187 - لغز

كانت الخمسة أمتار مسافة قصيرة جدا، ولكن بسرعة باسل ونمر البرق، كانت عندها لا شيء تماما. ومع ذلك، في تلك اللحظة فقط تحوّل نمر البرق إلى هذا الطور المرعب وأصبح نمر الصاعقة الرعديّة. ومن هذه المسافة، لم يكن ممكنا لباسل المراوغة قطّ.

كان من الواضح من كلّ القوّة التي وضعها نمر البرق في هذا الهجوم أنّه علم أنّه ليس بأهل لباسل من ناحية القوّة الجسدية، وأنّ هجماته السحريّة لوحدها غير كافية، لذا دمجهما معا مع استخدام قدرته التي خوّلته استخدام الصوت، فجعل من نفسه بقوّة جسديّة وسحريّة مرعبتين.

انطلقت التعاويذ الذهنية الروحية من بحر روح باسل والتفّت حول جسده. لقد كان هو الاستخدام الفعليّ للتعاويذ بتسخيرها كدرع جسديّ يدعّم قدرة الجسم الهجوميّة والدفاعيّة. لقد كانت هذه التعاويذ عبارة أحكام تطبّق قواعدها على الوجود لتغيّرها طبقا لإرادة مستخدمها، ولكنّها لوحدها كانت عبارة عن كلمات رونية عتيقة، لا يعلم أحد عن ماهيتها حتّى يحلّ ألغازها.

كان سموّ هذه التعاويذ بلا نقاش، وكانت هيبتها تعطي شعورا بالنقص والخوف. كانت تكسب الاحترام بجدارة، وتجعل كلّ من رآها يبجّلها. لقد كانت هذه التعاويذ سامية للغاية، وأوضحت مدى عظمة صانعها. أيّ أحد قادر على صنع مثل هذا الفنّ السامي سيكون فاق السموّ بلا شك. لقد كانت تلك التعاويذ إحدى قمم المعرفة والحكمة التي بلغها البشر يوما.

تحوّلت التعاويذ إلى درع فضّيّ أحاط بباسل، وجعلته حصينا ضدّ كلّ الصدمات. وبالطبع، لم يكن جعلها درعا جسديّا ممكنا هكذا قبل أن يبلغ مستخدمها الفرع الكبير على الأقل. فعند ذلك المستوى يصير لديه فهم أعمق وتحكّم أكبر بالتعاويذ حتّى يستطيع تسخير هذه القدرة.

*بووم* *تشش*

صدى صوت التقاء الاثنان لأميال، وهزّ الجبال المحيطة. كان هجوم نمر البرق مدهشا للغاية، لكنّ باسل استخدم فنّه القتاليّ الأثريّ بذروته إضافة لتعاويذه الذهنيّة الروحيّة بشكل مباشر. كانت النتيجة متعادلة لوقت، واستمّرت صاعقات ورعد نمر البرق في محاولة اختراق جسد باسل، إلّا أنّه كان قاسيا لوحده فما بالك بعدما حُصِّن بالتعاويذ. كان جسم باسل في هذه الحالة يشبه قطعة ألماس أثريّة لا يمكن لشيء خدشها حتّى.

*باام*

انتهى الضجيج أخيرا بعدما أرسِل نمر البرق محلّقا إلى الأفق بسبب لكمة باسل الخارقة، وهدم جبلا بعدما اصطدم به، ثمّ سقط على الأرض ميّتا فورا.

وفجأة، حلّق تمساح الأعماق الفولاذيّ تجاه جثّة نمر البرق بسرعة كبيرة وبدا مستميتا. كما لو كان يحاول بلوغ شيء ما قبل فوات الأوان. جعل تصرّفه ذاك باسل مذهولا، ولم يعلم ما الذي يفعله هذا الوحش العملاق. لقد كان غاضبا كلّ هذا الوقت، ولكنّه نسي باسل كما لو لم يهتم به أصلا.

لاحظ باسل شيئا بعدما اقترب التمساح من جثّة النمر؛ كان يحدث نفس الشيء مرّة أخرى؛ كانت هناك طاقة غريبة تنجذب إلى جسمه. وبعدما دقّق باسل النظر أكثر، لاحظ أنّ هذه الطاقة تتجمّع في صدر الوحش العملاق قبل أن تُشفط بسلاسة.

