223 - أريحا

ظلّ أرخبيل البحر العميق مهجورا طوال الوقت بعدما فُحِص آخر مرّة، وكان قد عاد إلى أصله حيث غدا يعجّ بالوحوش السحريّة في كلّ مكان كونه منطقة محظورة قبل كلّ شيء. لربّما جعله حلف ظلّ الشيطان مقرّا له لكنّ الحلف كان دائما يكلّف أعضاءه بمهمّات التنقيّة. لقد كانت هذه ثاني أكبر منطقة محظورة في العالم بأجمعه، والمكاسب التي يمكن ضمنها بالاستقرار فيها كانت لا توصف، وخصوصا من ناحية النموّ.

كانت المناطق المحظورة غنيّة بطاقة العالم أكثر من العالم الخارجيّ، وكلّما كبُرَت المنطقة المحظورة زادت كثافة ونقاوة طاقة العالم فيها، ولهذا لطالما كانت المناطق المحظورة المكان الأمثل للتدرّب بالرغم من الخطورة المرتقبة، ويمكن القول أنّ هذه الخطورة جزء من التدريب أيضا.

تطوّر العالم الواهن مؤخّرا لدرجة كبيرة وصارت طاقة عالمه كثيفة بشكل عجيب فسمحت بدورها للسحرة أن ينمو أكثر، وكاستجابة لنموّهم ينمو العالم مرّة أخرى وهكذا... وحاليا كان لا شكّ في أنّه قريب من التحوّل إلى عالم روحيّ، وذلك سيحدث ما أن يظهر ساحر روحيّ يجعل العالم الواهن يستجيب لرغبته في استنزاف الطاقة الروحيّة، فيتحوّل العالم إلى عالم روحيّ.

في الوقت الحالي، كان أرخبيل البحر العميق محكوما من وحوش سحريّة بمستوى مرتفع جدّا، وبالتأكيد كانت ذات المستوى الرابع عشر منها. كان مقرّ ظلّ الشيطان وسط الأرخبيل لذا وجب على الشخص المرور بعقبات عصيبة قبل بلوغ مراده.

وما أن اقترب الاثنان من الأرخبيل حتّى لاحظا مخلوقات بحريّة عجيبة الأشكال، فقد يرى المرء حيتانا دامية تثب على البرّ للحظات من أجل وجبة مارّة ثمّ تعود إلى البحر، فتلقى أسماكا أسنانها أكبر من رأسها وتتحرّك كحشود تلتهم ما في طريقها.

كانت السماء مليئة بالطيور الجارحة وبعضها كان أسطوريّا، حتّى أنّه كان هناك بعض الطيور التي تملك خواصّ التنانين والعنقاوات. تصارعت كلّها من أجل سيادة تلك السماء وتنافست على الفرائس في البر والبحر.

امتلأ برّ الجزر بكلّ أنواع المخلوقات البريّة بدءا من الفئران القاضمة وصولا إلى وحوش تجعل البدن يرتعش فقط برؤيتها. كلّ هذه الوحوش السحريّة، سواء في البرّ أو البحر أو الجو، تصارعت من أجل السلطة ، فجعلت الأرخبيل يتحوّل لمنطقة محظورة دامية لا يمكن لبشر الدخول إليها حتّى.

حام باسل بالسماء قبل الدخول إلى المنطقة المحظورة وقال: "سيكون هناك أكثر من عشرة وحوش بالمستوى الرابع عشر على الأقلّ، ولا أريد تضييع طاقتي كثيرا من أجل عملي الرئيسي هنا، لذا يمكنك الحظي بما شئت منها."

كشر العالم المجنون عن أسنانه وقال بسخريّة: "ماذا، ماذا؟ هل السيّد الصغير لا يمكنه تحمّل مثل هذا الشيء البسيط لوحده حتّى؟"

علم أوبنهايمر فرانكنشتاين أنّ هذه فرصته حتّى يردّ لباسل كلّ سخريّاته إليه.

ابتسم باسل ثمّ أجاب: "لا، ظننت أنّ أخذ المتعة كلّها دائما لوحدي أمر مؤسف وغير عادل تجاهك، أو ماذا؟ لا تقل لي أنّك ذعرت."

ابتسم الشابّ ولم ينزعج من كلام باسل، فردّ: "أنا أعلم أسلوبك الآن فلا تتوقّع منّي الوقوع في نفس الخدعة مرارا وتكرارا."

