242 - مخطّط السارق الخسّيس

242 – مخطّط السارق الخسّيس

كانت صرخات الرمح تبدو كصرخات شخص يُجبر على الغطس في بركة حمم مرارا وتكرارا، ولم يسعه سوى أن يسبّ ويلعن تحت رحمة باسل.

"يا أيّها اللعين، هل تظنّ أنّ هذا سيمرّ مرور الكرام؟ دعني أنعش ذاكرتك المتعفّنة أنّني ما أزال وسأظلّ الرمح الطاغيّة، سواء تحت سيطرتك أم لا، وذات يوم، أقول وأكرّر، في يوم ما، ستنقلب الموازين وتجدني أتملّكك وأستخدمك كما أبتغي."

ابتسم باسل وقال: "قد تكون عازما، ولكن بما أنّني فعلا أنوي استخدامك، فإنّك لا تعلم كم أنا حاسم أمري. قد تكون السيطرة عليك لها منافع، لكن معظمها مساوئ بالنسبة لي وسيبقى الحال كذلك لمدّة طويلة. أخذك تحت رعايتي يعني احتضاني لتلك اللعنة، لكن فيما أعهد، تظلّ هذه الطريقة الوحيدة للتغلّب على السارق الخسّيس للأبد. فها أنا ذا يا أبله، مستعدٌّ ما حييت، فحاول إن استطعت."

صاح الرمح باستماتة: "إنّك حقّا تعلم ما تفعل، ولكنّك مصرّ على فعلها! هل جُنِنت يا أيّها الشقيّ الكريه؟!"

"إنّني في رشدي. لقد حاول العديد من الشجعان والملاعين لكن لا أحد منهم نجح في النهاية. أتعلم لمَ؟ ذلك لأنّهم خافوا وهابوا السارق الخسّيس فتمكّن منهم في النهاية بسبب ذلك. لقد كانت قلوبهم ضعيفة ضدّه لكنّهم أخفوا وتناسوا ذلك، فانحرفت مساراتهم الروحيّة في نهاية المطاف. أنا لن أهاب مخلوقا، ولو عنى ذلك مواجهة العوالم بأسرها. وبالتأكيد، لن أخشى السارق الخسّيس، ولو عنى ذلك المخاطرة بكلّ ما أملك."

ردّ الرمح: "لِمَ تفعل كلّ هذا؟ أليس من الأفضل لك العيش في هناء ولو عنى ذلك عدم رؤية السماء؟"

حدّق باسل إليه دون أن يقول شيئا لمدّة طويلة كما لو أنّه يتفكّر فيما قال الرمح، ففعلا هناك من عاش كذلك، منهم من اعتاد أن يكون شجاعا، أو لعينا، أو حتّى جبانا أصلا، ولكنّه صرّ على أسنانه وضاقت عيناه من شدّة العزم. مرّ بالعديد من الذكريات في تلك اللحظات القصيرة، ثمّ ضغط على مقبض الرمح بشكل أقوى، وقال: "لن يمنعني أحد من التجوّل في أرض الخالق الواسعة. لو حاول أحدهم إيقافي، فسأريه حدوده حتّى يعلم أنّه لا حدّ لآفاقي."

صمت الرمح كما لو كان متفاجئا من عزيمة الشابّ أمامه، فقال بعدما جعلته الآلام يستفيق: "هل حقّا ستخاطر بذلك الهناء فقط من أجل رؤية السماء؟"

تنهّد باسل وقال: "إنّك لا تفهم، أليس كذلك؟ بالنسبة لي، ليس هناك هناء بلا سماء."

صات الرمح: "إنّك مجنون! ستعلم عندما يحين الوقت حقيقة كلامي، وتدرك الواقع القاسي. لربّما ليس لديّ ذكريات عن الشخص الذي تتحدّث عنه، لكنّني على الأقلّ أعلم أنّه الشخص الذي حملني واستخدمني، أنا الرمح الطاغيّة."

ابتسم باسل وردّ بعدما توهّجت عيناه بالنجوم فيها وطافت الكرات الكونيّة فوق رأسه: "ماذا يسعني أقول؟ حياة الرجل مغامرة، وسكونه موت."

"لا تعبث معي يا أيّها الوسخ! هيّا أزل يدك عنّي حالا. إنّك ستندم، ستندم على اليوم الذي وضعت فيه قذارتك عليّ."

