208 – تتبّع وريد

مرّ يومان وشُفِي باسل روحا وجسدا، إلّا أنّ عقله بقي مشغولا طيلة الوقت فتدبّر باليومين الباقيين حتّى صفّى كلّ الشوائب التي غمرت بحر روحه، وذهنه الذي كان مشوّشا، وأعاد تدوير طاقته السحريّة بتفريغها وتركها تُملأ طبيعيّا من جديد.

كانت مثل هذه العمليّة بسيطة للغاية بالنسبة له حاليا، ولم يكن يحتاج للتركيز إلّا قليلا أثناء عملها، كما لو اعتاد على فعلها مرات لا تحصى.

فتح عينيه بعد مدّة قصيرة من انتهائه وحدّق إلى الغرفة التي تحيط به، ثمّ برق بؤبؤاه فجأة بضوء خافت وعندما نظر إلى العالم بهما، استطاع رؤية عالم آخر لم يسبق له أن شاهده.

كانت هناك أسماك ذهبيّة كلّ واحدة منها بحجم اليد تطفو في الغرفة، وبدا كما لو كانت تسبح في نهر ملتوٍ كان يتموّج بطريقة غريبة وغير متّزنة، فكان يلتفّ على نفسه ويلتوي بطرق مختلفة مشكّلا عدّة مسارات افترقت فيها الأسماك الذهبيّة؛ كلّ مجموعة منها أخذت اتّجاها.

نظر باسل إلى ما يحدث أمامه بحماس، فحتّى لو كان يعلم عن هذه الأشياء، إلّا أنّ النظر إليها بعينيه وتجربة هذا الأمر بشكل حيّ لمختلف تماما. أراد أن يرى ما يعلم، فخرج من الغرفة إلى المدينة وتتبّع مسار النهر الملتوي حتّى وجده مجرّد جزء بسيط من بحر لا نهاية له.

كانت مدينة العصر الجديد تفور بطاقة العالم التي تشكّلت على صور تمثّل الحياة نفسها؛ تقلّبت أمواج ذلك البحر وغاصت فيه أنواع مختلفة من المخلوقات المائيّة، وكان بعضها مجرّد أسماك صغيرة كتلك الذهبيّة، وكان الآخر يمكنه الارتفاع وبلوغ السماء كتنين عتيق كما في الأساطير.

كانت أرضُ مدينةِ العصر الجديد متوهّجةً في نظر باسل، ومنها انبعثت رائحة زكيّة تهدّئ الروح وتغذّي الجسد، وعندما تتبّع مسار الرائحة أحسّ بوريد يخترق أعماق الأرض أسفله حيث كان مليئا بطاقة العالم بشكل وفير للغاية؛ كان هذا هو سبب نصح إدريس الحكيم له سابقا ببناء المدينة فوق هذه الأرض؛ فعندما يصبح هذا العالم روحيّا، لا شكّ أنّ ذلك الوريد سيكون أساسا مذهلا كثيرا.

تمتم باسل لنفسه بينما يومئ برأسه: "لا عجب في بقاء هذه الأرض حيّة حتّى بعد تلك الفاجعة!"

***

ذهب بعد ذلك إلى معقل التشكيل ورأى أحواله وصرف وقتا هناك، فودّع أتباعه القريبين وذهب مباشرة إلى أنمار التي كانت في بيت أمّه والعمّة سميرة وجدّته، ثمّ قضى بعض الوقت معهنّ قبل أن يستعدّ للمغادرة في النهاية.

" " "رافقتك السلامة يا باسل" " "

قلنها معا في نفس الوقت بعدما ودعّنه بعناق جماعيّ فقط دون بكاء، فلقد استعدن لهذا جيّدا عندما علمن بالأمر، أمّا هو فلم يسعه عندئذ سوى الشعور بالدفء والاعتزاز بهذه اللحظات كما اعتاد أن يفعل.

***

كان باسل حاليا يقف على نفس التلّ الذي التقى فيه بـأوبنهايمر فرانكنشتاين سابقا، ودون أن يحتاج للكلام ظهر ذلك الأخير من العدم مرّة أخرى وتحدّث: "إذن، ما وجهتنا؟"

حدّق باسل بعينين تبرقان إلى العالم من جديد، واستشعر ذلك الوريد مرّة أخرى وأجاب: "ليس صعبا، سنبحث عن أشياء، ونضع أشياء، ثمّ ننتظر، وبذلك سنصنع أشياء."

"أووه، يا لك من شارح ماهر!" قال أوبنهايمر فرانكنشتاين ساخرا: "لو كنت لن تقول لي فأخبرني أنك لن تقول فقط."

