#لندن_الساعة 10:50 مساءاً
2005\9\22


داخل تلك السيارة، لم تكن أقل فخامة عما تبدوه من خارجها..

كانت هناك مقاعد جلدية سوداء تحيطها من كل جانب، في حين كانت تلك المقاعد معزولة عن المقعدين الأماميين من جهة السائق تماماً، لذلك بدت للوسي كغرفة جلوس، أكثر من كونها مجرد سيارة!

بين تلك المقاعد، كانت هناك طاولات خشبية فاخرة، بها أماكن خصصت لتلك الأكواب الزجاجية الكثيرة الموضوعة أعلاها. وأسفلها ثلاجات صغيرة، شعرت لوسي أنها ستبكي حقاً وهي تتخيل ما قد تحتويه داخلها!!

في الجزء الخلفي من السيارة، كان هناك شاشة تلفاز مسطحة معلقة بالأعلى بينما تعرض دراما ما على ما يبدو..

الإضاءات الخفيفة والملونة، انتشرت في كل جزء من سقف السيارة، وتحت المقاعد أيضاً، لتمنحها رونقاً هادئاً مريحاً للعين..
الأرضية كانت عبارة عن بساط مخملي، بلون بني داكن. مكملاً بذلك، تلك اللوحة الفنية التي أذهلت لوسي حقاً..

في البداية لم تركز كثيراً على ما حولها، فقد كانت مرتبكة جداً...


استطاعت أن ترى ديفيد جالساً على المقاعد التي بيسار الباب، وإلى جانبه كانت تجلس ايمي. أما هاري، فقد كان مستلقياً على تلك المقاعد المقابلة للباب بينما كان نائماً...


ظلت واقفة أمام الباب تنظر حولها بارتباك، فهي لم تعرف أين تجلس بين تلك المقاعد الكثيرة من حولها.
عندها دخل كارل من ورائها وقال برقي وهو يشير إلى المقاعد في مقدمة السيارة، والتي توسطت المقاعد الأخرى: يمكنك الجلوس هناك...

سارت لوسي ببطء لتجلس حيث أشار.
أما هو، فقد ألقى جسده على تلك الأرائك الجلدية إلى جانبها بتعب، بينما فك الجزء العلوي من ربطة عنقه، سامحاً للهواء بالدخول إلى رئتيه بأريحية بعد هذا اليوم الطويل المتعب...


ما إن جلست لوسي على تلك الأريكة الوثيرة إلى جانبه وأرخت ظهرها عليها، حتى شعرت أنها تكاد تغوص داخلها. فاستقامت بظهرها بعيداً عن ظهر الأريكة بارتباك، بعد أن شعرت بالخجل حقاً من مظهرها المضحك آنذاك.

نظرت حولها أخيراً متفقدة كل جزء من السيارة وقد شعرت بالذهول حقاً...ظلت تخاطب نفسها بدهشة:ما هذا؟ أهذه سيارة حقاً؟

نظرت إلى التلفاز المعلق على بعد عدة أمتار أمامها، لتعلق في نفسها بامتعاض:هؤلاء الأغنياء لا يصدقون حقاً! إنها مجرد سيارة تقلهم من مكان لآخر، ما الحاجة لكل هذا؟! تلفاز؟! ما الجحيم الذي يفكر به هؤلاء الحمقى المدللون!


ثم ألقت نظرة حولها مرة أخرى، دون أن تكون قادرة على إخفاء انبهارها بما تراه أمامها.. وتمتمت مناقضة لنفسها بهمس لم يسمعه أحد: لكن ذلك رائع حقاً!

إلا أنها هزت رأسها بقوة فجأة، كما لو كانت تحاول طرد تلك الأفكار من عقلها!
ضربت خديها بكلتا يديها حتى توقظ نفسها...مما جعل كارل ينظر نحوها بدهشة دون أن يفهم، لما فعلت شيئاً كهذا فجأة!!


أخذت نفساً عميقاً ثم فكرت في نفسها معاتبة تفكيرها ذاك: لا! لا تفعلِ هذا لوسي! عليك ألا تظهرِ لهم انبهارك بما ترينه، حتى لا تظهرِ أمامهم بمظهر الفقيرة!


ثم تغيرت ملامحها فجأة لترتسم على وجهها نظرة واثقة قوية...

أرخت نفسها على الأريكة، ثم وضعت رجلا على الأخرى بكبرياء، بعد أن عقدت يديها أمام صدرها متصنعة البرود دون أن تنظر حولها مرة أخرى..


في تلك اللحظة، استطاع كارل أن يدرك ما كانت تفكر به على الفور..
نظر إلى الجهة الأخرى ووضع يده أمام فمه في محاولة لكتم ضحكته بصعوبة. فهو بالتأكيد، لن يقوم بإحراجها أبداً..


بعد بضع دقائق من تحرك السيارة، نظر إليها كارل ليسألها باهتمام فجأة:لقد قالت ايمي أنك بريطانية..هل هذه أول مرة تأتين فيها إلى فرنسا؟

ردت لوسي ببرود بينما عيناها لا تحيدان عن النظر إلى الأمام، في محاولة يائسة لمنع نفسها من النظر حولها مرة أخرى: أجل..إنها مرتي الأولى هنا.

استغرب كارل من كلامها وتساءل قائلاً:حقاً؟ إنك تتحدثين الفرنسية بطلاقة، لذلك اعتقدت أنك عشت هنا من قبل!

نظرت إليه لوسي وردت بهدوء:لقد كنت أدرس اللغة الفرنسية منذ فترة طويلة لهذا السبب أستطيع التحدث بالفرنسية بشكل جيد.


عندها سألت ايمي ديفيد بحيرة:ما الذي يقصدانه بذلك؟ هل الناس في كل بلد، يتحدثون بطريقة مختلفة عن البلدان الأخرى؟ عندما ضعت في المطار، كان الناس يتحدثون معي بكلام لم أفهم منه شيئاً!

ابتسم ديفيد من كلامها وقال بلطف:ذلك صحيح يا عزيزتي... أغلب البلدان في العالم لهم لغتهم الخاصة التي يتحدثون بها..نحن في بريطانيا نتحدث الانجليزية، أما لغة هذا البلد فهي الفرنسية..

أومأت ايمي بفهم وتمتمت بدهشة:هكذا إذا...لم أكن أعرف هذا..