ضحك باسل وقال ساخرا: "هوهوهو، إن حدث ذلك فأعتمد عليك لتواسيني."

دارت الكرات الكونيّة فوق رأس باسل، فشعر الرمح بضغط أكبر، وبروحه تتقيّد بأحكام وقوانين عالميّة لم يستطِع كسرها مهما قاوم، كما لو أنّ هذه القيود خُلِقت فقط لتثبّطه.

"كيف تفعل هذا؟ اللعنة، اللعنة عليك."

لم يستطع أن يتقبّل الأمر قطّ. لقد كان هذا غير منطقيّ البتّة.

"كيف دخلت إلى هذا العالم وتحكّمت بما فيه كما لو أنّه ملكك؟ كيف تمتلك مثل هذه السلطة عليّ؟ كيف؟"

نظر باسل إلى الرمح وتنهد متأسّفا على حاله، وقال: "أتعلم ما كانت الغاية من بقائك هنا لعصور؟"

"كيف لي أن أعلم عن ذلك؟ أليس لإيجاد الأجدر بالدخول إلى هنا؟ وما دخل هذا بسؤالي أصلا؟ فقط أجبني عن السؤال اللعين يا ابن العاهرة."

قال باسل بروية: "كن صبورا، هيّا، كن صبورا، هذه عادتك السيّئة."

"أخبرني أن أكون صبورا مرّة أخرى وسـ..."

قاطعه باسل: "إنّك لم تكن هنا لعصور لإيجاد الأجدر بالدخول."

"ما...ذا؟" صُدِم الرمح من كلام باسل فصرخ: "لا تهرأ في منطقك يا لعين أكثر ممّا فعلت! هل تخبرني أنّ الذكرى الوحيد التي لديّ خاطئة ومزيّفة؟"

هزّ باسل رأسه وقال: "ذكراك صحيحة، والأمر الوحيد الذي تلقّيته لا ريب فيه. فعلا، أُجبِرت على البقاء هنا لعصور بسبب الأمر الذي أخبرك بفعل ذلك. أمِرت أن تسمح فقط للأجدر من العالم الواهن بالولوج إلى هذا العالم. نعم، هذه ذكراك ولا شكّ في صحّتها."

صاح الرمح: "ما الذي تحاول قوله؟!"

أجاب باسل: "صحّة هذا الأمر لا تعني أنّ النيّة خلفه كانت تهدف للنتيجة التي اعتقدتَ أنّه سيحقّقها. لقد أُمِرت بهذا لكنّ السارق الخسّيس لم يكن ليسمح لأحد بالدخول أصلا. إنّما أمرت بهذا لتوهم المغامرين أنّ هناك كنزا مدهشا في انتظارهم، كنز يمكنهم المخاطرة بحيواتهم من أجله حتّى كما جعلك تتوهّم."

أكمل باسل للرمح المستمع: "بينما في الواقع، كلّ واحد منهم يدخل الاختبار يصبح مجرّد وجبة شهيّة للمصفوفة."

"لقد أزيلت ذاكرتك عدا هذه الذكرى، لتحرس هذا المكان وتنمّيه لعصور قادمة دون أن تكشف عن أيّة أسرار. لقد كانت مهمّتك منذ البداية حراسة هذا المكان وانتظار شخص محدّد وليس انتظار أحدهم لينجح في الدخول."

تنهّد باسل وقال: "دعني أسألك، هل فكّرت ذات يوم في ما سيحدث بعدما يدخل هذا الناجح؟ إنّي واثق أنّك لم تفعل. هذا أيضا بسبب ما زرعه فيك السارق الخسّيس."

التزم الرمح الصمت وتصنّت، موضّحا صحّة كلام باسل.

"لم يرد السارق الخسّيس من سلاحه الروحيّ أن يقع في اليد الخاطئة، أو حتّى أن يخونه بعد مرور عصور. ففعلا، إنّك سلاح فريد من نوعك ولا مثيل لك؛ إنّك سلاح اكتسب نيّةً ثمّ إرادةً ثمّ روحًا. لم يكن هناك ضمان أنّك لن تخونه أو تُجبَر على اتّباع أحد آخر بعدما تشهد عصرا بعد الآخر."