ابتسم إدريس الحكيم بعدما نظر إلى باسل المندهش، ثمّ قال مستمتعا: "لم أخبره عن هذا عمدا حتّى يراه بنفسه. لقد أصبح شبه صاعد على نحو غير اعتياديّ، وبدأ يقترب من رؤية العالم على حقيقته الأصليّة."

كان ذلك منظرا غريبا، وممتعا في نفس الوقت. كان ذلك شيئا جديدا اكتشفه باسل في هذا العالم، وكان مذهلا حقّا. كان لا يزال لا يعلم ما يحدث حقّا، لكنّه كان متأكّدا من شيء واحد – تنجذب تلك الطاقة الغريبة إلى تمساح الأعماق الفولاذيّ من جثت الوحوش السحريّة بعدما تموت.

التفت إلى جهة الأسد الشيطانيّ الذي كان يهرب في الأفق بعدما تخلّص من التمساح العملاق. كان باسل يلهث في تلك اللحظات من التعب. لقد استخدم فنّه القتالي لمدّة طويلة، وكان هذا لا بأس به طالما لم يستخدم الطاقة السحريّة في نفس الوقت لمدّة طويلة كي لا تُستنزف، ولكن بعدما استخدم التعاويذ الذهنيّة الروحيّة مباشرة استنزف كلّ ما تبقّى له من طاقة تقريبا. كان ذلك الدرع مكلّفا بشكل مدهش.

لحق الأسدَ الشيطانيَّ الذي ضعُفَت حالته بسبب هجوم الوحش العملاق السابق، واستخدم كلّ ما تبقّى من طاقة. عصر نفسه وقطّر كلّ ما يملك، ثمّ استخدمه مرّة واحدة في الهجوم التالي.

*زباام*

قطع باسل الهواء كما فعل للأسد الشيطانيّ الذي لم يجد فرصة ليردّ على ذلك، ومباشرة بعدها استُنزِف باسل تماما، فشدّ رحاله مغادرا المكان بأسرع ما يمكن. كان هدفه الوحيد هو الابتعاد عن هذا المكان وإيجاد ملجأ مناسب بعيدا عن الوحوش السحريّة ليرتاح فيه ريثما يعود لحالته الطبيعيّة. كان باسل راضيا بما أنّه حقّق مراده، وكلّ ما بقي هو انتظار أنمار كي تلعب دورها كما اتّفق معها قبل أن يُقدِم على هذه الخطّة.

غادر دون أن يلحقه تمساح الأعماق الفولاذيّ، وكان ذلك بسبب انشغال ذلك الأخير باستهلاك الطاقة التي تأتي من جثّة نمر البرق. لقد كان هذا هو الأمر الذي ظلّ يشغل ذهن باسل عندما ذهب. بدأ يضع جميع الاحتمالات لما يمكن أن يكون سببا في حدوث مثل تلك الظاهرة. لم يكن لديه شكّ في أن معلّمه يعلم عن ذلك، لذا فهم أنّه تُرِك جاهلا عن الأمر عمدا حتّى يكتشف ذلك بنفسه.

مرّت بعض أيّام أخرى، وتماثل باسل للشفاء تدريجيّا، وكانت طاقته قد شُحِنَت من جديد. لذا أخذ دوريّة في المنطقة من أجل أن يرى ما آلت إليه الأمور بعدما كان مختبئا في كهف بعيد عن النهر لمدّة طويلة.

اقترب بحذر من المناطق المجاورة إلى نهر دم التنين، وأمضى وقتا طويلا في التنقّل من هنا إلى هناك قبل أن يتجرّأ على أخذ خطوة قريبة حقّا من النهر. وفي ذلك الوقت، لسبب ما، كانت كلّ الوحوش السحريّة التي يلتقي بها في هذه المنطقة تبتعد عن طريقه كما لو أنّها رأت وحشا لا يقهر. وخصوصا تلك التي يقلّ مستواها عن العاشر. كانت تبتعد لمئات الأميال كما لو أنّ حياتها تعتمد على ذلك.

كان سبب ذلك واضحا للغاية لباسل بعد التفكير لقليل من الوقت. لقد قتل زعيميْ هذا الجانب الشماليّ، لذا أصبحت له هيبة عظيمة بهذه المنطقة حسب ما خمّن. لم يعلم باسل في الأول لمَ كانت تهرب هذه الوحوش منه عندما تلتقي به؛ فهو كان مختوم الطاقة السحريّة حاليا ولم يبدُ عليه من مظهره ذلك القويّ، لكنّ الوحوش السحريّة خافت منه لسبب ما.

