Instagram @blue_soulls
Telegram @sajjad_majjad
تذكر دائماً
كل ما حدث وكل ما سيحدث
سيظل سراً بيننا
لاتنسى هذا
فلتنم الان
لقد استيقظت مجدداً
نعم لم ابرح مكاني وبقيت طوال الوقت بقربك
وسأظل دائماً بقربك اقص عليك من القصص حتى تتذكر
والان سأقص عليك من نبإِ جدك حيدر
ألا تتذكره؟
حسناً ليست بمشكلة سوف تتذكره بعد أن انتهي من قصته هوَ الاخر
بدأ كل شيء
في بلاد الرافدين في جنوب بابل بعيداً عن أسوار المدينة يقف فرس اسود و اقد اعتلا ظهره فارس ضخم البنية مفتول العضل ابيض البشرة احور المقلة بني القزحية ذي شعر اسود طويل يتخلله بعض الشيب وذقن بنفس الصفات حاد العينين أزج الحواجب مستقيم الانف في نهاية عقده الرابع وأمامه اجلس ابنه ذي الثمان اعوام وكان ابنه حيدر اشبه له في الخلق ناظران للخلاء في صمت لا يكسره الا صوت وقع حوافر الفرس وهوَ يحركها ضاربًا التراب واستمرا على هذه الحالة حتى كسر الصبي حاجز الصمت سائلاً والده:
يا أبتِ هل لي بسؤال؟
فأجابه مالك قائلاً: قل يا ولدي.
فقال حيدر: مالنا نقف بلا حراك؟
فأجابه مالك: اننا ننتظر.
فقال حيدر: من؟
فأجاب مالك: من اغتر بنفسه وظن انه ندٌ لنا.
فسأل حيدر: اطلب احدٌ مبارزتك مرة أخرى؟
فقال مالك: بل طلبوا.
وعاد الاثنان لصمتهم حتى قال مالك:
بني حيدر نحن أبناء حرب ورثنا القوة و الشرف فلا احد أقوى منا ولا انزه و اشرف منا ادينا ادوارنا بالعدل ولم نرضى الظلم لاحد ولم نستغل منصب كلفنا به لنطغي على احد رضو بنا الناس ولاتاً عليهم و اسياداً لهم ويوماً ما ستخلف مكانتي في البلاط الملكي وفي بابل وعليك أن تحافظ على قيمنا فلا تغرنك الحياة الدنيا بمفاتنها ولا تنجر خلف
ما تهوى نفسك من رغبات وشهوات واذا أوتيت مالاً وقوة فلا تتجبر بنفسك ولا تطغي على الناس ولا تغتر بحسبك ونسبك وكثر نسلك فإنهم فانون لا محال.
يا بني أحذرك من الدنيا و ما فيها فإنها دار فناء وانتقال.
يا بني اخطي خطى الصالحين في أرض الطالحين كن خير عون لمولاك وخير حامي لشعبك و خير محسن للناس و مد يد العون لكل محتاج ولا ترد سائل ولا ترضى بظالم.
فرد عليه حيدر قائلاً: يا أبتِ لن اظلم او اظلم وانت معي.
فارتفعت احد وجنات مالك من بسمة تبسمها بسبب قول ابنه فأفلت اللجام من احدى يديه و وضعها فوق رأس حيدر وقال: اني لست بدائمٍ لك يوماً ما يا بني ستقارع الحياة وحدك ستسير في ظلمها اياماً او سنين وحدك وسترى كل صالح و طالح فيها و كل مصائبها وحسناها ولن اكون معك لأرد عنك شرورها وسطوتها.
فقال حيدر ببعض الحزن من كلام ابيه: أدام الله بعمرك يا أبتِ.
فتبسم مالك مرا أخرى من كلامه فجذب رأس ابنه نحوه و قبله ثم قال: بار انت يا ولدي وخير البرية.
فرفع حيدر بصره نحو اباه وقال: هل كان جدي حرب قوياً؟
فأجابه قالاً: لم يكن شديد القوة مثلي ولا شديد الضعف، لم يكن جباناً خواراً ولا جباراً غضباً، كان شجاعاً عطفاً فلم يغلب عطفه على شجاعته ويصبح ليناً ولم تغلب شجاعته على عطفه ويصبح متهوراً قاسياً، كان مثالاً يحتذى بالشرف واية بالنزاهة وخيمة يستضل بيها كل محتاج.
