#الساعة 3:20 صباحاً
2005\11\15



كانت عيناه الخضراوان تحتدان عنفاً وقسوة، بينما يحرك ذلك السوط في الهواء أمامها، ليصدر بذلك صوت حفيف مرعب لما حرك جزيئات الهواء من حوله..

يسير نحوها ببطء مترنحاً، وصوته الخشن يصدح في أرجاء ذلك المكتب الكئيب لما أخذ يزمجر بغضب: كان يجب أن آخذك منذ ذلك الوقت..كان يجب أن أشوه وجهك انتِ أيضاً!


وآخر ما رأته، هو منظر ذلك السوط الغليظ وهو يهوي باتجاه جسدها الصغير..





كان ذلك عندما استيقظت ايمي من نومها مفزوعة وهي ترتعش في ذعر..

ضمت الغطاء إلى جسدها المرتجف، في حين تجمعت الدموع في عينيها. رددت بصوت باكي، محاولة تمالك نفسها ولو قليلاً: إنه مجرد حلم ايمي...إنه حلم فحسب!

منذ ذلك اليوم، والحلم ذاته يعاودها كل يوم تقريباً.. لذلك باتت تكره حقاً الخلود للنوم.


جلست على سريرها، ثم وضعت الغطاء فوق رأسها ليغطي رأسها وظهرها وجانبيها فحسب، في حين ظل الجزء الأمامي من جسدها مكشوفاً.
ضمت ساقيها إلى صدرها، ثم حشرت وجهها بين ركبتيها لتهمس بألم: إلى متى سيظل الأمر هكذا؟


لا يمكنها إخبار ديفيد والآخرين، فقد واجهوا الكثير بسببها وعانوا بما فيه الكفاية.
هاري أصيب بكتفه، وديفيد قد انفصل عن خطيبته اللطيفة التي التقتها ذلك اليوم!

هو لم يخبرها بهذا، لكنها سمعته يتحدث عن ذلك مع كارل بالمصادفة.
منذ أن هرب من جده معها ذلك اليوم، لم يعد ديفيد فرداً من أسرة هوريستون. ولهذا السبب بالتأكيد قام جده بفسخ خطبته من تلك الفتاة كعقاب له.

إذا هي السبب بالتأكيد! هذه هي الفكرة التي احتلت تفكيرها منذ ذلك اليوم، وهو ما جعلها تحاول الاعتماد على نفسها في كل شيء بقدر ما تستطيع.


ستتعلم الفرنسية، وستذهب إلى المدرسة، وستدرس بجد حتى لا تكون عبئاً على أي منهم بعد الآن أبداً!



استيقاظها في هذه الساعة، جعلها تشعر بالعطش حقاً، لذلك قامت من سريرها واتجهت إلى طاولة مكتبها حيث تترك إبريق الماء هناك في العادة.
لكنها شعرت بالإحباط لما وجدته خالياً... فسارت إلى الباب وفتحته ببطء شديد حتى لا توقظ أحداً..


كان الممر خالياً تماماً ومظلماً مما أشعرها بالخوف نوعاً ما... المطبخ في الطابق السفلي، وهي نادراً جداً ما تذهب إليه. لذلك كانت تشعر بالرهبة حقاً...

سارت لبعض الوقت، حتى سمعت صوت أحدهم يقول ببرود: إلى أين أنت ذاهبة؟!


ما إن سمعت صوته، حتى قفزت من مكانها وصاحت بفزع... نظرت إليه بخوف حيث لم تتعرف عليه في البداية بسبب الظلام. لكنه ما إن اقترب منها ووقف أمامها، حتى ميزته على الفور وهتفت بدهشة: هاري؟! لم أنت مستيقظ الآن؟!

نظر إليها هاري بانزعاج وقال: السؤال نفسه موجه لك..ما الذي تفعلينه في هذه الساعة المتأخرة؟

أجابت ايمي بارتباك: آه ذلك...لقد كنت أشعر بالعطش ولم يكن هناك ماء في غرفتي، لذلك كنت سأذهب إلى المطبخ.


تنهد بضيق ثم قال بقلة حيلة: لدي قارورة مياه في غرفتي...لا داعي لأن تذهبي إلى المطبخ..يمكنك العودة إلى سريرك وسأحضرها لك.


أومأت ايمي وقالت بامتنان:شكراً لك هاري...




كانت جالسة على سريرها عندما أتى هاري إلى غرفتها ممسكاً في يده قارورة ماء صغيرة...
فتح نور السهارة إلى جانب سريرها، ثم جلس على حافة السرير وقدم لها قارورة الماء دون أن يقول شيئاً...


بعد أن انتهت ايمي من شربها، رأته ينظر إليها بجدية أربكتها كثيراً...