بدا وجه باسل خائبا فاستدار وتمتم لنفسه: "أظنّني الوحيد الذي سيحظى بمقابلة مع سلالة تنّينيّة على وشك الاختراق إلى المستويات الروحيّة إذن."

استعدّ للتحرّك لكن العالم المجنون أوقفه: "انتظر، ماذا تعني بكلامك؟"

وضع باسل سبّابته على ذقنه وأمال رأسه قليلا متسائلا: "أيّ كلام؟"

كان من الواضح أنّه يدّعي الجهل، وكان ذو الوجه الطفوليّ يعلم ذلك أيضا، لكنّ فضوله أعماه فقال: "لقد قلت شيئا عن سلالة تنّينيّة، ماذا تعني بذلك؟"

واصل باسل تمثيله وتساءل: "هل قلتُ شيئا كهذا يا ترى؟" استدار حتّى يكمل مسيره بعدما قال: "على كلّ، يمكنك فعل ما شئت، لكن بما أنّنا قرّرنا أنّني سأعتني بوحوش المستوى الرابع عشر فلا تتدخّل في أموري وإلّا ذلك لن يكون بتدريب مناسب حتّى."

تحرّك باسل هذه المرّة فلحقه العالم المجنون بهرع: "لا، انتظر، لقد غيّرت رأيي. بالتفكير في الأمر، لقد عانيت من الكسل وخمل جسدي في الآونة الأخيرة، فما رأيك أن أزيح عنك بعض الثقل فتتكفّل بعملك الرئيسيّ وأتعامل أنا مع الوحوش السحريّة."

"همم؟" تظاهر باسل بالتعجّب: "ما الذي حدث لك؟ كيف صرت مهتمّا فجأة؟"

ابتسم العالم المجنون وأجاب: "هيّا، أو ليس هذا تعاملا منّي يتّبع تماما العهد بيني وبين العجوز؟"

حكّ باسل ذقنه وتظاهر بالتفكير وتصنّع اتّخاذه قرار ما: "ونِعم الرفقة أيّها العالم المجنون. حسنا، لك ذلك." كشّر عن أسنانه ثم طار داخلا إلى الأرخبيل.

لعق أوبنهايمر فرانكنشتاين شفتيه ثمّ تبعه بعدما تمتم: "فلنرَ هذه السلالة، لربّما تملك بعض الخواصّ التي أحتاجها."

كان لدى باسل فكرة عن الأرخبيل من الخريطة التي منحها له الكبير أكاغي والتي رسمتها فرقة الاستكشاف عندما أتت إلى هنا، فاتّجه صوب المكان الذي اعتاد مقرّ ظلّ الشيطان الكون فيه.

كانت سرعته كبيرة لدرجة كبيرة حتّى أنّه تجاوز كلّ الوحوش السحريّة قبل أن تلاحظه، وبعد مدّة كان أمام قلعة سوداء منهدمة كلّها تقريبا، ولم يبق سوى بعض الحيطان المجزَّأة، التي تسمح لأشعّة الشمس بالمرور إلى تلك الغرفة المظلمة التي لا تقبل بنور داخلها.

كانت الغرفة في نهاية الطابق العلويّ للقلعة السوداء، وبالرغم من أنّ المكان انهدم كلّه إلّا أنّ الغرفة ظلت صامدة بينما ترتكز على تلك الحوائط الواهنة، وبدت كما لو أنها ستسقط من علوّها في أيّ وقت.

كُتِب على بوّابتها المُزيّنة بنقوش أثريّة: "ظلّ الشيطان، هدّام الضروس."

لقد كانت تلك هي غرفة الشابّ الذي أرعب العالم ذات مرّة. حسب كلام الكبير أكاغي، علم باسل أنّه لا أحد استطاع فكّ شفرة تلك النقوش الأثريّة متعدّدة الأنماط حتّى الآن فظلت الغرفة غامضة، وبما أنّهم حاولوا الدخول عنوة وتعرّضوا لهجوم مضادّ كوسيلة دفاعيّة اختاروا ترك الأمر لخبير.