ابتسم عندما غضب الشابّ أمامه، وأجاب: "أنت فقط لا تحتاج لشغل بالك بهذا، ستفهم في وقت لاحق، لكن ليس الآن." أجاب بهذا وهمّ مغادرا.

"أمم؟" عبس الشابّ فلحقه بسرعة بينما يصيح: "أنت... هل تخبرني بأنّني غبيّ؟ أنت... لقد تجاوزت حدودك حقّا."

تمشّى باسل بينما يتحسّس العالم غير مهتمّ بكلام الشابّ خلفه، لكنّ هذا الأخير استمر: "من ينادي الآخر بالغبي هو الغبيّ، ألا تعلم؟ أنت... صحّح كلامك الآن."

تجاهل باسل كلامه هذا وبدأ يسرع في تحرّكه بعدما وجد إشارة قويّة كان يبحث عنها، فازدادت سرعته مع الوقت بشكل كبير؛ لقد كان يبحث عن مصدر ذلك الوريد من السابق.

كان أوبنهايمر فرانكنشتاين يتبعه دون تأخير وبدا كما لو أنّه يلاحقه لإقناعه أنّه ليس غبيّا فقط لا غير، ولم يتعب من ذلك إطلاقا مهما مرّ من الوقت.

تتبّع باسل الوريد لمدّة طويلة، فكان الاثنان قد غادرا مدينة العصر الجديد وابتعدا عنها بمئات الأميال، ومع ذلك كان الوريد لا يزال ممتدّا، حتّى أنّه بلغ أمكنة لاحظ فيها باسل تفرّعه في جميع الاتّجاهات، وعندها فهم لم كان ذلك يحدث.

ففي الواقع، كان هذا الوريد يتفرّع فيمرّ بجميع المناطق المحظورة المجاورة، ويتغذّى منها بشكل متواصل، كما لو كان تنّينا يتغذّى على الوحوش من أجل نموّه، وعندما قطعا مسافة طويلة، وجد باسل الوريد متفرّعا في عدّة جهات لدرجة أكبر ممّا تصوّر فكان كشجرة عملاقة تحت الأرض لها جذور في العالم الواهن.

قطعا طريقا طويلا حتّى بلغا مكانا كان الوريد يغلي فيه من طاقة العالم ويكاد ينفجر بغناها، وكان ذلك المكان هو السلاسل الجبلّية الحلزونيّة، وبالخصوص بـنهر دم التنين. لقد كان الوريد متّصلا بأعماقه، أو للدّقّة، لقد كان هذا هو أصل ومنبع الوريد الحقيقيّ.

ابتسم باسل وفكرّ في الوحش النائم بالأسفل، ثمّ فهم لمَ كان مثل ذلك الوحش يملك كلّ تلك القوّة ومثل تلك الخواصّ المرعبة.

تمتم لنفسه: "لا أعلم إن كان ذلك تنّينا أسطوريّا حقيقيّا أم لا، لكنّه مهما كان فقد خلّف وراءه هديّة رائعة جدّا لعالمنا."

سمعه أوبنهايمر فرانكنشتاين يقول شيئا فسارع وتكلّم: "أنت... أنا هنا أتحدّث طوال الوقت لكنّك لا تعدّني موجودا حتّى. أحقّا تريد منّي مرافقتك؟" لقد كان فعلا يخاطبه طيلة تلك المدّة دون توقّف!

التفت باسل وحدّق إليه كما لو كان سيقول شيئا، لكنّه لم ينبس ببنت شفة فاستدار غير مهتمّ، وبسبب ذلك انزعج الشابّ أكثر وقال: "هوه... فهمت، لقد فهمت جيّدا. يبدو أنّ السيّد باسل يحسب نفسه ذكيّا للغاية ولا يريد إضاعة وقته في شرح مثل هذه الأشياء. حسنا، حسنا، لك هذا. لا أعلم كم سيأخذ هذا الأمر الذي تقوم به، لكنّني سأكشف ما تنوي فعله في غضون أسبوعين."

التفت باسل ثم ابتسم جاعلا الشاب يفقد أعصابه من جديد حتّى صرخ: "أنت... ما بال تلك الابتسامة المتعجرفة؟ حسنا، حسنا، في أسبوع، سأعلم ما تنوي فعله في أسبوع."

ابتسم باسل أكثر فجعل الشابّ يرتبك أكثر فأكثر بذلك، وظلّ أوبنهايمر فرانكنشتاين يتذمّر طوال الوقت.