علم باسل أنّ السبب الوحيد الممكن لذلك هو قضاؤه على الزعيمين. لربّما هناك شيء تستطيع الوحوش السحريّة من خلاله معرفة قتله لزعيميْها. وهذا ما كان لغزا له. كان لا يزال لا يعلم السبب بالضبط.

عندما تأكّد باسل من عودة تمساح الأعماق الفولاذيّ إلى سباته بأعماق نهر دم التنين، ذهب ليرى ساحة المعركة ويلتقط أحجار الأصل التي بقيت هناك. ولكن على عكس ما توقّع، لم يكن هناك ولا حجر واحد على الإطلاق. كما لو أنّ شخصا ما قد أخذهم. كان ذلك مريبا جدّا لأنّ باسل علم أنّ لا أحد سيصل إلى هذه النقطة. وما كان أكثر دهشة كان أنّ جثت الوحوش السحريّة لم تختفِ حتّى بعدما اختفى حجرها.

كان هناك العديد من الأشياء الغريبة التي حدثت مؤخّرا، وكان هذا إحداها. كان حدس باسل يخبره أنّ هذا يتعلّق بالأخريات أيضا. في الواقع، لقد كان يحلّل ما حدث سابقا مع تمساح الأعماق الفولاذيّ وجمع بعض الأفكار عن ذلك. والىن ازداد أمر غامض آخر جعله يفكّر في نفس الشيء ويربط الخيوط مع بعضها.

ابتسم ثمّ أخذ خطوات بطيئة نحو النهر بينما يفكّر: "هل يمكن أنّ تمساح الأعماق هو من أخذ تلك الأحجار؟ ولكن لماذا؟ هل تعود بأيّ نفع عليه؟ لم أرَ وحشا سحريّا يقتل آخرَ ويأخذ حجره الأصليّ من قبل. ويبقى أمر انجذاب تلك الطاقة من جثت الوحوش السحريّة إليه مثيرا للدهشة نوعا ما."

"...على كلٍّ، لديّ فكرة لست متأكّدا من صحّتها بعد، ولكنّي بعدما أصبحت شبه صاعد، صرت أرى الكثير من الأشياء بشكل مختلف نوعا ما. تبدو لي السماء والأرض واضحتين أكثر بطريقة ما. كما لو أنّه كان هناك غشاء على عينيّ وبدأ ينجلي. زاد إحساسي وارتباطي بطاقة العالم بشكل ملاحظ، وتطوّرت قدرتي على رؤية جوهر الأشياء. يمكنني معرفة عدد الوحوش السحريّة التي تحيط بمحيط أكبر من الذي اعتدت أن أستشعره، وليس ذلك فقط، بل وباستطاعتي الآن استشعار قوّتهم وأبسط تحرّكاتهم."

كان باسل مذهولا ممّا يحدث معه. لقد علّمه معلّمه عن مستويات الرّبط بشكل كلّيّ، ولكنّه لم يعطِه معرفة شاملة عن المستويات الروحيّة أو مرحلة الصاعد. صحيح أنّه يعلم بعض الأشياء، لكنّه لا يعلم المهم والحاسم. ابتسم باسل وعلم أنّ هذا مجرّد اختبار آخر من معلّمه. اختبارٌ أخذ بالفعل دروسا عن كيفيّة الإجابة عنه، ولكنّه لم يكن يعرف ذلك فقط.

راقب إدريس الحكيم من بعيد ثمّ قال: "لم أكن أظنّ أنّه سيصبح شبه صاعد، لذا توقّعت أنّ اختباره في كشف ماهية هذا العالم الحقيقيّة سيكون بعد حوالي عام من الآن. إنّه اختبار مؤكّد تجاوزه بالنسبة لأيّ شخص سيخترق المستويات الروحية، وبالنسبة لشخص مثل الفتى باسل _شخص قد ربط كلّ نقط الأصل وهو بالمستوى الثامن فقط وأصبح شبه صاعد_ فبلوغ المستويات الروحيّة أمر طبيعيّ له لا غير."