فبقي حيدر فاتحاً فاهه متعجباً مبهوراً من وصف جده
فقال مالك: وان اكثر من يشبه جدك في خلقه وصفاته عمك عامر.
فسأل حيدر: وعمي عمرو؟
فتجهم وجه مالك وقال ببعض السخط: عمك عمرو لم يشبه أحداً منا فهوَ كالشيطان بين الملائكة.
فقال حيدر: أتكرهه؟
رد مالك: لا احبه ولا اكرهه فعلى الرغم من كل شيء يضل اكبر اخوتي ولكن ما بيني وبينه ينتهي ان مس عزيزاً علي.
فقال حيدر: اين هوَ الان؟
رد مالك: نفيته للحدود التي بيننا و بين ارض فارس.
فقال حيدر: وعمي عامر اين هوَ الان؟
فأشار مالك نحو الجنوب وقال: اما مكانه فلا اعرف اين استقر ولكني اعرف انه وأهله سافروا جنوباً.
فأراد ان يسأل حيدر سؤال آخر الا ان والده قاطع قائلاً: لقد وصلوا
فوثب مالك عم صهوة الفرس وامر حيدر ان يظل مكانه إلى أن ينتهي و تقدم وهوَ يسحب سيفه من غمده فسل سيفاً نقش عليه (البتار) والقى غمده جانباً على الرمال وهوَ يقول: بسم الله لا غالب الا الله.
فبرز خمسة عشر فارساً مدججين بالسلاح وثلاثة منهم راكبين أحصن
فتقدم احد راكبين الاحصنة نحوَ مالك مسرعاً وهوَ شاهر سلاحه وقبل ان يصيبه التف مالك حول نفسه وضرب ارجل الفرس واسقطه وراكبه على الأرض فدقت عنق الفارس ومات فنطلق البقية نحو مالك ولما وصلوا رفع احدهم سيفه فوق رأسه وقبل ان يهوي به على رأس مالك امسكه من رقبته بيد واحدة فرفعه وهو وهوى به على الأرض بقوة ثم داس على رقبته بقدمه حتى كسرها ثم حاول أحدهم أن يضربه من خلفه فالتف مالك حول نفسه وقطع رقبته بسيفه ففارت دمائه من رقبته كالبركان فأمسك احدهم بقدم مالك محاولاً تثبيته وهجم اخر برمح ليطعنه ولما كاد ان يصل له امسك مالك بطرف الرمح ومنعه من التقدم وقلب بسرعة البتار وغرس طرفه في رأس من يمسك بقدمه ففاضت روحه وترك قدمه فضغط مالك على طرف الرمح حتى كسره ثم هجم عليه وبتر نصف جسده بضربة واحدة من البتار ثم اخذ يقطع اجساد من يتقدم نحوه كما يقطع الاضاحي وحيدر يراقب من بعيد مندهشاً فرحاً بقوة والده
فتقدم اخر من تبقى من راكبين الاحصنة نحو مالك وسحب لجام حصانه حتى رفع الحصان حافريه الامامين في نية ضرب مالك
فرما مالك بالبتار جانباً وامسك حافري الحصان وجذبه نحوه ورفعه ثم طرحه و راكبه على الأرض ثم اخذ البتار من الأرض و غرسه في رأس الراكب، ومن تبقى من الموجودين يراقبون وقد اعتلاهم الرعب من قوته فالقوا بأسلحتهم ارضاً واخذو يجرون هرباً منه وضل مالك يراقبهم حتى اختفوا في الافق ثم استدار راجع إلى ابنه واخذ غمد البتار من الأرض وأعاد السيف لغمده وعلقه على خصره ثم امتطى صهوة فرسه فقال له حيدر:
بوركت يداك يا أبتي!
فزال التهجم من وجه مالك وتبسم ثم قال: لنعد لبابل قبل أن تغيب الشمس.
فقال حيدر: والجثث ماذا سيحل بها؟
فرد مالك: سأرسل من يهتم بها.
واستمروا بالسير حتى بدأت أسوار بابل تلاح في الافق
فقال مالك: الا تريد معرفة شيء آخر؟
فقال حيدر: كم تبلغ قوتك؟
رد مالك: ما يجعل الناس تظن اني لست ببشر.
فقال حيدر: وكم يعني؟
فقال مالك: لا أستطيع إحصاء شيء كالقوى ولكني سأريك.
