188 - عالمهما

وقفت أنمار بعيدة عن النهر بمئات الأمتار، والذي بدوره كان بعرض يمتدّ لآلاف الأمتار. ولكن بعينيّ الساحر كان من السهل رؤيتها. كانت ترتدي فستانها الأسود الذي أظهر بعضا من بشرتها المغرية، وخبّأ كل المناطق المهمّة. كانت تبدو كملاك اختار الأسود لونا له، وجعله يظهر ويخفي جماله في نفس الوقت.

كانت هادئة للغاية، وحدّقت إليه بعينيها الزرقاوين. كانتا تبدوان كما لو يمكنهما جعل أيّ شخص يقع تحت تأثيرهما، ويغرق في عمقهما. كانتا تمثّلان السماء بوسعها، والبحر بعمقه. فإذا نظر إليهما أحد، سبح في عالم أزرق لا ترى آفاقه، ولا أعماقه. سيجد الشخص نفسه مسجونا في ذلك العالم بدون أيّ فرصة للعودة.

كان الشخص الذي يصبح ساحرا يكتسب أيضا وقورا وهيبة تجعله مميّزا عن الطبيعيّين. فحتّى لو لم يكن جميلا كفاية، ستغطّي هالته ومستواه السحريّ ذلك. ولن يقف الأمر عند التغطية فقط، بل سيزداد جمالا في أعين الناظرين، كما لو أنّه ينفّذ وهما عليهم. ولكن ماذا عن شخص مثل أنمار بجمال ملائكيّ؟ كان من السهل تخيّل مدى الجمال الذي ستظهر به.

وفي المقابل، وقف باسل قرب النهر بينما يحدّق إلى ذلك المنظر الرائع أمامه. لقد كان دوما يرى جمالها، لكنّه لم يعتد عليه قطّ. كان هذا هو الاختلاف بينها وبين سائر النساء في الوجود. فحتّى لو التقى بأّيّ حسناء تسقِط الملوك والأباطرة في عشقها، كان سيعتاد عليها بعد مرور وقت لأنّه آلف على رؤية الجميلات.

أخذت أنمار خطوة بعد لحظات من السكون، فتبع الخطوة ضجيج وزمجرات كانت قادمة من خلفها. وبعد وقت قصير، ظهر حشد وحوش سحريّة بلغ عددها مئات الآلاف. كان هذا الموقف مثل الذي حدث مع باسل. وبالطبع، عندما اقتربت الوحوش السحريّة من نهر دم التنّين توقّفت كلّها.

تقدَّم هذه الوحوش السحريّة زعيماها، وأطلقا هالتيهما تجاه أنمار بغيظ شديد. كانا غاضبين لدرجة كبيرة وأرادا تمزيقها بأسرع وقت، إلّا أنّها كانت بعيدة عن منالهما في هذه اللحظات باقترابها من النهر. لقد كانت الغريزة تحكم هذه الوحوش السحريّة، لذا لم تستطع الاقتراب من النهر.

أمّا السحرة الذين كانوا بعقل وحكمة، فكان بإمكانهم اختيار الاقتراب من الخطر ولو علموا عن عواقبه. ففي هذه الأثناء، كان تمساح الأعماق الفولاذيّ نائما، لكنّ منطقته هذه لا تجرؤ الوحوش السحريّة على الاقتراب كثيرا منها.

كان زعيما الوحوش هما الأفعى الكوبرا المجنّحة وحصان مخالب الظلام. وكانا قد بلغا المستوى الثاني عشر، لكنّهما لم يتجرّآ على الاقتراب من النهر كما حدث مع زعيميْ الجانب الشماليّ. لا وحش سحريّ قادر على قمع غريزته التي تخبره بالابتعاد عن هذا المكان.

بلغت أنمار النهر بعد ذلك، فاستخدمت فنّها القتاليّ وطفت على الهواء قليلا باهتزازات تحت قدميها. وفي الجهة الأخرى، ولّد باسل قوّة دفع في كلّ خطوة يأخذها ممّا سمح له بالطفو فوق الماء. ففي الغصن الرابع، كان للمستخدم درجة تحكّم مدهشة في قوّة الدفع، فيستطيع بخطوات الريّاح الخفيفة أن يطفو فوق الماء.