ظهر كوب فضّيّ بيد إدريس الحكيم الذي جلس، ثمّ أخرج قنّينة مليئة بمشروب ما، فملأ الكوب. كان الكوب فضّيّ اللون، وعندما سُكِب فيه هذا المشروب، صار اللون الفضّيّ لامعا ومشرقا. كان هذا المشروب شفّافا وأنقى من أفضل مياه هذا العالم حتّى، وحمل معه هالة سامية، وجعل كلّ ما لمسه يرتقي لنفس سموّه. طهّر العديد من الأشياء، وجعلها تبدو عتيقة في اللحظة التي يتّصل بها.

تنهّد إدريس الحكيم بعدما حدّق إلى الأفق ونظر إلى أنمار بنظرته السامية السياديّة، ثمّ تمتم لنفسه: "حقّا يجعلانني أتذكّر الكثير من الأشياء التي تؤرّقني." رشف المشروبَ بعد ذلك، وتركه يمرّ في عروقه، ودمه، وروحه. ترك نفسه تغرق في الذكريات، وأخذ رشفة بعد الأخرى. كان ذلك المشروب غريبا؛ لم يكن نبيذا ولا عصيرا. كان مشروبا روحيّا تطهير الروح وإزالة المشاعر السلبيّة.

عاش حوالي ألف سنة طويلة، ولكن سنينا قليلة منها كانت كافية لتجعله يتعذّب لما بقي من حياته. كان فرحا طوال الوقت ونشيطا، لكنّه لطالما كان يعلم أنّ كلّ ذلك كان من أجل قمع تلك المشاعر الجيّاشة التي تموّج روحه.

لم يكن الأمر هو عدم قدرته على طلب السماح، لكن في قبوله. فحتّى لو كان حكيم الفنون السياديّ السامي الذي يخشاه الكثير من عظماء العوالم الروحيّة، إلّا أنّه كان مجرّد شخص عادي أمامها. لقد كانت تلك المرأة تجعله يعود للأصل حقّا، وتنسيه في كلّ شيء.

تغرغرت عيناه، فاستفاق بعد ذلك مباشرة. خبّأ الكوب والقنّينة، ثمّ وقف وعاد إلى وضعه الطبيعيّ. لم يعد هناك مشاعر جيّاشة تحاول زعزعة قلبه الحكيم، ولا ذكريات تجعله يغرق في بحرها. حدّق إلى الاثنين ثمّ قال: "يبدو أن إمضائي وقتا طويلا بجوارهما قد أثّر عليّ. يجب ألّا أسمح لنفسي بالانغماس في ندمي، وإلّا فقدت مساري الروحيّ."

كان أهمّ شيء بالنسبة للساحر الروحيّ هو المسار الروحيّ. ما أن يفقده، يفقد غايته في الحياة ووجهته، فيضيع في عالم ليس به نهاية ويتعذّب لما تبقّى من عمره. كان المسار الروحيّ شيئا يحدّده الساحر الروحيّ في حياته، وكان يشمل طريقة حياتهم، والغاية التي يرشدونها.

"يوما ما، سأحلّ لغز الأربعة عشر الأعظم ! " ظهر وميض من عيني إدريس الحكيم آنذاك بينما ينظر إلى الآفاق. مع أنّه في شكله العجوز، إلّا أنّ ذلك لم يمنع سموّه من الظهور في تلك اللحظة. كان لديه عزم وحسم ليس لهما مثيل.

***

كان باسل يجلس بجانب النهر، بينما يتدبّر بكلّ هدوء هناك. كان ينتظر شيئا ما، أو للدّقة، شخصا ما. وبالطبع، كان هذا الشخص هو أنمار لا غير. كانت قد تأخّرت عن الميعاد الذي يُفترض أن تصل فيه، لكنّه لبث في مكانه مؤمنا بقدرتها على المجيء. مضى اليوم الأول، والثاني، والثالث... فمرّ أسبوع. ومع ذلك لم يتحرّك شبرا واحد.

وبينما كان ينتظر، استشعر ساحة المعركة، وتذكّر ما كان يحدث مع تمساح الأعماق الفولاذيّ. لم يستطع أن يفهم بالضّبط ما ذلك، لكنّه كوّن تخمينات وشكوكا. ومن جهة أخرى، ظلّ يحاول معرفة سرّ ابتعاد الوحوش السحرية عنه. وبعد مدّة طويلة، استنبط شيئا ما كما أحسّ به بعد ذلك وفهم ما كان يحدث حقّا. أراد أن يختبر ذلك حالا. ففتح عينيه أخيرا ونظر إلى الجهة الأخرى من النهر، فوجد أنمار هناك.

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2018/10/18 · 979 مشاهدة · 1834 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024