فاستمر الاثنان بالسير حتى لقيا اربعين عمالاً يحاولون رفع قطعة صخر بلغ طولها العشرين متر شكلت بشكل بوابة ليشيدوا بها بوابة سور بابل
فنزل مالك عن صهوة فرسه و انزل ابنه عنها وتقدم هوَ وابنه نحو العمال وقال:
بوركتم ولكن دعوا ما تبقى علي.
فعتلت وجوه العمال البهجة، فرحاً بانتهاء عملهم وشقائهم، وحيدر يراقب الوجوه باستغراب.
فنزل مالك ومد يده تحت مقدمة البوابة وأخذ نفساً عميقاً واخذ يرفع البوابة حتى استقامت أمامه وحيدر تعتلي وجهه ملامح العجب من قوة والده
ثم دعا مالك حيدر ليقف بجانبه فلما وصل حيدر قال له:
بني حيدر يوماً ما ستصل لقوتي وستحمل هذه البوابة بيديك
فرد حيدر وهوَ متعجب من طول البوابة: لا اظن اني أستطيع.
فقال مالك: لن تستطيع الان ولا غداً ولا بعد عشرين عام ولكن في يومٍ ما وبعد أن تقارع الحياة وتنتصر عليها ستتمكن من رفع ما هوَ أثقل منها وستعود لرفع هذه البوابة
فصرخ مالك بصوت مهيب تقشعر له الابدان بحيدر قائلاً:
وعندها تذكر!
فأمسك مالك بمقابض البوابة بيديه وقال:
ان تمسك البوابة بيديك!
وباعد بين قدميه وقال:
وان تباعد بين قدميك!
وان تشد كل عضلة في جسمك!
وخذ أعمق نفساً وقبض عليه!
فشد مالك البوابة نحوه وقال:
وشد البوابة نحوك ونادي بأعلى صوتك!
المدد!
المدد!
فرفع مالك البوابة فوق كتفيه وهوَ ينادي بأعلى صوته:
يا علي المدد!
فأنزل حيدر يده من على البوابة وهوَ يخاطب ابنه جعفر:
وكانت هذه أول مرة اشهد فيها على قوة ابي مالك وتتالت الايام والشهادات حتى استشهاده رحمه الله.
فمد جعفر الذي اتم نصف عقده الرابع يده وحاول رفع البوابة وهوَ يقول لوالده الذي اتم نصف عقده السادس:
ان كان جدي مالك بهذه القوة كيف قتل في أرض المعركة؟
فأجابه حيدر: لم يقتل انما غدر مِن مَن كان يحميهم، حتى أقوى خلق الله يقتل ان غدر به، فمهما بلغ ابي مبلغاً من القوة الا انه يضل مخلوقاً من لحمٍ ودمٍ.
فترك جعفر البوابة وهوَ يسأل والده: من غدر به؟
فرد عليه حيدر: خالد ومن معه.
فقال جعفر متعجباً: خالد؟! ملك بابل؟!
فقال حيدر: نعم هوَ.
فقال جعفر متسائلاً: وما بينه وبين جدي ليغدر به؟
فرد عليه حيدر وقال: لنعد للمنزل الان قبل أن تغيب الشمس ونكمل حديثنا لاحقاً.
فلما وصلا منزلهما استقبلتهما رحيل زوجة حيدر ذات الشعر الاسود المموج والعينين الواسعتين البنية والحاجبان المائلان على امتداد كل عين والأنف المستقيم كحد السيف مرتفع الارنبة والبشرة الحنطية
التي أتمت ربع عقدها السادس وقالت:
اهلاً بزوجي واهلاً بمن شابه امه لوناً وشابه اباه شكلاً.
فتبسم جعفر من قول امه
فقالت له: مالك تتبسم بحياء كأنك فتاة طلبوا يدها؟
فضحك حيدر من قول رحيل بينما تتقدم جعفر وتناول يد والدته فلثمها ثم اقبل على رأسها فلثمه وقال:
أدام الله بعمركِ يا أماه.
فتبسمت رحيل وقالت وهي تمسح على رأس جعفر الذي فاقها طولاً: رضي الله عنك يا من انجبهُ رحمي.
فقال حيدر وهوَ يهم بتركهم لغسل يده: مالك تتبسمين كاليوم الذي طلبت
يدكِ فيه؟
فضحك جعفر من قول ابيه ثم أقبلت اسماء عليهم من المطبخ فقال حيدر: اهلاً بمن شابهني لوناً وشابه امه شكلاً.
