أعتذر على التأخر في النشر فقد حدث عطل للابتوب الخاص بي ولم أستطع الكتابة في الفترة الماضية..



ملاحظة:

قبل البدء في القراءة، أرجو منكم التركيز بدقة على كل ما تقوله الشخصيات في هذا الفصل وفي الفصول التي تتبعه، لأن كل ذلك مرتبط بأحداث وحقائق ستكشف لاحقاً

أرجو أن تستمتعوا بالفصل❤

◇◇◇◇◇◇

تمسك بيده الصغيرة بإحكام، بينما تسير مرفوعة الرأس على ذلك الممر الحجري، المؤدي إلى بوابة القصر...
كانت تضغط على يده بين الحين والآخر، وكلمات ذلك الرجل الجارحة لتي اعتادت عليها، ما تزال تتردد في ذهنها حتى هذه اللحظة. لترتسم على وجهها تلك النظرة المتألمة التي حاولت إخفاءها بصعوبة مثل كل مرة.

هي اعتادت تقريباً على مثل هذه المعاملة ممن حولها.


كونها الوحيدة هنا من تملك خلفية أسرية ضعيفة، جعلها عرضة دائماً لإهاناتهم المتكررة، في كل مرة تضطر فيها للقدوم إلى هذا المكان الذي تكرهه أكثر من أي شيء آخر.

لكن مهما كان الأمر صعباً، عليها الحفاظ على رباطة جأشها من أجل ابنها الوحيد.
ستتحمل وستكافح مهما تطلب ذلك، فهي حتى وإن رفضوا الاعتراف بذلك، تظل الكونتيسة هوريستون!



نظر إلى والدته بضيق، وقد أشعره وجوده هنا بالاختناق حقاً. لذلك توقف عن السير فجأة!

فنظرت إليه والدته وسألته باستغراب:ما الأمر ديفيد؟

رد ديفيد متهكماً باستياء واضح:أمي..أريد الذهاب واللعب في الحديقة.

تنهدت والدته بضيق وردت باعتراض طفيف في نبرة صوتها القلقة:لكن..الغذاء جاهز. علينا الذهاب إلى غرفة الأكل فجميع الضيوف وأفراد العائلة هناك الآن.


قوس شفتيه باستياء وقال برجاء:أمي أرجوك! لا أحب البقاء مع أعمامي، خصوصاً عمي فيليب. سوف يقول لك كلاماً جارحاً مرة أخرى هو وزوجته. لا أريد سماع ذلك أبداً!

خفضت رأسها في حزن وقالت:أنا آسفة حقاً ديفيد. لو أنني كنت من أسرة أفضل، لما كان عليك أن تعاني هكذا!

عندها قال ديفيد على الفور بنبرة غاضبة:لا تقولي هذا أمي! إنني لست متضايقاً من هذا أبداً!

ثم نظر إلى الأرض لبعض الوقت، ليقول بينما يضغط على قبضته من الغيظ: في الواقع.. إنني أكرههم جميعاُ! لم أحب يوماً حقيقة أنني فرد من عائلة هوريستون، لذلك لست متضايقاً من ذلك أبداً يا أمي..



تنهدت بضيق وهي تستمع إلى كلماته تلك.. فلطالما كان تفكيره ناضجاً جداً على الرغم من صغر سنه..
تعلم جيداً كم يكره عائلته، وكم كان يتمنى أنه لم يولد فرداً منهم أبداً. وفي الواقع، هي أيضاً لطالما تمنت أنه لم يولد كذلك.


ردت بصوت خافت، محاولة إخفاء تلك الغصة المريرة التي أحست بها آنذاك:حسناً.. لكن لا تبتعد كثيراً..


تهللت أساريره لما وافقت على ذلك، فركض مبتعداً بلا تفكير. هو بالتأكيد لا يريد البقاء بالقرب من أولئك المتعجرفين لثانية أخرى!



لما ظل يركض في الحديقة، توقف فجأة بعد أن سمع صوت بكاء طفل بالقرب منه..

أخذ يلتفت حوله في استغراب للحظات، لكنه سار ببطء متتبعاً مصدر الصوت، حتى توقف بالقرب من البحيرة الكبيرة الموجودة في الحديقة الخلفية لقصر جده.

بالقرب من ضفة البحيرة، كانت تجلس تلك الطفلة الصغيرة بينما تضم ركبتيها إلى صدرها، وقد حشرت وجهها بين ساقيها مطلقةً العنان لشهقاتها العالية..



اقترب منها بحذر حتى وقف إلى جانبها ليسألها بتردد:هل أنت بخير؟

نظرت إليه تلك الطفلة وسط دموعها الغزيرة بألم دون أن ترد على سؤاله..

لقد كان متأكداً من أنه يراها لأول مرة. صحيح أنه لم يحب عائلته قط، ولم يكن يعرف الكثير عنهم. لكنها بالتأكيد ليست واحدة من أبناء عمومته..

أهي ابنة أحد الضيوف الذين قدموا إلى جده؟ هذا ما سأل به نفسه في تلك اللحظة.



لكن ذلك ليس مهماً في الواقع..فمنظر تلك الطفلة الباكي كان قد أقلقه كثيراً. هي جميلة جداً بعينين زرقاوين واسعتين، وشعر كستنائي طويل..

جلس إلى جانبها ليسألها مرة أخرى باهتمام:لماذا تبكين؟ هل حدث لك شيء سيء؟

أجابت الطفلة بصوت متقطع تخللته شهقاتها الباكية:لقد ماتت أمي! إنني خائفة جداً..ولا أعرف ماذا أفعل!


نظر إليها ديفيد بحزن دون أن يعرف ما الذي يقوله...لكنه رغم هذا اقترب منها أكثر وقال بنبرة هادئة: أتعلمين؟ لقد كانت أمي تقول لي دائماً أنه مهما حدث لك من أشياء سيئة، فسوف تحدث لك الكثير من الأشياء الجيدة بالمقابل.
إن الحياة هكذا. الحزن والفرح منقسمان بالتساوي. لذلك ليس على الانسان أن ييأس أبداً!

نظرت إليه تلك الطفلة بدهشة للحظات، ثم خفضت رأسها وقالت بخفوت وسط دموعها: هل تعتقد أن الأشياء الجيدة ستحدث لي؟

ابتسم بعطف وقال بثقة:بالتأكيد! عليك أن تكوني مؤمنة بهذا..