كان باسل في الواقع يبتسم لسبب آخر تماما؛ فهو أصلا تعمّد إثارة غضب الشابّ ذو الوجه الطفوليّ وتلاعب به حتّى قال بنفسه أنّه سيكتشف ما يحاول القيام به، وكان ذلك هدف باسل الحقيقي؛ فلو لم يعلم أوبنهايمر فرانكنشتاين عمّا ينوي فعله حتّى، لن يكون هناك فائدة من جلبه كمرافق.

نظر باسل بعد ذلك إلى الجهة الأخرى من مسار الوريد، فهذا المنبع قطع طريقا على ثلاث جهات، وإحداها هي التي أتى منها باسل، والثانية كانت تلك التي تؤدّي إلى أكاديميّة الاتحاد العظمى، حيث وقعت بحيرة العالم المباركة المحاصَرة، أمّا الثالثة، فقد كانت في الواقع قريبة كثيرا من المنبع. كان المنبع في السلاسل الجبليّة الحلزونيّة، وما كان شهيرا بقربه من هذه السلاسل الجبليّة لم يكن سوى وكر الوحش النائم.

ابتسم باسل مرّة أخرى فاتّبع الاتجاه الأخير حتّى بلغ حدود الوكر، وهذه المرّة لم يعترضه أحد من القبائل، بل على العكس، وجد الحدود مفتوحة ولم يعد هناك وجود لخط الجون كالسابق، فصار الوكر مفتوحا على بقيّة العالم كما عهد قبل ستٍّ وخمسين سنة؛ فكان التجّار يدخلون ويخرجون عبره بوفرة، كما كان السوق الرئيسيّ مشغولا كثيرا.

كان هناك بعض الناس من العالم الخارجيّ يمازحون أعضاءً من القبائل، وآخرون يتحدّثون عن مواضيع جديّة، وآخرون يتبادلون الأفكار والمعلومات؛ تغيّر الوكر حقّا في السنة الفارطة عمّا كان عليه.

بالطبع كان ما يزال يحافظ على تقاليده ولم يغيّر شيئا منها، لا من حيث شكل المنازل التي كانت سقوفها وأسوارها تحمل علامات لوحوش، ومُشكَّلة على شكل بعض الطيور الجارحة أو الوحوش الأسطوريّة كـالعنقاوات والتنانين وطيور الرخّ السامية.

كان الوكر ينقسم لعدّة مناطق، وكلّ منطقة كانت تحكمها قبيلة ما ترأّست ثلاثة عشائر أو أكثر، وحاليا كانت هناك أربع قبائل ذاع صيتها في العالم كلّه بعد الحرب الشاملة، حيث قدّمن أداء مدهشا للغاية وكنّ خير التعزيزات. لقد كنّ قبيلة حاكم الأرض، وقبيلة حاكم الجوّ، وقبيلة حاكم الريّاح، وقبيلة حاكم المياه.

كانت زعيمة قبيلة حاكم الأرض لمياء هي التي تترأّس قبائل الوكر حاليا ولم يكن هناك معترض، فهي جعلت من علاقاتهم بالعالم الخارجيّ أفضل حالا ممّا كانت عليه في أيّ وقت مضى، وبفضلها اكتشفوا أنّ قبيلة حاكم النيران كانت خائنة وتعاونت مع عائلة غرين قبل ستٍّ وخمسين سنة من أجل الحصول على النفوذ، فـأنجتهم من شوكة في حلوقهم لم يعلموا عن وجودها.

في ذلك الوقت عندما أتى باسل إلى هنا، أخبر أبهم بأن يتسلّل إلى قبيلة حاكم النيران ويخبرهم أنّه من عائلة غرين حتّى يغريهم ليكشفوا عن حقيقتهم ببساطة.

استغلّت عائلة غرين قبيلة حاكم النيران في جعل قبائل الوكر تهاجم إمبراطوريّة الشعلة القرمزيّة آنذاك، وعندما انتهى غرضها منها خانتها ولم توفِ بوعدها في معاونتها على حكم القبائل بعد أن تصبح العائلة الحاكمة، وبذلك أصبحت قبيلة النيران تحتقر عائلة غرين كونها تمسك دليلا عليها يمكنه التسبّب في سقوطها، ألا وهو معرفتها بخيانتها للقبائل الأخرى.

لذا بكلّ بساطة، تنكّر أبهم بهويّة ابن عائلة غرين، وبالطبع منحه باسل شارة عائلة غرين حتّى يُتأكّد من هويّته، فظهر كأنّه يطلب المساعدة بعد فقدان عائلة غرين مركزها في الحكم، وبذلك جعل عائلة حاكم النيران تقع في فخّ كشف نفسها بنفسها.