فقالت اسماء: واهلاً بأبٍ نفاخر به بين الرعية.
فتركهم حيدر ليغسل يده فسلمت اسماء على اخيها وبعد أن انتهت من الترحيب به وسؤاله عن حاله امرتها رحيل بتحضير مائدة العشاء ومناداة زوجة جعفر وابنه ليشاركوهم المائدة
فلما خرجت اسماء اجلست رحيل جعفر جنبها وحضر حيدر وجلس مقابلاً لهم وأخذت رحيل بسؤال ابنها عن حاله وحال زوجته وابنه واذا ما كانت زوجته مقصرة في خدمته فما كان من الاخر الا ان يقول انهم بأحسن حال واخذ يدعوا لزوجته بدوام الصحة كونها لم تقصر في واجباتها بشيء وما ان انتهى من أمر زوجته حتى بدأ يشكو عن مصاعب الحياة وما حل به منذ أن غادر بيت امه وأكثر من الشكوة حتى قال حيدر ساخراً:
أتممت نصف عقدك الرابع والشيب قد اشتعل في رأسك وابنك اصبح بطولك وما زلت تشكو لأمك عن حالك كنت وما زلت ابن امك المدلل.
فقالت رحيل مازحة: دعه يا حيدر، دعه يشكو لأمه مصاعب حياته لعله يزيل بعض الهم عن ظهره.
فقال حيدر: يزيل الهم عن ظهره ويعلقه على ظهر امه.
فقالت رحيل: فدته امه.
فقال حيدر متنهداً: قرة عين امك أيا ليت جدك كان هنا فيرا كيف أمسى رجال نسله شكاءين كالنساء.
فقال جعفر: رحمه الله لو كان هنا لشكوتك له.
فقال حيدر: لو كان هنا لجلدنا معاً.
وما ان انتهى من قوله حتى ضحكت رحيل وجعفر وبعد أن اخذو بتجاذب اطراف الحديث والضحك على ما مر على ألسنتهم من ذكريات الماضي اقبلت عليهم اسماء ومعها هند زوجة جعفر ومالك بن جعفر
وكانت هند حسنة القول طيبة المعشر واسعة الفكر وما ان دخلت هند الى الدار حتى همت بخلع حجابها الذي كان يغطي شعرها الأسود المائل للأحمر وكانت ذات عينين ناعسين وحواجب حادة وذات انف صغير بيضاء البشرة وان اكثر ما كان يميزها وحمة امتدت من ذقنها إلى كتفها وكان مالك مشابهاً لأمهِ في الخلقِ الا انه ورث حور عيني والده وحدتهما
فما لبثَ ان دخل مالك الى الدار حتى سحبته رحيل من يده و اجلسته جنبها فأصبحت متوسطة بين ابنها جعفر وحفيدها مالك وبعد أن انتهت هند من تحية الجميع ذهبت لمساعدة اسماء في تحضير المائدة
فلما انتهوا اتخذت هند مجلساً بجانب زوجها فظل حيدر وحده جالساً أمامهم فرق قلب اسماء و اتخذت مجلسها يمين ابيها حيدر وقالت: لا مجلس احسن من مجلسك يا أبتِ.
فقال حيدر: أعيدي لعل امك تسمع.
فمالت اسماء صوب مجلس امها وقالت وهي ترفع صوتها: لا مجلس احسن من مجلسك يا أبتِ.
فقالت رحيل: ما كفتك السنين التي جالستك بها واستوحشتن في اليوم الذي تركت مجلسك لأجل ابنك وحفيدك؟
فقال حيدر: لو كان فيهما خير لما تركا مجلسي ولكن لا خير في هذا البيت الا في ابنتي.
فأخذت اسماء تحضن ذراع والدها وهي تنظر لأمها قاصدة إثارة غيرتها
فأخذوا بتناول عشاءهم الذي لم يخلو من الضحكات بسبب المشاحنات التي كان يبدها حيدر تارة و اسماء تارة اخرى بقصد مجاكرة رحيل فلما انتهوا و نهضت النسوة لغسل الأطباق سأل جعفر ابيه وقال: والان هل ستخبرني ما بين خالد وجدي ليغدر به؟
فقال مالك متعجباً: أجدي مالك مات مغدوراً؟!
