207 - كشف الستار عن الحادثة الغامضة

207 – كشف الستار عن الحادثة الغامضة

مضت تلك الليلة الهانئة، وبعدما واسى الاثنان بعضهما قرّرا ما سيفعلانه وحدّدا أهدافهما القريبة. كان باسل يستفسر عن بعض الأمور من أنمار في الصباح بعد الفطور، وعندئذ سمع بالحادثة قبل ستّة أشهر، والتي لم يعلم أحد حتّى الآن عن ماهيتها، إلّا أنّ باسل شكّ في بعض الأشياء التي جعلته يعبس ويضيق عينيه، وخصوصا عندما فكّر في كلمة "ختم" تلك.

مرّ باسل على أمّه والعمة سميرة، ثم رأى أحوال تشكيله فأعطاهم بعض النصائح لتحسين مهاراتهم كالعادة، ثمّ ودّع الأباطرة الثلاثة الذين شدّوا رحالهم، وأمضى بقيّة اليوم مع جدّته التي انتقلت للعيش مع عائلته. وهكذا ولّت أيّام أخرى دون حصول أيّ تغيّر، وتمتّع باسل بتلك الأوقات لحظة بلحظة وقدّرها كثيرا.

كان يعلم الآن أنّ هناك طريقا طويلا وشاقّا ينتظره، وقليل من الأشخاص سيكونون في جانبه بحلول ذلك الوقت. كان يعلم أنّه سيأتي وقت يودّع فيه عائلته الصغيرة التي لن تعيش طويلا. كان عمر البشر والسحرة الروحيّون مختلف للغاية، وقُدِّر عليهم الافتراق في نهاية المطاف لا محالة، لكنّ باسل لم يكن جشعا، وفقط رضي بما يملك حاليا وأراد أن يعيش مع تلك العائلة الصغيرة ما تبقّى من سنوات.

كانت حياة البشر مختلفة كثيرا عن حياة السحرة الروحيّين، ولهذا كان حامدا ربّه على وجود فرصة له على الأقلّ حتّى يعيش مع عائلته. كان السحرة الروحيّون يعيشون لآلاف السنين، بينما كان أكبر معمّري البشر يتراوح عمره بالمائة، ولهذا كان هناك اختلاف بينهما كالذي بين السماء والأرض ولم يكن هناك طريقة لجمعهما قطعا.

كانت كلّ لحظة يمضيها باسل حاليا ثمينة للغاية، وحاول تثمينها أكثر فأكثر بدل محاولة تمديدها دون الحصول على فائدة، وأكثر من ذلك، لم يرد أن يجرّ معه عائلته الصغيرة إلى هذا المسار المديد وجعلها تعاني على حساب توفير حياة طبيعيّة كما ناشدت أصلا.

كان باسل سابقا ليحاول تمديد عمر أمّه والأقربين منه، إلّا أنّ ذلك له عواقب وخيمة فهو خرق لقوانين العالم الطبيعيّة، فلكلّ شيء ثمن، ومثل هذه الأشياء ثمنها باهظ. أمّا الآن، فكان الأمر مختلفا كثيرا، وبنظرته الحالية إلى العالم، كان يعلم أنّه يجب عليه ترك عائلته الصغيرة تعيش بهناء كما شاءت في المقام الأوّل.

تجوّل باسل هنا وهنالك طيلة تلك الأيّام، وذات يوم، كان مستلقيا على تلّ أخضر يتحسّس الهواء العليل الذي يداعب بشرته، كان يتأمّل ويستشعر ما حوله، وبدا كما لو أنّه يبحث عن شيء ما في الواقع عبر استشعاره، وبالرغم من أنّ بعض الناس مرّوا بجانبه من حين إلى آخر، إلّا أنّهم لم يدركوا ما كان يفعل، وخمّنوا أنّه يسترخي فقط، فلم يزعجه أحد.

فتح عينيه بعد مدّة لا يعلم أحد كم استغرقت، ثمّ نظر إلى الأرض وتمتم: "لقد تضرّرت هذه الأرض كثيرا وحتّى بهذا الأساس الجديد فستكون رمادا عندما يصبح العالم روحيّا، ولكن سيكون صعبا ترميمها من جديد قبل أن يصبح هذا العالم روحيّا." فكّر لقليل من الوقت ثمّ أكمل التحدّث مع نفسه: "كما توقّعت، يجب عليّ تتبّع خطى المعلّم في هذا والاستعداد جيّدا قبل الترحال. يجب أن نبدأ في القريب العاجل."