لما أطال النظر إليها دون أن يقول أي شيء، سألته بتردد وبتوتر ملحوظ: لـ...لماذا تنظر إلي هكذا؟

خاطبها هاري قائلا بضيق: ايمي كما تعلمين...يمكنك إخباري إن كان هناك شيء يضايقك. سأكون منزعجاً حقاً إذا ما كنت تخفين عني بعض الأشياء!

ردت ايمي بارتباك على الفور: أ...أنا لا أخفي عنك شيئاً هاري..إنه فقط...


قاطعها هاري بحزم:ايمي! هل تظنين انني لم ألاحظ؟ ليست هذه هي المرة الأولى التي تستيقظين فيها في هذا الوقت! منذ اليوم الذي أخذناك فيه من منزل جدك وأنت على هذه الحال...أريدك أن تخبريني بما تحلمين به...ربما يمكنني مساعدتك!

خفضت ايمي رأسها وقالت بحزن:لكن هاري...لقد عانيت بما فيه الكفاية بسببي.. حتى أنك تشاجرت مع كارل في ذلك اليوم! أنا لا أريد أن أزعجك بمشاكلي مرة أخرى!


نظر إليها هاري باستياء وقال بانزعاج واضح: ما الذي تقولينه أيتها الغبية! ألم تكوني أنت من قال أنك تريدين أن تصبحي صديقتي؟! الأصدقاء لا يخفون عن بعضهم مثل هذه الأمور! بدلاً من ذلك، سأكون غاضباً جداً إذا لم تقومي بإخباري!

ثم قام من مكانه وقال باستياء، دون أن ينظر إليها: أم أن ذلك كان مجرد كلام فقط عندما قلت أنك تريدين أن نصبح أصدقاء؟

أدار ظهره ناحيتها وكان على وشك المغادرة، عندها أمسكت ايمي بطرف قميصه من الخلف وقالت بصوت راجف:انتظر!


توقف هاري مكانه، لكنه لم يلتفت إليها. فقالت ايمي برجاء، بينما كانت على وشك البكاء: أنا آسفة هاري لأنني جعلتك متضايقاً هكذا!
ثم خفضت رأسها وقالت بحزن: أنا...أنا لا أعرف حقاً كيف أتصرف. أخاف إذا ما أخبرتك أنت وديفيد وكارل بمشاكلي فسوف تعتقدون أنني مزعجة، وربما تكرهونني يوماً ما...لقد واجهتم الكثير بسببي لذا...ربما ستقومون بتركي إذا..

عندها قاطعها هاري لما قال بعصبية:ايمي! هل حقاً تفكرين في شيء سخيف كهذا؟!

ثم نظر إليها وقال بحنق شديد: ألم تفهم الأمر بعد؟ نحن عائلتك، ولن نتخلى عنك أبداً مهما كان السبب! حتى لو كنت مزعجة، وسببت لنا الكثير من المشاكل.... من المستحيل أن نكرهك بأي شكل من الأشكال!

ثم جلس إلى جانبها وأردف باستياء: هل تعلمين أن ديفيد سيكون منزعجاً جداً إذا ما علم أنك تفكرين بهذه الطريقة؟ هو أيضاً لاحظ ذلك مثلي...لقد كان قلقاً جداً، لكنه مع هذا لم يرد أن يضغط عليكِ بالسؤال، وظل ينتظر منك أن تخبريه بنفسك!


خفضت ايمي رأسها وقالت بحزن:أنا...أنا آسفة...إنني فقط خائفة جداً ولا أعلم ما الذي علي فعله!
في الماضي، لطالما اعتقدت أن سبب معاملة أبي وأمي لي بتلك الطريقة هو لأنني قد فعلت شيئاً خاطئاً...لذلك عندما بقيت مع الخدم، كنت أحاول دائماً ألا أتصرف بدلال معهم ولا أزعجهم بتصرفاتي حتى لا يكرهوني هم أيضاً.. يجب أن أكون دائماً الفتاة الجيدة، والفتاة المطيعة التي لا تزعج أحداً..


تنهد هاري بضيق ثم قال بهدوء: ليس عليك أن تتصرفي هكذا بعد الآن ايمي... ربما أكون أسوء شخص يمكنه أن يقدم لك نصيحة حول هذا الأمر لكن...عليك أن تظهري مشاعرك بشكل أكبر خصوصاً لديفيد. أنت أخته الصغيرة لذلك لا بأس بأن تتصرفي بدلال، ولا بأس بأن تكوني مزعجة أحياناً...هو لن يكرهك مهما كان السبب. فكل ما يهمه هو أن يحميك، وأن يكون قادراً على أن يمنحك كل ما تحتاجين إليه.
هكذا هم الإخوة الكبار...إنهم محض حمقى، كل ما يهمهم هو حماية إخوتهم الصغار مهما تطلب ذلك. أحياناً يصبحون مزعجين جداً، لكنهم مع ذلك رائعون!