نظرت إليه الطفلة لبعض الوقت، لكنها مسحت دموعها فجأة وسألته بتردد:أنت..أنت لا تعرفني لذا...لماذا تقوم بمواساتي هكذا؟

استغرب سؤالها وقال بحيرة: لماذا تعتقدين أنه من الغريب أن أقوم بمساعدتك؟

خفضت الطفلة رأسها وقالت بألم: لأن الجميع هنا هكذا...لا أحد يهتم بالآخر أبداً. كلهم لا يفكرون إلا بمصالحهم فحسب!

تنهد بضيق مفكراً في كلامها، لكنه سألها فجأة بهدوء غريب: هل أنت أيضاً تعيشين في هذا العالم القذر؟



"هذا العالم القذر"

تلك الكلمة بدت أكبر من أن يستوعبها عقل تلك الطفلة البريئة. لقد شعرت بالفعل بالبيئة المشحونة هنا. وجوه من حولها جعلها تدرك على الفور أن لكل واحد منهم نوايا خفية كثيرة، يخفيها خلف تلك الوجوه المبتسمة بنفاق.
إذا فهو عالم قذر بالفعل! لكنها لم تجرؤ على الإجابة عن سؤاله. أهي منهم؟ هي لا تدري حقا!



لما لم يجد منها جواباً، سألها بنبرة هادئة مغيراً الموضوع:من تكونين؟

ترددت الطفلة كثيراً قبل أن تقول بخفوت: اسمي لورنا..أنا الابنة الصغرى للدوق آيشنبارت.

استغرب ديفيد كثيراً لما قالت هذا. لا أحد من عائلة هوريستون لا يعرف من يكون الدوق آيشنبارت، فهو صديق جده المقرب. لكن، كيف يمكن أن تكون طفلة في مثل عمرها ابنة لذلك الرجل العجوز؟!

لم يسألها عن هذا بالطبع، لكنه ابتسم ومد يده نحوها ليقول بترحيب:تسرني معرفتك. أنا ديفيد هوريستون، ابن الكونت فريدريك هوريستون.


بادلته الابتسامة رغم دموعها التي كانت ما تزال تبلل جفنيها الذابلين..مدت يدها هي الأخرى لتصافحه بصمت دون أن تقول شيئاً..

ومن دون أن يدرك، رفع يده الأخرى بعفوية ليمسح دموعها تلك بأطراف أنامله برفق. ثم قال بنبرة لطيفة:يجب ألا تبكي بعد الآن...إنك تبدين أجمل بكثير عندما تبتسمين!

تفاجأت كثيراً لما سمعت كلماته اللطيفة تلك..خفضت رأسها وقد اصطبغ وجهها بالحمرة، في حين كان قلبها يخفق باضطراب...



بعد فترة، كان ما يزال جالساً إلى جانبها بينما ينظر إلى المياه الراكدة أمامه في شرود..

الآن فقط استطاعت أن تلاحظ ملامحه جيداً..شعره الأشقر الناعم الذي كانت نسمات الرياح الخفيفة تعبث به بين الحين والآخر..وعيونه الزرقاء التي عكست زرقة البحيرة أمامها، وتلونت بلون السماء الصافية..


نظرت إلى انعكاس صورتيهما على سطح المياه أمامها...هما يجلسان إلى جانب بعضهما، بينما تفصلهما مسافة سنتمترات قليلة.. وقد أدركت آنذاك، أن تلك السنتمترات كانت تمثل فجوة كبيرة تفصل عالميهما تماماً..

لا تدري لماذا اجتاحتها ذلك اليوم رغبة عميقة في أن تتخطى تلك الفجوة حتى تصل إلى عالمه...لقد رأت في عينيه حزناً عميقاً..وكرهاً صريحاً لكل ما حوله. لذلك هي تريد أن تكتشف عنه أكثر وأكثر.


كسرت حاجز الصمت بسؤالها المتردد:هل يمكنني أن أناديك ديفيد؟

نظر إليها ديفيد باستغراب، لكنه رد بدون اهتمام: أجل.. بالتأكيد..

فقالت لورنا على الفور:وأنت أيضاً...عليك مناداتي بلورنا!

إصرارها ذاك حيره كثيراً، لكنه لم يكترث لهذا في الواقع.. اكتفى بابتسامة هادئة ورد باقتضاب:أجل..لا بأس.


سكتت لورنا لبعض الوقت، قبل أن تقول بتردد:امممم ديفيد، أتعلم؟ في الحقيقة أنا لست ابنة الدوق آيشنبارت الشرعية... لقد كانت أمي عشيقة والدي فحسب لذا..أعني، لابد أنك استغربت كوني طفلة صغيرة بينما أبي رجل كبير جداً في العمر صحيح؟!

ثم نظرت إليه وقالت بابتسامة باهتة:لابد أن ذلك مثير للشفقة، لكنها حقيقتي!

في الواقع، كان ديفيد قد توقع ذلك بالفعل، لذلك لم يستغرب كثيراً من كلامها..لكن ما حيره آنذاك هو لماذا قالت له هذا؟

سألها متعجباً:لماذا تخبرينني بسر كهذا؟

ابتسمت لورنا بغرابة وقالت بهدوء:لا أعلم...لقد شعرت أنه لا بأس بإخبارك بهذا فحسب.

سكت ديفيد لبعض الوقت يفكر في كلامها..لكنه سألها فجأة بقلق دون أن ينظر إليها:هل أنت بخير مع هذا؟


ضمت لورنا ركبتيها إلى صدرها وقالت وهي تعبث بخصلات غرتها بارتباك: لا بأس إنني بخير...لقد ماتت أمي قبل أشهر، لذلك اضطر أبي لأخذي إلى المنزل الرئيسي وتقديمي لعائلته على أنني ابنته...صحيح أن إخوتي وزوجته لم يتقبلوا وجودي، لكنهم مع هذا لا يعاملونني بشكل سيء.

سكتت قليلا لتردف فجأة بصوت راجف: في الحقيقة...لدي أختي مارغريت. إنها تكبرني بعشر سنوات، لكنها لطيفة جداً معي! صحيح أنني لا أملك أي أصدقاء أبداً، لكنني واثقة من أننا سنكون مقربتان يوماً ما!


شعر ديفيد بالألم لمنظرها وهو يرى ذلك الحزن العميق في عينيها..ونبرة صوتها المرتجفة التي حاولت إخفاءها دون جدوى.

هو يعلم تقريباً كم أن الأمر صعب جداً عليها. مهما حاولت أن تبدو قوية ومتقبلة للأمر، فهو يستطيع أن يتخيل ما الذي يعنيه الأمر أن تكون ابناً غير شرعي في مثل هذا المجتمع الذي لا يرحم!