عندها استطرد كارل بتفكير:بالتفكير في الأمر..أظن أن علينا أن ندخل ايمي إلى مدرسة هنا صحيح؟


رد ديفيد بقلق:إنها المرة الأولى التي تدخل فيها ايمي إلى المدرسة لذا..سترتبك كثيراً إذا ما دخلت في هذه البيئة الجديدة عنها بينما، لا تفهم كلام من حولها..من الأفضل أن تتعلم الفرنسية أولا.

استغربت لوسي من كلامهما كثيراً وسألت بحيرة:لكن يبدو لي أن عمر ايمي ما بين السبع والثمان سنوات. من الغريب أنها لم تدخل إلى المدرسة بعد!


ارتبك ديفيد من سؤالها كثيراً، فهو للحظة كان قد نسي وجودها تماماً..
لكن كارل أجاب على الفور بنبرة هادئة:إن ايمي مصابة بالربو، وقد كانت لديها الكثير من المشاكل الصحية في طفولتها، لذلك اعتادت على الدراسة في المنزل حتى الآن.
لكن وضعها الصحي تحسن كثيراً، فرأينا أنه من الأفضل أن تلتحق بالمدرسة الآن حتى يكون بوسعها مخالطة الأطفال في سنها.

أومأت لوسي بفهم، في حين كانت تنظر إلى ايمي بأسف..


هي في الواقع لا تصدق أي كلمة مما يقول..لن تؤمن إلا بما تعرفه هي بنفسها. لكن إذا ما كان كلامه صحيحاً، فذلك مؤسف حقاً كون طفلة جميلة مثلها تعاني هكذا..


نظرت إلى ديفيد بتركيز لتفكر في نفسها قائلة:بحسب ما قال راولي، فذلك الشاب هو صديقه المقرب ديفيد هوريستون بلا أدنى شك.

ثم انتقلت ببصرها إلى ذلك الفتى النائم، وأردفت في نفسها بتفكير:وذلك الفتى هو شقيقه الأصغر هاري تشادولي..

وأخيراً ركزت بصرها على ايمي لتخاطب نفسها قائلة بشك: بقيت فقط تلك الطفلة...لم أسمع أن لصديقه هوريستون أي أشقاء. وهي ليست قريبته بالتأكيد، فقد مات جميع أفراد أسرة تشادولي قبل عشر سنوات! إذا..من تكون بحق؟!



ابتسمت فجأة لتسأل ديفيد بفضول:إذا...هل أنت وايمي أشقاء؟

ما إن قالت هذا، حتى خفضت ايمي رأسها على الفور وقد بدت حزينة جداً..في حين بدا ديفيد متوتراً نوعاً ما..

لكنه رد بابتسامة متصنعة:كلا...ايمي هي قريبة جدة كارل..إن عائلتها تواجه ظروفاً ما، لذلك طلبوا منها رعايتها في الوقت الحالي...

علقت لوسي مخاطبة كارل بتساؤل:جدتك البريطانية؟

ابتسم كارل لكلامها وقال بمكر:أنت تعرفين الكثير عني على ما يبدو..


ارتكبت لوسي من كلامه وقالت على الفور مدافعة عن نفسها: الأمر ليس هكذا بالتأكيد! لقد قرأت مقالة عنك من قبل... أعني...
ثم أردفت بتهكم:أغنى شاب في العالم! إنها ليست مقالة تستطيع تجاهلها صحيح؟!

ضحك كارل من كلامها وقال:أنت مسلية حقاً آنسة أليسون!


أشاحت لوسي بصرها عنه بانزعاج...عندها رد على سؤالها بهدوء: ذلك صحيح...إن أمي بريطانية الأصل. توفي والدها منذ زمن، بينما بقيت والدتها فحسب من عائلتها فهي لا تمتلك أي أشقاء.
وبعد وفاة أمي وأبي، تركت جدتي بريطانيا وعاشت معي أنا وأخي هنا في فرنسا.


اتسعت عينا ايمي بصدمة لما سمعت هذا.
صحيح أنها لا تعرف شيئا عن هاري وكارل حتى الآن، لكنها لم تتصور أبداً أنهما يتيمان في الواقع.
شعرت بقلبها يعصرها بقوة..إنها ليست وحدها من تعاني.

تذكرت ملامح كارل الحزينة لما التقته أول مرة في الشاطئ. لقد استطاعت منذ ذلك الوقت، أن تدرك أنه يتألم كثيراً في أعماقه...ألأن والديه قد ماتا وتركاه وحيداً؟ هي لا تدري.. لكن ما تدريه أن هذه الحقيقة قد آلمتها حقاً!

بيد أنها لم تستطع أن تظهر دهشتها لمعرفة هذا. كيف لا وهي من المفترض أن تكون في نظر لوسي قريبة كارل البعيدة. لذلك سيكون من الغريب حتما ألا تعرف شيئاً كهذا!!



أخذت لوسي نفساً عميقاً قبل أن تقول مغيرة الموضوع، بعد أن شعرت أن كارل قد بدا غير مرتاح لهذا الحديث نوعاً ما: على كل حال..لم أقدم لم نفسي بشكل صحيح بعد. اسمي لوسي أليسون، وأنا بريطانية من ليفربول..
أكلمت كلامها بابتسامة ودودة بينما تنظر نحو ديفيد.

بادلها ديفيد الابتسامة وقال معرفاً بنفسه هو الآخر:وأنا ديفيد هوريستون. إنني بريطاني أيضاً.

ثم نظر إلى ايمي، وقال بعد أن وضع يده على كتفها:وهذه ايمي دوفيار..إنها قريبة جدة كارل كما قلت سابقاً.

ابتسمت لوسي بلطف وقالت وهي تنظر إلى ايمي:تسرني جداً معرفتك ايمي..


اكتفت ايمي بإيماءة سريعة ثم حشرت وجهها في كتف ديفيد، بينما تقاوم دموعها بصعوبة..
هي لا تريد ذلك، لا تريد أن تغير اسمها هكذا!

بدت لوسي مستغربة من تصرفها ذاك، فقال ديفيد موضحاً على الفور بابتسامة مرتبكة:اعذريني على تصرفها. إنها تصبح خجولة جداً مع الغرباء. لقد تصرفت معنا هكذا أيضاً عندما التقينا بها أول مرة.

ابتسمت لوسي بتفهم، لكنها قالت في نفسها على الفور بنبرة مشككة:هممم...لم تبد لي هكذا عندما تعاملت معي أول مرة!