سكت قليلا ثم أردف بحزن: أتعلمين ايمي؟ في الماضي، لقد اضطر أخي لأن يفعل شيئاً فظيعاً جداً من أجل حمايتي، لكنه رغم هذا لم يكرهني قط...بالنسبة لي، كارل هو أبي وأمي وعائلتي كلها...لذلك أنا واثق من أنه سيصبح مستاءً جداً إذا ما كنت أفكر بالطريقة التي تفكرين بها الآن...



لا تدري لماذا شعرت ايمي بالراحة حقاً لما سمعت كلامه. نبرته الهادئة تلك، بثت الأمان والسكينة في قلبها.
لقد قال أنها مخطئة. ليس عليها كبت ما تشعر به في داخلها بعد الآن، ولن يكون عليها الشعور بالخوف في كل مرة تطلب فيها شيئاً من أحد!

تلك الكلمات هي ما كانت تنتظر سماعها لوقت طويل جدا..

في حياتها كلها، لم يكن هناك من يخبرها ما هو الصواب، وما هو الخطأ أبداً. لم تحظ قط بعائلة يمكنها أن تتصرف معها بحرية مطلقة، أن تطلق العنان لذاتها ورغباتها. وألا تخاف من قول أي شيء مهما كان. فكيفما كانت شخصيتها، لن يكرهها أحد!



لذلك اقتربت منه أكثر، ثم ضمت ذارعه وقالت بهمس: شكراً لك على قول هذا لي هاري. أعدك أنني لن أخفي شيئاً بعد الآن.

لم يرد هاري عليها...بل اكتفى بابتسامة هادئة دون أن يقول أي شيء...

أسندت ايمي رأسها على كتفه بتعب، لتستطرد قائلةً بوجل: إنه يظهر كل يوم في أحلامي... يحمل ذلك السوط الغليظ وعيناه تقدح شرراً...يقول تلك الجملة التي قالها لي ذلك اليوم.. ثم يقترب مني ويرفع ذلك السوط حتى يضربني به، لكنني استيقظ على الفور قبل أن يبدأ بضربي. وآخر ما أراه، هو منظر السوط وهو يهوي باتجاهي...

ضغط هاري على أسنانه وقال بغيظ: أتقصدين جدك؟


اكتفت ايمي بإيماءة بسيطة دون أن تقول شيئاً. فسألها هاري بتفكير: ما الذي قاله لك في ذلك الوقت؟

سكتت ايمي قليلا قبل أن ترد بوجل: لقد قال (كان يجب أن آخذك منذ ذلك الوقت، كان يجب أن أشوّه وجهك أنتِ أيضاً).

كرر هاري تلك الكلمات متمتماً بتفكير: يأخذك منذ ذلك الوقت؟ يشوه وجهك أنت أيضاً؟!
ثم سألها بتردد: هل كان وجه آرثر مشوهاً؟!

هزت ايمي رأسها بالنفي وقالت بخفوت: كلا...لقد كانت هناك الكثير من الكدمات والجروح في جسده، لكن وجهه كان طبيعياً ولم تكن عليه أي تشوهات أبداً!

بدا هاري حائراً أكثر وقال بتفكير: إذا...ما الذي يقصده بكلامه؟

فردت ايمي بقلة حيلة:لا أعلم حقاً...

تنهد هاري بضيق ثم قال: على كل حال...لا تجعل هذا الأمر يشغل تفكيرك! سوف نجد طريقة نخلصك بها من هذه الكوابيس بالتأكيد!

سألته ايمي بشك: هل تظن أن هذا ممكن؟

فرد هاري مطمئناً: لا تقلقي ايمي...أعرف شخصاً كان يعاني من الأمر ذاته لوقت طويل. بل في الواقع، لقد كان أسوء منك حتى! فهو لم يكن ينام أبداً، لكنه تخلص منها في النهاية..


شعرت ايمي بالارتياح من كلامه وقد بدت سعيدة جداً...فكرة أن هذا الكابوس سينتهي يوماً ما قد أراحتها حقاً...أخيراً سيكون بوسعها النوم دون خوف!

عندها قام هاري من مكانه وقال بهدوء: حسناً...عليكِ العودة إلى النوم الآن.


استقلت ايمي على سريرها مجدداً، فقام هاري بتغطيتها بحرص...عندها ضحكت وقالت بمزاح: تبدو كأخي الأكبر حقاً!

نظر إليها هاري باستياء، ثم قال بانزعاج، بينما يشد أنفها بين سبابته ووسطاه بخفة: أنا لست أخوكِ الاكبر...ولن أكون كذلك أبداً أيتها الغبية!


تحسست ايمي أنفها بيدها بعد أن أبعد يده عنها وقالت بتهكم: لم لا؟ سيكون ذلك رائعاً جداً...