كانت خطوات الاثنان ثابتة وغير متسرّعة. أخذا وقتهما في عبور آلاف الأمتار ببطء بينما ينظران إلى بعضهما بعضا دون إزاحة نظرهما. كانت المسافة بينهما واسعة، لكنّهما كانا يشعران بالقرب كما لو أنّهما يمشيان بمحاذاة أحدهما الآخر. بل وأكثر من ذلك، شعرا أنّهما يفهمان في هاته اللحظات نفس الآخر، ولا أحد قادر على فصل ذلك الارتباط بينهما.

كلّ خطوة أخذاها جعلت ذلك الاتصال الذي بينهما أقوى، وبدّدت جزءا من الواقع الذي يحيط بهما. ففي تلك اللحظات، لم يهم شيئا آخرَ غير الشخص قبالتهما والطريق المؤدّي إليه. بدا كأنّ الوجود نفسه كان ينكسر وينهار بقَطْع الاثنان المسافة بينهما.

اختفت العوالم غير المعدودة وبقي ذلك العالم الفارغ فقط. كان عالما مظلما بالكامل، وحمل طريقا واحدا في وسطه أنشأه الاتصال بين ذينك الاثنين. كان هذا الطريق المضيء هو الشيء الوحيد الذي يهمّهما بعدهما.

كانت تلك الخطوات بطيئة، لكنّهما لم يشعرا بالوقت الذي مضى في هذا العالم الفارغ. وعندما اقتربا أخيرا من بعضهما، ولم يتبقَّ من المسافة سوى إنش حتّى يتلامس جسداهما، حدّق أحد إلى الآخر كما لو كانا ينظران إلى منظر خياليّ لم يسبق لهما أن رأوه في حياتهما. كان هذا المنظر الخياليّ جذّاب كثيرا، وليس له مثيل في ما اتّسع من الخلق.

أراد كلّ واحد منهما النظر إلى ذلك المشهد الأخّاذ طيلة حياته دون أن يرمش ولو للحظة، وأن يدوم كلّ هذا إلى الأبد حتّى ينقطع ذلك الاتصال بينهما، ويفرّقهما الموت لا غير.

كان ذلك عالما خاصّا بهما، ولا أحد يمكنه الدخول إليه أو التدخّل به. استطاعا أن يكوّنا علاقة لا يمكن فهمها من طرف ثالث، وبلغا مرحلة مدهشة من فهم أحدهما للآخر. فبدون الحاجة لقول أيّ شيء، كان كلّ شيء واضحا لهما. ومع ذلك، علم باسل أنّه يحتاج إلى نقل أفكاره على شكل كلمات. علم أنّ أنمار تحتاج إلى سماعها من فمه مباشرة.

كانا قريبين من بضعهما كثيرا، فكانت ضربات قلبيهما سريعة جدّا. كانا يحسّان بتوتّر شديد، لكنّهما لم يريدا أن يزيحا نظريهما. ولكن عندما أراد باسل أن يفكّر في كلمات تفسّر مشاعره الحالية، لم يستطِع تكوين جملة واحدة. كان المرأى أمامه ساحرا أكثر ممّا تخيّل، فبلغ به الأمر أن ينسى كلّ كلمة يفكّر بها مباشرة.

لم تنفعه ذاكرته القويّة، ولا مهارته في الكلام. كل شيء يجيده أصبح عديم الفائدة أمام أنمار في هذا العالم الفارغ. كما لو أنّ أفكاره كانت تتبدّد في اللحظة التي تتكوّن فيها، وكلّ ما كان يتبقّى هو المشاعر التي لم يتوقّف إنتاجها بسبب تحديقه إلى الفتاة التي أمامه. جعله هذا يُجنّ ولم يعلم ماذا يفعل.

