تركت الموسيقار الغريب وهو يعرف على آلة الجيتار الخاصة به، ووضعت يداي في جيوب معطفي وانطلقت بخطوات ثابتة تدل على أنني كلي ثقة وكلي استعداد لمعرفة الحقيقة.

رأيت بأن الشارع لم يكن كما كان في البداية، حيث كان هناك ناس كثر، وأكثر ما كان ملحوظاً هي سيارة ليموزين سوداء كانت واقفة مباشرة بجانب العمود ذو الساعة الرمادية الضخمة..

تجاهلت السيارة مؤقتاً حتى أكمل ما كنت أقوم به.. كان هناك رجل وامرأة أمامي يتحدثان فقررت الذهاب إليهما وسؤالهما فوجدتهما منغمسين في الحديث عن العصابات والمخدرات والمافيا..

فتذكرت الذكريات التي أتتني قبل قليل لأنها أيضاً كانت تتعلق حول نفس الشيء.. وكانت محادثتهما كالآتي:

- الرجل: "العصابات في هذه المنطقة، يقال بأنهم على علاقة بالمافيا."

- المرأة: "حقا!!؟ أهذا صحيح؟؟ هذا مخيف جداً!!!"

لقد كانوا كأنهم مجانين يتحدثون ولم يبدو لي وكأنهم الأشخاص الأنسب لكي أسألهم عن مشكلتي.. أيضاً كان هناك رجل يتمشى وعيناه لا تفارقان النظر إلى الأرض ورأسه منخفض نحو الأسفل ولا يبالي إن كان هناك شيء أمامه وكانت على وجهه الحسرة والندم والاستسلام.. حيث كان يقول.

- "كيف لي أن أعيش بعد الآن؟ لقد خسرت عائلتي... وابنتي أيضاً..."

لقد كان يكلم نفسه بصوت مرتفع ولم يكن يبالي بأي شيء آخر.. سألت العديد من الناس ولكن لا فائدة فتذكرت أمر سيارة الليموزين السوداء تلك.. لم ألاحظ متى قد توقفت تلك السيارة هناك ولكنها تبدو لي مألوفة بعض الشيء.. ذهبت بجانب السيارة ولمستها.

فجأة وبعد لمسي لها بلحظات سمعت صوتاً قوياً وكأنه صوت إطلاق نار، استدرت ووجهي شاحب باحثاً عن مصدر الصوت لكنني لاحظت بأن لا أحد من الناس الموجودة في الشارع يهتم لذلك وخصوصاً الموسيقار الغريب الذي لايزال جالساً يعزف على الجيتار..

شعرت بدوار خفيف، فجلست بجانب صندوق القمامة الأسود الصغير وعلي يميني سيارة الليموزين السوداء.. وأشعلت سيجارة لكي أريح ذهني قليلاً. فكل ما رأيته حتى الآن ليس منطقياً، من بداية إنحباسي هنا في هذا الشارع إلى سماعي لذلك الصوت القوى الذي لم يسمعه أحد غيري..

حولت نظري إلى الموسيقار الغريب دون أن أحرك رأسي فلابد من أنه قد سمع صوت طلقة النار تلك أيضاً، هل علي أن أسئله عن الأمر؟ نهضت بسرعة ومسحت سروالي من الخلف ورميت السيجارة في صندوق القمامة الأسود وسألت الموسيقار الغريب حول سماعه لذلك الصوت.. فقال لي:

- "إطلاق نار؟ لم أسمع شيئاً مثل هذا.."

- "أنت تمزح صحيح؟.. جدياً هل أنا الوحيد الذي سمع ذلك الصوت؟ أم أذناي لا يعملان جيداً؟ وليس فقط ذاكرتي!؟"

تركت الموسيقار الغريب وشأنه وعدت إلى مكاني وجلست أفكر مرة أخرى.. أنا متأكد من أنني سمعت صوت طلقة نار عندما لمست السيارة، ولكن ذلك الموسيقار الغريب قد قال بأنه لم يسمع شيئاً..

في الواقع، لم أجد أحداً متفاجئاً أو لدى أي أحد من الناس ردة فعل تجاه ذلك الصوت.. إذن ما الذي يحدث؟ أمن الممكن أن الجميع هنا يكذب؟ لا.. ما السبب الذي سيجعلهم يكذبون عليّ؟ من الممكن أنني فقط أتخيل؟ لا.. أنا لست مجنوناً أو شيء من هذا القبيل.. لقد كان صوتاً مرتفعاً وواضحاً، كيف لي أن أتخيل مثل ذلك الصوت القوي!؟ أعتقد أن الصوت سمعته فقط لوحدي، فإذا كان لمس السيارة هو سبب سماعي ذلك الصوت.. فلابد من أن طلقة النار تلك لها علاقة بهذه السيارة..

السيارة وطلقة النار.... كيف يمكن أن يكونا متصلين مع بعضهم البعض؟ أنا متأكد من أن هذا دليل مهم.. آآخخ لا أستطيع التذكر.. بالإضافة إلى أنني عندما أحاول التذكر، أشعر بأن قلبي يؤلمني.