وفي اليوم الحاضر، كان أبهم حاليا يقيم في هذا الوكر لسبب ما، وبعدما تعرّف بعض الأشخاص من قبيلة حاكم الأرض على باسل، نادوا أبهم الذي كان في السوق بسرعة ليرحّب به.

تجوّل باسل وأوبنهايمر فرانكنشتاين في السوق لقليل من الوقت، وكان باسل يتمتّع بما يحدث حوله، وبعد مدّة لا بأس بها ظهر أبهم أمامه مع بعض أعضاء قبيلة حاكم الأرض، وبالضبط من عشيرة الغبراء المظلمة، عشيرة لمياء.

كان أبهم متغيّرا نوعا ما، وكثيرا في الحقيقة؛ فطوله ازداد بشكل ملاحظ وكان أطول من باسل بحوالي شبرين حاليا، ونمت عضلاته بضعفين عن قبل عندما كان جسده مصقولا ومعتدل الحجم؛ لقد كانت الإقامة هنا لها تأثير كبير عليه على ما يبدو.

انحنى أبهم ومن خلفَه لباسل، وشبكوا قبضاتهم فقال أبهم: "مرحبا بك يا سيّدي، لم أكن أعلم بقدومك وإلّا كنت جهزت له بشكل أفضل."

ابتسم باسل ثمّ أجابه: "لا داعٍ، فأنا أيضا لم أكن أخطّط المجيء إلى هنا بشكل خاصّ. على كلّ، يبدو أنّك تتمتّع بوقتك هنا، هل وصلت إلى نتيجة ما مع لمياء؟"

احمرّت وجنتا أبهم فأجاب مسرعا: "م-ما الذي تقوله يا سيّدي؟ هاهاها، حقّا!" كان يحاول التغابي.

حدّق باسل إليه فقط دون قول أيّ شيء، وفجأة تكلّم أحد أعضاء القبيلة من خلف أبهم: "يا أيّها السيّد الشابّ أبهم، في الوقع، الكلّ يعلم ما تشعر به تجاه الزعيمة لمياء، فقط هي من لا تعلم."

"إيـــــه؟!"

كان أبهم متفاجئا حقّا، بالرغم من أنّه بقي هنا لأكثر من عام بينما يحاول التقرّب من لمياء ولاحظ الجميع ذلك. يبدو أنّه بليد في مثل هذه الأشياء، إلّا أنّ لمياء التي لم تلاحظ ذلك أيضا بسبب تركيزها على وظيفتها بليدة أيضا؛ كان ذلك ما فكّر فيه كلّ أعضاء عشيرة الغبراء المظلمة.

سارع وغيّر الموضوع: "على كلّ، ما الذي جاء بك إلى هنا يا سيّدي؟ إن كان هناك ما يمكنني فعله فرجاء أخبرني."

أومأ باسل رأسه فقال: "إذن... أخبر لمياء أنّني أريد تسلّق شجرة الوحش النائم."

(لمن يريد خلفيّة عن 'شجرة الوحش النائم' فقد ذُكِرت ووُصِفت بالفصل 121 أوّل مرّة)

"هااا؟" رفع أبهم ومن خلفَه أصواتهم دون أن يشعروا عندما سمعوا هذا الكلام.

لقد أمضى أبهم مدّة لا بأس بها هنا وصار يعلم تمام العلم ماهية شجرة الوحش النائم المهيبة، ومعنى الاقتراب منها، وتسلّقها؛ فكلّ ذلك على حدّ سواء كان شيئا لا يحقّ سوى لكبار القبائل القياديّة فعله، وهذا إن كانوا حقّا يقدرون عليه أصلا.

قيل أنّ هناك فائدة عظيمة تُستمد بالاقتراب من تلك الشجرة العظيمة، وحتّى أنّ هناك من استطاع فهم بعض النقوش الغريبة وتوظيفها من أجل القبائل، وهذا كان سبب وجود بعض النقوش الأثريّة في الزنزانة التي سبق وسجن باسل فيها هنا. ففي ذلك الوقت لم يعلم عن مصدرها، وفي الواقع قليل من علم عن هذه الحقيقة، لكنّه الآن كان يعلم عن ذلك أكثر من أيّ شخص في هذا العالم، حتّى أكثر من قبائل وكر الوحش النائم نفسها.

ابتسم باسل تاركا أبهم والآخرين حائرين، أمّا أوبنهايمر فرانكنشتاين فكان صامتا على غير عادته، وبدا سارحا في تفكيره. نظر إليه باسل وأومأ مرّة أخرى، راضيا.

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/02/05 · 1,080 مشاهدة · 1873 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024