وقف باسل أمام تلك البوّابة التي شكّلت عليها النقوش الأثريّة شابّا يجلس على قارب بشراع رقيق في بحر شاسع، ولكن عند النظر بشكل أعمق يجد المرء أنّ الشابّ يتربّع على هلال في فضاء فسيح وليس قاربا في بحر شاسع، وأمّا عند التحديق بعينين حكيمتين، أمكن الشخص رؤية شكل الصورة الحقيقيّة، إذْ شكّلت شخصا ينتظر الفرصة المناسبة ليغرس سهمه في السماء عبر ذلك القوس الذي يتّخذه مِطية.

أخذ باسل وقته في فكّ شفرة النقوش الأثريّة ولم يتسرّع، وبالرغم من أنّه في قلب الأرخبيل إلّا أنّ الوحوش السحريّة لم تقترب من هذا المكان بإهمال، فعلى ما يبدو قد حصلت بعض المعارك هنا سبّبت في هدم القلعة السوداء، لكنّ غرفة هدّام الضروس ظلّت سليمة، وعندما حلّل باسل نقوشها الأثريّة فهم السبب أخيرا.

يبدو أنّ هذه النقوش الأثريّة بأنماطها المختلفة كانت تخزّن في البوّابة طاقة سحريّة هائلة تهاجم بشكل تلقائيّ كلّ من يحاول الدخول عنوة، ويبدو أنّ الوحوش ابتعدت عن هذه المنطقة بعدما هاجمتها وتعرّضت لهجوم مرتدّ من حيث لا تدري. ومع ذلك، كانت لا تزال هناك بعض الوحوش السحريّة التي تمرّ من حين إلى آخر دون أن تقترب كثيرا.

مرّت مدّة لا بأس بها، حتّى فكّ باسل شفرة النقوش الأثريّة أخيرا، فإذا بالبوّابة تُفتح تلقائيّا. دخل إلى الغرفة ثمّ أغلق وراءه البوّابة فتفعّلت النقوش الأثريّة من جديد.

عندما دخل، شمّ رائحة عطرة كرائحة الخزامى، ممزوجة برائحة الخشب، أو للدّقة برائحة الكتب، ولمّا نظر إلى الأرجاء بعدما أضاء الغرفة قليلا بشعلة صغيرة، وجدها فارغة من الممتلكات الباهظة الثمن أو الكنوز العتيقة، وكلّ ما أحاطه كان كتبا فـكتبا. كان في الغرفة سرير عادي، وبجانبه طاولة بسيطة فوقها صحن عليه شمعة متآكلة كلّيّا، وصورة مرسومة غير واضحة بما أنّ الإضاءة لا تصلها.

حدّق الشابّ القرمزيّ إلى الغرفة العجيبة، ثمّ ذهب إلى الطاولة وجلس عليها بينما يلاحظ كمّيّة البساطة التي كان عليها هذا المكان بالرغم من أنّه كان مبيت ظلّ الشيطان بنفسه. كانت هناك شموع موضوعة بجانب الطاولة، فأطفأ باسل الشعلة التي صنعها، وأخذ واحدة من الشموع وأشعلها كبديل ثمّ وضعها في صحن الشعلة المتآكلة، وعندئذ حمل الصورة ورأى ما بها.

كانت الصورة لبدر يشعّ بسماء مزيّنة بنجوم بدت كأنّها وُضِعت هناك لتُبدي عظمة القمر فحسب، وبجانب البدر كانت هناك فتاة صغيرة العمر ناصعة البياض وتبدو كالأميرة شيرايوكي وهي صغيرة، حتّى أنّ باسل ظنّها هي في الأوّل. كانت الفتاة مبتسمة وتشير بإصبعها إلى القمر ببراءة، كما لو أنّها تحاول إخبار شخص ما بروعته، إلّا أنّها كانت هناك لوحدها فقط، بجوار ظلّها.

كُتِب أسفل البدر شيئا بلغة عتيقة، لكن باسل كان قادرا على فهمها: "أريحا"

ابتسم لمّا قرأ الاسم، وصرّح عاطفيّا: "نعم، إنّها حقّا أريحا."

وضع الصورة في مكانها بعد وقت طويل من النظر إليها، ثمّ أخذ كتابا من أحد الرفوف المحيطة به، وأخذ يقرأ فيه حتّى أنهاه كلّه، فاختار كتابا آخر، والتالي، وهكذا حتّى مضى وقت طويل وتآكلت العشرات من الشموع. لقد كان يقرأ تلك الكتب باستمتاع وخصوصا إحدى القصص التي أثارت اهتمامه كثيرا بالرغم من قصرها وبساطتها.

