وسط ظلام تلك الليلة المشؤومة، ظلت قطرات المطر تهطل بغزارة كما لو كانت تتسابق فيما بينها، مصدرةً بذلك إيقاعاً منتظماً ومرعباً أيضاً. كما الرعب الذي أحدثته تلك الرياح العاتية، التي ظلت تعصف بالأشجار الكثيفة المحيطة بذلك القصر الكبير..

وهناك، حيث ارتفعت ألسنة اللهب المتوهج من خارج النوافذ والمداخن المتوزعة في أسقف القصر.

أصوات الصراخ، البكاء، النداء، الأنين، وأصوات أولئك الرجال الكثر في الخارج وهم يركضون جيئة وذهاباً، في محاولة يائسة لإطفاء تلك النيران التي أبت إلا أن تزداد توهجاً وحرقة.

كيف لهم أن يطفئوها، في حين لم يكن ذلك المطر الغزير قادراً على تخفيفها ولو للحظة؟!


وبعيداً عن ذلك الجو الصاخب، والصراخ المرعب. كان كلاهما واقفين أمام ذلك القصر المشتعل، بينما ينظران إليه بسكون مخيف...

لم يتحركا، ولم يهربا، ولم يبتعدا قيد أنملة عن تلك النيران الحارقة!

نظر إليه برعب، وقد كانت يده الصغيرة تطبق على يده بإحكام شديد...


ولما أحس بنظرات أخيه نحوه، التفت إليه هو الآخر بينما ارتسمت على وجهه ابتسامة منتشية دبت الرعب في أوصاله...

توهج عيونه العسلية كقطع الكهرمان، اختلط مع توهج تلك النيران المضيئة بمزيج ألوانها الأصفر والأحمر والارجواني...

لم يدري لحظتها، هل ما يراه هو انعكاس النيران في عينيه، أم هو لون قزحيته حقاً!


همس بنبرة تائهة، منفعلة، منتشية، ومتشفية في آن واحد!

"كارل، لقد فعلناها...إننا أحرار الآن!"


في تلك اللحظة، ظل يرتعش في خوف شديد بينما ينظر لعيونه المتوهجة، وابتسامته المنتصرة تلك.

ليس هذا ما أراده...ليس هذا ما كان يجب أن يحدث!



أخذ يهز رأسه نافياً وهو يستمع إلى ذلك الصراخ الذي كاد يمزق طبلة أذنه...


أصوات المحترقين في الداخل، كانت تحيطه كأيادِ سوداء تمسك به من كل جزء من جسده، وتمزقه بضراوة...
إنه يشعر بها حقاً...يشعر بها وهي تنهشه، وتحمّله ذلك الوزر الذي أثقل قلبه وروحه، ومزقهما كل ممزق.


يكاد يقسم أنه استطاع التعرف على كل صوت من تلك الأصوات!
إنها تناديه، تتوسله، تلومه، وتلعنه أيضاً!

تلعنه لعنة أبدية لن يهرب منها طوال حياته...هو لن ينسى فظاعة ما ارتكبه، حتى يلحق بهم يوماً ما..


سمع صوت عماته، أعمامه، زوجاتهم، أطفالهم، جده، جدته...بل وحتى صوت أمه وأبيه!

يسمعهم وهم ينادون باسمه...ويسألونه بينما تلتهم النيران أجسادهم...


"لماذا فعلت هذا لنا؟"


"لماذا قتلتنا؟"


"لماذا تركتنا؟"


ذلك الصوت يقترب، يقترب كثيراً...

تلك اليد تمسك به بقوة!


نظر إليه، إنه شقيقه!


حدقتاه العسليتان، وبياض عينيه قد تحولتا إلى لون أسود قاتم بالكامل...


يطبق يده الصغيرة على معصمه بقوة، لينطق بصوت اختلطت فيه كل تلك الأصوات المخيفة، وهو يقول له بهدوء مرعب


"أنت قتلتنا، أنت فعلت هذا...كارل!"
.
.
.
.
.
.

استيقظ من نومه مفزوعاً، بينما أخذ يلهث بذعر شديد...

خصلات غرته البنية قد التصقت بجبينه، وثيابه ابتلت تماماً بفعل قطرات العرق التي غطت كامل جسده تقريباً...في حين ظلت أسنانه تصطك ببعضها من الخوف.


ضم جسده بيديه وأخذ يردد بصوت راجف: اهدأ...إنه حلم... حلم فحسب!!


حاول أن يأخذ كوب الماء الموضوع على الطاولة الصغيرة بجانب سريره، لكن يده المرتجفة أسقطت ذلك الكوب، لتتناثر قطع الزجاج على أرضية الغرفة محدثة بذلك صوت ضجيج عالِ عم أرجاء تلك الغرفة المظلمة.

تحسس بيد مرتجفة السهارة التي كانت موضوعة على نفس تلك الطاولة، ليجد أخيراً الزر الخاص بفحتها بعد جهد جهيد.


نظر إلى الزجاج المتناثر على الأرض، ثم إلى يديه المرتجفتين ليتنفس بعمق محاولاً تهدئة نفسه دون جدوى!

ضغط على أسنانه وهمس بألم: لماذا فعلت ذلك أيها الأحمق؟ لماذا ذكرتني به بعد أن ظننت أنني تجاوزت الأمر أخيراً؟

عندها قام من مكانه وسار إلى الحمام المتصل بغرفة نومه.


فتح الصنبور، لتتدفق المياه من المِرَشّ في الأعلى على شعره وجسده.، منزلاً ثقل جسده على كف يده التي أسندها على الجدار أمامه.
بقي هكذا لدقائق طويلة، دون أن يبالي ببرودة المياه في هذا الجو القارص، ولا بثيابه التي ابتلت بالكامل. فكل ما أراده هو أن يهدأ...أن يهدأ فحسب!


وبعد نصف ساعة تقريباً، أغلق الصنبور...وسار بتثاقل إلى خارج الحمام، بعد أن سحب منشفة من حاملة المناشف المثبتة على الجدار..


أخيراً قام بتبديل ملابسه، وعاد للجلوس على حافة سريره. رغم الماء كان ما يزال يقطر من خصلات شعره المبلل باهمال.

كانت قد اعتلت وجهه نظرة خاوية خالية من الحياة، وذكريات ذلك اليوم تعصف بعقله، لتزيده ألماً فوق الألم.


لا يمكنه نسيانه للحظة...بل كيف له أن ينساه؟ كيف له أن ينسى ذلك اليوم الذي غير مجرى حياته بالكامل. ذلك اليوم الذي ارتكب فيه خطيئة يعلم جيداً أنه سيعاقب عليها طوال حياته!