التفت باسل فجأة وحدّق إلى مكان محدّد لم يكن به شيء في الواقع، لقد كان مجرّد امتداد للتلّ إلّا أنّه كان هناك صخرة بحجم الإنسان فقط. فتكلّم وبدا كما لو كان يخاطب الهواء الطلق: "لقد سمعتني. سنبدأ بعد أسبوع."

تموّج الهواء الطلق فوق الصخرة فجأة وتشوّهت صورته قليلا فظهر بعد ذلك شخص ما، كانت عينا هذا الشخص كبيرتين في وجهه الصغير، وعندما عبس بدا كطفل مستاء، وحتّى عندما تكلّم لم يكن صوته عميقا كثيرا حتّى لو كانت فيه رنّة صوت الرجال: "حسنا، حسنا. لقد كنت ابنا جيّدا طوال هذه الأيّام لكنّك تصبح متسلّطا هكذا عندما تخاطبني، أتظنّ محتوى الاتفاق كان أصير عبدا لك؟"

ابتسم باسل وقال ساخرا: "لا تقلق فأنا لا أستعبد الناس، ذلك شيء عفى عليه الزمن في نظري، ولكن نظرا إلى الاتفاق، أليس هذا أيضا أحد واجباتك طبقا لدورك أيّها العالم المجنون؟"

"أنت... حقّا...!" لم يعلم أوبنهايمر ماذا يقول، وخصوصا بعد استمرار باسل في مناداته بالعالم المجنون رغم كلّ محاولاته في تصحيح ذلك.

لوّح بيده والتفت بتطاير معطفه الأسود بالريّاح، وقال: "ألاقيك هنا بعد أسبوع إذا."

ابتسم باسل بعدما أغاظ ذلك العالم المجنون؛ كان يستمتع في الواقع بردّات فعله هذه.

تمتم لنفسه بعد مغادرة أوبنهايمر فرانكنشتاين بوجه جدّي: "والآن فلنجرّبها، أظنّها ستكون صعبة كونها المرّة الأولى."

جلس متربّعا وفجأة ارتفع إلى السماء على ذلك الحال، وبالطبع كانت هناك رياح طفيفة لكنّها كانت كفيلة بحمله ورفعه إلى السماء عاليا جدّا، حتّى فاق السحاب وزاد ارتفاعه أكثر فأكثر، إلّا أنّ تلك الأجواء لم تؤثّر عليه نهائيّا بسبب مستواه السحريّ والطاقة الهائلة التي غطّت جسده، كانت تلك الطاقة كبيرة لدرجة لا تُخيّل ولم يسبق لباسل أن سمح لطاقة العالم أن تنجذب إليه بتلك الكمّيّات الضخمة.

لقد كان جسده، وروحه، وتحكّمه وكلّ شيء كان يساعده على ترك طاقة سحريّة كبرى تنجذب إليه في مستوى آخر تماما عمّا كان عليه قبلا، وخصوصا جسده وتحكّمه اللذين كانا حقّا مرعبين لدرجة لا توصف، لم يكن حتّى أباطرة الروح قادرين على التحكّم بتلك السلاسة والبساطة.

ارتفع في السماء كثيرا ولمدّة طويلة جدّا حتّى بلغ الفضاء الخارجيّ كلّيّا، فإذا به يرى اتسّاع الكوكب الذي يعيش عليه ولم يرَ نهايته لكبره. كان ذلك كوكبا ضخما للغاية وامتدّ قطره لعشرات آلاف الأميال.

كانت الطاقة السحريّة تحمي جسد باسل تماما وتنفّس بشكل طبيعيّ حتّى بذلك المكان، وفجأة أبطل الريّاح تحته وترك نفسه يطوف على مدار العالم الواهن ببطء وفجأة أحاطه ضوء فضّيّ وغطّاه بالكامل ولم يعلم أحد عن الذي كان يحدث سواه والخالق.

