132 - مغادرة الزنزانة

132 – مغادرة الزنزانة

في الزنزانة المظلمة، تكلم باسل موجها كلامه لأبهم: "بالمناسبة، شكرا على اعتنائك بي. أنا أكره أن أبقى بملابس قذرة كثيرا. و خصوصا تلك المتلطخة بالدم."

ابتسم أبهم ثم قال: "آه، لا بأس يا سيدي. المهم هو أنك بخير الآن."

ظهر على باسل وجها متذكرا لشيء ما فقال: "بما أنك قلت هذا، لاحظت أن جسدي و بحر روحي قد استخلصا بعض الأدوية و الأعشاب الطبية. هل يمكن أن لمياء هي من قامت بذلك؟"

أجاب أبهم: "لا، لم تقم بذلك بنفسها، فأنا رأيتها لأول مرة مثلك. لكنها أرسلت آسي القبيلة ليعالجك."

أزال باسل الملابس التي ألبسه أبهم و التي كانت عبارة عن جلباب أسود، ثم استبدله بملابس بيضاء، سترة بيضاء و سروالا بنفس اللون مع بعض الزخارف الذهبية على الأطراف.

حدق به أبهم مستغربا فقال باسل بعدما لاحظه: "آه، أنا أحب الأبيض. شكرا لك على كل حال."

كانت السلاسل التي تقيد باسل غير موجودة عليه بعد الآن، لكنه كان لا يزال بالزنزانة مع أبهم. قال هذا الأخير سائلا: "يا سيدي، ما الذي تنوي فعله إن لم تنجح خطتك؟"

قال باسل بعدما توجه إلى زاوية من الزنزانة و بدأ يتفحصها: "لا تقلق، غالبا ما يكون حدسي صحيحا. شخص بإمكانه التأثير على القبيلة بأكملها، أكيد سيكون من الكبار الخمس." و بما أن لمياء أخبرتهما بأن ليس هناك أي شخص ارتفعت مكانته قبل خمسين سنة أو على مدار السنين الأخيرة بشكل مفاجئ، كان باسل متأكدا بنسبة كبيرة أن عائلة غرين استغلت هذا الشخص فقط و لم توفي بوعدها له.

ضاقت عيني باسل محدقا بالنقوش التي تمتد عبر زوايا سقف الزنزانة، إنها زنزانة سحرية بلا شك، لكنه لاحظ بعض أنماط النقوش الأثرية. لم تكن كثيرة، و لا يمكن حتى تمييزها إن لم تدقق كثيرا. و مع ذلك، لم يكن ممكنا عدم ملاحظتها. كان هناك حوالي ثلاث أنماط أثرية من مئات سحرية.

تمتم باسل: "لا شك في أن شخصا ما اكتشف كنزا ما أو بطريقة ما حصل على بعض المعرفة حول النقوش الأثرية ليكون قادرا على نقشها هنا مع أنها ليست بتلك الاحترافية." هذا الأمر أثار اهتمام باسل قليلا.

كانت قبيلة حاكم الأرض واحدة من القبائل الخمس الكبرى و التي تشمل بعض العشائر. كانت عشيرة لمياء اسمها الغبراء المظلمة. كانت هي العشيرة صاحبة الزعامة على قبيلة حاكم الأرض لعدة أجيال متتابعة. لم يكن الزعيم يقرر بالنسب و إنما بالجدارة.

و كذلك هو حال القبائل الأربع الكبرى. لطالما تغيرت القبائل الخمس الكبرى عبر الأزمان. كلما كان زعيم القبيلة أكثر جدارة كلما كانت له فرصة أكبر في الغدو هو و قبيلته من الأوائل الخمس.

كان لباقي القبائل الأربع زعماء رجال، فكانت لمياء هي المرأة الوحيدة التي صنعت مكانة لها بينهم. لذا كان هناك الكثير من لا يعجبه الحال فحسد و احتقر قبيلة حاكم الأرض و خصوصا عشيرة الغبراء المظلمة جنبا إلى جنب مع كبيرة العشيرة لمياء.