استمرّ باسل: "لقد حوصِرت هنا لعصور فقط لأنّ السارق الخسّيس لا يثق في أحد، وذلك يشمل سلاحه الروحيّ. لقد عزلك عن العوالم في هذا الحصن واستخدم أقوى مصفوفة ملكها يوما حتّى من أجل تحقيق ذلك. إنّك ثمين لهذه الدرجة بالنسبة له، ولكن كأداة فقط لا غير. أسمعتني يا أبله؟"

ظلّ الرمح صامتا حتّى بعدما انتهى باسل لفترة طويلة قبل أن ينطق أخيرا: "افتراضا، فقط لنفترض أنّك تقول الحقيقة، ألا يجب أن يكون هذا الشخص هو الذي يضع يده عليّ لا أنت؟"

ابتسم باسل وقال: "معك حقّ. لولا معلّمي، لكان السارق الخسّيس يقف هنا أمامك بالفعل."

"ماذا تقصد؟" كان الرمح مستغربا.

ردّ باسل بروية: "قبل آلاف السنين، عندما كان السارق الخسّيس يختبئ في هذا العالم معك لكنّك لم تكن تدري، وبعد طول انتظار، نجح أحد سكّان هذا العالم في الوصول إلى هنا وتجاوز اختبار السارق الخسّيس، اختبار حلّل فيه دم الرجل وجسده وروحه، وارتآه مؤهّلا لما ينشده."

"...كانت تلك هي اللحظة التي انتظرها هنا لعصور من أجل تحقيق جزء من هدفه، ألا وهو امتلاك جسد. ولكن لم يكن الاستحواذ على جسد حيّ بتلك البساطة، فبشتّى الوسائل وخبرات حياته التي جمعها استطاع أخيرا النجاح في ابتكار طريقة للاستحواذ على جسد وروح بدون تدميرهما أو تدمير نفسه، لكن حتّى هذه الطريقة احتاجت لوقت طويل حتّى تنجح."

"...وضع لعنته على الرجل الذي نجح في الوصول إلى هنا، وعدّل على دمه وجسده وروحه فنمّا بذلك قدراته الجسديّة والروحيّة، ومنحه ثلاثة مخطوطات أخبره أن يحرص عليها جيّدا ويبقيها متوارثة في عائلته دوما."

"...مرّت السنين، فلاحظ الرجل أنّ أبنائه يولدون بجسد وروح قويّيْن، وكلّهم يملكون عنصر النار. علم الرجل أنّ هذا بسبب اللعنة التي اعتقدها حينئذ نعمة، لكنّه لم يعلم أنّ كلّ هذا كان من أجل صنع الجسد المثاليّ الذي سيستحوذ عليه السارق الخسّيس."

"...كان اسم الرجل كريمزون، وعشيرته لُقِّبت بعشيرة النار القرمزيّة، وأنا الذي أمامك هنا هو سليل تلك العشيرة الأخير، أنا ذلك الجسد المثاليّ."

"...هوهوهو، ولكن حتّى عندما حصلتُ على المخطوطات وتسلّل اللّص إلى بحر روحي، واعتقد أنّها مسألة وقت حتّى يسلبني ما هو ملكي، صادف حدثا، صادف شخصا لم يتوقّع أن يوجد. لقد واجه معلّمي، أبي الروحيّ، واجه رجلا استطاع أن يضحّي بوجوده ذاته من أجل شخص آخر."

"...أخبرتك سابقا، وغد مثل السارق الخسّيس، وغد لا يثق حتّى بسلاحه الروحيّ لم يكن ليتوقّع وجود أحدهم مثل معلّمي، وحتّى مخطّطاته اللعينة لم يكن لها حيلة. هل فهمت الآن يا أبله؟"

صمت الرمح كما لو أنّه صُعِق. لقد كان يعلم تماما أنّ باسل لا يكذب، لكن لم يستطع تصديق ما قال. كانت حالته مزريّة.

عاش لعصور هنا ولم يكن يدري أنّ الشخص الذي امتلكه كان قريبا منه في الحقيقة؟ ما هي حقيقة هذا الشخص أو ما تبقّى منه أصلا؟ هل هي روحه أم نيّته أم إرادته؟

تعجّب كيف لا يتذكّر شيئا عن هذا الشخص أو حتّى عن الواقعة التي حدثت قبل آلاف السنين طبقا لقصّة الشقيّ أمامه.

