالم نفسه”، لكن… ما الذي يعنيه هذا تحديدًا؟
“يعني ما قلته.”
نفخة
أخذ إيميت نفسًا هادئًا وبطيئًا، ثم أغلق عينيه قبل أن يزفر الدخان في الهواء.
“…ليس من السهل دخول هذا العالم. مهما كانت قوة الكائنات الخارجية، فدخول الأرض ليس مهمة بسيطة. الوحيدون القادرون على تحقيق ذلك هم الثلاث كوارث. يستولون على أجساد بشرٍ عاديين، ويصيبون عقولهم وأجسادهم بصمت… إلى أن يسيطروا عليهم بالكامل، ثم يفتحون بوابات يمكنهم من خلالها الدخول إلى العالم وتحطيم البُعد من الداخل، مما يخلق بُعدًا مرآتيًا جديدًا.”
نفخة
“وما يجعلهم مرعبين حقًا هو أنه حتى لو تمكنت من العثور على الكوارث… لا يمكنك إيقافهم. في اللحظة التي تقتل فيها المضيف، تنتقل الكائنات الخارجية ببساطة إلى جسد آخر. وبمجرد حدوث ذلك، يصبح العثور عليهم مرة أخرى شبه مستحيل. لهذا، بدلًا من قتالهم، يكون الهدف هو احتواؤهم. هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله ضدهم.”
ازدادت عينا إيميت ضبابية وهو يتحدث.
للحظة قصيرة، توقّفت يده في منتصف الحركة وهو على وشك أن يأخذ نفسًا من السيجارة، وومضت عيناه، ثم شحب وجهه.
علمتُ فورًا أنه على الأرجح كان يشهد رؤية.
لا… رؤيتين.
…أو ربما أكثر.
كانت لا نهائية. متواصلة.
وهي السبب الذي جعلني أفقد عقلي في النهاية.
لكن هذا لم يكن شيئًا يمكنني إيقافه.
بدلًا من ذلك، ركّزتُ أفكاري وانتباهي على كل ما سمعته للتو.
الكثير من الأمور بدأت تتضح.
هذه كانت المرة الأولى التي أسمع فيها إجابات دون الحاجة إلى البحث عنها بنفسي، بعد شهور من التقصّي. لكن بعد سماع كل شيء… لم أعد متأكدًا إن كان هذا أمرًا جيدًا.
'…الشيء الوحيد الذي يمكننا فعله هو احتواؤهم؟'
فكّرت في ما حدث مع إيفلين، وهبط قلبي.
كان واضحًا لي الآن.
كان “أنا ” قد استخدم الرؤى في المستقبل لمعرفة من هم الكوارث. ربما، من خلال بعض الترتيبات، كنتُ قد “دبّرت” سيناريوهات معيّنة لأضمن أن أكون أقرب إلى الكوارث وأمنعهم من الاستيقاظ.
كانت مهمة النظام شيئًا قد رتّبته لهذا السبب تحديدًا.
لكن هذا ما زال يجعلني أتساءل عن السبب الذي جُلبتُ من أجله إلى هنا!
لقد استخدمت الورقة الثالثة قبل لحظة واحدة فقط من تحوّل إيفلين.
كان ذلك محاولة أخيرة للحصول على المزيد من الوقت لمعرفة الوضع.
لكن الآن…؟
ماذا كنتُ من المفترض أن أفعل الآن بعدما كانت إيفلين على وشك أن تتحول؟
إذا كان ما سمعته للتو صحيحًا، فالعالم كان على بعد خطوة واحدة فقط من الخراب الكامل.
وأنا أيضًا سأموت، بالنظر إلى القوة التي شعرت بها.
شيء ما. أي شيء…
كنت بحاجة إلى التفكير في طريقة لحل هذه الفوضى.
“لا داعي لأن تقلق كثيرًا.”
دوّى صوتٌ مرة أخرى، قاطعًا أفكاري، فوجدتُ إيميت يحدّق بي بتلك العينين الضبابيتين كما من قبل. لا… بل بدقّة أكبر، كانت عيناه أكثر ضبابية من قبل. لقد بدتا تقريبًا… بيضاوين.
“يجب أن تستيقظ الكوارث الثلاث جميعها حتى يتشكل البُعد التالي. كل واحدة منها عنصر أساسي في صنع ذلك السجن، و…”
توقّف إيميت، حاجباه ينقبضان بقلق وهو يتمتم،
“…هذه المرة، سيكون الأمر مختلفًا كثيرًا عن الماضي. سيكون سجنًا لن يتمكن أيٌّ منا من الهرب منه أبدًا، حتى لو حاولنا مجددًا.”
أخذ نفسًا عميقًا، ويده المرتجفة ارتفعت نحو شفتيه محاولًا أن يسحب نفسًا من السيجارة، قبل أن يتوقف بعد أن أدرك أنها قد انتهت.
وكان ذلك أيضًا اللحظة التي قال فيها
“…لقد تعلّموا من أخطائهم."