201 – الصحن الفخّار

كان الرمح الخشبيّ يكاد يبيد روح إبلاس حتّى، لكنّه توقف فجأة أمام جدار قرمزيّ ظهر على حين غرّة. كان الصحن الفخّار الصغير بيد شيطان اليأس هادئا طوال الوقت كما لو لم يحدث شيء، لكن كان من الواضح أنّه مصدر ذلك الجدار الأحمر الذي بدا شلّال دماء يسقط من السماء.

كان شلّال الدماء ذاك يحمل كمّا غير معقول من الطاقة الروحيّة المركّزة إذْ فاقت بكثير كلّ ما ملكه شيطان اليأس نفسه. حتّى أن مستوى هذه الطاقة الروحيّة كان عاليا للغاية وفاق كلّ توقّعات إدريس الحكيم.

كان رمحه يستطيع اختراق وإبادة كلّ شيء، لكنّه كان عديم الفائدة أمام هذا الشلال الأحمر. لم يستطِع أن يمرّ عبره أو تبديد الفضاء أو صنعه. كل شيء صار غير قابل للتطبيق بعدما أصبحت كلّ قوانين العالم تحت سيطرة شلّال دماء السماء. لقد كان ذلك جنونيّا ولم يكن هناك كثير من الاحتمالات حتّى لا يعلم إدريس الحكيم ما كان يحدث بالضبط.

استرجع رمحه الخشبيّ بسرعة قبل أن يتحطّم في محاولته اختراق الشلّال الأحمر، ثم تنفّس بصعوبة بسبب استخدامه كمّا هائلا من طاقته الروحيّة، وتحسّر على الموقف الذي وجد نفسه فيه. لقد كان إبلاس لا يزال يملك قدرا لا بأس به من الطاقة الروحيّة، وعنده الآن كنز سامٍ في جعبته ليستخدمه كما يشاء على ما يبدو.

سأل إدريس الحكيم صارخا، متعجّبا: "كيف؟ كيف لك أن تملك كنزا كهذا تحت تحكّمك؟ يجب أن يكون كنزا من مستويات السلطنة على الأقلّ." ركّز إدريس الحكيم باستخدام حكمته السياديّة فحلّل كلّ ما بصره: "لا شكّ في هذا. إنّه من مستوى سلطان أصليّ."

ابتسم إبلاس ولم يقل شيئا تاركا إدريس الحكيم يحلّل وضعه كما يشاء. لقد كان ذلك كنز سلطان أصليّ حسب كلام إدريس الحكيم، ولم يكن أيّ كنز. لقد كان بصريح العبارة سلاحا روحيّا لشخص اعتاد أن يكون سلطانا روحيّا في وقت ما.

أكمل إدريس الحكيم كلمات ذهوله: "لقد رأيت وفطنت بالعديد من الأمور، لكنّ هذا فاق كلّ توقّعاتي يا إبلاس!"

رفع شيطان اليأس الصحن الفخّار الذي كان يحجم اليد إلى الأعلى ثم اختفى الشلّال القرمزيّ، فتكلّم بعد ذلك: "لقد أخبرتك أنّ هناك ألغاز عالميّة لطالما حيّرتني. سأخبرك عن سببها الأصليّ؛ إنّه هذا الصحن الذي أحمله. لقد كان الحصول عليه هو أفضل ثروة وحظّ ملكتهما يوما."

دار السائل الأحمر في الصحن ببطء فتجمّعت كلّ القطرات الزرقاء الفاتحة في مركز الدوامة التي صُنِعت، وازدادت سرعة الدوران بشكل مستمر حتّى أصبح الشخص يستطيع سماء أصوات صفير وأصوت تشبه احتكاك قطع حديد بأخرى. كان ذلك الصوت عامّة بعدما اختلط يشبه صرخات موت مخلوقات لا تعد ولا تحصى.

