172 - يأس

ظهرت تعبيرات خوف على وجه هدّام الضروس للحظة، واختفت في اللحظة التالية بحيث لم يلاحظها أحد. وفي قرارة نفسه، كان يعلم تماما خطورة الموقف الذي أصبح فيه، فومضت الكثير من الذكريات في عقله ومرّت بسرعة كبيرة كأنّها شريط به صور من حياته الخاصة يعرَض أمامه.

كانت تلك الذكريات تبدأ من اللحظة التي بدأ يتذكّر فيها الأشياء إلى الآن. كان ذلك شعورا غريبا للغاية ولم يسبق له أن اختبره. كان الخوف كمجرد دهشة سريعة مقارنة به.

مرّت تلك الذكريات وحملت معها ثقلا كبيرا على قلبه. تذكّر كلّ تلك اللحظات التي رأى فيها اليأس، ثم وجد الأمل، فتحطّم وتكرّرت الدورة حتّى لقي الخلاص. كانت اللحظة التي وجد فيها قدوته، ومثله الأعلى، وهدفه الأسمى.

في ذلك اليوم الذي اعتبِر كأسوء مرّ على العالم الواهن، كان أفضل يوم في حياة طفل في ذلك الوقت. فعندما عدَّ معظم سكّان هذا العالم الدمار الشامل الذي حلّ عليهم قبل خمسة سنة كارثة مأساويّة، كان بالنسبة لذاك الطفل لحظة عثر فيها على ما احتاجه وأراده.

قبل عشرين سنة، في أحد القرى البسيطة بإمبراطوريّة الشعلة القرمزية، ازداد طفل بعينين دهماوان، وبشعر رطوبته كالحرير، وسمرة كقمر بين النجوم. كان هذا الطفل متميّزا منذ مولده، سواء من حيث جماله، أو شخصيّته الحادّة والقويّة، أو عبقريّته المتميّزة عن باقي أقرانه.

فلمّا بلغ الطفل الرابعة، كان يتكلّم بطلاقة، وتعلّم لغة العالم الواهن الموحّدة وبعض اللغات القديمة التي لم تعد تُستَعمل. حلّ أحاجي وألغاز عجز الكبار عن فكّها، وكان ملكا بين أقرانه من الأطفال. ولكن لسوء حظّه وُلِد في عائلة في أدنى درجات المجتمع.

ومع ذلك، لم يكن ذلك بمشكلة للطفل العبقريّ إطلاقا، فهو عاش حتّى بلغ الخامسة بهناء محاطا بوالده السكير ووالدته بائعة الهوى، إضافة لأخته الصغرى التي كانت دائما تتبعه في كلّ مكان، ولا تفارق جانبه أبدا. كان أخوها قدوتها، واحترمته كثيرا. فمع أنّها كانت بالرابعة فقط إلّا أنّها شابهت أخاها في الذكاء قليلا، وفي الجمال كثيرا، ولكنّ جمالهما هذا كان مختلفا.

كانت أخته الصغرى بشعر أبيض وعينين بنفس اللون، وببشرة بيضاء ناضرة تزهي العين الناظرة. كانا يبدوان كتوأم متعاكس. وبالطبع، علم الفتى أنّ أخته هذه كانت أختا غير شقيقة له، ولكنّه اعتزّ بها وكانت أغلى ما ملك.

عاش الفتى مع أخته لا يلقي بالا لوالديه اللذين اعتقد أنّهما يستحقّان أن يكونا بأدنى درجات المجتمع. فلم يكن والده السكير يعود للمنزل إلّا لأخذ النقود من أمّه، ولم تكن هذه الأخيرة تقاومه أبدا أو تحمي ابنيها من غضبه، بل تتركه يتعدّى عليهما حتّى تنجو من غيظه، وتذهب لجني المال من جديد.

تحمّل الابن المعاناة والحياة التي عاشها في سنواته الخمس الأولى كأنّها لا شيء. كان سنده الوحيد هو وجود أخته، وعقليّته الكبيرة عنه بكثير. كان متأكّدا من أنّ كلّ تلك اللحظات التي يمرّ بها ستختفي بمجرّد ما أن يصل للسنّ المطلوب للدخول إلى أكاديميّة السحر. وعندئذ سيوفّر لأخته أفضل حماية ومعيشة بحيث لن تخاف من أيّ شيء آخر مستقبلا.