وضع يده على رأسها وقال مربتاً عليه بابتسامة حنونة:لا بأس..سيكون كل شيء بخير..


لا تدري لم انهارت تماماً في تلك اللحظة... أخذت دموعها تنساب على خدها بغزارة، لتتحول تلك الدموع فجأة إلى شهقات عالية لم تستطع إيقافها أبداً..فاقترب منها وضمها إليه بينما يربت على ضهرها بعطف وهو يردد بهدوء:لا بأس..لا بأس..



.
.
.
.



أيقظه صوت رنين منبه هاتفه الذي أزعج نومه الهادئ..رفع جذعه جالساً على سريره في تململ، بعد أن أطفأ المنبه.
لينظر إلى الساعة وهي تشير إلى العاشرة صباحاً..

نظر حوله في أرجاء غرفته الواسعة ليهمس بتفكير وقد بدا مستغرباً: ما هذا؟ أكان ذلك حلماً؟

نهض من فراشه باتجاه الحمام وهو يتمتم في نفسه قائلا:حلم من ذكريات الماضي هاه؟ ذلك مضحك حقاً!!


بعد دقائق، خرج من الحمام بينما يرتدي سروالا من الجينز الأزرق، وقميصاً داخلياً أبيض بدون أكمام. في حين كان يلف منشفة بيضاء حول عنقه..

قطرات الماء كانت تنساب بخفة من خصلات شعره الذهبي. بينما كانت غرته المبللة تغطي جبهته وجزءاً من عينيه..

سار بهدوء حتى وقف إلى جانب مكتبه، في حين كان يمسح في أطراف شعره المبلل بتلك المنشفة حول عنقه..


ابتسم لا شعوريا لما رأى ذلك الإطار الخشبي الموضوع فوق المكتب ، وبه صورة لخمسة أطفال..هو وكارل وروي وهاري تتوسطهم لورنا بابتسامتها المشرقة كالعادة.

أخذ تلك الصور وراح يتأملها في صمت، بينما تعلو وجهه نظرة تائهة حزينة..
مسح بطرف إبهامه على وجه لورنا المبتسم، كما لو كان يستشعر وجودها من خلال تلك الصورة.. ليهمس باسمها بضياع " لورنا "


وعلى آخر حرف قاله، أعاد الصورة إلى مكانها على الفور بعد أن شعر بغصة مريرة مزقت نياط قلبه.

لماذا راوده هذا الحلم الآن؟ أليذكره بما حاول تناسيه طوال الفترة الماضية؟ أليحرق روحه وهو يتذكر ما فرط به كل هذا الوقت، إلى أن أدرك حقيقة شعوره بعد فوات الأوان ؟!

فتح درج المكتب باحثاً عن شيء ما، عندها لامست يده تلك القلادة التي كان قد وضعها بإهمال داخل الدرج..


أخرجها ونظر نحوها للحظات، بينما تعلو عينيه نظرة ساخرة.. تلك القلادة الذهبية التي نقش عليها الشعار الملكي الخاص بأسرة هوريستون بإتقان شديد.

رمي القلادة في الدرج مرة أخرى بجفاء، ليقول بهمس:لن أحتاجها بعد الآن، فلم أعد واحداً من أولئك الأوغاد!

قال هذا ليأخذ من الدرج تلك المحفظة الجلدية البنية...


أخرج منها أربع بطاقات ائتمانية ونظر نحوها لبرهة، ثم أعاد ثلاثة منها إلى المحفظة وأغلق الدرج بعد أن وضع البطاقة الوحيدة المتبقية في جيبه وتمتم ببرود:إنها الأخيرة هاه؟



خرج من الغرفة بعد أن ارتدى قميصه الصيفي الأبيض، وحذاءه الرياضي بنفس اللون. ليقابل كارل الذي كان يسير في الممر هو الآخر..

نظر إليه باستغراب، وقال وهو ينظر إلى ساعة يده:إنها المرة الأولى التي تنام فيها حتى هذا الوقت!

رد ديفيد بخمول:لقد نمت في وقت متأخر بالأمس.

سأله بينما ينظر إلى ملابسه:هل تخطط للخروج؟

أجاب ديفيد متصنعاً اللامبالاة:آه أجل...سأذهب إلى مكان ما، لن أتأخر كثيراً..سأكون هنا وقت الغداء.

أومأ كارل بصمت بينما ينظر نحوه بارتياب، لكنه قال بهدوء: لقد أمرت جدتي الخادمة بأن تترك فطورك في غرفة الطعام.


فكر ديفيد قليلا قبل أن يقول متهرباً من نظراته تلك:لا بأس...لست جائعاً. سأتناول الغداء معكم فيما بعد.

قال هذا ليسير مبتعداً عنه حتى يغادر المنزل، أما كارل فقد تنهد بضيق وهو ينظر إليه بصمت.. لكنه بعد أن وقف مكانه لبرهة، سار متجهاً إلى الطابق السفلي حيث ينتظره الكثير من العمل في مكتبه.



#الساعة 11:30 صباحاً
2005\9\30



كانت تسير في تلك الممرات الكثيرة على غير هدى، بينما تنظر حولها بتوتر. عندها توقف إلى جانبها سكرتير كارل الذي يناديه عادة السيد غرانتير.

سألها باحترام شديد:ما الأمر آنسة أليسون؟ هل تبحثين عن شيء؟

أجابت لوسي بتردد ملحوظ:لقد أخبرتني الخادمة أن السيد تشادولي في مكتبه الآن، لكنني لم أعرف مكانه!

سألها غرانتير بحيرة:هل تريدين لقاء سيدي الشاب؟

أومأت لوسي بتردد وقالت: أجل...أريد سؤاله عن شيء ما.

خفض غرانتير رأسه باحترام وقال: اسمح لي أن أرافقك إلى مكتب سيدي آنسة أليسون..

ابتسمت لوسي مرحبةً بالفكرة وقالت بامتنان:شكراً لك سيد غرانتير..


سارت برفقته إلى حيث ذلك الممر المجاور للدرج في منتصف الردهة بالطابق الأرضي...
كانت قد اعتادت تقريباً على النظر إلى هذه المناظر الفارهة من حولها، لذلك لم تعد منبهرة مما تراه بعد الآن...لكنها كانت المرة الأولى التي تسير فيها في هذا الممر..

نظرت حولها بتعجب حيث تلك الصور الجدارية الكثيرة المعلقة على جانبي الحائط، لرجال ونساء بدا واضحاً أنهم من النبلاء.