فأمرهما حيدر ان يجلسا أمامها جلسة العبد وأمر النسوة بعدم استراق
السمع لهم واخذ يقص عليهم ما يعرف وقال بصوت هادئ: لم أكن اعرف في بادئ الأمر أن ابي مالك قد غدر وجل ماكنت اعرفه من اخي
حسن انه قتل مع والد خالد في معركة حدثت في البصرة.
جعفر متسائلاً: أكان عمي حسن معهم؟
حيدر: لم يكن، حسن ضل في بابل يداري شؤون الرعية في غياب مالك والملك كامل اب خالد و خالد، وانا كنت في بغداد وقتها لان ابي ارسلني لأدرس في مكتبتها.
جعفر: قد ارسلك جدي عندما بلغت السادس عشر من عمرك لمكتبة بغداد وانت ارسلتني عندما بلغت السابع عشر.
فالتفت نحو ابنه مالك وقال: وانت متى ستذهب لها؟
رد مالك وهوَ ينزل رأسه احتراماً: عندما يأذن لي جدي.
فقال جعفر لحيدر: ومتى تأذن له؟
فرد الاخر: أذن له عندما يحين وقته والان ليس وقته، لنعد لموضوعنا بعد أن قتل مالك والملك كامل وعاد خالد ومعه بعض الحرس وعندما علم اهل بابل بما حدث اكتست بابل بالسواد حزناً على المصاب وتفرقت الجيوش التي كانت تحت إمارة مالك تاركين بابل عائدين لأراضيهم فلم يضل في بابل غير سكانها والباقي من جنودها وماتت امي عبير حزناً على فراق ابي فكان مصاب اخي حسن عظيم آنذاك إذ انه وبعد أن انتهى من دفن ابي دفن امي بعده وبنفس اليوم وبعدها بأيام نصب خالد مكان والده في الحكم وأرادوا تنصيب حسن مكان ابي لكنه غادر بابل حزناً قبل أن يتم التنصيب إذ انه لم يبقى له في هذه الأرض من قريب ولا يرى فيها غير الذكريات المحزنة ومات كل ما كان يربطه في هذه الارض.
واردف حيدر قائلاً: فلما غادرها اتجه لبغداد وفور وصوله زارني في المكتبة فلم أرى في وجهه الا اثار كدر الحياة فسألته عن ما به وسبب زيارته فاخذ يقص علي ماحدث إذ لم أكن اعرف قبل مجيئه عن موت ابي وبعد أن انتهى اخذت اجهش في البكاء فعزاني وطلبت منه البقاء في
بغداد معي الا انه رفض وسافر في نفس اليوم إلى سامراء.
فقال جعفر: ولكنه لم يخبرك عن غدر مالك فكيف عرفت؟
فأجابه حيدر: بعد سنين عدت لبابل مع امك وما ان عرفوا من اكون حتى ترامت الناس علي واخذو يحتفلون بعودتي وسلمني خالد منصب ابي فخلفته وكنت خير الخلف وبسبب تسلمي المنصب كنت كثير العروج للقصر الملكي سواء اكنا في النهار ام في الليل وقد رأيت الحال المزرية التي كان فيها القصر بعد تسلم خالد الحكم .
فأردف قائلاً: فكيف يكون حال القصر أن كان سيده كثير السكر؟ وكيف يكون حال الرعية وراعيها سكير ظالم؟
فقال جعفر: صدقت.
ثم قال حيدر: وفي احدى الايام كان علي اعطاء تقرير لخالد عن حال الرعية وحال الجيش وغيره من الأمور كما اعتدت كل يوم فدخلت عليه وهو فيَ سكرته وحوله الجاريات ففزعن وأخذنا بالهرب فور رؤيتي واخذ خالد في شتمي ولعني لخروج النسوة بسببي واخذ يقول انه لولا رغوب الناس بي لقتلني فور وصولي لبابل كما قتل مالك من قبل فصعقت من قوله فأخذت احدى جرار الخمر وجلست جنبه اسقيه حتى ثمل اكثر وجعلته يقص علي ما فعل وكيف غدر بمالك ومن عاونه على الامر بالتفصيل فلم اتمالك نفسي ولطمته على وجهه لطمة افقدته وعيه فجثوت على صدره واطبقت على عنقه فهممت بخنقه راغباً قتله الا اني تذكرت ما قاله لي ابي في صغري من وصايا فتركته وغادرت المكان غاضباً.
فقال جعفر بانزعاج: ولكن جدي اوصاك أن لا ترضى بظالم!