استلقى على ظهره في منتصف السرير، تاركاً قدميه على الأرض وقد ظل ينظر إلى سقف غرفته في شرود، بعد أن أدرك يقيناً أنه لن يتمكن من العودة للنوم مجدداً.


هل ستعاوده تلك الكوابيس مرة أخرى؟ هل سيصيبه الأرق من جديد؟


فغطى عينيه بذراعه، وهمس بحرقة: تباً!



#فرنسا- قصر تشادولي الرئيسي- الساعة 12:30 مساءاً
2005\12\20



نزلت الدرج بخطوات هادئة، وقد بدت شاردة الذهن تماماً.

عندها رأت أمامها صديقتها المقربة الخادمة نيللي، وهي تلمّع سياج الدرج بحرص شديد.
فعقدت يديها أمام صدرها، وقالت بتذمر بعد أن وقفت خلفها وأسندت نفسها على سياج الدرج من المقابل للذي كانت تنظفه نيللي: ألم تقومي بتنظيفه في الأمس؟ لماذا تنظفينه الآن مرة أخرى؟!


نظرت إليها نيللي قليلا، ثم زفرت بضيق وعلقت بتذمر: إنها أوامر السيدة! علينا أن نقوم بتنظيف كل إنش من المنزل بشكل يومي. إنها مهووسة جداً بالنظافةّ!

ابتسمت لوسي من كلامها وقالت بتفكير: بالتفكير في الأمر، ذلك صحيح! إن السيدة وايلنغهام تركز كثيراً على الأمور المتعلقة بالنظام والسلوك.


ثم سكتت قليلا وسألتها بفضول: هل تقومون بتنظيف غرف النوم بشكل يومي أيضاً؟

أجابت نيللي بانزعاج: أجل..

ثم سكتت قليلا ونظرت حولها متفقدة، ولما تأكدت من خلو المكان، اقتربت منها وقالت هامسة بانفعال: هل تعلمين؟ اليوم قامت سوزي بتنظيف غرفة نوم السيد الشاب. لقد كان هناك كوب ماء منكسر في أرضية الغرفة، وأيضاً ملابس نومه كانت مبللة بالكامل!
وقالت أيضاً أن وجهه كان يبدو شاحباً جداً. ألا تظنين أن شيئاً ما قد حصل له؟!


ارتبكت لوسي من سؤالها، وقد تذكرت فعلاً أن كارل كان شارداً ومتعباً جداً اليوم على الفطور، لكنها ظنت أن الأمر فقط بسبب ضغط العمل. فتساءلت بقلق واضح: هل يمكن أن يكون مريضاً؟

وضعت نيللي إصبعيها السبابة والإبهام تحت ذقنها، متخذة وضعية المحقق، لتقول بمكر: أظن أن في الأمر سراً ما بالتأكيد! الآثار التي وجدتها سوزي في الغرفة، تدل على حدوث شيء ما...ألست فضولية لتعرفي ما الأمر؟!

ابتسمت لوسي بارتباك وقالت: حسناً...ليس كثيراً...ربما...لا أدري!


ثم قالت مغيرة الموضوع على الفور: دعك من هذا الآن! ثم سكتت قليلا وسألتها بتردد: هل تقومون بتنظيف مكتب تشادولي أيضاً؟

استغربت نيللي من سؤالها، لكنها ردت بتفكير: همممم...كلا... لقد أخبرتنا السيدة أن نقوم بتنظيفه مرتين فقط في الأسبوع. يبدو أن السيد الشاب يقوم بترك أوارق مهمة هناك، لذلك هو لا يريد من أحد أن يعبث بها!

فسألتها لوسي بهدوء: متى أيام التنظيف؟

أجابت نيللي بشك: اليوم سأذهب لتنظيفه. لكن لماذا تسألين؟

ابتسمت لوسي بتصنع وقالت: آه...إنه ليس شيئاً مهما.


ثم أعطتها كتاباً كانت تحمله معها طوال الوقت وقالت: أريد منك أن تعيدي هذا الكتاب إلى مكانه، فقد انتهيت من قراءته. لقد قال تشادولي أن لديه اجتماع مهم جداً اليوم، لذلك لا أريد أن أزعجه.
تذكرِ أن تضعيه في مكانه حسب ترتيب سلسلة الكتب الخاصة بهذا الكاتب، فهو كما تعلمين يهتم بالنظام كثيراً. ستجدينها على الرف الثالث من الأسفل، جهة اليمين.

أومأت نيللي بفهم وقالت: أجل...اطمئني، سأهتم بهذا.


أخذت نيللي الكتاب من لوسي، أما هي فقد استأذنتها قائلة أنها ستذهب للقاء ايمي في غرفة الجلوس بالأعلى. فلأن الجو صار بارداً جداً، لم تعودا تذهبان إلى البيت الزجاجي من أجل الدراسة.


ركبت الدرج مرة أخرى، عندها تذكرت ما قالته نيللي. فتساءلت في نفسها بقلق: أتساءل ما إذا حدث له شيء ما...

لكنها هزت رأسها بقوة، لتطرد تلك الفكرة من رأسها! قالت في نفسها بغيظ: ما الذي أفكر به؟! لا يهمني أبداً ما يحدث لذلك الوغد!



#الساعة 8:45 مساءاً
نفس اليوم


دخل إلى مكتبه ليسير نحو ببرود، وقد بدا واضحاً أنه ما يزال متضايقاً جداً منه.

فلما وقف أمامه، خاطبه قائلاً بانزعاج: ما الأمر؟ لماذا طلبت مني آن أتي؟

نظر إليه كارل قليلا، وسأله باستياء: لماذا أنت غاضب هكذا؟

أعاد هاري سؤاله بتهكم ساخر: لماذا أنا غاضب؟!

ثم أردف بضيق: بالطبع سأكون غاضباً بعدما تجاهلت ما قلته لك في الأمس تماماً!


تنهد كارل بضيق، بعد أن غلف التعب ملامح وجهه...ليقول بصوت منهك: هاري... إنني متعب بما فيه الكفاية. لا تصعب الأمر علي أرجوك!

تحولت ملامح هاري المنزعجة إلى قلق شديد، وسأله بوجل بينما بدا مرتبكاً جداً: ما الأمر؟! لماذا يبدو وجهك كالأموات هكذا!

رد كارل بضيق: إنني متعب من العمل فحسب...أنت تعرف أنني أكون مشغولا بالكثير من الأمور في نهاية السنة.

ضغط هاري على أسنانه وقال بغيظ: هل تظنني أبله أم ماذا حتى أصدق كلامك؟ هناك شيء آخر غير ضغط العمل بالتأكيد!