تساءلت بفضول:هل هذه الصور لأفراد عائلة تشادولي؟


رد غرانتير على تساءلها بنبرته الرصينة المعتادة:أجل يا آنستي..هذه صور خاصة بمن تولوا رئاسة العائلة على مر عصور حتى الآن...

سألته بتفكير:بعض هذه الصور تبدو قديمة جداً...يبدو أن لهذه العائلة تاريخ عريق جداً!

رد غرانتير على سؤالها بهدوء:لقد كانت عائلة تشادولي من العائلات النبيلة التي تأسست منذ عام 1822. ومنذ ذلك الوقت، توالى على رئاستها أسياد كثيرون حافظوا على قوتها ومكانتها حتى يومنا هذا.

سألته لوسي باهتمام: ألم يطرأ أي تغيير على هذه العائلة خلال الثورة الفرنسية؟


أجاب غرانتير بعمق: لقد التزمت عائلة تشادوليه طوال تاريخها جانب الحياد في كل المشاكل والنزاعات التي خاضتها فرنسا خلال تلك الفترة..
حتى خلال الثورة وخلال الحرب العالمية الأولى والثانية، ظلت هذه العائلة محتفظةً بعلاقاتها مع النبلاء والعائلات العريقة في أوروبا. وبالرغم من كل ما حدث، لم يستطع أحد أن يفعل شيئاً لهذه العائلة حتى عندما تم إسقاط الملكة ماري أنطواينت...
لم يقم الناس ولا قيادات الثورة بفعل أي شيء لهذه العائلة بسبب التأييد الشعبي الكبير لها. حيث أنها اهتمت ببناء المدارس والمستشفيات والحدائق العامة واهتمت أيضاً بشؤون الحقول والمزارع والعمال البسطاء. لذلك حافظت على سمعتها وظلت قائمة حتى يومنا هذا، حتى بالرغم من أن نظام الطبقات لم يعد موجوداً في فرنسا وتحولها إلى جمهورية ديمقراطية.
لقد تحولوا الى النشاط التجاري، ووسعوا علاقاتهم مع دول الجوار. خصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واستقرار فرنسا، وتوسعها الكبير سياسياً واقتصادياً...


أومأت لوسي بفهم ثم علقت بتفكير:إذا...هذا ما جعل لتلك العائلة أعداء كثيرين.

ثم نظرت إلى الصور مرة أخرى وقالت بأسف: بالتفكير في أن تاريخاً عريقاً كهذا تم محوه في ليلة واحدة...الأمر مؤسف حقاً.

سألها غرانتير بشك: هل تشيرين إلى الحادثة التي وقعت قبل عشر سنوات، والتي قتل فيها جميع أفراد تلك العائلة؟

أجابت لوسي بهدوء:أجل...لا يوجد أحد إلا وسمع بما حدث في تلك الليلة المشؤومة. لقد قام أحدهم بإشعال النار في قصر العائلة، في اليوم الذي اجتمعوا فيه جميعهم من أجل الذكرى السنوية لتأسيسها... لقد كانت تلك فاجعة مريعة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى!

غرانتير:لقد كان سيدي الشاب والسيد الصغير هما الناجيان الوحيدان في ذلك اليوم. لقد كانا مقربين من تلك الخادمة التي أشعلت الحريق، لذلك قد طلبت منهما مغادرة المنزل من أجل اللعب في الحديقة، في الوقت الذي أشعلت فيه النار.


عندها قالت لوسي بانفعال:ما الذي تقوله؟! ألم يكن الذي أشعل النار هو البستاني الخاص بالقصر؟ لقد ألقي القبض عليه حتى، وتمت محاكمته على جريمته تلك!


تنهد غرانتير بضيق وقال: صحيح أن ذلك ما حدث، لكن ما لا يعلمه أي شخص، هو أن البستاني كان بريئاً من تلك التهمة. لقد حاول سيدي الشاب إنقاذه خلال المحاكمة، وقد أخبرهم عن تلك الخادمة. لكن أحداً لم يصدقه فقد كان في العاشرة من عمره فقط آنذاك، وكانت كل الدلائل تشير إلى ذلك الرجل الذي كان موجوداً تلك الليلة بالرغم من أن رئيس العائلة كان قد طرده من عمله!

قالت لوسي بغيظ:كيف يمكن أن يكون ذلك معقولاً حتى! أتقول أن رجلا بريئاً تم دفعه للموت هكذا؟!

خفض غرانتير رأسه وقال بحزن:حاولت بذل كل ما أستطيع، لكن أحداً لم يصدق شهادة سيدي والسيد الصغير فقد كانا صغيرين وقتها. وكانت الأدلة التي تدين ذلك الرجل قوية جداً..

سألته لوسي بهدوء:وهل تصدق كلامهما؟ لقد كانا صغيرين كما قلت!


تنهد غرانتير بضيق وقال:إنني آسف جداً آنسة أليسون. لا يمكنني إطلاعك على التفاصيل، لكن سيدي الشاب والسيد الصغير مختلفان جداً عن الأطفال الآخرين. ليس الأمر أنني أصدقهما أم لا. بل لأن ما قالاه هي الحقيقة بالتأكيد!

لم تبد لوسي مقتنعة بكلامه، لكنهما في تلك الأثناء توقفا فجأة أمام باب خشبي كبير جداً كان في نهاية الممر.
قال غرانتير مغيراً الموضوع: لقد وصلنا..


ثم قام بطرق الباب بخفة، عندها سمع صوته يقول من وراء الباب:ادخل..

دخل غرانتير أولا وقال بعد أن انحنى بجانب الباب: سيدي.. الآنسة أليسون تطلب رؤيتك.

استغرب كارل من ذلك، لكنه قال بهدوء:حسناً..دعها تدخل...

وقف غرانتير إلى جانب الباب وقال مخاطباً لوسي: آنستي... يمكنك الدخول الآن.

دلفت لوسي إلى المكتب بتردد. أما غرانتير، فقد غادر المكان مغلقاً الباب وراءه.



نظرت لوسي حولها متفحصة ذلك المكتب الكبير الذي تدخله لأول مرة.

في المنتصف كانت توجد جلسة من أرائك جلدية بنية وثيرة بدت غاية في الفخامة والروعة، توسطتها طاولة خشبية منخفضة عليها بعض الكتب.