وفي الجهة الأخرى، لاحظت أنمار تصرّفاته تلك وابتسمت. ومباشرة بعد ذلك، جعلت المنظر الخرافيّ مضاعَف التأثير. ولكن لم تكن على عجل، فصبرت هناك حتّى يجدَ الفتى أمامها حلّا. لقد كان باسل في تلك اللحظات يبدو كفتى بريء حقّا.

أمضى وقتا في التململ، ولكنّه لم ينجح في تكوين كلمات مناسبة قطّ. وفجأة، بدا كما لو أنّه أدرك شيئا أخيرا. لقد كانت هناك كلمة واحدة لم تختفِ كما فعلت باقي الكلمات عندما فكّر بها. أدرك أنّه لم يحتج لقول جمل ولا شعر. ففي هذا العالم الفارغ الذي جعلهما متّصلين بالفعل، لم يكن لكلّ ذلك معنى. كلّ ما كان عليه فعله هو قول كلمة واحدة فقط.

ابتسم هو الآخر، فجعل أنمار تتأثّر بذلك، فأصبحت متوتّرة كذلك وكادت تزيح نظرها عنه. كان وجهاهما محمرّين، لكنّهما أبعدا خجلهما وأكملا النظر إلى بعضهما بعضا.

اقترب باسل منها حتّى اختفت المسافة التي بينهما كلّيّا، وتلامس جسداهما كما لو كانا سيعانقان بعضهما بعضا. ثمّ قرّب فمه إلى أذنها، وقال تلك الكلمة الواحدة. لقد كانت كلمة سحريّة يمكنها أن تصف كلّ ما احتاج لقوله. كانت هذه الكلمة كافية أيضا لأنمار حتّى تسعد كفاية.

بدا كما لو أنّ أنمار هي الوحيدة التي كانت قادرة على سماع هذه الكلمة في هذا العالم الفارغ.

انحنى جسدها، فاتّكأت عليه كما لو أنّها شعرت بالانهيار، وسقطت دمعة من عينها، فهزّت ذلك العالم الفارغ. فحتّى الآن، لم يسبق لها أن سمعته يقول لها هذه الكلمة قطّ. لقد كانت كلمة سحريّة حقّا.

اختفى العالم الفارغ بعد ذلك الاهتزاز، وعاد الاثنان إلى الواقع. كان الأمر كما لو أنّهما انتقلا لعالم آخر حقّا وعادا للتوّ. نظر باسل إلى حشد الوحوش السحريّة فلاحظ أنّ ذينك الزعيمين لن يستسلما حتّى يفترسا أنمار.

اختفى أثر الدمعة من عين أنمار، فرفعت رأسها لتنظر إلى باسل، ثمّ وجدته يحدّق إليها بالفعل. لقد كان بينهما سكون ونوع من الاتصال قبلا، إضافة إلى كونها كانت تنتظره أن يقول لها ما أرادت سماعه، لذا كانت تستطيع أن تحدّق إلى عينيه مباشرة. ولكن الآن بعدما سمعت الكلمة السحريّة، كان من الصعب عليها الحفاظ على هدوئها بينما تنظر إلى عينيه.

لقد كانت عيناه الحمراوان مثل شمسين تنيران رؤيتها، لكنّهما كانا مشعيّن كثيرا ولم تتحمّل النظر إليهما مباشرة. كل ما أمكنها فعله في تلك اللحظة هو النظر إلى الأسفل بوجه محمرّ من الخجل. فعندما نظرت إلى باسل، بدا لها يتألّق أكثر من أيّ وقت مضى. كان مفعول الكلمة السحريّة أقوى ممّا اعتقدا.

ابتسم باسل بعدما شهد ردّة فعلها تلك، وتسارعت ضربات قلبه نوعا ما. لقد كان ذلك تصرّفا نادرا من أنمار الجرّيئة تجاهه. كان ذلك ظريفا وجذّابا بصورة لا توصف، فشعر بسعادة غامرة في هذه اللحظات. لم يعلم إن كان السبب في ذلك هو تصرّفاتها الخجولة الحالية، أم لأنّه واجه نفسه أخيرا وصارحها.