رد هاري ببرود: لديك ديفيد وكارل...وربما ذلك الأحمق روي أيضاً يمكنه أن يصبح شقيقك، فلطالما كان يحلم بأخت صغيرة!

تساءلت ايمي بتفكير: أتقصد روي صديق ديفيد وكارل الذي سافر قبل سنوات؟

أجاب هاري بلامبالاة: أجل...ذلك الأحمق يظن نفسه أنه سيصبح سوبرمان أو شيء كهذا!

استغربت ايمي من كلامه وقالت بحيرة: سوبرمان؟ من يكون؟!

رد هاري ببرود: رجل أحمق يظن نفسه قادر على أن يقضي على الشر في هذا العالم!

فسألته ايمي بحيرة أكبر: لماذا؟ أي نوع من الأعمال يقوم به؟!

حرك هاري كتفيه بلامبالاة وقال بانزعاج: إنه عمل غبي جداً...لا داعي لأن تفكرِ به حتى!


سكتت ايمي قليلا قبل أن تسأله بخفوت وهي تتثاءب: ماذا عنك هاري؟

تساءل باستغراب: ماذا تقصدين؟

ردت بصوت ناعس، بينما تقاوم انسدال جفنيها: قلت أن كارل وديفيد وروي هم إخوتي الكبار...إذا ماذا عن هاري؟

ابتسم بهدوء وقال: حسناً، أنا سأكون صديقك...ثم سكت قليلا وأردف بهمس: ربما...


في تلك الأثناء، كانت ايمي قد استسلمت للنوم تماماً...فابتسم لمنظرها وقال هامساً بإحباط: غبية!

قال هذا ثم سار إلى خارج الغرفة، وأغلق الباب وراءه بهدوء...



#فرنسا_ قصر تشادولي الرئيسي_ الساعة 4:30 مساءاً
2005\12|4



مر أكثر من شهرين تقريباً منذ أن بدأت ايمي في تعلم اللغة الفرنسية على يد لوسي...
ما لم يتوقعه الجميع، هو أنها كانت بارعة حقاً في ذلك!

كانتا تقضيان أغلب الوقت معاً، مما جعل علاقتهما ببعضهما قوية جداً، وقد صارتا مقربتين جداً من بعضهما...هي تعلمها كما تقول، لكن الناظر إليهما يخيّل إليه أنهما تتحدثان وتمزحان معاً في الواقع!
أسلوب لوسي في التعليم كان بسيطاً ومرحاً جداً...لذلك استجابت ايمي لها بسرعة غير متوقعة...


قبل مدة قصيرة، طلبت لوسي من الجميع أن يتحدثوا مع ايمي بالفرنسية فقط قدر استطاعتهم.
في البداية كان ذلك صعباً جداً عليها، لكنها وبمرور الوقت، صارت تعتاد على ذلك تدريجياً...والآن يمكنها تقريباً فهم أغلب كلامهم، رغم أنها ما تزال غير قادرة على التحدث وتكوين الجمل بشكل صحيح بعد.


هذا التطور السريع قد أفرح ايمي كثيراً...صارت تشعر بسعادة غامرة كونها ستكون قادرة على دخول المدرسة قريباً كما وعدها كارل..

في البداية عندما أخبرها كارل بذلك، شعرت بالخوف حقاً.. فهي لم تذهب للمدرسة من قبل، ولم تقابل في حياتها أطفالاً في نفس سنها غير آرثر فحسب.
لكنها عندما علمت أنها ستذهب إلى نفس مدرسة هاري، شعرت بالراحة كثيراً. لقد صارت علاقتها به أقوى من قبل بكثير، وفي الوقت الذي لا تكون فيه مع لوسي، كانت تبقى معه دائماً.



لقد كانت تحبهما كثيراً، لكن ما كان يزعجها دائماً هو أنهما لم يكونا متفقين على الإطلاق... هاري يقولدائماً أن لوسي تتقرب منهم لغرض ما. لكن ايمي تحبها حقاً ولم ترد أن تفكر بها هكذا، رغم أنها لم ترد أن تشك في كلام هاري أبداً...

هناك سوء فهم بينهما تعجز هي عن إصلاحه...هذا ما كانت مقتنعة به تماماً...

أيضاً صارت مقربة من الجدة سمانثا هي الأخرى....كانت تقضي أغلب الوقت في البيت الزجاجي سواء مع لوسي، أو مع هاري... وبطبيعة الحال، كانت الجدة تأتي إليه دائماً حتى تعتني بنباتاتها الثمينة بشكل يومي...