في جميع الجدران المحيطة بالمكتب، كانت توجد رفوف خشبية وضعت بها العديد من الكتب المختلفة. وفي الحائط المقابل للباب، كان ذلك المكتب الخشبي الفاخر الذي وضعت عليه العديد من الأدوات المكتبية وبعض الأوراق والملفات بعناية ونظام.. وخلف المكتب ذلك الكرسي الجلدي الوثير الذي جلس كارل فوقه مرتدياً نظارات القراءة الخاصة به، بينما يقرأ بعض الأوراق باهتمام..



بدا مثيراً جداً بتلك النظارات..بدلته الرسمية، وملامحه الجادة لما كان منهمكاً في عمله..

خفضت رأسها في خجل لما فكرت بهذا، لكنها تنحنحت بخفوت طاردةً تلك الأفكار من رأسها، وقالت بصوت شبه مسموع: مرحباً...سيد تشادولي.


ابتسم كارل لرؤيتها وقال بترحيب:مرحباً آنسة أليسون. ثم قام من مكانه، وأشار لها بالجلوس على أحد تلك الأرائك الجلدية في منتصف الغرفة، ليجلس هو على الأريكة التي أمامها.

أخذت نفساً عميقاً قبل أن تستهل حديثها قائلة بقلق:ألم يصلك أي اتصال بعد؟

بدا الإحباط على ملامحه، وقال وهو يحرك رأسه نافياً بأسف:كلا ليس بعد.

خفضت لوسي رأسها بخيبة وقالت بضيق:لقد مضى أكثر من أسبوع تقريباً حتى الآن. إنني خائفة حقاً من أن شيئاً قد حدث له!

أجاب كارل مطمئناً: لقد عينت شخصاً ليقوم بالبحث عنه. لا تقلقي، سنجده بالتأكيد!

قالت لوسي بتردد:إنني آسفة حقاً، لقد جعلتك تتورط معي هكذا. كما أنني صرت مضطرة للمكوث في منزلك لوقت أطول مما توقعت!

ابتسم كارل بلطف وقال معترضاً على كلامها:ما الذي تقولينه آنسة أليسون؟ في الواقع إنني مرتاح حقاً لكوني جعلتك تأتين إلى منزلي. لا يمكنني تصور ما قد يحدث لو أنني لم أحضرك معي!

قالت لوسي بامتنان:شكراً لك حقاً...لا أدري ما الذي أفعله حتى أرد لك دينك!

رد بهدوء: لقد ساعدت ايمي من قبل...في الواقع إنني أنا من يسدد دينه الآن. آنسة أليسون.

تنهدت لوسي بضيق، لكنها قالت بتردد وعلى وجهها استياء طفيف: إنه من غير المريح بالنسبة لي أن تستمر في مناداتي بالآنسة أليسون هكذا! يمكنك مناداتي لوسي فقط.

ابتسم لملامحها تلك وقال :أنا أيضاً أظن أنه من الأفضل أن نفعل هذا...أنت أيضاً... أرجو أن تنادني كارل فحسب.


فقالت لوسي معترضة على الفور:لكنك أكبر مني، كما أنك رئيس عائـ..

قاطعها كارل بحزم: لوسي..لا أريدك أن تفكري بي على أنني رئيس عائلة غنية وأنني في مكانة أعلى منك أو اي شيء من هذا القبيل. إنني أرحب بك كصديقة لي مثل ديفيد تماماً، وأرجو حقاً أن ننسجم معاً أكثر وأكثر.

ارتبكت لوسي كثيراً لما قال هذا، لكنها اكتفت بإيماءة بسيطة وهمست بخفوت: حسناً.. كارل.
بدا كارل راضياً نوعاً ما لما سمع هذا.. وقبل أن يقول أي شيء، قامت لوسي من مكانها وقالت على الفور: سأتركك تنهي عملك الآن...لا أريد أن أعطلك أكثر من هذا.
إذا ما وصلك أي اتصال من صديقي، فأرجو أن تعلمني على الفور.

أومأ كارل بهدوء وقال:أجل..اطمئني.


ما إن غادرت المكتب وأغلقت الباب وراءها، حتى تنهدت بارتياح وقالت بهمس:جيد.. بقي فقط أن أجد شيئاً يدفعني للالتصاق بهذا المنزل بشكل شبه دائم!

ثم غادرت المكان بينما تفكر في حديثها مع ذلك الشاب راولي قبل أسبوع من الآن.



#فرنسا_ باريس _ الساعة 2:30مساءاً
2005\9\23



كانت قد عادت إلى قصر تشادولي بعد أن استقلت سيارة أجرة أوصلتها إلى هناك..
تناولت الغداء برفقة ايمي والجدة، بينما كان كارل وهاري وديفيد خارج المنزل في ذلك الوقت.

الآن هي جالسة على حافة السرير في غرفتها، بينما تحرك قدميها في الهواء بملل.

نظرت إلى هاتفها، ثم استلقت على السرير وقدماها ما تزالان على الأرض.. قالت بنبرة شبه ساخرة:أراهن على مائة دولار، إن لم يتصل خلال عشر دقائق من الآن!

وبالفعل، لم تمر ثلاثة دقائق حتى أضاءت شاشة هاتفها برقم لم يكن مسجلا لديها فهتفت بانتصار:أجل عرفت ذلك!



أخذت نفساً عميقاً، قبل أن تضغط زر الرد، في حين أبعدت الهاتف عن أذنها مسافة شبر تقريباً وقد أغلقت عينيها بقوة.

فسمعت صراخه عبر سماعة الهاتف لما صاح بعصبية: إلى أي حد قد وصل مستوى غبائك؟ هل هناك مخلوق عاقل في هذه الأرض، يضع أشياءه كلها في حقيبة يد ويتركها بعيداً عنه بينما هو مسافر خارج بلده؟! إلى متى علي أن أحتمل تصرفاتك هذه؟ أنت لم تعودي طفلة بعد الآن! هل تدرين كم كنت قلقاً عندما لم تتصلي!؟

وضعت السماعة على أذنها وقالت بارتياح متجاهلة كل ما قاله:جيد..لم تثقب طبلة أذني هذه المرة!

صمت لثوان محاولا استيعاب كلامها، لكنه صرخ فجأة بعصبية أكبر:هل تسخرين مني أيتها الحمقاء!!!


وضعت يدها على أذنها وقالت بانزعاج:هل من الضروري أن تصرخ هكذا؟ صدقني أستطيع سماعك حتى من دون أن تثقب طبلة أذني بصوتك! إنني فق على راشيل حقاً، كيف يمكنها أن تتحمل زوجاً عصبياً مثلك!