حكت القصة عن شابّ فقير وجد ذات مرّة فانوسا سحريّا في كهف عتيق فصار بسببه غنيّا وقويّا. لقد كانت القصّة طفوليّة لكنّه استمتع بها لسبب ما وقرأها مرارا وتكرارا. لم يكن للقصّة اسم، فسمّاها في الوقت الحالي 'الفانوس السحريّ'.

مرّت أيّام وهو هناك يقرأ في كلّ تلك الكتب باهتمام، ولمّا انتهى أخيرا وقف من على الكرسيّ الخشبيّ ووضع كتاب الفانوس السحريّ في مكعّب التخزين، ثمّ تحرّك صوب السرير واتّكأ عليه. نظر إلى السقف بينما يفكّر، ولم يسعه سوى أن يتمتم: "ربّما... لربّما كنّا لننسجم جيّدا ونكون صديقيْن في أوضاع مختلفة، وا حسرتاه!"

نام هناك لقليل من الوقت قبل أن يستيقظ أخيرا، عازما على بدء عمله الأساسّي. جلس متربّعا فظهرت ثلاث كرات فضّيّة حملت بداخلها أكوانا ومعرفة غير محدوديْن.

ظهرت ثلاث نجوم في عيني باسل؛ في عينه اليمنى نجمين، وفي اليسرى نجم. تحرّكت النجوم حول حدقتيْ عينيه ببطء شديد كما لو كانت متوقّفة. في هذه الأثناء، لم يعد الشابّ القرمزيّ مجرّد باسل الساحر، لكنه كان الحكيم السياديّ.

رفع يده اليمنى وخطّ بها قوانين عالميّة بحكمة سياديّة لا يمكن فهمها، وبعد مدّة كان قد صنع فضاء خاصّا.

"عالم الحكيم."

تكلّم بعزم بعد ذلك: "الدرجة الأولى: البصيرة الحكيمة السحيقة!"

توهّجت عيناه والنجوم التي كانت تتحرّك بشكل بطيء تسارعت حتّى بدت كقرصين حول حدقتيْ عينيه، وفي هذه الأثناء استطاع باسل أن يرى كلّ التفاصيل التي لا يمكن لبشر أن يراها، ومن خلالها يفهم كيف حدثت بعض الأمور، وكيف تحدُث حاليا، وكيف ستحدث مستقبلا. كلّ شيء أصبح جليّا له عندما بصره بتينك العينين الحكيمتين.

كان يواجه وقتا عصيبا في هذه الأثناء، وبدا عليه التعب كثيرا، فكان من الواضح أنّ استخدام قدرات الحكمة السياديّة يؤثّر عليه سلبا من ناحية، ولم يمكنه الصمود في تلك الوضعيّة لوقت طويل.

تنفّس بصعوبة وقال: "الدرجة الثانية: التحليل الحكيم الشامل!"

ظهرت بعض الفتحات على لحمه وسالت الدماء منها بغزارة، وبعد لحظات ظهرت جراح عميقة في كلّ أنحاء جسده بينما تُرشّ الدماء في كلّ مكان كأمطار غزيرة.

هذا فقط ما حدث لجسده، أمّا بحر روحه فقد كان يحترق ولم يسعه فعل شيء. تلك لم تكن بحكمته السياديّة أصلا، ولم يكن هو الشخص الذي وُهِب إيّاها، وهذا لوحده كافٍ أن يجعله يختبر الموت آلاف المرّات إذا لم يمت، فما بالك عندما تجده ساحرا ببحر روح فقط وليس ساحرا روحيّا ذا روح كاملة مكتملة؟

تقيّأ كمّيّة كبيرة من الدم، وبالرغم من أنّ قدراته الشفائيّة كانت استثنائيّة، إلّا أنّ الضرر الذي كان يتلقّاه فاق ذلك بكثير. ومع ذلك، احتاج إلى أن يعلم ويعرف مهما كان الثمن. فإذا كان الثمن هو آلام قاتلة، فسيتحمّلها ويتجاوزها.

ابتسم بوجهه الدامي وقال: "وما هذا إلّا تدريب آخر."

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائية أو نحوية.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/08/02 · 791 مشاهدة · 1720 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024