كان دوما يحمل نظرات حادّة تعتبر المحيطين به مجرد قاذورات لا تصلح للمرور بجانبها حتّى، واستُثنِيَت أخته الصغرى من ذلك، إضافة لشخص آخر. كان هذا الشخص عبارة عن تاجر لا يعلم الفتى عنه شيئا لكنّه كان يحمل معه قصصا مشوّقه أعجبته.

كان هذا التاجر ساحرا بالمستوى الأول، فكان أحد الأشياء التي يتحمّس لها الفتى في العالم المملّ الذي يحيط به. وأصبحت هناك مكانة مرتفعة لهذا التاجر في قلب الفتى. فكان يتردّد عليه في كلّ مرّة يأتي فيها التاجر إلى القرية.

وذات يوم، مرّت بالقرية عائلة نبيلة. كانت القرية تحت حكم هذه العائلة لوقت طويل، وبين تارة والأخرى كان رئيسها يزورها. لم يكن هناك شخص لا يعرف سبب قدوم هذا الرئيس أو أتباعه إلى القرية.

فعندما كانت يُسمَع خبر قدومه، كان الأطفال يختبئون وخصوصا الأجمل والموهوب منهم. كان يُعرف رئيس هذه العائلة بتجارة البشر، وخصوصا الأطفال. كان يبيع ما يريد منهم ويحتفظ بما يشتهي منهم.

كانت زياراته تتردّد أشهر بعد الأخرى، ولكنّ تلك المرّة كانت زيارته مختلفة نوعا ما عن سابقاتها. أتى يبحث عن صفات محدّدة من الأطفال.

تكلّم شخص بعربة ما: "من يريد مثل هذه الصفات النادرة؟ إنّه صعب جدّا العثور على مثل هذه العيّنات يا سيّدي."

جلس أمام الشخص الذي تحدّث رجل يبدو في الستينات منه عمره. كان هذا الرجل الكبير كبير الجسد أيضا، ولم يفارق اللحم فمه أبدا، ولا يديه. عضّ اللحم بفمه وداعب محظياته اللائي حملن طعامه. كانت المحظيات مجرّد فتيات صغيرات لا يتجاوز عمرهنّ العشر سنين، وأصغرهنّ كانت في السادسة.

أجاب الرجل الكبير ببطء وملل: "لا تقلق. هناك بائعة هوى قالت أنّها تعرف طفلين لا يهتمان بهما والديهما. أمرت رجالي بالبحث في هذا الأمر جيّدا، واستطعنا تأكيد كلامها. لا شكّ في أنّ هاتين العيّنتين أفضل ما تلقّينا حسب المعلومات التي وصلتني."

حدّق إليه الشخص أمامه باهتمام ثم قال: "أوه، هذا مذهل. ومن يريدهما؟"

ضرب الرجل الكبير مؤخّرة إحدى محظياته لأنّها تأخّرت قليلا في إطعامه، وعضّ ما منحته له. بلع الطعام ثم قال: "ومن سيكون غيره في ظنّك؟ إنّه الشخص الذي يمنحنا حرّيّة القيام بما نشاء هنا."

ابتسم الشخص أمامه ثم قال: "أوه، إنّه الأمير الأول غرين هيملر إذن ! لم أكن أعلم أنّ لديه هذه الاهتمامات."

أجاب الرجل الكبير: "لا. لا أظنّه يحتاجهما لتلبية رغباته الجنسية. لدى ذلك الأمير نوع مفضّل آخر. على الأغلب اشترك في إحدى التجارب مع أغنياء عالم الإجرام وطلب مساعدتنا، فهو يعلم أنّنا نقدّم له الأفضل دائما."

"هاهاها." ضحك الشخص أمامه ثم قال: "معك حقّ. ولكن ما أدهشني هو قدومك هذه المرّة شخصيا. هذا يحدث إلّا قليلا. هل هو بسبب هاتين العيّنتين؟"

ابتسم الرجل الكبير ثم نظر إلى محظياته واحدة تلو الأخرى، وقال أخيرا بنظرات مهووسة: "لقد كنت أبحث عن واحدة مثلها مؤخّرا. فلقد سمعت أنّ أميرة إمبراطوريّة الأمواج الهائجة التي ولدَت مؤخّرا لديها نفس صفات الجمال." سال لعاب الرجل الكبير، فاسترجع نفسه بعد قليل من الوقت ثم ضرب إحدى محظياته على مؤخّرتها وقال بغضب: "تتركين لعابي يسقط؟"

حدّق إليه الشخص أمامه بنظرات فارغة غير مهتمّ بما يحدث، وسأل مرّة أخرى: "إذن، من هاتين العيّنتين؟ قد يكون لي علم عنهما." وبعدما انتهى من الكلام، تذكّر ما قاله الرجل الكبير وتغيّرت تعبيراته قليلا كأنّه خائف.