لكن كارل لم يرد عليه، فقال هاري هاتفاً بذهول: هل يمكن أن ما قلته لك في الأمس، جعل تلك الكوابيس تعود لك مجدداً؟!!


في تلك اللحظة، رن هاتف كارل لينقذه من الإجابة على سؤاله، فقال بهدوء وهو يأخذ الهاتف من على مكتبه: لدي مكالمة مهمة، انتظر قليلا.

رد كارل على المتصل قائلا بنبرة رسمية: مرحباً سيد هارفي. هل تناقشت مع شركة رانكوف بخصوص التعاون المشترك؟


كانت كلمات ذلك الرجل وهو يرد عليه متقطعة جداً، لذلك لم يستطع فهم أي شيء مما قاله. فسأله بهدوء: المعذرة... أرجو أن تعيد ما قلته. تغطية الشبكة سيئة جداً!

أعاد الرجل الحديث بصوت متقطع مرة أخرى، حتى انقطع الاتصال تماماً في النهاية.

عندها وضع كارل الهاتف على مكتبه وتنهد بضيق. بعد أن أرخى جسده على مقعده بتعب.

عندها سأله هاري بحذر: هل كانت التغطية سيئة؟

أجاب كارل باستياء: أجل...إن شركة الاتصالات يقومون بأعمال صيانة للشبكة. لقد وصلتني رسالة في الأمس تقول أن التغطية قد تكون ضعيفة في اليومين القادمين. لكنني لم أتوقع أن تكون بهذا السوء!

فسأله هاري بتفكير: منذ متى التغطية سيئة هكذا؟

فكر كارل قليلا قبل يجيبه بهدوء: قبل أن يبدأ الاجتماع بقليل.


أومأ هاري بفهم، ثم أخذ يسير في أرجاء الغرفة متفقداً المكان من حوله...
وقف إلى جانب رفوف الكتب الكثيرة، فوضع سبابته على أحد الكتب، ثم أخذ يسير متحسساً سطر الكتب التي مر إلى جانبها بطرف سبابته دون أن يرفعه أبداً. لكنه توقف وأخذ ينظر إلى مجموعة من الكتب، ليبتسم فجأة بغرابة.


كان كارل يتابعه ببصره، بعد أن رفع حاجبه مستغرباً. لكنه في النهاية قرر تجاهله ليبدأ في تدوين شيء ما على الدفتر أمامه.

ولم يشعر بهاري الذي عاد ليقف أمامه فجأة، مسنداً مرفقيه على المكتب، بينما بسط كفيه على خديه ليسأله بفضول أشعره بالغرابة: ما الذي تفعله؟


نظر إليه كارل بشك للحظات، وسأله بانزعاج: لماذا تسأل؟

فرد هاري متصنعاً البراءة: لا شي...إنه مجرد فضول فحسب!

لم يصدق كارل كلامه، وظل ينظر إليه بشك واضح. فقال هاري متهكماً: ما الأمر؟ هل سؤالي غريب إلى هذه الدرجة؟

رد كارل بانزعاج، بينما ما يزال ينظر إليه تلك النظرة المشككة: أنت أخي، واعرفك أكثر من أي مخلوق آخر. لا شيء جيد يأتي من اهتمامك بشيء ما!

نفخ هاري خديه باستياء، وقال متهكماً: إنه مجرد سؤال عادي فحسب...لماذا تضخم الأمور هكذا؟!

تنهد كارل بضيق، ثم رد على سؤاله الأول بلامبالاة: أدون بعض الأمور المهمة في دفتر الحسابات.


سكت هاري قليلا قبل أن يقول باستياء: لا أفهم لماذا تقوم بتدوين كل بياناتك المهمة في دفتر من السهل جداً أن يسرق! مثل هذه الأشياء عليك أن تحفظه في عقلك، حتى لا يسرقها منك أحد!

رد كارل ببرود ساخر، بينما ما يزال يدون في ذلك الدفتر: أعتذر لأنني لا أملك ذاكرة قوية مثلك حتى أحفظ كل هذه الأرقام المهمة في عقلي!

زم هاري شفتيه باستياء وقال: لكن مع هذا...ألا تظن أنه من السيء أن تخبئ شيئاً مهماً كهذا تحت وسادتك؟! أعني...لا أترى أن ذلك مبتذل جداً؟ الجميع يفعلون الشيء نفسه. أنت حتى لا تأخذه معك عندما تغادر المنزل!

فقال كارل ببرود، في حين ظل منشغلا بالكتابة: هووه إذا أتحفني...أين يفترض بي أن أخبئه؟!


ابتسم هاري بمكر وقال: أتعلم؟ أعرف مكاناً لن يخطر على بال أحد أبداً! هل تذكر تلك الجرة الكبيرة التي اشرتها جدتي من الهند؟

سأله كارل باستغراب: عن أي جرة تتحدث؟

فرد هاري بينما يحاول تذكيره: تلك الجرة الكبيرة، الموضوعة في الفراغ الموجود بالحائط القريب من قاعة الاحتفالات!

فقال كارل بلا مبالاة: وماذا بشأنها؟


أجاب هاري بتلك الابتسامة الماكرة: إن الخدم يقومون بتنظيف كل شبر في المنزل تقريباً، باستثناء الجزء الداخلي لتلك الجرة. هناك طبقة سميكة جداً من الغبار داخلها، مما يدل على أنها لم تنظف منذ زمن. لذلك لن يلاحظ أحد أن الدفتر موجود هناك!
كما أنها ستكون في طريقك للمكتب، لذلك من السهل جداً أن تضع الدفتر، وتأخذه في أي وقت تريد!


تنهد كارل بانزعاج وقال: هاري...ليس لدي وقت لأسمع اقتراحاتك السخيفة هذه! لا يوجد داعِ لفعل شيء كهذا!

فزم هاري شفتيه باستياء وقال متذمراً: في هذه الحالة، سأقوم بوضعه هناك بنفسي عندما تغادر المنزل! لا يمكنني أن أتقبل أبداً حقيقة أنك تضعه في مكان سخيف مثل ذلك المكان!



لم يرد كارل أن يزعج نفسه بالرد على ما قاله، لذلك غير الموضوع قائلا ببرود: على كل حال...لقد أردت أن أتحدث معك بخصوص ايمي...لقد رتبت موعداً مع الدكتور بارنيت لذا سوف.... همهعاا همم فهعت...


كان ذلك عندكا أخذ هاري قطعة من الكعك المحلى الموضوعة في ذلك الصحن على المكتب، ودكها في فم كارل فجأة ثم قال بابتسامة مرتبكة: هيي كارل! تذوق هذا الكعك، إنه لذيذ جداً!