شعر كارل أنها بدت مرتابة من كلامه نوعاً ما، فقال محاولا لفت انتباهها إليه حتى لا تفكر في الأمر أكثر:حسناً..أنت تعرفين هذا بالفعل، لكن كما قلت لك...أنا كارلوس تشادولي..فرنسي..

ثم أشار بيده إلى هاري وقال:وذلك الفتى النائم هناك هو أخي الأصغر هاري..إنه حاد الطباع نوعاً ما، لكنه في الواقع طيب جداً...أرجو أن تكوني قادرة على الانسجام معه.

ابتسمت لوسي بمجاملة وقالت بهدوء:شكراً لك على استضافتي..إنني ممتنة لذلك حقاً.

بادلها كارل الابتسامة دون أن يرد على كلامها. ثم قال في نفسه بتفكير بينما ينظر بعيداً عنها:هممم ما هذا؟ إذا فهي يمكنها أن تكون ودودة أحيانا؟ ظننت أنها ستظل عدوانية طوال الوقت!



كان هاري قد ولاهم ظهره، ولم يكن وجهه ظاهراً لهم فقد كان مقابلا لظهر الأريكة.
لقد ظنوه نائماً جميعاً، لكنه في الواقع كان مستيقظاً طوال الوقت بينما ينظر أمامه بانزعاج..

تكوم على نفسه فجأة، ثم قال في نفسه بامتعاض:لماذا أحضر معه فتاةً غريبة إلى المنزل؟! ما الجحيم الذي يفكر به ذلك الغبي!



#فرنسا_ الساعة 12:30 صباحاً

2005\9\23


استغرقت الرحلة ساعتين تقريباً. ولم تشعر لوسي بطول الرحلة بعد أن أمضتها في الحديث مع ديفيد وكارل حول مواضيع مختلفة.

توقفت تلك السيارة لبرهة، حتى انفتحت تلك البوابة الحديدية الكبيرة لتعبر بعدها طريقاً طويلة حفتها أشجار كثيرة من كلا الجانبين، إلى أن توقفت فجأة بشكل مستعرض..

عدل كارل ربطة عنقه، وارتدى سترته من جديد، ليقول وهو ينهض من مكانه: لقد وصلنا.


ثوانِ قليلة حتى فُتح باب السيارة، ليقول السائق مخاطباً كارل باحترام وهو يقف إلى جانب الباب: سيدي الرئيس...لقد وصلنا.

في تلك اللحظة، قام هاري من مكانه فجأة وسار إلى الخارج دون أن ينظر إليهم. فخاطبه كارل على الفور بشك:هل كنت نائماً حقا؟!

رد هاري ببرود دون أن ينظر إليه:لم أستطع النوم، والفضل يعود لثرثرتكم المملة طوال الطويل!

عندها عنفه قائلا بغضب:في هذه الحالة، كان عليك أن تلقي التحية على الآنسة أليسون على الأقل!


نظر هاري إلى لوسي ببرود، ثم وضع إحدى يديه في جيبه، بينما رفع الأخرى ليحيها بها قائلاً بنبرة وقحة: هوي مرحباً..

ثم سكت قليلا ليضيف مقلداً كلامهم قبل قليل بسخرية واضحة: اسمي هاري تشادولي..وأنا فرنسي..


في تلك اللحظة شعرت لوسي بالإهانة حقاً...
شياطين عقلها كانت تحثها على تشويه وجه هذا الفتى الوقح، الذي بدا واضحاً أنه يسخر منها آنذاك..
كيف يجرؤ على مخاطبة شخص أكبر منه بهذه الوقاحة؟!!


أرادت لوهلة أن تصرخ في وجهه بغضب، لكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة لتخاطب نفسها قائلة بينما تضغط على قبضتها، تكاد تغرس أصابعها في كفها من الغضب:لا لا لا! اهدئي لوسي! ستفسدين كل شيء إذا ما فقدت أعصابك الآن! حتى لو كان وقحاً وبلا أخلاق، فهو يظل شقيقه الأصغر! سيطردني من منزله إذا ما قمت بضرب شقيقه بالتأكيد!

ابتسمت بتصنع، بينما تكاد تنفجر حقاً من الداخل:آه هكذا إذا...تشرفت بمعرفتك..هاري..


رفع هاري حاجبه باستنكار كونها خاطبته من دون رسميات هكذا..لكنه أدرك أنها فعلت ذلك عن قصد، لمالاحظ تلك النظرة الساخرة في عينيها...

إذا فهي تحاول رد اعتبارها الآن!


ابتسم بسخرية وقال مجارياً نظرتها الماكرة تلك:أنت مذهلة حقاً آنسة أليسون...حتى بالرغم من أنك فتاة، لقد قبلت دعوة شخص غريب إلى منزله، رغم أنك التقيت به قبل وقت قصير فقط ...أنت لا تملكين أي حذر على الإطلاق صحيح؟

عند تلك النقطة، لم يستطع كارل تمالك نفسه أكثر. انفجر صارخاً بغضب شديد:هاري! كيف يمكن أن تقول كلاماً وقحاً هكذا؟ فلتعتذر إلى الآنسة أليسون حالاً!

نظر إليه هاري بانزعاج، ثم غادر السيارة بينما يتأفف في غيظ.



تنهد كارل بضيق ثم قال مخاطباً لوسي بانكسار:لا أعرف حقاً ما الذي يمكنني قوله لك. بسبب طبيعة عائلتي، لقد كان أغلب الناس يتقربون منا لدوافع شخصية، مما جعل أخي يفقد ثقته بالآخرين.
إنني لا أصنع له الاعذار،فذلك لا يبيح وقاحته معك، لقد تجاوز حدوده معك كثيراً..أنا آسف، سأتأكد من جعله يعتذر لك بشكل صحيح!


عقدت لوسي يديها أمام صدرها وقالت بعد أن رفعت رأسها بكبرياء:لا داعي لهذا..لم آخذ الأمر على نحو شخصي، رغم أنني غاضبة جداً من أخيك. وبصراحة، لقد أردت حقاً أن أضربه قبل قليل.
لكنني سأتجاوز الأمر من أجلك. لا أنكر أنك قد أنقذتني حقاً بسماحك لي بالبقاء في منزلك.

ابتسم كارل لكلامها..وقد بدا مرتاحاً نوعاً ما. أشار لها إلى الباب وقال بأدب:هلا ذهبنا الآن؟



ترجل الجميع من السيارة، ثم ساروا ببطء نحو ذلك القصر المبني أعلى تلك الهضبة المقابلة لهم.