كانت القبائل الأربع تدعى بالأسماء التالية: حاكم الجو، حاكم الرياح، حاكم المياه، حاكم النيران. تعتبر قبيلة حاكم الجو أقدم قبيلة بالخمس الأوائل. لذا كان نفوذها أكبر من البقية الأربع. استمرت في المحافظة على مكانتها لآلاف السنين. بعدها تأتي قبيلة حاكم الرياح التي أصبحت من الخمس الأوائل قبل خمسمائة سنة فقط و بجدارة. لم يتجرأ أي أحد على النظر لزعيمها بانحطاط. بعدها قبيلتا حاكم المياه و حاكم النيران، هاتان لم يكونا قديمتين و لا حديثتين. و لم يبرزا كثيرا مما جعل مركزهما مستهدفا في السنين الأخيرة.

خصوصا قبيلة حاكم النيران، بدأ البعض يتوقع سقوطها من مركزها بسبب عدم ظهور أي مواهب راقية في السنوات الأخيرة. و زعيمها الحالي قد بلغ المائة بالفعل و لم يتبقى له الكثير. عندها، سوف تتنحى من المنصب بكل تأكيد.

بعدما أخبرت لمياء باسل بهذه الأشياء، وقع ظنه على قبيلة حاكم النيران بما أنها الأكثر عرضة للإغراء. لكنه لم يضع كل هذا في عقله. قد تكون معرضة للإغراء أكثر، لكن هذا لا يعني أنها بالضرورة الخائنة. المظاهر خداعة. و قد لا يكون كل ما تراه عيناك حقيقة. فالعالم مليء بالكثير من الأشياء الواهمة.

لم يكن لباسل أي خطة مستعصية، ففي الحقيقة، خطته كانت بسيطة جدا لدرجة انصدام أبهم و لمياء عند سماعها.

انعزلت القبائل عن العالم لمدة طويلة للغاية. و لم يكن هذا الانعزال بسيطا. بعد انتهاء الحرب. قطعت كل مواصلاتها حتى مع إمبراطورية الأمواج الهائجة التي كانت بالطرف الآخر من الوكر. فوكر قبائل الوحش النائم و السلاسل الجبلية الحلزونية كانا عبارة عن جزء من الحدود التي تفصل إمبراطورية الشعلة القرمزية عن إمبراطورية الأمواج الهائجة.

عندما كان باسل يدقق في زوايا الزنزانة، اعتلته ابتسامة مستمتعة جعلت أبهم يسأل: "بالمناسبة، ما الذي تفعله يا سيدي؟"

التفت باسل ثم قال: "آه، إنني..."

فجأة، توهج خاتم تخاطر باسل قليلا كما أحس بطنين خفيف غير مزعج بعقله. تلقى اتصالا جعله يتوقف عن الكلام ليجيب. و بعد التكلم لقليل من الوقت قال: "أنا أيضا أيها المعلم. و سوف آتي بعد قليل من الوقت." ثم انقطع الاتصال بعدها فعبس باسل قليلا و ضاقت عينيه قبل أن يحدق في أبهم الذي لم يعلم ما الذي حدث لباسل بما أن هذا الأخير كان يتكلم عبر خاتم التخاطر و لم تُسمَع المحادثة التي جرت بينه و بين الطرف الآخر.

قال باسل: "يجب أن أغادر يا أبهم."

صنع أبهم وجها غافلا فقال: "ها؟ تغادر؟ ما الذي تقصده يا سيدي؟"

أخرج باسل بعض أحجار الأصل من مستوى مرتفع و منخفض. أخرج الكثير منها بمختلف مستوياتها حتى جمع قدرا معينا. عندها أظهر مسحوق أحجار الأصل و الذي كان بنصف كمية أحجار الأصل التي أخرجها تقريبا ثم بعد ذلك فرن و بعض الأعشاب. بدأ باسل في صنع الإكسيرات مما جعل أبهم يتفاجأ.