ظل كارل يشتم هاري بكلام غير مفهوم بسبب قطعة الكعك التي في فمه، لكنه فصل الجزء الذي فمه بأسنانه عن بقية الكعكة، ليصرخ بغضب ما إن قام ببلعها: لماذا فعلت ذلك فجأة أيها الوغد؟!

ابتسم هاري وقال متصنعاً اللطافة: أليس لذيذاً؟ لقد عينت جدتي طباخاً جديداً، ويبدو أنه ماهر جداً!

ضغط كارل على أسنانه محاولاً تمالك أعصابه، ليقول بنفاذ صبر: هاري...لا تجعلني أفقد أعصابي!

ثم أخذ نفساً عميقاً، ليتابع حديثه بملامح غاضبة: بخصوص ايمي...


قاطعه هاري قائلا بسرعة: تريد أن تأخذها معك غداً صحيح؟ حسناً فهمت... ثم سار إلى خارج الغرفة وقال بابتسامة مستفزة، بينما يفتح الباب: تصبح على خير...أخي الحبيب!

قال هذا ليخرج ويغلق الباب وراءه على الفور، دون أن ينتظر منه رده حتى!


ابتسم بخبث، بينما يسير إلى غرفته واضعاً يديه في جيوب بنطاله...في حين ظل يدندن بلحن ما في خفوت.




أما كارل، فقد كان قد فقد أعصابه حقاً من تصرفاته اللامبالية، والمستفزة إلى أبعد الحدود!

ضغط على جبينه بتعب وقال هامساً بنفاذ صبر: ذلك الولد! متى يكبر ويريحني من تصرفاته الطفولية هذه؟!!



#اليوم التالي- الساعة 7:45 صباحاً
2005\12\21



بعد ان أنهى الجميع تناول فطورهم، قال كارل مخاطباً جدته بنبرة هادئة: جدتي، سوف أخرج اليوم برفقة ايمي حتى أشتري لها الأشياء الخاصة بالمدرسة.

أومأت الجدة بصمت، ثم قالت مخاطبة ايمي بابتسامة رقيقة: هل أنت مستعدة لهذا ايمي؟ سوف تبدئين المدرسة قريباً جداً!

ردت ايمي بابتسامة خجولة: حسناً نوعاً ما... رغم أنني ما زلت قلقة من ألا أتمكن من التحدث مع زملائي بشكل صحيح!

وضعت الجدة يدها على رأسها وقالت محاولة تشجيعها بلطف: بالعكس ايمي! لقد تحسنت مهارتك في الفرنسية كثيراً. أنا واثقة من أنك ستبلين حسناً في المدرسة!


لم تبد ايمي مقتنعة بذلك تماماً. لكنها ابتسمت بمجاملة، بينما بدت قلقة نوعاً ما.
غير أن الجدة لم تلاحظ نظرتها تلك. بل نظرت إلى كارل وقالت بهدوء: في الحقيقة، لقد توفيت ابنة خالتي في الأمس. لذلك سأضطر إلى السفر اليوم إلى لندن من أجل مساعدة أبنائها في تجهيز مراسم العزاء...وربما اضطر للبقاء معهم للأسبوعين القادمين.


أومأ كارل بفهم ثم قال: حسناً لا بأس. هل تريدين أن أجهز لك طائرتي الخاصة؟

رفضت الجدة عرضه قائلة بلطف: لا بأس...لقد طلبت من غرانتير أن يحجز لي الرحلة بالفعل. ستقلع الطائرة بعد خمس ساعات. عليّ الذهاب إلى المطار بعد قليل.

ثم نظرت إلى لوسي وقالت معتذرة: أرجو حقاً ألا يضايقك غيابي كل هذه الفترة. بالرغم من أنك ضيفتي، فسأكون مضطرة لتركك وحدك!


عندها ردت لوسي على الفور بأدب: أوه بالطبع لن أتضايق من هذا أبداً! أرجوك سيدة وايلنغهام. لا تشعري بالتقيد بسببي، إنني بخير حقاً!

بدت ملامح الراحة على وجهها وقالت بابتسامة لطيفة: شكراً لك...آنسة أليسون!


عندها علق كارل بانزعاج: لقد مضت ثلاثة أشهر منذ أن تعرفتما بالفعل! متى تتوقفان عن مخاطبة بعضكما بهذه الطريقة الرسمية؟!

شعرت كلتاهما بالخجل من تعليقه ذاك، ونظرت الجدة إلى لوسي لتقول بتردد: ألا بأس معك إذا ما ناديتك لوسي فقط؟

ابتسمت لوسي بمرح وقالت: بالطبع لا بأس! بل إنني سأكون سعيدة جداً إذا ما فعلتِ ذلك! ثم سكتت قليلا وسألتها بخجل: امممم وأنا أيضاً....هل يمكنني مناداتك جدتي؟

ابتسمت الجدة بحنان وقالت: أجل يا صغيرتي. لقد اعتدت عليك، وأشعر أنك أصبحت كواحدة من أحفادي بالفعل!


ابتسامتها الحنونة تلك، بعثت الدفء في قلب لوسي...
أهذا هو شعور أن يكون لديك جدة؟ هي لم تجرب ذلك من قبل، لكنها أدركت أن ذلك قد أسعدها حقاً!


لكن تلك النظرة الساخرة التي شعرت بها آنذاك، قد أنستها ذلك الشعور تماماً...أجل ومن غيره؟ إنه هاري ينظر إليها الآن بسخرية، كما لو كان يقول لها بكلام مبطن "على من تكذبين؟"

فضغطت على أسنانها محاولة تجاهل نظراته تلك، رغم أنها قد شعرت بالضيق حقاً.


لكن الجدة قطعت ذلك الجو المشحون لما قالت لهاري بقلق: ماذا عنك هاري؟ سوف تبقى وحدك اليوم.

رد هاري ببرود بينما يرخي جسده على ظهر كرسيه: لا تقلقي بشأني جدتي. سوف أقضي اليوم في الدراسة بغرفتي. لقد تغيبت عن المدرسة لثلاثة أشهر، لذلك علي التعويض عما فاتني.


عندها علق كارل بتهكم: إنه خطؤك لأنك امتنعت عن الذهاب، حتى رغم أن إصابتك قد شفيت منذ مدة!

زم هاري شفتيه باستياء وقال: إنه ليس ذنبي كون المدرسة مزعجة ومملة! سوف أعود لأجل مرافقة ايمي فحسب!