"ما زلت لم أجعله سلاحيّ الروحيّ الخاصّ بعد، لكنّني سأنجح في ذلك يوما ما، لكنّ هذا الاتصال بيني وبينه كافٍ حاليا لإنهاء أمرك يا حكيم بكلّ سلاسة. اليوم، ستُطوى صفحة من كتاب التاريخ، ولن يُذكر وجودك بعد الآن."

"فلأجعلنَّها سماءً تصبّها دماءً، وعصرا لا يحكم فيه بشرا."

أشعّ الصحن الفخّار من المركز، وارتفع منه بريق بنفس لون القطرات الزرقاء، ثم التقى بالسماء في الأعلى كما لو اتّصل بها، فامتدّ عبره السائل الأحمر حتّى التقى هو الآخر بالسماء. كان هذا السائل الأحمر يأتي من الصحن الصغير، لكنّ غوره بدا لا يسبر مهما طال الوقت، حتّى لطّخ السماء محوّلا إيّاها لبحر دماء.

أصبح العالم قرمزيّا للحظات، وفي هذه اللحظات قُمِع الجميع وسقطوا على الأرض فورا. كان ثقل سماء الدماء كبيرا للغاية ولم يكن هناك بشر في العالم الواهن قادر على تحمّله.

صعدت القشعريرة مع جسد إدريس الحكيم، إلّا أنّه لم يكن حتّى في هذه اللحظات يفكّر في نفسه، ولكن في تلميذيه. لقد كان إبلاس شيطان اليأس، لذا كان يعلم أنّه لن ينسى أمر باسل أبدا وسيظلّ يتذكّره حتّى يستعمله ضدّه ليسلب منه نور عينيه ويظلم مساره الروحيّ؛ كان ذلك هدف إبلاس الأكبر.

وكما توقّع إدريس الحكيم، وجد السماء الحمراء قد بلغت مدى بعيد وصولا إلى باسل، فاستجمع كلّ ما ملك من طاقة وانطلق بخفّة كبيرة إلى موقع تلميذه حتّى يوقف ما على وشك الحدوث.

لقد كان إبلاس قادرا في هذه اللحظات على قتل إدريس الحكيم، لكنّه لم يرد فعل ذلك بكل تلك البساطة، لقد أراد أن يفعلها بطريقته المفضّلة. أراد أن يرضي عطش الألفيّة السابقة. لم يكن هدفه استخدام باسل لهزيمة إدريس الحكيم قطّ، ولكن فقط لرؤية اليأس في عينيْ إدريس الحكيم.

ساحت السماء الحمراء كمعدن يذوب، وسقطت منها بعض القطرات التي تحوّلت إلى أنصال عظيمة بسرعة كبيرة، ثمّ اتّجهت مباشرة إلى هدفها.

كانت هذه الأنصال الحمراء قادرة على اختراق أيّ دفاع يوجد في هذا العالم، ولم يكن هناك ما يستطيع إيقافها، حتّى إدريس الحكيم بنفسه الذي قدم لاعتراضها وجد نفسه يمرّ بوقت عصيب جدا لتحقيق ذلك.

صرخ إدريس الحكيم بكلّ ما يملك ثم فعّل حكمته السياديّة: "أقدّم لك روحي، فاسلبي ما شئت وسخّري كلّ ما احتجت. زمني لك، ولكن روح ابني له وحده."

دارت كرات الحكمة السياديّة الثلاث فوق رأس إدريس الحكيم، واستجمعت قوانين عالميّة عظمى لا يعلم أحد عن معناها أو مصدرها، حتّى غدريس الحكيم بنفسه لم يكن قادرا على مواكبة كلّ تلك التغيّرات في المجرّات والنجوم التي حملتها حكمته السياديّة في الكرات الثلاث.

أحسّ بعد ذلك بروحه تُعصَر وتتقطّع إلى أشلاء، حتّى أنّ عظامه تكسّرت كلّها وذبل لحمه قليلا كما لو كان يشيخ.

صرخ: "لا شخصَ أزليّ أبديّ بل أمديّ، فلا فانٍ سرمديّ."