في ذلك اليوم البارد، حيث كست الثلوج كل شيء، كانت جالسة رفقة لوسي التي كانت تقرأ لها قصة أطفال باللغة الفرنسية... كان أسلوبها مرحاً ومضحكاً جداً في السرد، لذلك كانت ضحكات ايمي تعلو أرجاء المكان، بينما بدت مستمتعة جداً....
بعد أن أنهت لوسي سرد القصة، نظرت إليها قليلا ثم قالت بابتسامة هادئة: ذلك رائع حقاً ايمي...أنت تتعلمين بسرعة!

اقتربت منها ايمي واحتضنتها لتقول بسعادة: إن ذلك بفضلك لوسي...أنت رائعة جداً...

شعرت لوسي بالدهشة من تصرفها هذا، لكنها مع هذا ضمتها إليها هي الأخرى لتقول بهدوء، بينما تمسح على شعرها بحنان: سوف تفعلينها...أنا واثقة من أنك ستكونين قادرة على التكلم بطلاقة قريباً جداً...

وقد ظلت كلتاهما على هذه الحالة لوقت طويل...


عندما بدأت لوسي بتعليم ايمي، أرادت فعل ذلك حتى تتمكن من البقاء هنا كما خططت منذ البداية. وفي الواقع، فعلتها لتمضية الوقت أيضاً!
لكنها ومن دون أن تشعر، تعلقت حقاً بهذه الطفلة البريئة المرحة! شيء ما في داخلها، يربط روحها بها بقوة...
هي تحبها حقاً، لكنها لا تريد الاعتراف بذلك. إنها لا تستحق حبها البريء أبداً... فلا تدري متى سيحين الوقت الذي ستؤذيها فيه وتجرحها بقسوة. ورغم أن التفكير في ذلك كان يؤلمها حقاً، إلا أنها لن تسمح لأي شيء بأن يثنيها عن فعل ما عاهدت نفسها عليه منذ سنين طويلة....ليس الآن وقد حصلت على كل ما أرادته أخيراً!!


أتاها صوته وهو يقول مازحاً بمرحه المعتاد: ما هذا؟ تبدوان كأم وطفلتها!

نظرت إليه بغيظ بعد أن ابتعدت عن ايمي قليلا....لكنها أشاحت بصرها عنه بغرور وقالت: وما المانع؟ ايمي هي مثل ابنتي بالفعل!

ابتسم لكلامها بهدوء، اما ايمي فهي ما إن رأته، حتى ركضت نحوه وأخذت تهتف بحماس: كارل كارل! أتعلم؟ لقد قرأت لي لوسي قصة بالفرنسية، وقد استطعت فهمها كلها!


فرح كارل لما سمع ذلك. حملها من على الأرض ورفعها عالياً ليقول هاتفاً بمرح، بعد أن قذفها وأمسكها من جديد: ذلك رائع ايمي! أنت ذكية حقاً!!

قوست ايمي شفتيها باستياء وقالت بتهكم: ما الذي تفعله كارل؟! إن عمري ثمان سنوات! أنا لم أعد طفلة حتى تفعل هذا!

ضمها كارل إليه وقال وهو يضحك من ملامحها: مهما كبرتِ، فسوف تبقين طفلة في نظري!


ابتسمت ايمي بخجل وقد بدت سعيدة جداً..
كارل بالنسبة لها مثل ديفيد تماماً..تحب أسلوبه المرح، وتدليله المفرط لها... حنون جداً ولطيف ودافئ... لا عجب أنه وديفيد صديقين مقربين، فهما يملكان الصفات ذاتها!

قال كارل فجأة باستدراك: أوه صحيح! إن جدتي تريد رؤيتك.



(جدتي تريد رؤيتك) هي في الواقع شفرة سرية بينهم. وذلك يعني أن ديفيد يريد رؤيتها ليحدثها عن أمر مهم في غرفته، حيث لا يمكن أن تكون لوسي أو أحد الخدم متواجدين بالجوار...

رغم أن ايمي تحب لوسي حقاً، إلا أنها لا تستطيع إخبارهما حتماً أنها وديفيد شقيقان في الواقع...هي في اعتقادها ايمي دوفيار، قريبة الجدة سمانثا. ولا يجب أن تكون غير ذلك أبداً!


أنزلها كارل على الأرض، فغادرت البيت الزجاجي راكضة بسرعة.



عندها علقت لوسي بنبرة ساخرة، بينما تعقد يديها أمام صدرها: يبدو أنك تحب الأطفال كثيراً...ربما عليك أن تتزوج قريباَ!

اقترب منها كارل وقال بهدوء، بعد أن جلس على الكرسي بجانبها: لم أجد الفتاة المناسبة بعد... ثم نظر إليها وأردف بمكر: ربما يمكنك أن تعرفيني على واحدة!

نظرت إليه لوسي بانزعاج، رغم أنها كانت تشعر بالتوتر من قربه هكذا... رفعت رأسها بكبرياء وقالت بغرور: فلتبحث بنفسك!