هدأت الأمور بينهما بعد مدّة، فنظرت أنمار إلى حشد الوحوش السحريّة وعبست: "الأفعى الكوبرا المجنّحة وحصان مخالب الظلام. لقد مررت بوقت عصيب حتّى استطعت استفزازهما كي يحشدا كلّ هذه الوحوش ويتبعاني. فقبل أن أصل لهما اضررت إلى مقاتلة وحوش بالمستوى العاشر والحادي عشر، ثمّ الاختباء باستمرار قبل أن أبلغهما أخيرا. صرفت أيّاما في التعافي لذا تأخرت عنك."

حدّق باسل إلى حشد الوحوش السحريّة، وبالأخص نحو الزعيمين. لقد كانا حانقين بشكل لا يوصف. حتّى هو لم يستطِع جعل زعيميْ الجانب الشمالي يصلان لهذه الدرجة من الغيظ. نظر إلى أنمار التي تتّكئ على جسده ثمّ ابتسم. لقد كانت دائما ماهرة في الخداع. من يعلم ما الذي فعلته لهاته الوحوش التي تتبع غريزتها حتّى تصير هكذا؟

كانت أنمار تشعر براحة كبيرة على صدر باسل. شعرت بالأمان، ولم يهم إن كانا في خطر يحدّق بهما من جميع الزوايا طالما كانا معا. مرّرت يدها على جذعه العلويّ بينما تتحسّس نضوجه. لقد كان بعمر الخامسة عشر فقط _مع أنّ هذا عمر البلوغ والرشد في هذا العالم_ إلّا أنّه امتلك جسدا قويّا لا يملكه رجل في هذا العالم الواهن. شعرت بنبض قلبه متسارع الضربات، وأحسّت بقوّته الغامرة، فتركت نفسها تغرق في بحر العاطفة ذاك دون أن تخاف من الاختناق.

كانت عينا باسل لا تستطيعان النظر بعيدا عن أنمار لمدّة طويلة. فبسرعة وجد نفسه ينظر إلى شعرها الأشقر الذهبيّ الطويل، بينما تنزلق منه نظرات إلى جسدها المغري. لا رجل كان قادرا على مقاومة هذا الإغراء بسهولة، فما بالك بباسل الذي كان في تلك الحالة.

وفجأة، طرأت في باله فكرة وتطلّع إلى الآفاق كما لو كان يحاول إيجاد شيء ما. كان يريد أن يرى إن كان معلّمهما ينظر إليهما من مكان ما، لكنّه لم يجده مهما حاول بنظرات السحر. تنهّد بعد ذلك وتمتم لنفسه: "حقّا المعلّم... هل يمكن أنّ الغاية من هذا الاختبار لم تكن في الواقع الإخضاع فحسب...؟ حقّا الأفضل."

وفي هذه اللحظات، كان إدريس الحكيم يراقب عن بعد بنظراته السامية السياديّة، فضحك دون أن يستطيع المقاومة: "هوهوهو... يبدو أنّه أدرك. لا أريد أن أراك أيّها الفتى تقوم بخطأ مشابه لخطئي."

لقد كان إدريس الحكيم يعلم مدى صعوبة المسار الروحيّ، والذي احتاج إلى عقل وقلب سليم. فمهما بلغ الساحر من مستويات خياليّة، سيجد نفسه عرضة للانهيار الداخليّ يوما ما إن لم يحمل عقلا وزينا وقلبا رصينا. كان يعلم تمام العلم عن أمثلة من ذلك، وخصوصا صاحب أسطورة جون النهاية.

نظر المعلّم إلى تلميذيه وعبس: "العب بالنار كما تشاء، ولكن احرص على البقاء في الضيّاء، ففي الظلام يوجد فقط وباء بلا شفاء." تنهّد إدريس الحكيم بعدما ردّد المقولة الشهيرة في العوالم الروحيّة. لم يشأ أن يرى هذين الاثنان يقعان في نفس الموقف الذي هو فيه.

استمتع باسل وأنمار بهذه اللحظات وقدّراها.