ابتعدت الكرات الثلاث عن بعضها حتّى صارت المسافة بينهما تقاس بآلاف الأمتار، ثم أطلقت بعد ذلك كل واحدة منها نورا أزرقا فاتحا، فالتقت الأضواء الثلاثة فوق رأس إدريس الحكيم، ثمّ اخترقت نقطة الاتقاء نقطة أصل جبهته.

لمع جسده بنفس اللون الأزرق، ثمّ رفع إصبعه فإذا بالكرات الثلاث تكوّن حاجزا لا يمكن اختراقه بسرعة كبيرة، فارتدّت عندئذ كلّ تلك الأنصال الحمراء وتبدّدت من شدّة ردّة فعل حاجز الكرات الثلاث.

تعجّب إبلاس ثم قال صارخا: "ستتمادى إلى حدّ التضحية بزمنك يا حكيم! كم فقدت الآن؟ خمسين سنة؟ أم هي مائة سنة؟ لكن كلّ ذلك بلا معنى يا صديق الألفيّة. حتّى لو ضحيّت بروحك نفسها لن تنجو من هذا؛ لن تسلم من يأسي. اغرق!"

ساحت السماء الحمراء كلّها مرّة واحدة فوق إدريس الحكيم، ثم تشكّلت لتصبح نصلا واحدا مركّزا. لقد كان هذا النصل يبدو حيّا نوعا ما، وظهرت به العديد من الصور. كلّ تلك الصور حملت معها مناظر الشؤم البؤس، من حروب وقتل وعصور كارثيّة على مرّ التاريخ.

كان هذا النصل الأحمر كنصل دماء العصور نفسها.

انطلق بسرعة جنونيّة حتّى التقى بحاجز الكرات الثلاث، فكانت الضجيج مرعبا لدرجة لا توصف. كان أيّ شخص يسمع هذا الضجيج يسمع صرخات الموت تتردّد مرارا وتكرارا في ذهنه حتّى تجعله يختبر شعور الموت نفسه، فما بالك بإدريس الحكيم الذي كان يختبر ذلك مباشرة؟

ابتعدت الكرات الثلاث عن بعضها أكثر فأكثر فأصبح الحاجز أقوى وشاخ إدريس الحكيم أكثر. أصبح حاليا يبدو كشخص في عمر الأربعين بعدما كان شابّا في العشرينات من عمره. لقد كان يستخدم زمنه نفسه حتّى يُخوّل له أن يستخدم الحكمة السياديّة لمقاومة هجوم إبلاس بعدما فرُغت طاقته الروحيّة.

كان هذا الحاجز عظيما وبإمكانه صدّ هجمات روحانيّ مبارك بكلّ سهولة، لكنّ هذه المرّة كان السلاح سلاح سلطان أصليّ للأسف، فكان أكثر ممّا يستطيع تحمّله.

اخترق النصل الأحمر الحاجز ومرّ عبر إدريس الحكيم، من خلال جسده وروحه نفسها. أحسّ عندئذ بروحه تتآكل شيئا فشيئا كما لو كان هناك حاصد أرواح يأكلها ببطء. لقد كان واضحا أنّ تلك هي قدرة النصل الأحمر، أو للدقّة، قدرة الصحن الفخّار.

وصل نصل سماء الدماء بعد ذلك إلى باسل الذي كان ساقطا على ركبته، عاجزا عن التحرّك.

كان إدريس الحكيم ممدّدا على الأرض غير قادر على تحريك إصبع واحد بعدما أصبح على شفا الموت، وصار يشاهد باسل يقترب من الموت أمام عينيه غير قادر على فعل أي شيء.

"توقّف يا إبلاس. لا تحتاج إلى ذلك."

"هاهاها" ضحك إبلاس من قلبه ثمّ تكلّم صارخا: "لا تقل لي مثل هذه الأشياء في هذه الأثناء. تعلم وأعلم، إنّي لست بمتوقّف."

كان النصل عند رأس باسل، وأبسط نيّة من إبلاس كانت كافية حتّى يخترقه به بكلّ سهولة ماحيا إيّاه من الوجود كأنّه لم يوجد أصلا.