تنهد كارل بيأس ثم قام من مكانه وقال بانزعاج: لا أمل منك حقاً!


ثم نظر إلى ايمي وقال بهدوء: ايمي...فلتجهزي نفسك، علينا الذهاب الآن.


أومأت ايمي موافقة على ما قاله بحماس، وقامت من مكانها راكضة باتجاه غرفتها بعد أن استأذنتهم بالانصراف.
.
.
.
.
.
.
كانت تنظر إلى الطريق عبر النافذة بشرود، عندها خاطبها كارل قائلا بهدوء: ايمي... انت تعرفين جيداً إلى أين سنذهب صحيح؟

أومأت ايمي بهدوء وقالت: أجل...لقد شرح لي هاري الأمر في الأمس.

فسألها كارل بقلق: هل أنت بخير مع هذا؟ أعني أن ذلك...

قاطعته ايمي قائلة بثقة: لا تقلق علي كارل...طالما أن ذلك يعني أن تلك الكوابيس ستتوقف، فسوف أفعل أي شيء!

ابتسم كارل لكلامها، ثم وضع يده على رأسها وقال وهو يمسح على شعرها بحنان: أنت قوية حقاً...ايمي...


اكتفت ايمي بابتسامة هادئة دون تعلق على كلامه، لكنها اقتربت منه وأسندت رأسها على ذراعه. علّ قربه يبعث الشجاعة في نفسها.
فضمها إليه وقبل رأسها برقة، ليقول هامساً بعطف: سيكون كل شيء بخير...


شعرت بالهدوء تماماً، وقد أغلقت عينيها لترخي نفسها في حضنه الدافئ...بينما ظلت تتذكر ديفيد في حزن. إنه حقاً مثله تماماً في كل شيء!

ظل كارل يمسّد على شعرها بعطف دون أن يقول أي شيء.


نظر إلى نافذته بشرود، ليكرر كلامها في نفسه بسخرية: طالما أن تلك الكوابيس ستتوقف، فسأفعل أي شيء هاه؟

لكن....هل يحق لشخص مثلي أن يقول شيئاً كهذا؟!



#نفس اليوم –الساعة 8:45 صباحاً
2005\12\21



كان كلاهما واقفين أمام الباب، بينما يسلمان على الجدة التي ارتدت معطفها السميك الطويل، وتلك القبعة الصوفية الفاخرة.

نظرت إليهما وقالت وهي توصيهما بحرص: عليكما أن تحاولا أن تتوافقا في غيابي. لا أعلم لماذا لا تنسجمان أبداً، لكن ليس من الجيد أن تظلا مختصمين هكذا!

فرد هاري ببرود، وقد بدا واضحاً أنه يحاول مسايرتها فحسب: حاضر...


تنهدت الجدة بإحباط وقالت مخاطبة لوسي، محاولةً التماس الأمل منها: لوسي، أعلم أنه وقح وسليط اللسان. لكنني أرجو منك حقاً أن تتغاضي عن أسلوبه هذا! أرجوك أن تحاولي الصبر على تصرفاته قدر الإمكان.

ابتسمت لوسي بلطف، لتقول بسخرية مبطنة أدركها هاري فقط: لا تقلقي جدتي...إنني بالغة، لذلك لن أتضايق من تصرفاته الطفولية أبداً!


ضغط هاري على أسنانه بسخط، بينما شعرت الجدة بالراحة وقالت: إنني سعيدة جداً لسماع هذا...حسناً، اهتموا بأنفسكم في غيابي. أراكم قريباً.

غادرت الجدة المنزل برفقة الخادم الذي أخذ يجر حقيبتها الكبيرة إلى السيارة. وما إن غادرا وأغلقا الباب، نظر هاري إلى لوسي بطرف عينيه وقال بنبرة ساخرة: تبدين مقززة جداً عندما تتظاهرين باللطافة...أتدرين؟


عندها وضعت يدها على رأسه وقالت بابتسامة رقيقة مصطنعة، قد استفزته كثيراً: لقد وعدت جدتي أنني لن أنزعج من كلامك بعد الآن، لذلك سأتظاهر أنني لم أسمع شيئاً!


صفع يدها ليبعدها عن رأسه ويقول بغضب: تباً...توقفي عن قول (جدتي) بهذا الوجه المنافق! إنك تشعرينني بالمرض حقاً!

ثم قال ببرود، بينما يسير مبتعداً عنها واضعاً كلتا يديه في جيوب بنطاله: سأذهب للبقاء في غرقتي! لا أريد رؤية وجهك الكريه أكثر من هذا!


ما إن غادر هاري الردهة وصعد الدرج، ابتسمت لوسي بمكر وقالت في نفسها بنبرة ساخرة: شكراً لأنك غضبت من أجلي هاري. أعترف أنك العقبة الوحيدة التي واجهتني في هذا المنزل. والآن بما أنك قد ذهبت، سيكون بوسعي القيام بعملي دون أن يضايقني أحد!



#فرنسا - باريس – الساعة 12:30 مساءاً
2005\12\21


هناك في ذلك المكتب الفخم، كانت جالسة إلى جانبه على تلك الأريكة السوداء الوثيرة، بينما تنظر إلى الأرض في توتر.

عندها وضع يده على يدها الصغيرة، ليقول مشجعاً: ايمي...لا تقلقي، سيكون كل شيء بخير.

ردت ايمي بارتباك: أعلم هذا...أنا متوترة فقط.

ابتسم كارل وقال بهدوء: حسناً..في هذه الحالة، عليك أن تفكري في شيء آخر.

فنظرت إليه ايمي وقالت باستغراب: شيء آخر؟


فكر كارل قليلاً قبل أن يقول بمرح: فكري في الكريسماس. إنه قريب جداً! مارأيك أن نحتفل به كلنا معاً؟

فرحت ايمي لذلك كثيراً وقالت بحماس طفولي: حقاً؟! هل سنحتفل بالكريسماس؟

فأجاب كارل بلطف: بالطبع سنفعل! سوف أشتري لك شجرة كبيرة، وسنقوم بتزيينها معاً!

بدت ايمي متحمسة جداً لسماع ذلك، وهتفت قائلةً بسعادة: ذلك رائع جداً!

ثم تغيرت تعابيرها إلى الحزن فجأة، لتقول بإحباط: ليت ديفيد معنا هو أيضاً!


وضع كارل يده على رأسها وقال بابتسامة حنونة: ديفيد لن يكون مشغولاً يوم الكريسماس، لذلك سيكون بوسعنا الاتصال به، والتحدث معه لوقت طويل!