سألت أنمار بعدما شرحت له سبب تأخّرها: "إذن ما الذي سنفعله الآن؟"

حملق باسل إلى الحشد البعيد، وأجاب باسترخاء. لقد كانت نبرته تجاه أنمار أكثر حنانا: "لا قلق. كنت أودّ فعل نفس ما قمت به في حالتي، لكنّ الأمور تغيّرت نوعا ما بعد قتلي الزعيمين. لذا أريد تجربة شيء ما." وبذلك، رفع ذراعه فأحكم قبضته.

لم يطرأ أيّ تغيّر ملاحظ لأنمار على باسل. فهو لم يحاول استخدام نيّة قتله أو هالته أو فنّه القتاليّ الأثريّ لقمع الوحوش السحريّة أو ما شابه، لذا وجدت تصرّفاته غريبة ولم تعلم ما الذي يحاول تجربته.

ولكن، لم تمر سوى لحظات وجيزة، وإذا بشيء غريب يحدث أمام عينيها فأثار دهشتها؛ على حين غرّة، ارتعدت معظم الوحوش السحريّة إن لم تكن كلّها، وفرّ العديد منها بدءا من الضعيفة وصولا إلى ذات المستوى التاسع حتّى. اتّسعت حدقتا عينيها ولم تكد تصدّق الأمر. نظرت إلى باسل مرّة أخرى فوجدته مبتسما كما لو كان يتوقّع حدوث هذا الأمر. سألته بسرعة: "م-ما الذي قمت به؟ أنا لم أشعر بأيّ طاقة تنبعث منك مهما كان نوعها."

بقي باسل محافظا على استرخائه بينما يراقب الوحوش السحريّة وردود أفعالها. كان لا يزال على وجهه نفس الابتسامة الهادئة، وأجاب مفسّرا: "بعدما قضيت على الزعيمين هنا، صارت الوحوش السحريّة تتجنّبني بطريقة غريبة. شغل هذا الأمر بالي طوال الوقت لذا كنت أحاول اكتشاف ماهيته. وأخيرا قبل وصولك بمدّة استطعت استنباط وإدراك ما يحدث حقّا."

"قد لا يمكنك فهمي حتّى ترين ذلك بنفسك، ولكن..." وفي هذه اللحظات تذكّر باسل معلّمه، وعلم لِمَ لمْ يخبره قبلا عن مثل هذا الأمر. لقد كان أمرا لا يمكن إدراكه سوى عن طريق اختباره حقّا. أكمل شرحه: "ولكن يمكنك القول أنّني بعدما قتلت ذينك الزعيمين، صارت هناك آثار روحيّة متبقيّة منهما عليّ كعلامة. وعندما ترى الوحوش السحريّة هذه العلامة تهرب طبقا لما تفرضه عليها غريزتها. يمكنك القول أنّه نفس الشيء بالنسبة لعدم اقترابها من نهر دم التنين هذا."

لم تستطِع أنمار استيعاب الأمر بأكمله كونها لا تستطيع رؤية مثل هذه الآثار التي يتكلم عنها باسل. سألت بعد ذلك مرّة ثانية: "أيّ آثار روحيّة متبقيّة؟ أين هي؟"

ربّت باسل على رأس أنمار بلطف بينما يداعب شعرها الحريريّ، ثمّ أجاب: "ستعلمين عن ذلك عمّا قريب. لقد كان بإمكاني ملاحظة هذه الآثار والتحكّم في استخدامها بشكل جيّد لأنّني صرت شبه صاعد كما تعلمين. لذا أظنّك ستدركين كلّ هذا عندما تصيرين صاعدة."

أومأت أنمار إليه برأسها، وانتظرت ما سيحدث تاليا بصمت فقط. وفجأة، ودون أن تتوقّع، وجدت نفسها تطفو في الهواء، أو للدقّة، محمولة من طرف باسل كأميرة أنقِذت من بطل. أحسّت بالخجل كثيرا فاحمرّ وجهها لدرجة كبيرة وكادت تفقد حسّها السليم. وما زاد الطين بلّة كان ابتسامة باسل المسترخية وقوله: "أريد التقدّم أكثر، لكنّني لا أريد الابتعاد عنك، لذا هذا هو الحلّ الوحيد."