توقفت لوسي مكانها تنظر إليه بذهول.. كانت طوال الطريق تحاول أن تتخيل الشكل الذي يبدو عليه منزلهم. توقعت الكثير، لكنه كان أفخم بكثير مما تصورته في عقلها.

أمامها، كان هناك درج حجري طويل مؤدي إلى أعلى تلك الهضبة.
على جانبي الدرج، كان هناك حوض مائي كبير على طول المنحدر المؤدي للأعلى كان مقسماً إلى طابقين، ليتلاءم تصميمه مع ذلك المنحدر.
انتشرت بالحوضين العلوي والسفلي، العديد من النافورات المائية الصغيرة. بينما توسط الحوض العلوي من جانبي الدرج، حوضان حجريان معشبان وبهما شتى أنواع الزهور الملونة، التي فاح شذى عبيرها ليعطر المكان من حولها.


المياه كانت تتدفق من أعلى الحوض العلوي إلى الحوض أسفله باستمرار ليبدو منظره كالشلال تماماً. في حين انتشرت الإضاءات في أجزاء متفرقة من الحوضين المائيين لتمنحه رونقاً وجمالاً يأسر العيون.

صعدت برفقتهم ذلك الدرج الحجري الطويل، بينما تنظر إلى الماء من حولها في دهشة.

أعلى ذلك الدرج، كانت هناك ساحة حجرية كبيرة مطلة على الحوض المائي بسياج حجري قصير. في حين توسطت تلك الساحة نافورة ضخمة كان بها تمثال طفل ملاك يحمل جرة يتدفق منها الماء.
وأمام تلك النافورة بعدة أمتار، كان هناك درج حجري آخر يؤدي إلى البوابة الرئيسية للقصر. ذلك القصر الذي وقفت تنظر إليه بانبهار.


كان القصر على الطراز الكلاسيكي العريق، بنوافذ طويلة في كلا طابقيه.
ساروا بهدوء نحو ذلك الدرج، حيث كان يؤدي أولاً إلى ثلاثة أقواس حجرية بنيت كدعامة لتلك المظلة المرتفعة، التي تخلل سقفها نقوش ورسوم كانت غايةً في الجمال والروعة.

وأمامهم ذلك الباب الخشبي الأبيض العريض، بنقوشه الذهبية التي أبهرتها حقاً.

كانت قد عقدت العزم ألا تظهر اندهاشها بأي شيء، لكن عيناها خانتاها وهما تنتقلان تلقائياً لتدققا في كل تفاصيل هذا المكان، الذي لم تتصور ابداً أن ترى مثيلا له حتى في أحلامها..



كانت تلك البوابة مفتوحة على مصراعيها. وما إن وطأت قدمها الأرضية الرخامية لداخل المنزل، حتى اتسعت عيناها بصدمة وهي ترى ذلك العدد الكبير من الخدم الذي تسطروا على جانبي الردهة مرتدين زياً موحداً خاصاً بالخدم.

وما إن دخل سيدهم المنزل، حتى انحنوا جميعاً باحترام ليقولوا بصوت واحد: مرحباً بعودتك سيدي الشاب.


دون أن يلتفت لأي منهم، ابتسم بشوق وهو ينظر إلى تلك العجوز التي تسير نحوهم ببطء.
دنت منه أكثر لتضمه هو وديفيد الواقف إلى جانبه بقوة وتقول بسعادة:مرحباً بعودتكم..لقد اشتقت إليكم حقاً.

ثم ابتعدت عنهم لتردف والدموع في عينيها: لقد شعرت بالوحدة حقاً. إنها المرة الأولى التي تسافرون فيها جميعاً كل هذا الوقت!


ابتسم كلاهما لكلامها، ليقول كارل ممازحاً بينما يشد خدها بسبابته وإبهامه برقة:ما هذا جدتي؟ هل كبرت لتصيرِ عاطفية هكذا؟ لقد غادرنا لأقل من أسبوعين فقط!

ضربت يده بخفة لتقول بامتعاض:ما الذي تقوله أيها الأحمق! عندما تكبر في السن، يمر الوقت ببطء شديد. لذلك فإن الأسبوعين، تعتبر مدة طويلة جداً بالنسبة لمن هم في مثل سني!

اقترب منها ديفيد وهو قال بمرح، بينما يطوق رقبتها بذراعه: ما الذي تقصدينه بكبار السن؟ إنك لا تزالين شابة يا جدتي!

عقدت يديها أمام صدرها لتقول بتهكم:أتحاول مواساتي؟ لا بأس. لست خجلة من كبر سني!


لكنها سكتت فجأة لما رأت لوسي التي تنظر نحوها بدهشة، وايمي الواقفة أمامها بارتباك ملحوظ.

نظرت إلى كارل بتردد لثوان، لكنها ابتعدت عن ديفيد لتفتح ذراعيها إلى ايمي وتقول بعطف:تعالي إلي ايمي...لقد اشتقت إليك حقا! هل تذكرينني؟ إنني الجدة سمانثا. لقد التقيت بي كثيراً قبل سنوات!

في تلك اللحظة، كانت ايمي تتذكر توصيات كارل وديفيد قبل ساعات. عليها الآن أن تتصرف وكأنها تعرفها فعلاً!


ركضت نحوها لترتمي بين يديها وتقول متصنعة السعادة:لا أتذكر الكثير، لكن كانت أمي تحدثني عنك دائماً! إنني سعيدة جداً لرؤيتك من جديد يا جدتي!

استطاعت الجدة أن تشعر بارتجاف جسدها الصغير بين يديها. تدرك كم هو صعب على طفلة صغيرة أن تتظاهر بشيء كهذا.

هي لا تعرف قصتها بعد، لكنها أدركت من نبرة صوت كارل لما حدثها عنها قبل ساعات، أن شيئاً مؤلماً جداً قد حدث لهذه الطفلة.


ضمتها بقوة أكبر ثم أخذت تربت على ظهرها في حنان..دون أن تعلم كم أثر ذلك الحنان الذي تحسه ايمي لأول مرة، في قلبها ايمي المضطرب.
هي لا تعرف كيف تبدو جدتها، وفي الحقيقة لم تفكر بها في حياتها قط. لكن إذا ما كانت ستتمنى وجودها، فهي ستتمنى أن تكون مثل هذه المرأة تماماً!