ضحك كارل من تصرفها، وهي تحاول إخفاء ارتباكها الملحوظ.

لكنه قال بجدية فجأة: لوسي...شكراً لك حقاً على العناية بايمي كل هذا الوقت...في الواقع، لقد كنت خائفاً جداً من أنها لن تكون قادرةً على فعلها في الوقت المناسب. لكنك فاجأتني حقاً عندما جعلتها تتعلم بهذه السرعة.


أجابت لوسي بهدوء: ليس الأمر فقط بسبب طريقتي في التعليم...إن ايمي ذكية جداً، كما أن لديها ذاكرة قوية أبهرتني حقاً... بقدراتها هذه، أظن أنها ستكون قادرة على التحدث بطلاقة خلال الأشهر الثلاث القادمة فحسب!

أومأ كارل بتفكير دون أن يرد على كلامها...لكنه سألها فجأة: ماذا عنكِ؟ هل اعتدت على الحياة هنا؟
ثم اضاف معتذراً: إنني أقضي أغلب الوقت في الخارج، أو في رحلات العمل. اعذريني حقاً فأنا لا أجد الوقت الكافي لتفقدك والحديث معك!


عندها قالت لوسي في نفسها بتهكم: أجل أعلم...بفضل ذلك، لم أستطع فعل أيّ مما يجب علي فعله هنا!


لكنها أجابت بهدوء: أجل لا تقلق.... ثم سكتت قليلا وأردفت بحزن: رغم أنني ما أزال قلقة حقاً على رفيقي... أخشى أن مكروهاً قد أصابه!

أمسك كارل يدها بلطف ثم قال مطمئناً: لا تخافي لوسي... سنجده حتماً! لقد عينت العديد من المحققين للبحث عنه، كما بلغت الشرطة باختفائه. إنهم جميعاً يبذلون ما بوسعهم للعثور عليه...لا تقلقي، إنها مسألة وقت فحسب حتى تلتقي به مجدداً!



نظرات عينيه الحانية قد أربكتها حقاً...ذلك الدفء الذي أحسته في صوته الهادئ وهو يحاول طمأنتها، جعلها تفقد ذاتها للحظة. لكنها خاطبت نفسها قائلةً بكره: كلا لوسي لا تفعلي... لا تسمحي لنفسك بأن تقعي لهذا الوغد!

سحبت يدها من يده بسرعة، وقد كان قلبها ينبض بقوة... قامت من مكانها بسرعة وقالت معتذرة بارتباك: آه...اعذرني، عليّ الذهاب إلى غرفتي حتى أجهز بعض الأشياء من أجل دروس ايمي...
أومأ كارل بصمت وقال بهدوء: أجل...لا بأس.


لما غادرت المكان، ظل ينظر إلى يده بشرود. فلم يتوقع أن تكون يدها صغيرة ورقيقة هكذا...
ابتسم وهو يتذكر ارتباكها وتوترها من قربه...شيء ما في هذه المرأة يجذبه نحوها بقوة...
لا يمكنه إبعاد عينيه عنها مهما حاول. أراد في البداية مقاومة ذلك الشعور، لكنه وبمرور الوقت. أدرك أن ذلك مستحيل تماماً، فلقد احتلت تفكيره بالكامل.


كبرياؤها....عفويتها...مرحها...ثقتها الشديدة بنفسها..وتصرفاتها الصبيانية في أحيان كثيرة...
الطريقة التي تبتسم بها، ضحكتها، وحتى نبرة صوتها المغرورة. كل ذلك يجذبه إليها إلى حد فاجأه حقاً. لا يعرف أبداً ما الذي يعنيه هذا الشعور، لكنه يدرك أنه لن يستطيع أن يبعده عن ذهنه مهما حاول ذلك!
.
.
.
.
الحديقة، الأشجار، المنزل، وكل شيء من حولها كان مغطى تماماً بالثلوج. ركضت ايمي بسرعة إلى الداخل ثم إلى غرفة ديفيد من فورها.
ولما وصلت إلى هناك، نزعت معطفها الغليظ وطرقت الباب برفق..

سمعت صوته وهو يقول بهدوء: ادخل.


بعد أن دخلت ايمي وأغلقت الباب وراءها، وجدت ديفيد جالساً على طرف سريره بينما ينظر إليها بابتسامة باهتة.
أشار إليها بالجلوس إلى جانبه، فانصاعت لذلك وجلست إلى جانبه بينما تنظر إليه بترقب...

استطرد قائلا بتفكير: كم مضى من الوقت منذ أن أتينا إلى فرنسا؟
أجابت ايمي بتردد: ثلاثة أشهر على ما أعتقد...