فرحت ايمي لهذا كثيراً وهتفت بسعادة: هل حقاً يمكنني التحدث معه لوقت طويل؟! إن كل مكالماتنا تكون قصيرة جداً في العادة، لأنه يكون مشغولاً جداً طوال الوقت. لا أصدق أنه سيكون بوسعنا التحدث براحة أخيراً!

ابتسم كارل لتعابير وجهها المتحمسة. وقبل أن يقول أي شيء، قاطعه صوت مساعد الطبيب الذي خاطبه قائلاً باحترام: أيها الرئيس تشادولي. إن الدكتور بارنيت يطلبك الآن.


ما إن قال هذا، حتى شعرت ايمي بانقباضة في صدرها... تمسكت بكارل بقوة، وقد كانت تشعر بالقلق كثيراً.

عندها طمأنها هامساً بلطف: ايمي لا تخافي، سوف أبقى معك.

شعرت ايمي بالراحة نوعاً ما، وسارت برفقة كارل إلى الحجرة الخاصة بالطبيب. كان جالساً على كرسي خشبي إلى جانب مكتب كبير، وأمامه كان هناك كرسي آخر.

هذا فقط ما رأته ايمي التي ظلت متشبثة بساق كارل، بينما تسير خلفه في ارتباك ملحوظ.


وما إن رآها الطبيب، حتى ابتسم قائلا بنبرة لطيفة: أوه من لدينا هنا؟ انت ايمي صحيح؟

نظرت إليه ايمي بحذر، بينما ظلت متمسكة بكارل.

لكن ملامحه الهادئة، وابتسامته اللطيفة أشعرتاها بالهدوء نوعاً ما.


بدا لها رجلاً في عقده الأربعين تقريباً. طويل وحنطي البشرة، بشعر رمادي، ولحية بيضاء خفيفة زادته وقاراً وهيبة. كما بدا لطيفاً في ذات الوقت.

وقف ذلك الطبيب واقترب منها ليمد يده إليها ويقول بتلك الابتسامة اللطيفة: اسمي جوزيف بارنيت. تشرفت بلقائك.


ترددت ايمي كثيراً قبل أن تقف أمامه، وتمد له يدها هي الأخرى مصافحةً، ثم قالت بارتباك: وأنا ايمي...ايمي دو.

عندها قاطعها الطبيب قائلا بهدوء: ايمي هوريستون صحيح؟ إنني أعرف كل شيء ايمي، لذلك يمكنك التحدث معي بأريحية.

تفاجأت ايمي كثيراً لما سمعت هذا، عندها قال كارل موضحاً: ايمي، إن الدكتور بارنيت هو شخص مقرب مني كثيراً. يمكنك إخباره بكل شيء دون تردد.

أشار الدكتور إلى الكرسي الآخر وقال: ايمي...يمكنك الجلوس هناك. أريدك أن تحكي لي كل شيء عما حدث، وعما ترينه في أحلامك.

جلست ايمي على ذلك الكرسي، في حين وقف كارل بالقرب منها.


كانت تشعر بالراحة كثيراً لهذا الرجل الذي بدا متفهماً تماماً لكل ما قالته. حكت له عن كل شيء. عن جدها، عن والديها، عن ديفيد، عن آرثر، وعن كل ما مرت به في حياتها. وكذلك عن تلك الأحلام التي ظلت تراودها منذ اليوم الذي عذبها فيه بشدة.

استطاعت أن تلاحظ نظرة الأسى والحزن في عينيه، بينما يستمع إلى كل كلمة تقولها بإنصات تام.

وبعد أن أنهت كلامها، علق الدكتور بارنيت بضيق: أعلم أنه لا يجدر بي التدخل في الأمور الشخصية لمرضاي، لكنني لم أتصور أبداً أن يكون الدوق هوريستون بهذه الفظاعة!
لقد سمعت عنه الكثير من الإشاعات من قبل، لكن ذلك أكثر مما تصورته..

ثم نظر إلى كارل وقال بهدوء غريب: إنه يذكرني بشخص ما...


ضغط كارل على أسنانه بغيظ وقال: المهم الآن...هل يمكنك أن تقوم بمساعدتها.. دكتور؟

أومأ الدكتور بارنيت بهدوء، ثم نظر إلى ايمي وقال مبتسماً: ايمي... هل تعرفين شيئاً؟ كل الأشياء التي تجعلنا نفكر ونحلم، وكل الذكريات والمشاعر السلبية، تكون مخزنة فيما يعرف بعقلنا الباطن.
ربما لا ندركها بأنفسنا، لكن عقلنا اللاواعي يدركها جيداً. لذلك ومن أجل أن نعرف السبب الحقيقي وراء هذه المشاعر، وهذه الكوابيس، علينا التحدث مع الجزء اللاواعي من عقلنا، أو بالأحرى ما نسميه بالعقل الباطن. وهو الذي سيخبرنا بكل شيء.
لذلك سنحتاج الآن إلى فعل شيء بسيط حتى نستدعي عقلك الباطن. والذي سيخبرنا بحقيقة المشكلة، عندها سنعرف كيف نعالجها.


لم تبد ايمي قد فهمت كل ما قاله بشكل كامل، لكنها استوعبت الأمر نوعاً ما وقالت بهدوء: وكيف يمكننا أن نقوم باستدعائه؟

ابتسم الدكتور وقال بهدوء: هل سمعت من قبل بشيء يعرف بالتنويم المغناطيسي؟

تفاجأت ايمي كثيراً من كلامه وقالت هاتفةً بدهشة: التنويم المغناطيسي؟! لقد سمعت عنه في التلفاز، لكنني لم أكن أظن أنه حقيقي!

فردّ الدكتور بنبرة رصينة هادئة: بل إنه حقيقي يا عزيزتي. وهو ما سنقوم به الآن.

عندها علقت ايمي بوجل: لكن...ألا يعني ذلك أنك ستقوم بالتحكم بي وبما سأفعله؟!


ضحك الدكتور من كلامها وقال: لا يا عزيزتي...إن الأمر ليس كما يصورونه في التلفاز!
التنويم المغناطيسي يكون عند وصول الانسان إلى درجة من الصفاء الذهني من خلال اللاوعي. ولا يعني ذلك أن الشخص سيكون نائماً وغير واعِ بشكل تام، ولا يعني أبداً أنه سيكون من الممكن التحكم به، وإجباره على فعل أشياء لا يريدها!

أومأت ايمي بفهم دون أن تعلق على كلامه، عندها قال الدكتور بهدوء: حسناً...