بعد أن بقيا هكذا لبعض الوقت، ابتعدت ايمي عنها وقد باتت تشعر الآن بالراحة حقاً.


نظرت الجدة إلى لوسي وقالت وهي تمد يدها إليها: أنت الضيفة التي حدثني عنها كارل صحيح؟ امممم ماذا كان اسمك مجددا؟

ابتسمت لوسي وأجابت بود بعد أن صافحت يدها على الفور:اسمي لوسي أليسون سيدتي.

ابتسمت الجدة بإشراق وقالت:وأنا سمانثا وايلنجهام...أهلا بك يا ابنتي...يمكنك التصرف كما لو أنك في بيتك. لا تتردد في طلب أي شيء مني اتفقنا؟


شعرت لوسي بالراحة حقاً لما تحدثت معها...هي ربما لم تقابل في حياتها شخصاً بهذه اللطافة على الإطلاق! أحبت كثيراً تلك الطيبة، والمودة الصادقة في عيني هذه العجوز الرقيقة..

بالنظر إليها، تستطيع لوسي أن تدرك كم كانت هذه المرأة جميلة جداً في شبابها.
عيناها العسليتان، ذكرتاها بعيني هاري الحادتين.. شعرها الذي كساه البياض، كان منسدلا على كتفها بنعومة. وتلك التجاعيد الرقيقة التي غزت وجهها لم تفسد من جماله شيئاً.


بدت لطيفة وحنونة جداً، وفي الوقت ذاته بدت قوية وواثقة جداً من نفسها.
تحيطها هالة الثراء والرقي بشكل واضح، رغم أنها لم تبد متكبرة أبداً. لكن مشيتها، وقفتها، وملابسها الفاخرة. كل ذلك جعلها تدرك جيداً أن هذه المرأة عاشت منذ نعومة أظافرها في ثراء فاحش.
لقد ولدت لتكون سيدة من سيدات المجتمع الراقي..دون أي تصنع أو غرور!


خاطبت الخادمة الواقفة بالقرب منها بهدوء:أرجو أن ترشدِ الآنسة إلى غرفتها.

ردت الخادمة باحترام شديد:أمرك سيدتي.

عندها التفتت الجدة إلى لوسي وقالت بابتسامة ودودة: سيحضر الخدم أغراضك إلى الغرفة. يمكنك أن ترتاحي قليلا الآن، وسأناديك ما إن يجهز العشاء.

ردت لوسي قائلةً بامتنان:شكراً لك حقاً على لطفك سيدة وايلنجهام، لكن الوقت متأخر جداً الآن ولا أشعر بالجوع حقاً. أظن أنني سأذهب للنوم مباشرةً!

ابتسمت الجدة بتفهم وقال بلطف:حسناً إذا..تصبحين على خير..



ما إن غادرت لوسي برفقة الخادمة، حتى التفتت الجدة إلى كارل وقالت بانزعاج:هل تشاجرت مع هاري مجدداً؟ لقد بدا غاضباً جداً عندما دخل إلى المنزل قبل قليل!

فرد كارل بعصبية: لم أفعل له شيئاً...لقد خاطب الآنسة أليسون بوقاحة لذلك وبخته على ذلك!

نظرت إليه الجدة بحزن، ثم قالت برجاء:كارل، لا تقسو عليه أرجوك.. أنت تعرف لم أصبح هكذا..

زفر كارل بضيق ثم قال بانزعاج: لكن جدتي..هاري لم يعد طفلاً صغيراً. إنه في الخامسة عشرة بالفعل!
لقد دللته كثيراً حتى أصبح لا يستمع إلي أبداً. مهما كان ما حدث، ذلك لا يسوغ له إيذاء مشاعر الآخرين دون اكتراث هكذا!

تنهدت الجدة بيأس دون أن ترد على كلامه، فهي قد تعبت حقاً من جدالهما الذي لا ينتهي!
نظرت إلى ايمي فجأة لتقول بجدية: والآن..عليك أن تفسر لي كل شيء!


نظر كارل إلى الخدم من حوله بتوتر، عندها خاطبتهم الجدة قائلة بحزم:يمكنكم العودة إلى أعمالكم الآن.

فلما غادر الخدم جميعاً، قال ديفيد بحزن بعد أن أمسك يد ايمي:سأقدمها لك مجددا يا جدتي..هذه الطفلة، إنها أختي الصغيرة ايمي هوريستون.

اتسعت عيناها بصدمة، وقد وضعت يدها على خدها لتقول مكذبة: أختك؟! لا أصدق هذا! لم أسمع أبداً أن والدتك قد أنجبت بعدك طفلاً آخر!

أجاب ديفيد بنبرة بدت أشبه بالسخرية:بل إنهما طفلان في الحقيقة! لقد أنجبت والدتي توأماً قبل ثمان سنوات، فتى وفتاة. مات الفتى قبل أربع سنوات، وبقيت ايمي فقط.

بدت الجدة حزينة جداً، وقالت بأسف: أنا آسفة حقاً لسماع هذا..

ثم سكتت قليلاً وأردفت بحيرة:لكن..لم تخبرك والدتك بشأنها؟ ولم تقوم بإخفاء هويتها هكذا؟!


تنهد ديفيد بعمق ثم قال بغصة:إنها قصة طويلة جداً يا جدتي. الوقت غير ملائم الآن لإخبارك، فربما تسمعنا الآنسة أليسون أو أحد الخدم. سأخبرك بكل شيء فيما بعد!

أومأت الجدة بفهم ثم قالت بهدوء:حسناً لا بأس. سأستمر في التظاهر بأنها قريبتي..لا تقلق، سيكون كل شيء بخير.

نظرت إلى ايمي وانحت لمستواها ثم قالت بعطف:لا تخافي ايمي..إن ديفيد بالنسبة لي مثل كارل وهاري تماماً..بما أنك شقيقته، فأنت أيضاً حفيدتي الصغيرة!

ثم أضافت بمرح بينما تغمز لها:في الواقع لقد كنت دائماً محاطة بالأولاد المزعجين فحسب!
هؤلاء الأغبياء الأربعة كانوا يتشاجرون دائماً، مما يسبب لي الصداع حقاً! إنني سعيدةً جداً لأنني سأحظى أخيراً بحفيدة لطيفة مثلك!