تنفس بقوة محاولاً تمالك أعصابه بعد أن يئس منها تماماً وقال بغضب:عليك أن تقلقي على نفسك أولا قبل التفكير في راشيل!! ثم سكت قليلا وتمتم بسخط: تباً لم أتعب نفسي من الأساس مع خرقاء مثلك؟ لا فائدة من الجدال معك أبداً!

واستطرد قائلاً بانزعاج:أين أنت الآن؟


جلست لوسي على السرير مرة أخرى واضعة رجلا على الأخرى، ثم قالت بخبث وهي تلف خصلات شعرها الأمامي حول سبابتها:قبل أن تصبح غاضباً مني هكذا، عليك أن تعرف أولاً أين أنا الآن! هل تستطيع أن تحزر ذلك؟

استغرب من كلامها، لكنه قال بنفاذ صبر:لوسي! لا مزاج لدي لمزاحك السخيف، أخبريني أين أنتِ الآن وسآتي لاصطحابك!

ابتسمت لوسي بخبث وقالت:لا حاجة لذلك..ثم سكتت قليلا وقالت بحماس:إنني في منزل أسرة تشادولي بالفعل!

سكت لبرهة محاولاً استيعاب كلامها، لكنه هتف فجأة مكذباً: ماذا؟!! كيف حدث هذا؟!

أجابت لوسي بهدوء:إنها قصة طويلة.. لقد تعرضت لمشكلة ما وقد قام كارلوس تشادولي بمساعدتي، وعرض علي البقاء في منزله ريثما تأتي لاصطحابي..

سألها محاولاً تأكيد ما سمعه:كارلوس تشادولي نفسه؟

أجابت لوسي بثقة:أجل..كارلوس تشادولي بشحمه ولحمه!



ثم نظرت حولها وعلقت بسخرية:لكن ما هذا يا رجل! الترف الذي يعيشه هؤلاء الأغنياء مثير للأعصاب حقاً! منزله يبدو كعالم آخر مختلف عن عالمنا تماماً!

قال راولي بهدوء:الأمر ليس مستغرباً على عائلة كهذه...

ثم سكت قليلا وسألها بجدية: المهم الآن...ما الخطة؟

أجابت لوسي بهدوء:بسبب الطريقة التي التقينا بها، لقد ضيعت فرصتي في أن استخدم أسلوب الإغواء كما كان مخططاً له في البداية. لكن أستطيع القول أنني يمكنني النجاح حتى في هذا الوضع.

فعلق راولي ساخراً:ربما هذا أفضل، فأنت مريعة حقاً عندما يتعلق الأمر بالرجال!


زمت لوسي شفتيها باستياء وقالت متذمرة:ليس لهذه الدرجة! لكن حسناً..أنت محق، فالأمر سيكون مقرفاً حتى وإن نجحت في ذلك!

سألها راولي باهتمام:إذا...ما انطباعك الأولي عن الوضع عموماً؟

ردت لوسي بتفكير:امممم لقد التقينا في الأمس فقط لذلك من الصعب القول أنني فهمتهم بشكل جيد لكن حسناً... كارلوس تشادولي يبدو متواضعاً ومثالياً جداً إلى حد مثير للريبة. شقيقه الأصغر وقح جداً ولسانه كالقمامة! وصديقه ديفيد هوريستون يبدو ضعيف الشخصية نوعاً ما وهادئاً جداً..لكن أظنه يخفي أمراً ما بالتأكيد!

ثم سكتت قليلا وقالت متذكرة:آه صحيح! هناك طفلة معهم لم أعرف من تكون!

استغرب راولي من كلامها وقال متعجباً:طفلة؟

لوسي:لقد قالوا أنها ابنة قريب جدته البريطانية، لكنني أشك في أن ذلك صحيح.


تنهد راولي بضيق وقال:دعك من تلك الطفلة لوسي...المهم الآن أن تركزِ على ذلك الوغد كارلوس تشادولي! ثم سكت قليلا وقال بقلق:لكن حسناً...عليك أن تكوني حذرة منه ومن شقيقه الأصغر. هناك شائعات تقول أنهما غير عاديان أبداً!


ضحكت لوسي من كلامه وقالت ساخرة:ما الذي تقوله راولي!؟ لست في حاجة للقلق من ذلك المتملق! وشقيقه الأصغر أيضاً...إنه محض طفل غني بلسان قذر فحسب. لا يبدو لي أنه مهتم أساساً بأي شيء ممن حوله!

عندها عاتبها راولي بحدة:لوسي! أنت تعلمين أن الأمر حساس جداً! إذا ما كنت ستظلين مستهترة هكذا، فسأخبر القائد بأن يضع شخصاً آخر في مكانك!



تغيرت ملامح لوسي إلى ملامح غاضبة، لتقول بحقد:راولي! إذا ما فعلت هذا فلن أسامحك طوال حياتي أبداً! ذلك الحقير...سأكون أنا الوحيدة في هذا العالم التي ستجعله يتعفن حتى الموت أتفهم؟!

تنهد راولي بضيق وقال محذراً:لوسي..لا تجعلي مشاعرك الشخصية تعميك عن ما عليك فعله! قد أكون متساهلاً معك لأني ابن خالتك، وقد اعتنيت بك كأختي الصغيرة... لكن القائد لن يقبل بأي فشل أبداً!

فردت لوسي بنبرة واثقة هادئة:أخبره ألا يقلق أبداً...ثق وتأكد أنني سأقدمه له كهدية لعيد الميلاد! حتى ذلك الحين، فليضع قدميه في ماء بارد، لأنني سأحقق له ما يريد بالتأكيد!

شعر راولي بالراحة كثيراً لما سمع كلماتها تلك وقال بهدوء:ذلك جيد...فلتهتم لنفسك جيداً. إذا ما شعرت أنهم على وشك اكتشافك، عليك الهرب على الفور أهذا واضح؟


أومأت لوسي بفهم وقالت بفتور:أجل لا تقلق...سأكون بخير. عليك ألا تتصل بي أبداً في الوقت الحالي..سأتظاهر بأنني فقدت الاتصال بك وأن مكروها قد أصابك...قد يعلم أنني تواصلت معك من إدارة المطار ، لذلك فلتتولى الأمر هناك..أنت تفهم قصدي صحيح؟

رد راولي بهدوء:أجل..أعرف جيداً ما علي فعله. لكن رغم هذا..لا يمكنك البقاء لفترة طويلة بلا سبب..يجب أن تجدي عذراً للبقاء معهم لوقت أطول، حتى لا يبدو الأمر مريباً..