انكمشت أنمار وخبّأت رأسها في صدرها. يبدو أنّ دروس المعلّم كان لها مفعول بعد كلّ شيء.

استمتع باسل بتصرّفات أنمار الحالية، لذا رضي عن نتيجة استجماعه شجاعته وقيامه بهذا الأمر. وجّه نظره بعد ذلك نحو الوحوش السحريّة التي انخفض عددها بشكل مهول. لقد كان يصل إلى مئات الآلاف، لكنّه اختُزِل الآن إلى المئات أو أقل.

أخذ الخطوة الأولى إلى الأمام، ثمّ أخرى، وبمدّة زمنيّة ملاحَظة بينهما. كان يتحرّك ببطء كما لو أنّه يريد إعزاز وحفظ كلّ لحظة من هذا الوقت في ذاكرته بجميع أحاسيسه. وفي الجهة المقابلة، كان الأمر صعبا على الوحوش المتبقيّة على عكس استرخاء باسل. فكلّ خطوة منه كانت كجبل بحمل كبير يسقط عليها. كلّما قطع المسافة واقترب منها، وَزُن الحمل وأحسّت الوحوش بنفَسها ينقطع وتُستعصى قدرتها على الوقوف بشكل جيّد.

وكلّما مرّ الوقت، نقُص عدد الوحوش السحريّة التي أمكنها تحمّله. وبسرعة اختفى عدد منها بدءا من ذات المستوى العاشر، وصولا إلى ذات المستوى الحادي عشر. وبعد مدّة معيّنة، كان باسل قد بلغ نهاية النهر عرضا، ولم يبقَ له سوى خطوة أخرى على عبوره. توقف عندئذ، وحدّق إلى زعيميْ الجانب الجنوبيّ بنفس الابتسامة الهادئة التي اعتلت وجهه طوال الوقت. ففي الوقت الذي اقترب فيه إلى هذه الدرجة، لم يكن أمامه سوى الأفعى الكوبرا المجنّحة وحصان مخالب الظلام.

لقد كان ذلك رهيبا للغاية، وجعل أنمار تشعر بالهيبة القادمة من باسل بالرغم من استرخائه، لكنّ استرخاؤه هذا لم يدم عندما بلغ تلك المرحلة، وفجأة، انطلقت نيّة قتله وهالته، وبالطبع صاحبهما الضغط من فنّه القتاليّ الأثريّ.

كلّ هذه الأشياء زادت من هيبة باسل ورعبه في أعين الوحشين السحريّين. لقد استطاع الزعيمان المحافظة على رباطة جأشهما حتّى الآن، ولكن بعدما أطلق باسل ضغطه المخيف لم يستطيعا الوقوف في هذا المكان بشكل جيّد لوقت أطول. لقد كان من الواضح أنّ غريزتهما كانت تخبرهما بالهرب إلى أقصى مكان يقدران على بلوغه.

فتح باسل فمه قائلا بهدوء: "هل حقّا تريدان منّي خلع حجريْ أصلكما؟"

بدا ذلك كتهديد بسيط نوعا ما، لكنّه حمل ثقلا رهيبا وأثّر بشكل كبير في غريزة وحشيْ المستوى الثاني عشر. لم يفقها شيئا ممّا قاله باسل، لكنّ نيّته أوضحت تماما ما أراد فعله.

صهل حصان مخالب الظلام، وصاحب صهيله ذاك زئير فجعله مختلف تماما عن الصهيل العادي، وفحّت الأفعى الكوبرا المجنّحة بصوت مختلط بزمجرة، فاستدارا معا واختفيا بسرعة كبيرة. لقد كانا يقفان هنا بصعوبة حقّا.

قال باسل لأنمار بعد ذلك بابتسامة خفيفة وعينين ضيّقتين: "سنكمل رحلتنا الآن ! "

من تأليف Yukio HTM

أطول فصل بالرواية !

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة لأيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2018/10/19 · 1,041 مشاهدة · 2496 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024