تحسّر على حاله وتأمّل في ذكرياته الخاصّة، ووجد كلّ يوم يشبه الذي سبقه، وما اختلف بينهما كان الطقس فقط. وجد أنّه لم يملك ذكريات سوى ذكرى واحدة؛ ذكراه كسلاح يحرس هذا المكان لعصور من أجل شخص لا يثق به حتّى.

أحسّ بفراغ شديد وعدم قيمة لكينونته. اختفت الآلام التي كان يقاسيها بسبب معارضته إخضاع باسل، وأحسّ بألم من شكل آخر في قلب روحه، ألم لم يشعر به من قبل، بالرغم من أنّه قاسى وحدة شنيعة.

تساءل في النهاية بصوت متردّد: "لـِ-لمَ أوجد أصلا؟ مـ-ما الغاية من ذلك؟ لربّما لو بقيت مجرّد سلاح بلا روح، لكان الأمر أسهل بكثير. ما كنت لأتعذّب هكذا عندئذ."

تنهّد باسل بعدما لاحظ أنّ سيطرته على الرمح صارت سلسة، وقال بعد ذلك: "سبب وجودك؟ عش وسيتبيّن لك ذلك ذات يوم. ولكن في اللحظة التي تتوقّف فيها عن العيش، ستكون اللحظة التي تفقد فيها كلّ شيء، ستفقد ما تملكه وما كنت لتملكه."

لم يردّ الرمح على غير عادته، فأكمل باسل: "أو يمكنك مصاحبتي في قلب الموازين على السارق الخسّيس. يمكنك أن تدمّر معي خططه وتجعله يعاني كما فعل لي ولك. أو تخضع لي ببساطة حتّى أنتهي من عملي، فأفكّر عندئذ في إطلاق سراحك ببساطة للأبد."

لم يتكلّم الرمح، ولكن لم يضف باسل شيئا، لأنّه علم أنّ الرمح يفكّر في كلامه لا يتجاهله، فانتظر ردّة فعله.

"فافافافافافهمت." ضحك الرمح بصوت مرتفع فجأة بعدما التزم الصمت لمدّة طويلة وقال: "فهمت يا أيّها اللعين."

تعجّب باسل من التغيّر المفاجئ في مزاج الرمح: "ماذا هناك؟ ما الذي فهمته؟"

قال الرمح بصوت متعالٍ: "أتحسب نفسك رفيعا هكذا؟ تعاملني كعاهرة في حاجة ماسّة للمواساة، وتعتقد أنّني سأفتح لك قلبي لتلبّي رغباتك. في أحلامك يا نذل. أنا، الرمح الطاغيّة، لن أفعل هذا ولا ذاك. سأغتصبك وأتملّكك وأغتصب ابن العاهرة الذي حبسني هنا لعصور. سأفعل ما شئت وأعيش كما أريد. لا تظنّ للحظة واحدة أنّني أحتاج لمساعدتك يا أيّها القذر."

ضحك باسل وضرب على جبهته براحة يده، وقال: "هوهوهو، يبدو أنّك عدت لطبيعتك بسرعة يا أبله."

"فافافا، احذر كيف تتكلّم واختر كلماتك بعناية. فطبقا لذلك، قد أجعل اغتصابك عنيفا أو خفيفا."

"هوهوهو، لكن يبدو أنّك تقبّلت خضوعك لي على الأقلّ."

"فافافا، ما هذا إلّا جزء من مخطّطي العظيم. انتظر حتّى يحين الوقت المناسب وستراني أضيف ثقوبا أخرى لمؤخّرتك."

"هوهوهو، تبدو واثقا من ذلك، ولكن ألست تخشى الإقرار بسيادتي عليك فقط؟"

"همف، كيف لحشرة أن تعي مخطّطات عظيم مثلي؟"

"حسنا، حسنا، لندع الأمر على هذا الحال."

اختفت الكرات الكونيّة وعادت عينا باسل لحالتهما الطبيعيّة، كما تبدّد الضوء الذي ربط جبهته بقلب رأس الرمح، فكان الخضوع منتهيا بذلك.

***

من تأليف Yukio HTM

أتمنّى أن يعجبكم الفصل. أرجو الإشارة إلى أيّ أخطاء إملائيّة أو نحويّة.

إلى اللّقاء في الفصل القادم.

2019/11/16 · 699 مشاهدة · 1719 كلمة
yukio
نادي الروايات - 2024