مرّ وقت طويل حتّى حلّ الظلام في مدينة العصر الجديد، وتساءلت أنمار عن مكان باسل، كونها أردتها أن يأتي ليتعشّى معهنّ.

كان ذلك الليل هادئا، وفجأة، ظهر من سمائه المظلمة شعاع اعتقد الناس في البادية أنّه شهاب مارّ، ولكن بعد مرور قليل من الوقت لاحظوا اقترابه منهم فاندهشوا وصاح أحدهم: "إنّه نيزك!"

هرب الناس من اتّجاهه وبعد اقترب الشيء أكثر، صرخ أحدهم كان ساحرا، ولاحظ ما كان ذلك: "لا، إنّه بشر."

*بااام*

سقط ذلك الشخص على الأرض فخلّف حفرة كبيرة للغاية، وعندما اقترب منه الناس وجدوا جسده محترقا من عدّة جهات بينما كان مستلقيا على بركة من دمائه الخاصّة.

جاء التشكيل بسرعة مع الحارس جون ونادوا أنمار أيضا، وعندما حضروا أخيرا تعرفّوا على ذلك الشخص؛ وبالطبع لم يكن سوى باسل الذي سقط من السماء لسبب ما.

هلعت أنمار ولم تعلم ما حدث فسارعت ومددته بإكسير العلاج ثمّ أخبرت شي يو وبعض سحرة العلاج في التشكيل أن يسارعوا في علاجه وخصوصا روحه، فبالرغم من أنّ جسده كان متضرّرا بشكل كبير، إلّا أنّ روحه كان متضرّرة أكثر من ذلك.

فتح باسل عينيه بصعوبة بالغة بعدما قدِّم له العلاج لبعض الوقت، وبينما لا يزال يعالج، حاول التكلّم لكنّه تقيّأ قدرا كبيرا من الدماء مرّة واحدة، فجعل أنمار تهلع أكثر، لكنّه حاول مرّة أخرى وتمتم: "لا قـ-قلق."

هدأت أنمار عندما سمعت كلامه قليلا وارتاح بالها فأمرت بحمله إلى الغرفة التي أمضى فيها سنة كاملة من أجل إكمال علاجه هناك. لقد كان هذا الأمر عجيبا وحتّى بعد سؤاله لم يتلقّوا إجابة مرضية أو واضحة إطلاقا، إلّا أنمار التي شكّت في بعض الأمور وسألته مباشرة: "هل جرّبتها؟"

حدّق باسل إليها ثمّ استجاب ببطء كونه مازال مريضا حتّى بعد مرور ثلاثة أيّام في الواقع: "ذلك صحيح، لكنّني ضعيف للغاية على مستواها، وأكثر من ذلك، أنا لست مالكها الأصليّ، لذا لا أعتقد أنّه سيحدث وأرتاح باستخدامها قبل أن أبلغ مرحلة معيّنة."

فهمت أنمار ما عناه، فلمحت عبوسا منه جعلها تفهم شيئا آخر فسألت مباشرة: "ماذا اكتشفت؟ فانت لم تكن لتجرّبها دون استخلاص فائدة ما."

اختفى عبوس باسل وتفاجأ بسؤال أنمار؛ حقّا تفهمه في كلّ الأوقات. ابتسم قبل أن يجيب: "ما يكفي."

سعل قليلا ففكّر لقليل من الوقت قبل أن يكمل إجابته التي انتظرتها أنمار بصبر: "في ذلك اليوم، خُتِم عالمنا تماما عن باقي العوالم الأساسيّة والثانويّة دون استثناء."

وقفت أنمار فجأة من مكانها متفاجئة كثيرا بسبب ما قاله باسل وعلمت أخيرا ما المعنى وراء تلك النيّة العظيمة وكلمة "ختم". لقد كان ذلك غامضا جدّا، لكنّ باسل كشف ذلك الغموض عبر طريقة أكثر غموضا، وبالطبع كانت أنمار تعلم عن كيفيّة تحقيقه ذلك.

ومع ذلك، ومضت فكرة في بال باسل جعلته يعبس من جديد ماحيا تلك الابتسامة من على محياه، فأكمل: "لديّ شكّ بأنّ عالمنا ليس العالم الوحيد الذي حدث له هذا الشيء، وهذا يؤرقني ويجعلني أتساءل أكثر عن سبب حدوث ذلك، وعن ما قد يكون حدث بالضبط بين العوالم الروحيّة!"