علق ديفيد بهدوء: ثلاثة أشهر هاه؟ ثم أردف بسخرية: قبل هذه الأشهر الثلاث، لم أكن أعرف أن لي أختاً أبداً. والآن... ثم نظر إليها بعطف وقال وهو يمسح على شعرها بحنان: اكتشفت أن لي أختاً رائعة جداً!

ابتسمت ايمي من كلامه...أسندت رأسها على ذراعه برفق ثم قالت بهدوء: وأنا أيضاً... لقد التقيت بأروع أخ في العالم كله!

فوضع ديفيد يده على كتفها وقربها إليه أكثر...أطلق تنهيدة طويلة ومتعبة، قبل أن يقول بضيق: ايمي..هناك شيء أريد إخبارك به.


شعرت ايمي بالقلق من نبرته تلك، ونظرت إليه بوجل...أما هو فقد قال بحزن: هل تعلمين ايمي؟ إن حلم شقيقك هو أن يصبح طبيباً.
عندما كنت صغيراً، كان لي صديق كنت أحبه كثيراً. لكنه مرض بشدة وقد كنت معه آنذاك...كانت هناك عاصفة ثلجية، لذلك لم يستطع الطبيب أن يأتي إليه، ولم يستطع أن يذهب أيضاً إلى المستشفى. لذلك مات بسبب مرضه!
في ذلك الوقت فكرت لو أنني إذا ما كنت طبيباً، ربما كنت سأنقذه يومها. ومنذ تلك اللحظة قررت أنني سأصبح كذلك عندما أكبر...لن أسمح بأن يموت شخص عزيز على قلبي أمام عيني مجدداً، دون أن أكون قادراً على فعل شيء.


نظرت إليه ايمي بحزن، لكنها قالت محاولةً تشجيعه: سوف تصبح أفضل طبيب في العالم. أنا واثقة!

ابتسم ديفيد لكلماتها البريئة تلك. لكنه قال بتردد: لكن ايمي... حتى أكون قادراً على تحقيق هذا الحلم، عليّ العيش وحدي في باريس من الآن فصاعداً.


عندها سكتت ايمي فجأة، بينما بدت مصدومةً تماماً.

ذلك الخبر، نزل عليها كالصاعقة التي شعرت أنها ضربت قلبها بقوة... ديفيد سيرحل؟! تلك الفكرة ألجمتها تماماً.

لم تكن قادرة على قول شيء، ولم تعرف ما هي ردة الفعل التي عليها أن تبديها الآن... لكنها ومن دون أن تشعر، بدأت الدموع تتجمع في مقلتيها، لتتحول بعدها إلى سيل من العبرات، لم تستطع إيقافه مهما حاولت.

تكره فكرة الوداع حقاً...لقد كان عليها ترك والديها وإيلي لكن.. هل سيكون عليها أن تودع شقيقها الوحيد أيضاً؟
شعرت بالغصة تحرق قلبها بقسوة...لا تريد ذلك.. لا تريد أن تحرم من رؤيته!



لما رآها على هذه الحال، ضمها إليه على الفور وأخذ يردد محاولاً تهدئتها: لا بأس ايمي! لا بأس! هناك جامعة محلية قريبة من هنا لذلك سألتحق بها...أو ربما سأشترك في الجامعة المفتوحة مثل كارل! لا تقلقي ايمي، أنا لن أرحل وأتركك. لقد أردت أخذ رأيك فقط!


ما إن قال هذا، حتى أبعدته ايمي عنها وهتفت بغضب بينما تنظر إليه وسط دموعها: لا! لا تفعل هذا! لقد قلت أنك تريد أن تصبح طبيباً صحيح؟ عليك أن تذهب وتحقق حلمك!

تفاجأ ديفيد كثيراً لما سمع كلامها ذاك وقال معترضاً: لكن أنتِ...ذلك...

ردت بصراخ بين شهقاتها: لا تتخلى عن حلمك بسببي! ثم ابتسمت بألم وقالت: سأكون بخير...إن هاري وكارل ولوسي وجدتي إلى جانبي. لا تقلق علي. عليك الذهاب! سأغضب منك حقاً إن لم تذهب!

سألها ديفيد بقلق: هل تعنين ذلك حقاً؟ لماذا تبكين إذا؟!

مسحت ايمي دموعها بقوة وقالت: لا تكترث لهذا. لقد كنت متفاجئة فحسب!


كان ديفيد يعلم أنها تكذب. تساءل وقتها، متى أصبحت شقيقته بهذه القوة؟ وربما كانت كذلك دائماً دون أن يدري! هو لا يعلم، لكن كلماتها أسعدته حقاً.
ضمها إليه بقوة، وقال بحنان: أنت رائعةً حقاً ايمي...