ثم أشار إلى الفراغ ما بين حاجبيه وقال: أريد منك أن تركزي على هذه النقطة. لا تنظري إلى أي شيء آخر مطلقاً، واستمعي إلى كلماتي بينما تنظرين إليها مفهوم؟


وبالفعل أخذت ايمي تنظر إلى هناك بتركيز تام، في حين بدأ هو حديثه بنبرة مسترخية وبطيئة وهادئة جداً، بينما أخذت ايمي تطبق كل ما يأمرها به في صمت..


_خذي نفساً عميقاً، واسترخي تماماً على كرسيك..


_كل شيء هنا آمن ومريح تماماً...لا تجعلي أي شيء يوترك أو يشعرك بالقلق.


_قومي بالشهيق الآن، واملئي رئتيك بالهواء..

وقد قام هو بالشهيق وأخذ نفساً عميقاً بالفعل. بينما حذت ايمي حذوه، لتأخذ نفساً عميقاً هي الأخرى.

عندها زفر بعمق وبطء، ليقول بنبرته البطيئة والهادئة: اسمحي للهواء بالخروج من صدرك، وأفرغي رئتيك بالكامل..


كلماته ونبرته تلك أشعراها بالنعاس حقاً، فأخذت تسدل جفنيها بين الحين والآخر.


عندها قال لها بنفس تلك النبرة: قد تشعرين بأن جفونك ثقيلة، وأنك ترغبين بإغماض عينيك. اسمحي لجسمك بالاستراحة بشكل طبيعي، بينما تُرخين عضلاتك. استمعي لجسمكِ ولصوتي، بينما تبدئين بالشعور بالهدوء..


_قومي بإراحة جميع عضلاتك. اشعري بخفة العضلات واسترخائها في قدميك، كما لو أنها لا تحتاج لأي مجهود منك..


ظل يتحدث معها على هذا المنوال، إلى أن شعر بارتخائها تماماً.


لقد فقدت عيناها الآن بريقهما، لتبدوان كما لو كانتا في حالة سبات تام...
تنفسها كان منتظماً، وعقلها بدا مغيباً عنها تماماً، وقد ظلت تجيب على أسئلته بهدوء وانصياع غريب، لما بدأ بقوله:


-ما اسمك؟


-ايمي هوريستون.


-كم عمرك؟


-ثمان سنوات.


-ما الذي يحزنك ايمي؟


-أخي بعيد عني، كما أنني لا أستطيع رؤية أبي وأمي مهما أردت هذا!


-ما هو شعورك اتجاه أخوك ديفيد؟


-أنا أحبه كثيراً...لكنني أشعر بالذنب اتجاهه. لو أنني لم أكن موجودة، لما كان عليه أن يعاني هكذا.
لقد نفي من عائلة هوريستون بسببي. لابد أنه يكرهني كثيراً بسبب هذا!


-إن ذلك غير صحيح ايمي...إن أخوك يحبك هو أيضاً، وهو لم يفكر في هذا الأمر من قبل أبداً.


-أحقاً ما تقول؟


- بالطبع ايمي...إنني واثق من هذا. ثم سكت قليلاً وسألها بهدوء: ماذا عن أخيك آرثر؟ ما هي مشاعرك اتجاهه؟


تغيرت ملامح ايمي إلى حزن شديد، لتقول بألم: كان يجب أن أشعر به أكثر...كان يجب أن أحس بمعاناته! لماذا مات وحده هكذا؟ لماذا كان يجب أن يعاني هو فقط؟!
إنني السبب في ألمه! أنا توأمه وأخته الوحيدة، ومع ذلك لم أدرك أبداً ما كان يمر به!


-ذلك ليس صحيحاً ايمي...ما حدث ليس ذنبك أبداً. آرثر كان يحبك كثيراً، لذلك لم يرد منك أن تقلقي عليه.
إنه ذنب جدك. هو ما من عذبكما، وهو من قام بقتل آرثر. أنت لم تفعلي أي شيء خاطئ ايمي!


بدت ايمي منفعلة جداً، لما أخذت تردد بكلام مبعثر، وبشفتين مرتعشتين. في حين بدت كالمجنونة تماَماً: إنه هو...لقد قتله، لقد قتلنا! ما الذي فعلناه له؟ لماذا يفعل بنا هذا؟!

إنه يقترب، يلوح بذلك السوط في الهواء... هناك الكثير من الكدمات في جسد آرثر! إنه يبكي! إنه يتألم!

العاصفة! العاصفة ستأخذه...الثلج سيدفنه...هناك دم يخرج من أنفه!
لا..لا...لا!! لا تمت آرثر، لا تتركني وحيدة! لماذا نحن؟! لماذا؟ لماذا؟


كل ذلك بسببها! إنها هي السبب! الأمر كما قال آرثر تماماً، لو لم تتركه تلك المرأة، لو لم يحرق وجهها...لو بقيت معنا لما حدث كل هذا! لماذا رحلت؟ لماذا؟ ما كان يجب أن يموت...ما كان يجب أن يموت أرثر!!



كان كارل والدكتور بارنيت ينظران إليها باضطراب...

لكنها أخذت تصرخ فجأة بينما تتمتم بكلام غير مفهوم...وكل الذي فهماه هي كلمة واحدة فقط..

"هي السبب...هي السبب"


جلس كارل أمامها وأخذ يهزها بتوتر، بينما يصيح بانفعال: ايمي...ايمي!


استفاقت ايمي من تلك الحالة الهستيرية فجأة، ونظرت إلى كارل بذهول للحظات. عندها تجمعت الدموع في عينيها ودفنت وجهها في صدره، بينما أخذت تبكي بحرقة.

بقيت هكذا لوقت طويل، حتى غلبها النعاس تماماً. فنامت، وبقايا دموعها ما تزال عالقة في جفنها المبلل.


حملها كارل في حضنه، ثم نظر إلى الدكتور بارنيت الذي بدا قلقاً جداً..عندها سأله قائلاً بضيق: ما الذي يعنيه هذا؟

تنهد الدكتور بارنيت بضيق وقال: يبدو أن الأمر معقد أكثر مما ظننا.

ثم سكت قليلا، ليسأله بحيرة: هل لديك فكرة عن المرأة التي كانت تتحدث عنها؟


فكر كارل قليلا قبل أن يقول بضيق: لست متأكداً تماماً. أعتقد أن عليّ التحدث مع ديفيد في النهاية. لا يبدو أنني سأكون قادراً على حل المشكلة وحدي!

ثم نظر إلى ايمي وقال بحزن: رغم أنني وعدتها أنني سأبقي الأمر سراً عنه!

فقال الدكتور بهدوء: إنه شقيقها، لذلك يجب عليه أن يعلم عاجلاُ أم آجلا. لا يمكنك إخفاء الأمر عليه أكثر.