ابتسمت ايمي لكلامها وقد أحبتها حقاً...وقع تلك الكلمة تردد كثيراً في أعماقها.
حفيدتها! إذا فهذه المرأة تعتبرها عائلتها رغم أنها التقتها فقط للتو! لقد أدركت بالفعل كم يحبها ديفيد وكارل كثيراً، لذلك كانت متأكدة من أنها ستحبها هي الأخرى!

لكن لحظة..لقد فكرت بهذا للتو فقط! أقالت الجدة الأغبياء الأربعة قبل قليل؟ إنها تقصد حتماً ديفيد وكارل وهاري.. لكن، من هو الشخص الرابع إذاً؟!

عندها قطع كارل تفكيرها لما قال بمزاح بعد أن عقد يديه أمام صدره:ماذا لدينا هنا؟ أشم رائحة مؤامرة تحاك من ورائنا! هل ستتحالفان ضدنا أم ماذا؟!

مدت الجدة لسانها وقالت بمرح:لا شأن لك!


ثم سارت إلى ايمي ووقفت خلفها، لتقول بلطف بعد أن وضعت يديها على كتفيها: هيا بنا ايمي حبيبتي..لقد جهزت غرفة خاصة بك. انا واثقة من أنك ستحبينها كثيراً!

ابتسمت ايمي بمرح لتقول بحماس:أجل..لنذهب جدتي!


سارت الاثنتان باتجاه الطابق العلوي، بينما كان ديفيد وكارل يراقبانهما وهما تبتعدان عنهما شيئاً فشيئاً.

ابتسم ديفيد وقال بارتياح:ذلك جيد. كنت خائفاً من ألا تتقبل ايمي الأمر. لكنها تبدو سعيدة جداً

علق كارل مطمئناً:لا تقلق. ستهتم بها جدتي جيداً. أنا واثق من أنهما ستنجمان معاً كثيراً.


فأومأ ديفيد موافقاً دون أن يعقب على كلامه، ثم قال في نفسه برجاء:أرجو أن تتجاوز ايمي ما حدث قريباً.
.
.
.


بعد أن غادرتهم برفقة الخادمة، سارتا لبعض الوقت في تلك الردهة الواسعة ذي الأرضية الرخامية البيضاء، والنقوش الذهبية المرسومة بإتقان لفت لوسي كثيراً.

توقفتا أمام ذلك الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي. فنظرت لوسي نحوه مشدوهة من جماله..

كانا عبارة عن درجين على شكل قوسين متقابلين مائلين إلى الأعلى، توسطهما مصعد زجاجي بحديد ذهبي، ونقوش ذهبية على زجاجه اللامع. في حين لم يكن بابه يقابلها، بل كان يقابل الباب الذي كان خلف الدرج، والذي لم يكن أقل فخامة عن باب المدخل.
فكرت لوسي أن ذلك الباب قد يؤدي إلى قاعة الحفلات على الأرجح.

السقف كان عبارة عن قبة زجاجية بزخارف ذهبية غاية في الجمال والروعة، وقد تدلت من وسطها تلك الثرية الكريستالية العملاقة والتي كانت تصل إلى الطابق الأرضي.


حول الدرج من الأعلى، كان هناك سياج حجري أبيض قصير يحيط الطابق الثاني بشكل دائري، حيث كان الطابق الثاني مطلاً على الطابق الأول.
ركبت تلك الدرجات الرخامية اللامعة خلف تلك الخادمة التي كانت تسير بثبات، دون أن تنظر إلى أي شيء من حولها..


حول ذلك السياج الحجري، انتشرت على طول محيطه الدائري تلك الأعمدة الرخامية التي تثبت السقف المزخرف حول تلك القبة الزجاجية.
ما إن ركبت إلى الطابق الثاني، أخذت تنظر حولها إلى الزخارف الذهبية، والثريات الكريستالية الصغيرة المنتشرة في السقف المحيط بالقبة.
التحف واللوحات الثمينة المنتشرة في كل مكان، ثم الأبواب الخشبية البيضاء الفاخرة المنتشرة في الجوانب، وكذلك تلك الممرات الطويلة التي امتدت على الجوانب الأربعة لتلك القبة، حيث كانت بها العديد من الغرف بأبوابها المزركشة، والتي أيقنت أنها تكلف الملايين حتماً!


سارت رفقة الخادمة في أحد تلك الممرات، والتي أخبرتها موضحة أنه الجناح الخاص بغرف نوم ضيوف القصر، وقد كان عدد تلك الغرف بحسب الأبواب التي رأتها، ثمانية تقريباً.

توقفت الخادمة أمام إحدى تلك الغرفة لتفتحها بهدوء ثم تنحي إلى لوسي وتقول باحترام:هذه هي غرفتك سيدتي...لقد جهزنا الحمام من أجلك. سنضع لك حقيبتك في الغرفة.


شعرت لوسي بالارتباك، فهي لم تُعامل بهذه الطريقة من قبل أبداً. لذلك قالت وهي تضع يديها على كتفي الخادمة بينما ترفع جذعها المنحني برفق لتقول برجاء:أرجوك ألا تنحنِ لي هكذا. إنني فتاة عادية ولست من النبلاء. إنني لا أشعر بالراحة حقاً عندما تفعلين هذا!

خفضت الخادمة رأسها وردت بارتباك:إنني آسفة جداً سيدتي! إنك ضيفة سيدي، لا يمكنني أن أعاملك بوقاحة هكذا!

شعرت لوسي بالغيظ لما سمعت هذا، لكنها سألتها بهدوء غريب:هل سيدك هو من أمرك أن تعامليه هو وضيوفه هكذا؟

نظرت إليها الخادمة باستغراب، لكنها ردت بتردد:كلا يا سيدتي...السيد الشاب لم يأمر الخدم بأي شيء أبداً. في الحقيقة هو لا يتعامل معنا على الإطلاق.
الكلمات الوحيدة التي سمعتها من سيدي منذ أن بدأت العمل هنا، هي عبارات الشكر فقط عندما أقوم بشيء ما من أجله!

تفاجأت لوسي من كلامها كثيراً لكنها سألتها بارتياب:إذا، أهو شقيقه الأصغر؟ هل يقوم بمعاملة الخدم بشكل سيء؟!


ابتسمت الخادمة وقالت وهي تلوح يدها في الهواء ساخرة:ما الذي تقولينه؟ سيكون من الجيد بالنسبة للسيد الصغير إذا ما نظر لنا نحن الخدم أصلا!


