جلست أنا والموسيقار الغريب على الأرض، هو في مكان جلوسه كالعادة وهو يعزف على آلة الجيتار الخاصة به وأنا أجلس بجانب صندوق النفايات الأسود الصغير ونحن نتكلم.
بدأت بالتحدث وصوتي يبدو عليه الإحباط والاستسلام:
- "بعد تجولي في الشارع هكذا.. لقد نسيت من أكون"
بقي الموسيقار الغريب صامتاً وهو لا يزال يعزف على آلة الجيتار الخاص به. فقلت له:
- "هاي.. هل تعلم من أنا؟"
فأعطاني إجابة سريعة:
- "لا.. يمكن أن أكون قد رأيتك في مكان ما من قبل..."
فقلت له وأنا متلهف:
- "أين!!؟"
ولكن الجواب الذي كنت أنتظره لم يمنحني ولا قطرة واحدة من الأمل، بل زاد إحباطي أكثر فأكثر.
- "لقد نسيت.. أنت لديك وجه عادي"
وجهت نظري إلى الموسيقار الغريب بنظرة استغراب وحيرة:
- "ما الذي..!!!"
ولكنني هدئت أعصابي، وبعدها أخذت أدخن كل ما تبقى من سيجارتي.. أكمل الموسيقار الغريب كلامه:
- "هل تعلم.. يمكنك مصادفة أحد معارفك في هذا الشارع. لماذا لا تستمر في التحدث مع الناس هنا؟"
فكرت مليا في كلامه لأنه كان من المنطقي جدا أنّ أول شيء سيقوم به أي شخص في مثل هذه الحالة الحرجة هي التحدث إلى شخص يعرفه..
- ".... دعني أجرب ذلك."
رأيت فتاةً بَارِزَة لي من بين جميع الناس هنا وقد قررت الذهاب لكي أتحدث معها وأسألها بعض الأسئلة لإشباع فضولي ولكي أعلم أكثر حول حالتي الحالية. لقد كانت فتاةً جميلة ليست قصيرة ولا طويلة، كان شعرها الأشقر طويلاً يملأه الثلج المتساقط بعينيها الزرقاوان وأنفها المحمر وخديها الحمراوين من شدة البرد.. كانت ترتدي وشاحا قطنياً رمادياً يحميها من شدة البرد القارس وتنورة حمراء إلى حدٍّ ما بين الركبتين والقدمين..
عندما أوقفتها سألتها عما إذا كانت تعرف من أنا ولكن للأسف شعرتُ بأنها عنيفة قليلاً.. قائلة:
- "ماذا؟ لماذا تزعجني؟ أنا لست مهتمة بما تبيعه!"
فأجبتها بصوت منخفض ومحبط:
- ".... آه.. حسناً، أنا آسف"
أكملت الفتاة المشي مباشرة ولم تعرني اهتمامها قط، وكانت مسرعة في خطواتها وكأنها تهرب مني.. حولت نظري إلى الموسيقار الغريب لكي أرى أن كان ينظر إلى، ولكنني وجدته غير مهتم بتاتاً كما أن نظاراته السوداء لا تُظهر إلى أين ينظر بعينيه، وهو يعزف على آلة الجيتار الخاصة به.
بعد لحظة قصيرة من الوقت رأيت رجلاً قادماً نحوي.. لقد كنت أنظر إليه بينما يقترب مني، ولكنه تنجبني وأكمل طريقه.. وفي تلك اللحظة أوقفته لكي أسأله نفس السؤال الذي طرحته على تلك الفتاة قبل قليل.
- "هاي.. هل تعرف من أنا؟"-
- "هاه؟ من أنت؟ اذهب بعيدا."
- "أ- أنا آسف.. هذا خطئي.."
سرعان ما انتهى الحوار باعتذاري له وذهابه مسرعاً..
على الرغم من أن كلام الناس يجرحني وعلي الرغم من أنني كنت أبدو مستسلماً من مظهري ولكنني لم أستسلم حقاً لقد كان هناك شيء بداخلي يرفض تصديق ذلك..
فأكملت ما كنت أقوم به وقصدت رجلاً آخر مباشرة وسألته عما إن كان يعرفني أو إن كان قد سبق له أن رآني من قبل..
- "مرحباً.. هل تعرف من أنا؟"
رد علي متسائلاً:- "هاه؟ هل التقينا من قبل؟"
كنت صامتاً قليلاً لأنني كنت أعلم أنه لا جدوى مما أقوم به.. فالأمر الذي حدث معي كان شيئاً خارقاً للعادة، لذلك لم أكمل كلامي مع ذلك الرجل فختمت حواري معه قائلا:
- "آوه، أنا آسف، ظننتك شخصاً آخر.. اعذرني"
ظللت واقفاً مكاني بلا حراك وكان بنيتي الاستسلام حقاً، متحدثاً مع نفسي.