شاهدت أنمار والآخرين ما كان يحدث أيضا دون القدرة على فعل شيء، وانتظروا حصول معجزة ما فقط. لقد كانوا في موقف يائس حقّا. لو لم يظهر شخص بمستوى عالٍ للغاية كافٍ لمجابهة إبلاس بسلاحه ذاك، فلن تكون هناك فرصة لباسل حتّى ينجو.

"اغرق يا حكيم!"

قالها إبلاس ثم ترك النصل يخترق باسل.

"كـــلّا!" صرخ إدريس الحكيم في نفس الوقت بينما يتقيّأ الدماء وتتآكل روحه في نفس الوقت. لقد كان الآن في حالة لا يُحسد عليها. فبعدما تعرّض لقدرة الصحن الفخّار، أصبح محكما عليه بالموت؛ أصبح وجبة لسلاح إبلاس حتّى يغدوَ أقوى.

*ززززن*

اخترق النصل جبهة باسل، ومرّ عبر نقطة أصله هناك محاولا بلوغ روحه نفسها، حتّى بلغها وبدأ يخترقها. كلّ هذا حدث في غمضة عين ولم يكن هناك وقت للملاحظة حتّى. فقط إدريس الحكيم وإبلاس من كانا يعلمان ما كان يحدث بالضبط.

صرخ باسل وشقّت أصواتُ ألمه السماءَ، وفطرت قلب إدريس الحكيم. لقد كان يرى تلميذه الذي يعدّه ابنا له يتعذّب أمامه قبل أن تُستنزف روحه نهائيّا. كانت نظراته تصير خافتة أكثر فأكثر ممّا زاد من تحمّس شيطان اليأس؛ لقد كانت تلك هي النظرات التي لطالما أراد رؤيتها.

انطلق بريق أبيض من باسل أعمى الجميع فجأة، وصاحبه صوت غريب لم يعلم أحد عن ماهيته أو من كان صاحبه. كان هذا الصوت يترك شعورا مريبا في الأنفس إذْ كان كأزيز بصدى عالٍ.

صرخ الصوت الغريب وسط أشعّة الضوء فأصمّ الناس أجمعين قبل أن يردّد بلهجة متكبّرة للغاية: "أنا السلطان ذو الطغيان، حاكم الأزمان المطوية في صفحات النسيان. فمن يمكن أن تكون حتّى تتجرّأ على استخدام ذلك الصحن ضدّي؟ من أنت حتّى تملكه أصلا دون رخصة منّي؟"

فتح إبلاس عينيه على مصراعيهما غير مصدِّق لما يحدث. ألم يكن ينهي أمر تلميذ حكيم قبل قليل؟ من هذا الشخص الذي ظهر فجأة بينما يعلن نفسه حاكما للأزمان؟ وقبل ذلك، كيف له أن يوقف شيئا كنصل سماء الدماء؟

تحدّث شيطان اليأس بسرعة سائلا: "مَن أنت؟ مِن أين أتيت؟"

تردّد صوت الأزيز مرّة أخرى حاملا نيّة عظيمة به: "لا تجعل السلطان يكرّر كلامه أيّها المنحطّ. لستَ من الأربعة عشر حتّى لكنّ ذلك الصحن في حوزتك، بل وتستخدمه أيضا، وهناك رابط بينكما. إنّك لا تعلم كم هذا مثير للغضب يا أيّها الشقيّ."

بَسَرَ إبلاس لمّا سمع ذلك الكلام وحدّق إلى الصحن الفخّار في يده، محاولا كشف ما يدور حاليا. ما علاقة هذا الصوت بالصحن الذي يملكه؟ هل يمكن أنّه إحدى الإجابات عن تلك الألغاز؟ كلّ شيء أصبح أكثر غموضا له وأراد أن يعلم ما يحدث بأسرع وقت.

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2018/12/27 · 1,142 مشاهدة · 1640 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024