بعد مدة معينة، حاوالي الأربع ساعات، وقف باسل أخيرا على قدميه بعدما كنت يديه مدهونتين بطلاء غريب متوهج، تألق هذا السطوع بلون أزرق فاتح أقرب للأبيض باعثا هالة تشبه تلك التي تنتج عن التقاء هالتي ساحر بهالة وحش سحري. صنع باسل هذا المدهون جنبا إلى جنب مع الإكسيرات.

حدق أبهم في باسل غير مدرك لما يفعله. أما باسل، فذهب للنقوش المرسومة على طول الزنزانة و بدأ يعدل عليها بطاقته السحرية الخالصة و المدهون الغريب على يديه. بدا كما لو أنه يفك أحجية ما و كانت نظراته مستمتعة بالرغم من عدم ابتسامته بسبب انشغال باله بشيء آخر.

توهجت النقوش بسقف الزنزانة و بزواياها واحدة تلو الأخرى و في كل مرة ينجح فيها باسل بفك نمط منها يتصل الوهج بالنمط الآخر لينتقل له باسل. كان هذا الأخير سريعا للغاية في عمله و قام بفك العشرات من أنماط النقوش السحرية بسرعة كبيرة تاركا أبهم غير مدرك كيفية قيامه بذلك.

تذكر عندها أبهم تدقيق باسل سابقا في النقوش، فهم أنه كان يدرسها في تلك اللحظة.

في الواقع، لم يكن باسل يدرسها من أجل فكها، و إنما لأنه كان يتمتع بهذا فقط. لكن بعد الاتصال الذي أتى من معلمه، قرر فكها ليغادر.

واصل باسل فك النقوش السحرية حتى وصل أخيرا لأول نقش أثري. لم يكن هذا النقش الأثري أو الآخران صعب على باسل فكهم. لكنهم أخذوا من وقته أكثر من الذي أخذه بفك النقوش السحرية من دون شك. لو كانت هذه النقوش الأثرية تحتوي على أنماط معقدة كثيرا لأخذت من باسل وقتا طويلا. فحتى هو مجرد مبتدئ فيما يتعلق بالنقوش الأثرية، و يجب عليه دراستها لمدة طويلة قبل يكون باستطاعته فكها.

توهجت زوايا الزنزانة و سقفها ثم مر السطوع المشع حتى وصل لبوابة الزنزانة فبدأت النقوش التي عليها تتوهج هي الأخرى و تتحرك في اتجاهات مختلفة ملتقية ببعضها البعض صانعة مسارا للوهج حتى يبلغ وجهته.

وصل الوهج أخيرا للختم الموجود على بوابة الزنزانة فسُمِع كسر صغير جاعلا الوهج يختفي من الزنزانة بأكملها معلنا بذلك انفتاحها.

حدق أبهم بغرابة في باسل الذي أخرج حوالي خمسة عشر قنينة. كانت هذه القنينات تحتوي على الإكسيرات التي صنعها. قال باسل: "لقد صنعت هذه القنينات لتعطيها لرؤساء القبائل بعدما تنجح الخطة."

استغرب أبهم ثم قال: "بعد نجاح الخطة؟ لكنك قلت أنك مغادر ! "

قال باسل: "بالطبع أنا كذلك. لذا سوف أترك الأمر بيديك." ابتسم باسل ابتسامة جعلت جسد أبهم تصعد معه القشعريرة ثم أكمل: "أنا أعتمد عليك ! "

كان صنع الإكسيرات و فك الختم عملا متعبا نوعا ما، فهي تستهلك الطاقة السحرية الخالصة و التي تنتج عبر تحويل الساحر طاقة عنصره السحري لطاقة سحرية خالصة. هذا الأمر يكون متعبا لوحده، و بعد إضافة استخدامها في صنع الإكسيرات و فك النقوش السحرية و الأثرية، يصبح الأمر أكثر إرهاقا لبحر الروح و الجسد معا. لذا تنفس باسل ببطء محاولا استجماع أنفاسه قبل أن يقرر الإقلاع.