نظرت حولها متفقدة، ثم اقتربت من لوسي لتقول لها بصوت منخفض:هل تعلمين؟ هناك الكثير من الشائعات عن هذان الأخوان. حتى بالنسبة لنا نحن الخدم الذي عملنا هنا طويلا، فإننا لا نعرف عنهما أي شيء! السيد الشاب بالرغم من أنه وسيم وثري جداً إلا أنه لم يواعد أي فتاة من قبل. هل تصدقين هذا؟!

ثم أردفت بحسرة:شاب مثله يمكنه امتلاك أي عدد يريده من النساء دون أن يبذل أي مجهود أبداً! لا أصدق أنه لا يهتم بأي منهن!
إنه لا يعنف الخدم أبداً حتى لو أخطؤوا. وهو متواضع جداً بالرغم من مكانته العالية. جل ما يهتم به هو العمل فحسب!


شعرت كما لو أن تلك الخادمة كانت تنتظر سؤالها ذاك، لتنطلق في ثرثرتها هذه التي بدا واضحاً انها لن تتوقف أبداً!


تحدثت بعد ذلك عن أشياء كثيرة لم تعرها لوسي أي انتباه، وقد قاطعت حديثها فجأة لما قالت بمجاملة:شكراً لك على إيصالي إلى الغرفة. سوف أذهب للنوم الآن. عمتِ مساءاً.

ارتبكت الخادمة على الفور لما قالت هذا، وقد أدركت أخيراً أنها أزعجتها كثيراً بثرثرتها تلك. فانحنت لها وقالت باحترام: تصبحين على خير سيدتي.



دخلت لوسي الغرفة وأغلقت وراءها الباب، لتتنهد بعمق وتقول بإرهاق:ما هذا؟! ظننت لوهلة أنني فقدت القدرة على السمع من سرعة حديثها!

ثم ألقت نظرة حولها في أرجاء الغرفة لتتسع عيناها في صدمة..
هتفت بغيظ: ما هذا؟ هل يسمون هذه غرفة نوم الضيوف حقاً؟! تباً لهؤلاء الأغنياء، سيجعلونني أجن بالتأكيد!

كان أثاث تلك الغرفة بلون أبيض مائل للترابي، ممزوج بلون وردي باهت..أمامها نافذة كبيرة تغطيها ستائر وردية ناعمة كانت غاية في الجمال والروعة..


أسفل تلك النافذة أريكة مخملية وردية عليها العديد من الوسائد التي جمعت بين اللونين الوردي والأبيض الترابي..
وعلى جانبي تلك الأريكة، خزانتان طويلتان كان بابيهما عبارة عن مرآتين طويلتين.

على يسارها ذلك السرير الزوجي الكبير بمفرشه الأبيض الترابي وجوانبه كانت باللون الوردي الباهت..
أما الحائط الذي أسند عليه السرير، فقد كان عبارة عن إطار دائري من الإضاءات الخافتة، في حين كان وسطه ملبس بورق حائط وردي عليه نقوش ذهبية رقيقة..


على جانبي السرير طاولتين صغيرين بدرجين على شكل نصف دائرة، ولونهما كلون باقي الأثاث. قد وضعت فوقهما سهارتين من الكريستال اللامع.

أمام السرير، كانت هناك أريكة منخفضة بلا مسند كانت باللون الوردي أيضاً..وأمامها على يمين لوسي تلك التسريحة التي كانت على طول الحائط الجانبي. أسفلها أدراج كثيرة عريضة خشبية بيضاء، وسطحها من الرخام الوردي الممزوج بالأبيض الترابي..مرآتها كانت عريضة ومستطيلة، وأمامها وضع ذلك الكرسي الوردي الصغير.


سارت ببطء نحو ذلك السرير، لترمي نفسها فوقه بتعب شديد..
أخذت تتكلم بقهر بينما تتقلب فوقه: ما هذا..ما هذا..ما هذا؟!! إننا جميعاً بشر مثل بعضنا صحيح؟ ما الحاجة لكل هذا الهراء؟!


ثم توقف فجأة لما اتكأت على بطنها، لتقول بعد أن حشرت وجهها في الوسادة:لكن حسناً.. بالنظر إلى هذا الثراء الفاحش الذي يعيش فيه. إنه هو كارلوس تشادولي بلا شك، وليس شخصاً محتالاً يتظاهر أنه هو..


ثم تربعت في منتصف السرير، لتضرب خديها بقوة وتقول مخاطبة نفسها بحزم: فلتستيقظِ لوسي! ليس هذا وقت الانبهار بأملاك ذلك الوغد! امامك عمل عليكِ إنجازه!

ثم تنهدت بإحباط وقالت:بالنظر إلى أن الأمر انتهى بي للقائه بهذه الطريقة، فقد جعلته يعرف شخصيتي الحقيقية. لا يمكنني أن أكون ودودة معه فجأة! لقد كنت أخطط لإغوائه في البداية من أجل التقرب منه، لكن ذلك صار مستحيلاً الآن!

سكتت قليلا تفكر للحظات، ثم تمتمت بتهكم:عل كل حال... ذلك أفضل بكثير، سأنقرف من نفسي لسنوات، إذا ما قمت بإغواء رجل لا أعرفه هكذا كالعاهرات تماماً!


ثم عقدت يديها أمام صدرها وهمهمت بتفكير:يجب أن أبقى في منزله حتى أنفذ الخطة، سينتهي كل شيء إذا ما اتصل به راولي في أي وقت!

نظرت إلى ساعة يدها لتفكر قائلة:بالنظر إلى شخصية راولي أستطيع أن أعرف جيداً بماذا يفكر...
بما أنني لم أتصل به حتى الآن، فهو سيضع إهمالي وغبائي كالعادة في عين الاعتبار، وسيعتقد أنني ذهبت إلى الفندق ونسيت أن أتصل به بعد أن نمت من التعب! لذلك لن يقلق بشأني الليلة. لكن إذا لم أتصل به غداً ايضاً، فهو سيذهب إلى المطار للبحث عني بالتأكيد!
حسناً، في هذه الحالة لدي متسع من الوقت حتى الساعة العاشرة صباحاً...إذا لم أتصل بروالي خلال ذلك الوقت، فسيتصل بكارلوس تشادولي وسيفسد كل شيء!


استلقت على السرير مرة أخرى وقد بدأت تشعر بالنعاس يتسلل إلى عينيها شيئاً فشيئاً..