داعب الرجل الكبير محظياته الصغيرات ولم يكلّف نفسه عناء النظر إلى الشخص أمامه، وقال: "إنّه فتى معروف بهذه الأنحاء اسمه أدهم، وأخته الصغرى – سبب مجيئي – أريحا."

وفي لحظة، اسودّت تعبيرات الشخص أمامه بعد ذلك الكلام. شعر بالهلع فجأة وبقي على ذلك الحال لمدّة طويلة، ولحسن حظّه لم يلاحظه الرجل الكبير المنشغل بمحظياته، ولكنّ ذلك لم ينطبق عليهن. صُدِم ذلك الشخص تماما لمّا سمع ذلك، وعاد إلى صوابه فقط عندما اصطدمت العربة بحجر في الطريق.

نزل هذا الشخص من العربة، واعتذر من الرجل الكبير: "آسف يا سيّدي، ولكنّي نسيت أنّ لديّ موعد مع أحد التجار الكبار هذه الليلة. سوف أعوّضك في وقت لاحق."

اتّضح أنّ هذا الشخص شخص كان تاجرا، ولكن ليس أيّ تاجر عادي، لقد كان التاجر نفسه الذي أعجِب به الفتى كثيرا. انطلق هذا التاجر الذي كان ساحرا بالمستوى الأول بأقصى سرعة يملك نحو مكان محدّد.

وفي ذلك الوقت، داعب الرجل الكبير إحدى محظياته بينما يقول: "أحسنتِ، أحسنتِ. سأكافئك في وقت لاحق." ربّت على على رأس الفتاة الصغيرة، وحمل تعبيرات مشمئزة عكس ما يقوله. عضّ اللحم مرّة أخرى وأمر: "اتبعه وأخبرني بما ينوي عليه."

تحرّك ظلّ في الخفاء متتبّعا التاجر الذي غادر.

وصل التاجر أخيرا إلى مخبأ في أحد الجبال المحيطة، وبعدما دقّ في حائط كهف ثلاث دقّات بإيقاع معيّن، انزاحت صخرة كبيرة عن مدخل الكهف، فظهر فتى أسمر مبتسما. قال الفتى: "هل أتيت بقصص مثيرة للاهتمام مرّة أخرى أيها التاجر؟"

انقض التاجر بسرعة على الفتى وتحسّس وجهه، كما لو أنّه يتأكّد ما إن كان حقيقيّا. فعل نفس الشيء لأخت الفتى الصغرى وأغلق بعد ذلك الكهف بسرعة كبيرة.

تكلّم بسرعة خائفا: "أيا أدهم، جئ إلى هنا. اسمع جيّدا ما سأقوله لك وطبّقه حرفيّا. لا يجب أن نتأخر أكثر من هذا."

"ما بالك أيها التاجر؟" تقدّم نحوه الفتى ببطء: "ليس من عاداتك التسرع."

أمسك التاجر يد الفتى أدهم بعنف وجرّه عنده: "أيْ أدهم، ركّز معي جيّدا. ألا تريد إنقاذ أختك؟"

أصبحت تعبيرات الفتى أدهم جدّية كثيرا بعدما سمع ذلك الكلام وجلس متصنّتا إلى التاجر بعناية. مرّ قليل من الوقت وتقرّر ما سيفعلون.

حمل التاجر نظرات عبوسة ثم قال بعدما أطال النظر إلى الفتى وأخته الصغرى أمامه: "افعل بما اتّفقنا عليه ولا تقم بأيّ شيء أحمق. سوف أحاول إماطة الباحثين عنكما بكلّ ما أملك. سنلتقي بمكاننا المعتاد." لقد كانا هذان الطفلان مثل ابنيه بالنسبة له، واعتزّ بهما جدّا، فلم يستطع التخلّي عنهما وهرع إلى هنا من أجل إنقاذهما فور سماعه باستهدافهما.