أجابت لوسي بهدوء:أجل أعلم...عليك أن تجهز لي جواز سفر بريطاني..لقد فقدت جوازي مع الحقيبة وقد أخبرته أنني سأذهب للسفارة من أجل استخراج واحد جديد.

تساءل راولي باستغراب:جواز سفر بريطاني؟

فقالت لوسي بانزعاج:لقد أخبرتهم أنني بريطانية، سيبدو الأمر مريباً إذا ما قلت لهم الحقيقة. أنت تعلم ما أعنيه!


فرد راولي بهدوء:أجل..فهمت قصدك. ثم سكت قليلا وقال: حسناً..سأغلق الخط الآن. عليك مسح سجل المكالمة للاحتياط. اتصلي بي إذا ما طرأ أي جديد..أهذا واضح؟

ابتسمت لوسي بهدوء وقالت:أجل..بالتأكيد.



#فرنسا_الساعة 3:00 مساءاً
2005\9\30



دخل غرفته مندفعاً، وقد ترك الباب وراءه مفتوحاً على مصراعيه... سار بتثاقل نحو مكتبه ليضع تلك البطاقة بقوة على سطحه، مصدراً بذلك صوتاً عالياً بعد أن ضربه بكف يده في غضب...

قال وهو يضغط على أسنانه غيظاً:تباً لذلك الحقير!!

عندها سمع صوته يقول بهدوء:ألم تعمل هذه أيضاً؟

فنظر إليه على الفور...كان يقف مستنداً على قفص الباب، بينما يعقد يديه أمام صدره وهو ينظر إليه بحدة..

عض ديفيد على شفاهه السفلى وقال ساخراً من نفسه بينما يسند جسده على حافة المكتب: منذ متى أدركت هذا؟

أجاب كارل ببرود: كم من الوقت أعرفك برأيك؟ هل تظن أنك ستكون قادراً على إخفاء شيء كهذا عني؟!

ثم أردف بضيق:لماذا لم تخبرني بذلك؟

خفض ديفيد رأسه وقال بغضب:إنه يحاول الضغط علي بهذه الطريقة حتى أعود له وأطلب عفوه!

تنهد كارل بضيق وقال:لقد توقعت أن يستعمل جدك هذه الطريقة من البداية...ثم سأله بقلق:ما الذي ستفعله الآن؟ من المفترض أن تبداً الدراسة قريباً..كيف ستتعامل مع نفقات الجامعة؟

رد ديفيد مطمئناً:لا تقلق كارل..لقد كان والداي يرسلان لي مبالغ كبيرة طوال السنوات الماضية، وقد ادخرت كل تلك الأموال دون أن استعملها...في حسابي المصرفي ما يكفي لتسديد تكاليف الجامعة دون أي مشاكل..

عندها سأله بحدة: ماذا عن تكاليف دراسة ايمي؟ ولا تنس أن عليك أن تعين لها مدرساً خصوصياً من أجل تعليم اللغة الفرنسية!

ضغط ديفيد على أسنانه وقال متصنعاً القوة:لا تقلق...سأتدبر الأمر بالتأكيد!

تنهد كارل بانزعاج وقال بينما ينظر إليه باستياء:ديفيد...لا تستطيع خداعي! إنني أعرفك أكثر من أي شخص آخر. لا يمكنني أن أبقى مكتوف اليدين بينما أعلم أنك تواجه مشكلة كهذه!


عندها رفع ديفيد صوته قائلا بقهر:إذا ماذا؟! أخبرك أنني أواجه مشكلة مالية، وتعطيني بعض النقود حتى أحقق له الغرض الذي جعلني أتقرب به منك لأجله؟! كارل..أنا لا يمكنني أن آخذ منك سنتاً واحداً..إذا ما فعلت هذا، فلن أكون قادراً على مناداة نفسي بصديقك بعد الآن!

تنهد كارل بإحباط وقال وهو ينظر إليه منزعجاً:هل أنت أحمق أم ماذا؟ هل كنت تظن أنني سأفكر في أنك تقوم باستغلالي إذا ما طلبت مساعدتي؟! أنا أعرف جيداً أنك أنت وروي لم تفكرا بي يوماً كوريث لعائلة تشادولي...ربما التقينا في البداية بسبب جدك، لكن ذلك لا يعني أن علاقتنا كانت مبنية على ذلك! ديفيد، سأكره نفسي حقاً إذا لم أكن قادراً على مساعدتك في محنتك هذه!


ثم سكت قليلا وقال متهكماً:حسناً...ليس وكأنني سأعطيك المال بلا مقابل هكذا! ثم نظر إليه مبتسماً وقال بمزاح:عندما تصبح طبيباً، عليك أن تقوم بعلاجي بالمجان! تذكر هذا!


خفض ديفيد رأسه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة متألمة... إنه محظوظ حقاً لامتلاكه صديقاً كهذا..هذا ما كان مؤمناً به دائماً...

سار نحوه حتى وقف أمامه.. وكزه بخفه على كتفه وقال بانزعاج:أحمق! عليك ألا تمرض أبداً حتى لا اضطر لعلاجك!

قال هذا، ليسير إلى خارج الغرفة مبتعداً عنه..أما كارل فقد أخذ يضحك على كلامه..

توقف ديفيد أمام الباب وقال بهمس دون أن ينظر إليه: كارل..شكراً لك على كل شيء، لا أعرف حقاً ماذا كنت سأفعل لو لم تكن إلى جانبي!


توقف كارل عن الضحك ونظر إليه بجدية...لكنه ابتسم وقال بهدوء:مزعج! لقد أخبرتك أن تتوقف عن شكري هكذا...



#الساعة 4:35 مساءاً
2005\9\30



كانت جالسة على تلك الطاولة الحديدية البيضاء، في حين كانت منهمكة تماماً بالرسم، بعد أن أجلست دميتها ميني على الكرسي الذي بجانبها.
.
.
فتح باب ذلك البيت الزجاجي، ليسير ببطء نحو الداخل بينما ينظر حوله متفقداً، حتى رآها جالسة بهدوء على تلك الطاولة وسط شجيرات الورود الكثيرة.

سار نحوها بصمت، حتى وقف أمامها وقال بنبرة منزعجة:ما الذي تفعلينه هنا وحدك؟!

نظرت إليه ايمي باستغراب، لكنها قامت من مكانها بسرعة وقالت هاتفةً بقلق:هاري! لماذا خرجت من المنزل؟ هل لا بأس في أن تبقى في الخارج هكذا؟!

رفع هاري حاجبه باستنكار وقال بنفاذ صبر:لقد أخبرتك ألف مرة أنه محض كسر فحسب! ليس عليك أن تضخمي الأمر هكذا!