عمّ الصمت لقليل من الوقت، وعندما فكّر باسل جيّدا قرّر ما يجب فعله لمرّة أخيرة فقال: "على كلّ، ختم عالمنا في صالحنا كثيرا، ويجب أن نستغلّ هذا الوقت جيّدا، فهذا الختم سيدوم لمدّة لا بأس بها على ما أظنّ، وبحلول ذلك الوقت يجب أن نكون مستعدّين لأسوء السيناريوهات."

كان في الواقع تحقيق مثل هذا الأمر شيئا في غاية الصعوبة، إذ تحتّم عليهما منذ الآن حتّى موعد انكسار الختم جعل العالم الواهن في نفس مستوى العوالم الروحيّة كي تكون لديهم فرصة ولو ضئيلة في مواجهة الأعداء على الأقلّ.

فكّرت أنمار أيضا وسألت: "ما هو أسوء السيناريوهات؟"

تنهّد باسل عندما فكّر بذلك، ولم يسعه سوى تمنّي عدم حدوث ذلك، لكنّه أخبر أنمار رغما عن ذلك.

لقد كان وجهها شاحبا عندما سمعت بما هو محتمل حدوثه في يوم ما من المستقبل، فشدّت قبضتيها أكثر كما اشتدّت عزيمتها.

تنهّد باسل ثمّ فكّر في شيء ما مرّة أخرى، وهذه المرّة لم يشارك تلك الأفكار مع أنمار. شغل باله صاحب تلك النيّة فإذا به يفكّر في الشخص القادر على ختم العوالم كلّها عن بعضها. وإن كان هناك شيء واحد كان متأكّدا منه، فهو التضحيّة التي تطلّبها ذلك الأمر، لأنّه حتّى بمستويات السلطنة، كانت التضحية غالية الثمن كثيرا!

راودته شكوك بأحوال العوالم حاليا، وحيّرته، وخصوصا عندما فكّر في الشخص الذي قد يكون ضحّى حتّى يضع الختم، وفكّر في ما جعل أصلا ذلك الشخص يضحّي. والآن بجمع كلّ على كلّ، صارت حتّى أسوء السيناريوهات التي أخبر أنمار عنها تبدو طفيفة.

قد يكون لديه بعض الأهداف الجديدة، لكن يبدو أنّ هدفه الأوّل لم يتغيّر وما زال قائما، وهو جعل العالم الواهن عالما روحيّا يستطيع حماية نفسه من أيّ شيء، ولكن بعدما علم عن الكثير من الأشياء، صار ذلك الهدف يبدو صعبا للغاية وتحقيقه قريب للمستحيل.

خاطب أنمار قائلا: "يا أنمار، سأذهب في رحلة عبر العالم الواهن من أجل الاستعداد لتحوّل عالمنا إلى عالم روحيّ، وبعد ذلك سأغادر إلى قارّة الأصل والنهاية مباشرة."

عبست أنمار ثم فهمت المغزى من كلامه، فسألت بالرغم من معرفتها الإجابة: "ألا يمكنني مرافقتك؟"

رفع باسل يده بصعوبة ثم وضعها على وجنتها: "أنت تعرفين أنّه ليس قضيّة يمكن أم لا، إنّما فقط أحتاج شخصا ما ليبقى هنا أثناء عدم وجودي. أحتاجك أن تبقي حتّى تعلّمي التشكيل الفنون القتاليّة التي سأمنحك إيّاها، وإرشادهم حتّى يخترقوا كلّهم إلى قسم مستويات الربط الثاني بأسرع وقت ويتقدّموا فيه بشكل أسرع."

تنهّدت أنمار، ثمّ قبضت يده وردّت: "حقّا... لا أحبّ بعض المرّات مهارتك في الإقناع."

ابتسم باسل ثم نام مباشرة بعد ذلك، لقد كان مصابا بشدّة وكان عليه أن يرتاح من أجل الرحلة الطويلة التي تنتظره.

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/02/04 · 1,044 مشاهدة · 1722 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024