ابتسم الفتى أدهم، ثم قال للتاجر: "إنّك شخص جيد أيها التاجر. سوف أجعلك من أكبر التاجرين عندما أكبر."

ابتسمت الأخت الصغرى وأكملت ما أخبر أخوها: "التاجر جيد. أخي سيجعل التاجر كبيرا."

ابتسم التاجر في وجه الطفلين أمامه ثم انحنى وربّت على رأسيهما. قال بتلك الابتسامة الحنونة: "هكذا إذن. يجب أن تكبرا أنتما أوّلا قبل ذلك."

كان يعلم أنّه لا يستحقّ أن ينادى بالجيّد وخصوصا من طرف هذين الطفلين. شعر بتأنيب الضمير كثيرا وقرّر اتّباع طريق جيّد حقّا بعد المرور بهذه العقبة. قرّر أن يكون جيّدا كما يعتقده الطفلان.

أزاح التاجر الحجر ثم التفت إلى الطفلين قائلا: "حسنا. لنلتقي في المكان المحدّد." قال ذلك الكلام بنفس الابتسامة، ولكنّه استغرب بعد ذلك من تعبيرات الطفلين. كانا مرعوبين للغاية، ولمّا رأى التاجر وجهيهما، التفت مرّة أخرى إلى الخارج ليجد عشرات من الجنود، خلفهم رجل كبير – نفس الرجل الكبير، رئيس العائلة النبيلة.

لم يستطِع التاجر بلع ريقه حتّى، وشعر بأنّ جسده تجمّد وتوقّف عن العمل، وكلّ ما كان يشغل باله كان الطفلين وراءه. وفي لحظة، شعر باليأس ثم وصرخ: "اهربا ! " ثم انقضّ على أولئك الجنود لوحده حتّى يكسب وقتا لهما.

خرج الطفلان من الكهف وحاولا الفرار بأقصى ما لديهما، ولكنّهما جابها ساحريْن بالمستوى الثاني في طريقهما ولم يكن هناك أيّ فرصة لهما في الهرب منهما، وعندما التفتا ليطلبا النجدة من التاجر، وجدا جسده مطروحا أرضا، وبدون رأسه.

"هل حقّا تظنّ أنّك ستخونني وتنجح في ذلك؟ لا تحلم بذلك حتّى." تكلم الرجل الكبير بينما ينظر إلى شيء ويخاطبه كان يحمله بيده.

حدّق إليه الطفلان بهلع، وعندما ريا أخيرا ما يحمله، لاحظا أنّه رأس التاجر.

صرخ الفتى دون أن يشعر وأراد صنع طريق له ولأخته الصغرى للهرب، ولكن مهما حاول لم يكن لينجح. لقد كان مجرّد طفل ضد ساحران بالمستوى الثاني. فأُمسِك بهما دون حول ولا قوّة، وأجبِرا على الانحناء أمام الرجل الكبير.

حدّق الرجل الكبير إليهما باهتمام، ثم قال: "يبدو أنّ المعلومات كانت صحيحة تماما." أمر الجنود بحمل الفتاة الصغيرة، حتّى أصبحت في نفس مستوى رؤيته، واقترب من وجهها كثيرا حتّى أصبح بإمكانه شمّها.

احمرّت عيناه ولم يستطِع منع لعابه من السقوط، فأسرعت إحدى محظياته بإطعامه، وإذا به يضربها بقوّة صارخا: "لا تزعجيني الآن."

رأى الفتى أدهم نظراته تلك، وصعدت القشعريرة مع جسده حتّى كاد يفقد عقله. فقفز من مكانه بالرغم من أنّه مربوط صارخا: "ابتعد عنها أيها الوغد. ابتعد عنها وإلّا قتلتك. سأقتلك. لا تقترب منها أيها الحثالة." ضُرِب الفتى من أحد الجنود حتّى لا يصل لرئيسهم.

حملق الرجل الكبير لوهلة إلى الفتى، ولم يبالِ به كثيرا، فرفع يده فقط فضرب أحد الجنود الفتى مغيبا إيّاه عن الوعي. ومع ذلك، كانت عزيمة الفتى قويّة للغاية ومشاعره لأخته قويّة، فلم يغب عن الوعي مباشرة وظلّ يتمتم أثناء تلاشي وعيه: "أرجوك. إلّا هي... أرجو..."

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2018/07/31 · 939 مشاهدة · 1774 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024