لم يردّ كارل على كلامه، واكتفى بالنظر إلى الأرض في حزن.


عندها سأله الدكتور بارنيت بقلق: كارل...منذ أن أتيت وشكلك لم يعجبني أبداً. هل حدث شيء ما؟

نظر إليه كارل بضيق وقال بضياع: تلك الكوابيس. أعتقد أنها عادت مجدداً!

تفاجأ الدكتور بارنيت من ذلك كثيراً وقال بقلق: أحقاً ما تقول؟ لكن لماذا؟ لقد مضت عدة سنوات على آخر مرة راودتك فيها!


ابتسم كارل بألم وقال: حسناً...لا يبدو لي أنها ستتوقف أبداً.

ثم أردف بنبرة ساخرة: ليس وكأنني أستحق أن أعيش بسلام، وأنسى كل شيء!


عندها قام الدكتور من مكانه وقال بغضب: ما الذي تقوله كارل؟! توقف عن لوم نفسك هكذا! تحميل نفسك الذنب فيما حدث، لن يعيدهم إلى الحياة أبداً!
لقد عانيت أنت وهاري كثيراً بسببهم...إنهم يستحقون ما حدث، أنتما لم تخطئا في أي شيء! متى تقتنع بهذا؟!

رد كارل بنبرة تائهة: لكن ذلك لا يغفر لي ما فعلته!

ثم نظر إليه وقال بابتسامة باهتة: لا تدع ذلك يقلقك دكتور...شكراً لك حقاً على ما فعلته!


نظر إليه الدكتور بضيق، وقال هاتفاً باستياء: كارل!

ثم تنهد بضيق وأردف قائلاً بامتعاض: أظن أننا سنحتاج إلى جلسات كثيرة حتى يكون بإمكانها التخلص من تلك الكوابيس نهائياً. سوف أحاول مساعدتها بقدر ما أستطيع.

أومأ كارل بفهم، ثم قال بامتنان: حسناً...شكراً لك حقاً دكتور، سوف أتواصل معك لاحقاً بشأن موعد الجلسة القادمة. والآن، أستأذنك بالذهاب.


قال هذا ليسير مغادراً الغرفة، عندها استوقفه الدكتور بقوله: كارل، أرجوك أن تفكر في أخذ العلاج أنت أيضاً. لا يمكنك أن تعاقب نفسك هكذا!
تحميل نفسك الذنب فيما حدث، ليس حلاً للمشكلة أبداً، لا تنس هذا!

ضغط كارل على أسنانه بألم، ليقول بضيق: أجل...سأفكر في هذا. شكراً لك دكتور.


لما غادر كارل الغرفة، ظل الدكتور بارنيت ينظر إلى الباب بضيق للحظات. ثم قال في نفسه بحزن: أعرف أن تلك الجلسات ليست حلاً أبداً...فأنت تحتاج إلى المغفرة!
تحتاج أن يغفر لك أحد ما، حتى تكون قادراً على أن تسامح نفسك على ما حدث!


لكن كارل، أنت تعلم أنهم قد رحلوا جميعاً لذا...مهما عاقبت نفسك، لم يعد هناك من سيغفر لك بعد الآن أبداً!



#فرنسا- قصر تشادولي الرئيسي – الساعة 2:30 مساءاً
2005\12\21



بعد أن تأكدت من خلو الطريق من أي أحد، نزلت الدرج بخطوات حذرة باتجاه قاعة الاحتفالات التي كان بابها خلف الدرج.

بما أن سيدة المنزل قد سافرت اليوم، لذا فإن جميع الخدم يرتاحون في غرفهم الآن بعد أن أنهوا تحضير الغداء، والذي كان قد تقرر وضعه ما إن يعود كارل إلى المنزل، بحسب ما أخبرتها نيللي.


هاري قد تأكدت أنه ما يزال في غرفته، لذلك عليها أن تتحرك الآن بسرعة قبل أن عودة كارل الوشيكة...


وهناك خلف الدرج، في تلك الردهة المؤدية إلى ذلك الباب الفخم حيث قاعة الاحتفالات الكبيرة التي لم تدخلها من قبل أبداً. وقفت لوسي تنظر حولها في حذر.

كان هناك فتحتين على شكل قوس محفور وسط الجدار على جانبي الردهة. وقد وضعت فيهما مزهريتان كبيرتان بدا واضحاً أنهما ثمينتان جداً.


اقتربت من أحدهما، لتنزلها وتزيل الزهور المرتبة داخلها بعناية.
أخذت المصباح الصغير الذي كانت تحمله في يدها، لتتفقد محتوياتها من الداخل. لكنها لم تجد أي شيء.
عندها أعادت كل شيء في مكانه، وسارت نحو المزهرية الأخرى لتنزلها هي أيضاً.


فلما تفقدت الجزء الداخلي منها، اتسعت عيناها بصدمة لما وجدت أنها فارغة تماماً.

عندها أدركت حقيقة الأمر ...لقد أوقعت نفسها في فخه مجدداً!!


في تلك اللحظة، سرت قشعريرة في كامل جسدها لما سمعت صوته وهو يقول ببطء، بينما اعتلت وجهه ابتسامة ساخرة:

هل تريدين أن أساعدك في البحث؟ لوسي أليسون!


يتبع...

******

_رأيكم في الفصل؟

_توقعاتكم للأحداث القادمة؟

_ما السر وراء تصرفات هاري لما كان في مكتب كارل؟

_هل ستكون ايمي قادرة على التخلص من تلك الكوابيس؟

_ما الذي يعنيه ذلك الكلام الغريب الذي قالته؟

_هل سيوافق كارل على تلقي العلاج هو أيضا؟

_ ما الذي يعنيه كلام الدكتور بارنيت لما قال أن كارل يحتاج إلى من يغفر له؟

_وأخيرا...ما الذي سيحدث بين لوسي وهاري بعد أن أمسكها بالجرم المشهود، وكيف أوقع بها من الأساس؟😏


أحداث كثيرة وشيقة بانتظاركم في الفصول القادمة فلا تنسو متابعتي..

سأخضع إلى عملية جراحية على يدي قريبا. لذلك وحتى يتحدد موعد العملية، ربما يكون هذا آخر فصل أنشره خلال هذه الفترة إلى أن تتحسن يدي وأصبح قادرة على الكتابة مجدداً.. دعواتكم😢

ارجو ان الفصل قد نال اعجابكم، ولا تنسو التصويت والتعليق على الفصل.

أراكم على خير..دمتم في أمان الله وحفظه..



2018/09/18 · 646 مشاهدة · 5403 كلمة
NajwaSD
نادي الروايات - 2024