(هذا غير ممكن.. أن أجد شخصاً يعلم من أنا).
ذهبت بجانب الموسيقار الغريب وعندما اقتربت منه أوقف العزف ونظر إلي قائلاً:
- "ما الأمر؟"
أطلقت تنهيدة طويلة وأجبته بإحباط:
- "هذا مستحيل.. لا أحد أعرفه سيكون في مثل هذا المكان الغريب .. يجب أن تكون هناك طريقة أخرى أفضل..."
فردّ على الموسيقار الغريب:
- " هاه؟.. أنت تحدثت فقط إلى شخصين أو ثلاثة وبهذه السرعة أراك مستسلماً؟ هل أنت جاد؟... أنت تمزح معي؟؟"
وأكمل كلامه وكان غاضباً:
- ".. هذه مشكلتك!!"
تفاجأت من رده الصاخب الأخير فهو تركني عاجزا عن الكلام.
- "أنت لا تعرف ما قد يحدث حقاً.. لا تستسلم بهذه البساطة"
كنت أحتاج حقاً شخصاً ما ليقول لي هذا الكلام ولا يتركني أغرق في يأسي واستسلامي..
- ".... نعم أنت محق. شكراً لك"
أكمل الموسيقار الغريب عزفه وحول نظره إلى أمامه وقررت بأن أكمل ما كنت أقوم به..
كم من رجل سألته ولكن لا فائدة، يوجد من ينفر مني دون أن يحدثني أصلاً ويوجد من يعاملني بشفقة وكأنني شخص متسول أو شيء من هذا القبيل.. لم أكن أريد أن أسأل فتاة أخرى بسبب ما حدث سابقاً مع تلك الفتاة الشقراء، ولكن بعد سماعي لكلام الموسيقار الغريب المحفز لم أرد أن أخيب ظنه..
فسألت فتاة كانت تسير مع كلبها الصغير نفس السؤال..
- "آوه؟ هل أنت شخص مشهور؟؟"
- "آه.. لا، آسف، لقد أخطأتك مع شخص آخر"
بعد عدة محاولات فاشلة في إيجاد شخص ما يعلم من أكون، بدأت أشعر بالتعب في قدماي وابتعدت قليلا عن الموسيقار الغريب وذهبت إلى مكان جلوسي الأول ما بين عمود الساعة الرمادية الأولى وصندوق النفايات الأسود الصغير.. وبدأت أثحدث مع نفسي.
(هذا الموسيقار الغريب لا يعرفني.. ولكنه يستمر في تشجيعي ورفع معنوياتي.. فبدون مساعدته، لكنت قد استسلمت منذ البداية.. لن أستسلم!)
وقفت من مكان جلوسي ونظرت إلى الموسيقار الغريب ولقد كان ينظر إلي هو الآخر وكان يعزف بمهارة قائلاً لي:
- "لا تستسلم حتى النهاية.. لهذا السبب أنا أستمر في العزف على آلة الجيتار الخاصة بي"
- "آوه، أجل.. حظا موفقاً لك مع ذلك."
حولت نظري بسرعة لأرى رجلاً مميزا بشعر برتقالي اللون وسألته:
- "هل تعلم من أنا؟" فأجابني متعجباً:
- "آوه..!؟، أنت..!!"
كنت قد أحسست بقليل من الأمل ولقد كان شعوراً لا يوصف فقلت له وأنا متردد:
- "هل.. أنت.. تعرفـ-"
لم أكد لأكمل جملتي بعد، حتى صرخ علي وكان يبدو عليه الخوف.
- "لا، لا تفهمني غلط!!!!.. لم أكن أنا من أسقطت تلك العشرة سنتات!!"
لم أفهم شيئاً مما كان يقوله، فاستغربت من كلامه وأردت أن أسأله عن سبب ردة فعله الغريبة تلك، فاعتذر بسرعة وهو مذعور وقال لي بأنه يجب عليه أن يذهب الآن.. وذهب وهو يركض بكل ما لديه هارباً مني..
- "آه!.. أرجوك انتظر!!"
شعرت بالحزن كثيراً في ذلك الموقف ولكنني لم أدع الحزن يسيطر على. فذلك الرجل.. كان يبدو عليه وكأنه يعرفني، من هو يا ترى؟
يتبع..