في ذلك الوقت، حدق به أبهم بينما يقول بنظرة مرتعبة: "ما الذي سأفعله مع السيدة لمياء بعدما تعرف ما حدث؟"

تكلم باسل مع تلك البتسامة مرة أخرى: "هذا الأمر عائد لك، أوَ لست تميل لها؟"

"ها؟" صرخ أبهم من دون أن يشعر و قال: "ما الذي تقوله يا سيدي؟" تمتم مكملا: "كيف لي أن أحب تلك المرأة الشرسة؟ لن أنام بالليل مرتاحا لو كانت بجانبي ! "

ضحك باسل و قال: "لم يبدو لي هذا. المهم، أنا ذاهب." وقف باسل و استعد للانطلاق.

قال أبهم عندها: "ماذا لو فشل الأمر يا سيدي؟"

أجاب باسل مبتسما غير ناظر ناحية أبهم: "لن يحدث هذا. فلم آتي بك إلى هنا من فراغ. أنا أعرف أنك ممثل جيد. لا تحاول التهرب."

"أه ! " أخرج أبهم هذا الصوت الغريب كما لو أنه أدرك شيئا و قال: "هل يمكن أنك أتيت بي إلى هنا من أجل هذا الغرض فقط؟"

ابتسم باسل ثم قال: "و لم تظنني سوف أختار مرافقة شخص ما برحلة على أن آخذها لوحدي؟"

بقوله ذلك خرج باسل من الزنزانة بعدما تنفس لمدة ثم دار لليمين و أشعل نارا ليضيء المكان قليلا، فإذا به يجد أن هناك زنزانات أخرى لكنها فارغة. و في نهاية الطريق أمامه يوجد ضوء معلنا بأن ذلك هو المخرج.

تموضعت قدم باسل على الأرض ثم اختفت في غمضة عين مخلفة وراءها حفرة أعرض من تلك التي صنعتها لمياء بلكمتها لكن بعمق أقل. و في لحظة كان باسل قد اختفى من أمام ناظر أبهم الذي بقي صانعا وجها غريبا بسبب عدم تجاوبه مع الأحداث التي وقعت بسرعة. قال أبهم: "إلى أين هو ذاهب يا ترى؟ هل هو أمر أهم من هذا."

انطلق باسل بسرعة كبيرة مستخدما الفن القتالي الأثري فقاد الرياح ثم ركبها حتى واكبها. وصل لنهاية الممر في لحظة و خرج ليجد نفسه في الهواء. و عندما التفت وجد أنه كان بداخل كهف بجبل، و ليس ذلك هو الكهف الوحيد الموجود، كانت هناك كهوف عدة على طول الجبل. ففهم باسل من ذلك أنها سجن قبائل الوحش النائم.

كان هناك حارسان يقفان عند نهاية الممر المؤدي للزنزانة، كان يرتدي كل واحد منهما قناعا على شكل جمجمة حيوان مع ارتدائهما ملابس بالأسفل فقط إضافة لوجود بعض الوشوم على جسديهما. و عندما خرج باسل، لم يستطيعا رؤيته حتى أصبح طافيا في الهواء. فصرخا: "أيها... إلى أين أنت..."

*بووم*

انفجرت النار من جهة باسل مما جعل صوت الاثنين غير مسموع. بعدها، لم يعد هناك باسل أمامهما و اختفى كليا.

"بلغ الزعيمة، إن هذا أمر طارئ."

كان أبهم يجلس في الزنزانة متربعا متدبرا حتى أتت لمياء ثم وقفت أمامه. فتح أبهم عينيه و قال بابتسامة مسترخية كما لو أنه لم يحدث شيئا مع رفعه ليده تجاه لمياء: "أهلا... ! "

ومض ضوء قارس من عيني لمياء، و مع ذلك حافظ أبهم على ابتسامته تلك. لكنه في الحقيقة لم يحافظ عليها لأنه أراد، بل لأنه تجمد في مكانه و بدأ يتعرق.

من تأليف Yukio HTM

باقي الفصول بالمدونة:

https://yukionovels.blogspot.com


أتمنى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأي أخطاء إملائية أو نحوية

إلى اللقاء في الفصل القادم

2018/03/07 · 985 مشاهدة · 1788 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024