مر وقت ليس بقصير ولا طويل وأنا أسترخي وأفكر في مشكلتي فرفعت رأسي قليلاً ولمحت شخصاً غريباً يقف بجانب السيارة السوداء، رجل متوسط القامة يرتدي معطفاً رمادياً وقبعة رمادية غامقة اللون يتوسطها خط عريض أسود يجعلك تعتقد بأنه رجل خطير لا ينبغي لك المزاح معه..

لقد كنت بعيدا عنه تقريباً بمترين ونصف وكان يبدو عليه أنه يبحث عن شخص ما لأنه كان يلتفت بشكل متكرر وينظر إلى ساعته من حين إلى آخر.

فجأة بشكل سريع أحسست بألم في رأسي وفي نفس الوقت بدأت ذكرى أخرى غريبة تتوشح لي في عقلي.. لقد كان هناك أحد ما مستلقٍ على الأرض وبالرغم من عدم تعرفي عليه إلا أنني شعرت بأني أعرفه جيداً..

كان بجانب ذلك الشخص حقيبة خضراء فاتحة مخططة بخطوط أفقية خضراء داكنة عريضة، ولقد شعرت بأنها مألوفة لدي هي الأخرى..

وكان هناك شخص مجهول يجري نحو ذلك الشخص المستلقي على الأرض، لقد كانت فتاة على ما أظن وهي تصرخ قائلةً:

- "ما الأمر؟ هل أنت بخير!؟ هااااي أنت!!"

هل كانت تلك هي الفتاة التي كنت أنتظرها؟

- "سوف أتصل بالإسعاف!"

أخرجت هاتفها واتصلت بالإسعاف، حيث كان ذلك الشخص يبدو مصاباً بشدة.. تأكدت حينها بأنها هي الفتاة المقصودة.. ولكنني تساءلت لِمَ لم تأتي لرؤيتي؟ يا لها من من فتاة لطيفة..

انقطعت الذكرى من عقلي وبقيت واقفا بلا حراك أحاول إعادة تفسير تلك الذكرى الغريبة.. ولكن مهلا لحظة..... هذه ليست ذاكرتي....!! أليست هذه ذاكرتها؟ ما الذي يحدث معي؟

ذهبت بجانب الموسيقار الغريب الذي لا يزال يعزف على آلة الجيتار الخاصة به كالعادة وقلت له:

- "هاي، أتساءل عما يسعى إليه ذلك الرجل ذو القبعة."

فرد علي ببرود:

- "من الأفضل أن لا تتدخل في الأمر"

- "لماذا؟"

- "إنه قاتل. مغتال"

انصدمت من جواب الموسيقار الغريب وقلت له وأنا أصيح:

- "هل أنت جاد؟... أعني، كيف لك أن تعرف هذا على كل حال؟؟"

فقال لي: "حسنا.... أسمع الكثير من القصص، وأنا أعزف على الجيتار هنا"

- "قاتل مغتال...؟ ماذا عليَّ أن أفعل؟"

- "إذا كنتَ فضولياً، لما لا تحاول أن تتحدث إليه؟"

انزعجت مما قاله الموسيقار الغريب لي وقمت بالرد عليه قائلا:

- "مهلا لحظة.. هل تعتقد بأنني أتمنى الموت؟ أولاً، إنه (قاتل مغتال) قد يقتلني في أي لحظة.."

- "المحترفون في هذا المجال لا يستهدفون العامة"

لم أعرف بما أجيبه فقلت:

- "هذا صحيح نسبياً.... ولكن...."

- "وهل تملك خياراً آخر غير هذا؟ حظاً موفقاً...!"

فكرت ملياً في ما قاله الموسيقار الغريب، ولكنني لم أرد التعمق في الأمر أكثر من اللازم وقررت أن أذهب إلى الرجل المغتال ذو القبعة وأسأله..

وعندما وقفت بجانبه التفت إلي وعلى وجهه ملامح تدل على التساؤل..

فقلت له: "اعذرني..."

- "هل التقينا من قبل؟"

لم أفهم قصده مما قاله بأننا هل التقينا من قبل وظللت صامتا ووجهي تتوسطه ملامح الاستغراب.. فقال لي:

- "لا تهتم. هذا خطئي.. أنت لديك وجه عادي، هل أستطيع أن أساعدك في شيء"

لم أستطع أن أخرج سؤالي خوفاً مما قد يفعله لي ولكنني قلت له:

- "هل سبق لك وأن قمت ب.... (عمل) في أنحاء هذه المنطقة؟"

فجأة تحولت ملامح الرجل المغتال ذو القبعة من ملامح عادية إلى ملامح صدمة.. فجعل هذا قلبي يضرب بقوة من شدة الخوف..

- "على أيٍّ... نعم قمت ب (عمل).. على كل حال يا صاح، لا يتوجب عليك طرح مثل هذه الأسئلة.. هل هذا مفهوم؟"

أجبته بسرعة خائفاً ودون تردد:

- "ن- نعم.... شكرا جزيلا لك.."

ابتعدت عن مكان الرجل ذو القبعة بعدة أمتار ولم أتجرأ على التفكير بالذهاب بقربه مرة أخرى.. ربما.. ذلك الشخص الذي رأيته في تلك الذكرى قد قُتل من طرف هذا الرجل مغتال؟

يتبع..

2021/08/21 · 68 مشاهدة · 1090 كلمة
نادي الروايات - 2025