ضحكت ايمي وقالت مدعية المرح: هل الآن فقط علمت بذلك؟


ضحك لكلامها هو الآخر، ثم أجلسها في حضنه وقال بينما يسمح على شعرها في حنو: ايمي عزيزتي...أعدك أنني سأصبح طبيباً تفتخرين به أمام العالم أجمع!
سوف آتي لزيارتكم في العطلات، كما أنني سأتصل بك دائماً...

أسندت رأسها على صدره وقالت بهدوء: أجل...


كيف يمكنها أن تفتخر به أمام العالم، بينما لا يمكنها أن تناديه أخي أمام أحد؟ لقد آلمها ذلك حقاً، لكنها لم ترد أن تظهر له هذا...

صحيح أنها وفي أعماق قلبها، لا تريده أن يرحل عنها أبداً.. لكنها مهما كانت تحبه وتريده إلى جانبها، إلا أنها لا يمكنها أن تحرمه من الشيء الذي حلم به طوال عمره.


سوف تودعه بابتسامة مهما كان ذلك مؤلماً. هذا ما قررته ايمي آنذاك.



#فرنسا_تولوز_ الساعة 6:30 مساءاً
2005\12\10



كان جالساً خلف ذلك المكتب الخشبي المرتب بنظام شديد، كما هي شخصيته.

طُرق الباب طرقتين خفيفتين، فرد بصوته الجهوري والجدي لأبعد الحدود: تفضل.

عندها فُتح الباب، ليدخل رجل يرتدي ملابس عادية.

ابتعد من أمام الباب، مفسحاً المجال لذلك الرجل القصير الذي ارتدى ملابس رسمية بالدخول هو الآخر. ثم خرج من المكتب بعد أن استأذنهما بالمغادرة.


كان ذلك الشخص في منتصف عقده الرابع تقريباً. رجل ممتلئ قليلاً بملامح صارمة وجدية. عيناه سوداوان ضيقتان، وشعره رمادي ناعم.
تحيطه هالة مخيفة نوعاً ما، بينما يمشي بشموخ باتجاه ذاك الواقف خلف المكتب مرحّباً بوجوده.


سار إليه متجاوزاً مكتبه ليسلم عليه بحرارة ويقول بترحيب: مرحباً بك سيد جيرفييه.

ابتسم جيرفييه بود لم يناسب ملامحه الصارمة تلك، ليرد بهدوء: يسرني لقاؤك حقاً سيد ساكفيل.

بادله ساكفيل الابتسامة وقال: بل إنه لشرف لي حقاً أن أستقبل في مكتبي شخصاً في مثل مكانتك!


قال هذا ليشير إلى أحد الكرسيين الجلديين أمام مكتبه، ويقول باحترام: فلتجلس هنا سيد جيرفييه.

جلس جيرفييه على أحد الكرسيين، ليعود ذلك الشاب إلى مقعده خلف المكتب.


استهل جيرفييه الحديث قائلا: ما إن سمعت أنكم تريدونني بسبب ذلك الرسام، لم أستطع منع نفسي من المشاركة أبداً.

رد ساكفيل بهدوء: علينا العثور عليه مهما كان الثمن.

علق جيرفييه بحماس: وأنا أيضاً أريد العثور عليه! لن أسمح لشخص مثله بأن يضيع من بين يدي أبداً!

عقد ساكفيل حاجبيه بانزعاج وقال مذكراً: سيد جيرفييه. أنت تعلم جيداً ما الذي يعنيه إمساكنا بذلك الرسام، صحيح؟


رد جيرفييه ببرود: أجل أعلم. لهذا السبب عليّ أن أكون معكم. ثم سكت قليلا وأردف بحدة: حتى لا تسيئوا استخدامه!

تنهد ساكفيل بضيق وقال: سوف نقرر ما سنفعله به لاحقاً. أما الآن، فعلينا التركيز فقط على العثور عليه...اتفقنا؟


لم يبد جيرفييه مقتنعاً تماماً، لكنه رد بهدوء: أجل...اتفقنا.



يتبع..

******

_رأيكم بالفصل؟

_توقعاتكم للأحداث القادمة؟

_هل ستكون ايمي قادرة على تخطي تلك الكوابيس قريباً؟

_أخ أم صديق..كيف ستكون علاقة ايمي وهاري في المستقبل؟

_ما هي حقيقة مشاعر كارل اتجاه لوسي؟ وما الذي ينتظرهما في المستقبل؟

_ كيف ستكون حياة ايمي بعد رحيل ديفيد الوشيك؟

_وأخيراً..من هم الأشخاص الذين ظهروا في نهاية الفصل؟ وعلام يخططون؟


أحداث كثيرة ومشوقة بانتظاركم في الفصول القادمة فانتظروني ..

أراكم قريباً... وكل عام وأنتم بخير تقبل الله منا صالح الأعمال وأعاده علينا على الخير يارب.

2018/08/24 · 818 مشاهدة · 3905 كلمة
NajwaSD
نادي الروايات - 2024