تمتمت بتفكير بنما تنظر بطرف عينها نحو ذلك الباب المصنوع من الزجاج المضبب والذي كان بزاوية الغرفة:لقد قالت تلك الخادمة أنها جهزت لي الحمام..هل استحم قبل أن أنام؟


ثم حركت رأسها نافية لتطرد تلك الفكرة من عقلها سريعاً وتقول بانزعاج:لدي شعور أن الحمام مبالغ فيه هو أيضاً...لقد تأذت عيناي بما فيه الكفاية لرؤية كل تلك المناظر المبهرجة اليوم!


سأنام الآن..أمامي عمل كثير في الغد!



#الولايات المتحدة الامريكية_نيويورك_ الساعة 8:30 صباحاً

2005\9\23



كان يركض باستعجال وسط ذلك الممر الطويل الذي أحاطته العديد الغرف المغلقة من جانبيه، وقد كان يضم ذلك المغلف البني إلى صدره، في حين بدا منفعلا جداً..

توقف أمام إحدى تلك الغرف ليفتح الباب فجأة دون استئذان..لكنه أخذ يسعل بقوة لما شعر أن ذلك الدخان الكثيف قد تسلل إلى رئتيه على الفور..


أخذ ينفض بيده ذلك الدخان من أمام وجهه، ليقول وهو ينظر إليه بغضب: تباً لك أيها الوغد المهمل! متى ترحم رئتيك وتتوقف عن التدخين هكذا؟ ستقتل نفسك يوماً ما أتعلم؟!


كان ذلك الشاب العشريني جالساً على كرسيه الخشبي خلف ذلك المكتب..
كان قد أمال الكرسي إلى الخلف باتجاه الحائط، ليوقفه فقط على قائمتيه الخلفيتين.. واضعاً رجلا على الأخرى فوق مكتبه بإهمال..
سيجارته المشتعلة في فمه كالعادة، ورأسه مستند على حافة ظهر الكرسي، بينما كان ينظر إلى سقف الغرفة في شرود..


نظر ذلك الواقف أمامه إلى المكتب حوله بانزعاج...

الغبار كان قد غلف كل جزء منه تقريباً..

على زاوية الغرفة، كانت هناك سلة مهملات صغيرة قد فاضت من تلك الأوراق المكومة التي دُكت داخلها..أما حولها، فقد كوّنت المهملات والأوراق أكواماً كثيرة مرمية على الأرض بإهمال.


حول الأرضية، وبجانب حوائط الغرفة ذي الأثاث القليل، الذي كان عبارة عن مكتب وخزانة بها القليل من الملفات، والتي بدا واضحاً أنها لم تفتح منذ زمن..كانت هناك العديد من الاوراق والملفات المبعثرة هنا وهناك.

فوق ذلك المكتب لم يكن أفضل حالاً من بقية أرجاء الغرفة. فقد وضعت تلك الرزم الكثيرة من الأوراق والملفات، فوق بعضها بعشوائية...
بعضها كان موشكاً على السقوط، والبعض الآخر كان قد سقط بالفعل أسفل ذلك المكتب الفوضوي..

منفضة السجائر الموضوعة أمام ذلك الشاب، كانت هي الأخرى تنذر بالفيضان الوشيك، لأعقاب السجائر المرصوصة داخلها بعشوائية..



تنهد بإحباط، ليبدأ في إلقاء محاضرته المعتادة، التي لم تكن تجدي نفعاً في كل مرة..لكنه ظل يكررها على أي حال: متى تقوم بتنظيف مكتبك؟! لقد أصبح يبدو كمكب نفايات حقاً!

رد الشاب ببرود بينما يعبث بغرة شعره الأسود الناعم، في حين نفث الدخان من فمه بلامبالاة:ألم تمل من تكرار نفس الجملة يومياً تشارلي؟

رد تشارلي وهو يكز على أسنانه بغيظ:ألم تمل أنت من سماع نفس الجملة كل يوم؟ ما هذا؟ لماذا أنت مهمل هكذا؟!


أعاد الشاب كرسيه لوضعه الطبيعي بعد ان أنزل رجليه على الأرض، ليقول ببرود بينما يقلب الأوراق التي أمامه في ضجر: ما الأمر؟ ما الذي أتى بك في هذا الصباح الباكر؟


تنهد تشارلي بإحباط..دائماً ينتهي الأمر بنفس الطريقة. مهما كانت عدد المرات التي يوبخه فيها، فهو ينتهي بمقاطعته عند نقطة ما مغيراً الموضوع، دون أن يتأثر بكلامه ولو قليلا..


سار إلى النافذة خلف المكتب ليفتحها على مصراعيها، سامحاً لدخان السجائر الخانق بمغادرة الغرفة على الأقل، وهو يدرك أنه سيظل عاجزاً عن تنظيفها ما لم يقم هذا المهمل بفعل ذلك!

فهو رغم إهماله وفوضويته، إلا أنه يكره بشدة أن يلمس الآخرون أشياءه لأي سبب كان.



وقف إلى جانبه، ثم قدم له ذلك المغلف الذي أحضره معه ليقول بجدية فجأة: لقد ظهرت واحدة جديدة!

تغيرت ملامح ذلك الشاب فجأة، لتحتدّ عيناه البنيتان بنظرة غاضبة...


أخذ ذلك الملف ليفتحه على الفور وينظر إلى تلك الصورة بتمعن. ثم سأله بعد برهة: لمن هذه المرة؟

أجاب تشارلي بهدوء:الطفل المحتضِر لماريوس فاشلوفان...


أومأ الشاب بصمت ثم قال بحدة:تباً لأولئك الأوغاد، سوف يندمون على الاستخفاف بنا يوماً ما بالتأكيد!


يتبع..

******

_

رأيكم في الفصل؟

_توقعاتكم للأحداث القادمة؟

_ما الذي تخطط له لوسي أليسون؟ ولماذا تحاول التقرب من كارل؟

_ما السبب في كون شخصية هاري هكذا؟

_ومن يكون الشخص الذي ظهر في الجزء الأخير من الفصل؟

كل هذا وأكثر، ستعرفونه في أحداث الفصول القادمة فانتظروني..

لا تنسو التصويت والتعليق على الفصل..وارجو أنه قد نال إعجابكم❤

دمتم في أمان الله🌷🌷

2018/07/15 · 692 مشاهدة · 5194 كلمة
NajwaSD
نادي الروايات - 2024