فتمتمت ايمي باعتراض: لكن...إنه فقط..

تنهد هاري بإحباط وقال بتهكم وهو يسير نحوها:أنتِ مزعجة حقاً... ثم نظر إلى دفتر الرسم أمامها وعلق بتفكير:أنت تحبين الرسم كثيراً هاه؟

ابتسمت ايمي وقالت بحماس:أجل كثيراً! هل تريد أن ترى رسمي؟ أريدك أن تعطيني رأيك به!

استغرب هاري من كلامها وسألها بتعجب:لماذا تريدين معرفة رأيي أنا بالذات؟


سكتت ايمي قليلا قبل أن تقول بتردد بينما تنظر نحوه بحذر: اممممم حسناً في الواقع... لأن هاري هو الوحيد الذي يقول كل شيء بصراحة...أعلم جيداً أنك لن تجاملني مثل الآخرين لذا...

ما إن قالت هذا، حتى انفجر هاري ضاحكاً من كلامها..

صحيح أنها محقة في كلامها، لكن سماعها تقول هذا له مباشرة هكذا كان قد فاجأه حقاً!

فنظرت إليه بانزعاج وقد احمرت وجنتاها خجلاً...سألته وقد زمت شفتيها باستياء طفولي:لماذا تضحك هكذا؟

هز رأسه نافياً وقال وهو يكتم ضحكته بصعوبة:لا..لا شيء.. ثم سار إليها وسحب الكرسي المقابل لها ليقول:حسناً..دعيني أراها!


نظرت إليه ايمي لبعض الوقت، لكنها ابتسمت بسعادة فجأة وقالت بمرح:لكن أتعلم؟ إنها المرة الأولى التي أراك فيها تضحك هكذا!

ابتسم لكلامها بهدوء لكنه لم يقل أي شيء..أما هي، فقد مدت له دفترها، وأخذت تنظر إليه بترقب لما بدأ بتقليب صفحاته متفقداً اللوحات التي رسمتها...


بدا مصدوماً تماماً وهو ينظر إلى تلك اللوحات المتقنة التي رسمتها...صور للورود والشجيرات في البيت الزجاجي...صور للحوض المائي في الحديقة الأمامية للقصر.. صورة للدرج، صورة للمنزل، صورة لغرفتها وغيرها الكثير والكثير...

سألها مكذباً:هل حقاً أنت من قام برسمها؟!!

أجابت ايمي بتردد:أ..أجل..ما رأيك؟

نظر هاري إلى الدفتر مرة أخرى وقال بانبهار:إنه رائع حقاً! عندما علمت أنك تحبين الرسم، لم أتصور أبداً أنه سيكون مذهلاً هكذا!!

سألته ايمي بشك:أحقا ما تقول؟

نظر إليه قليلا ثم قال بمزاح:ما الأمر؟ ألم تقولي أنني الوحيد الذي سيخبرك عن رأيه بصراحة؟ إنني جاد حقاً...إنك موهوبة جداً!

شعرت ايمي بالسعادة لما سمعت هذا وهتفت قائلة بحماس: إذا...هل تظن أنني سأكون قادرة على أن أصبح رسامة مشهورة؟!



ما إن قالت هذا، حتى تغيرت ملامح وجهه ليقوم من مكانه فجأة ويصيح قائلا باعتراض: لا! لا يجب أن تجعلِ الآخرين يعلمون عن موهبتك! ما إن يعلم الآخرون بهذا، حتى يقوموا باستغلالك ومعاملتك بأبشع طريقة تتصورينها! الأشخاص الذين يمتلكون موهبة ما، لا يمكنهم العيش بحرية أبداً في هذا العالم...


شعرت ايمي بالخوف حقاً لما سمعت كلماته تلك، ورغم أنه بدا منفعلاً وغاضباً جداً..إلا أنها استطاعت أن تلتمس في كلماته ألماً وحزناً عميقين، لم تستطع فهمهما أبداً...

خفضت رأسها وقالت بحزن بينما بدت على وشك البكاء:لماذا تقول كلاماً كهذا؟ لقد قال لي كارل أنه يمكنني أن أفعل هذا! أعني..أنا...أنا...

أخذ هاري نفساً عميقاً محاولاً تمالك نفسه ثم قال بانزعاج: أخي أحمق كبير...لا يجب أن تستمعِ إلى كلامه. يفترض أنه أكثر من يعرف ما الذي يعنيه هذا، لكنه يتصرف بغباء دائماً!


ثم اقترب منها حتى وقف أمامها وقال بحزم، بعد أن وضع كلتا يديه على كتفيها:ايمي استمعي إلي جيداً! سأحميك دائماً مهما حدث، ولن أسمح أبداً بأن يحدث لك الأمر نفسه أنت أيضاً!


"الأمر نفسه؟" تلك الكلمة ظلت تتردد في عقل ايمي طوال الوقت..حتى بعد أن غادر هاري المكان غاضباً..لم تستطع أن تفهم أبداً لم قال هذا...لكنها أدركت وقتها أنها بالفعل لا تعرف عنه أي شيء...ماضيه، حياته ، ما يحب وما يكره..كل هذا كانت تجهله تماماً!


لا تدري لماذا اجتاحتها رغبة عارمة في أن تتعرف عليه أكثر وأكثر...وكلمته تلك (سأحميك دائماً) بعثت الدفء في قلبها...لقد استطاع إثبات ذلك بالفعل، وإصابة كتفه هي خير دليل على ذلك!

نظرت إلى دفترها الذي تركه على الطاولة، وتمتمت بهمس محبَط: هل من السيء حقاً أن أصبح رسامة مشهورة؟ أنا لا أعلم!



يتبع..

******

_رأيكم في الفصل؟

_توقعاتكم للأحداث القادمة؟

_هل حقاً خسر ديفيد لورنا إلى الأبد؟

_ما الذي تريده لوسي من كارل؟ وما الذي تخطط له؟

_لماذا قال هاري هذا الكلام لايمي؟

_هل ستكون ايمي قادرة على تحقيق حلمها في أن تصبح رسامة مشهورة أم أن هاري سيمنعها كما قال؟


أحداث كثيرة، وحقائق صادمة ستكشفها لكم أحداث الفصول القادمة فانتظروني..

لا تنسوا التعليق والتصويت على الفصل، وأرجو أنه قد نال إعجابكم..


2018/08/06 · 569 مشاهدة · 5260 كلمة
NajwaSD
نادي الروايات - 2024