فرد حيدر: واوصاني أن أكون خير حامي لشعبي وخير محسن للناس وبقتلي خالد حينها كنت سأظلم الجميع ونحن أبناء مالك لا نرضى الظلم لاحد فلو قتلته لعمت الفوضى ببابل ولقتل الناس بعظهم بعضاً ونهبت الأسواق وسبيت النساء فمهما كان خالد ظالماً الا ان وجوه ذو اهمية لاستقرار الشعب ولا تنسى أن الشعب لم يرضوا بقتلي له وهم لا
يعرفون ما صنع فلو قتلته لقتلت بعده.
فسكت جعفر وقال مالك: هل تنوي التنازل عن ثأرك يا جدي؟
فقال حيدر: كلا ولكن لن اخذ به الآن فمازال الوقت مبكراً وليس لدي من يعينني على ذلك.
ثم قال حيدر: والان يا جعفر أخبرني ماذا تصنع من وراء ظهري؟
فقال جعفر بتوتر: لا شيء يا ابتِ.
فنادى حيدر هند فدخلت عليهم وقالت وهي تحني رأسها: امرك يا عمي.
فقال لها حيدر: اصدقيني القول يا ابنة جياد ماذا يصنع جعفر؟
فسكتت هند وهيَ تنظر لجعفر وقد تغير لونه خوفاً وهوَ يراقبها فهمت بالقول: انه يخطط مع جمع من أصحابه للانقلاب على حكم خالد
فقال جعفر بانفعال: كذبت! كذبت وحق البتار!
فصرخ به حيدر صرخة هزت أركان البيت: اخرس لعنتك ملائكة السماء!
فانزل جعفر رأسه خوفاً فأخذ حيدر يقول مهدداً: أن مسستم خالد ولو بخدش فإني قاتلك وقاتل اصحابك!
فقال جعفر: ليس خالد الا بظالم.
فقال حيدر: وبقتلك له تظلم الناس جميعاً!
فرفع جعفر رأسه وقال بحزن: وثأر جدي؟
فصرخ به حيدر: ثأر جدك انا وعمك اولى به!
فعم الصمت المكان حتى هدأ حيدر وقال: أن انقلبت عليه فمصيرك الهزيمة لا محال فمهما بلغت قوتكم فجيش خالد اقوى واهل بابل وان وقفو معك فإنهم في أول هجمة سيولون هاربين خوفاً على مصالحهم وأهلهم.
ثم أمر حيدر جعفر بأن ينسى هذا الأمر الان وان لا يأتي بأي فعل دون اذنه ثم استأذن جعفر وأهله وخرجوا من الدار عائدين إلى ديارهم
وبعدها لمح حيدر زوجته وابنته وهم مختبئين خلف الباب خوفاً من سخطه فأشار لابنته بالاقتراب فما أن رأت اشارته حتى ارتمت لأحضانه
ثم اقتربت رحيل وجلست جنب حيدر فقال حيدر: لا تسألي عن سبب صراخي على ابنك.
فقالت رحيل: لن أسألك عنه فهناك موضوع اهم.
فنظر حيدر نحوها وقال باستغراب: ما هوَ؟
فقالت رحيل: يا أبا جعفر اتعلم من زارني اليوم؟
فقال: من؟
فقالت: زارتني حسناء زوجة كاظم امين الخزنة.
فقال: وما سبب زيارتها .
قالت: جاءت طالبة يد اسماء لابنها قادر.
فقال وهوَ يمسح على لحيته الي تخلخلها الشيب: قادر بن كاظم امين الخزنة لم أرى منهم إلا كل خير.
فقالت وقد ابتسمت ابتسامة اظهرت بياض أسنانها:
ما رأيك؟ نوافق عليه؟
فقال: وانتِ ماريك؟
فردت: رأيي من رأيك.
فنظر صوب اسماء وقال: أتعرفينه؟
فقالت بخجل: رأيته مرة يجمع الضرائب عندما كنا في سوق الاقمشة
فقال: وما رأيك؟
فأنزلت رأسها وقد احمرت وجناتها خجلاً: رأيي من رأيك.
فقال مازحاً: اذاً لست موافقاً.
فقالت رحيل بعد أن اختفت الابتسامة من محياها: اعتق اسماء يا أبا جعفر! قد بلغت الثلاثين من عمرها ومازالت جليسة دارك!
فقال: حتى لو بلغت التسعين فهي كالبلسم على قلبي ولن اعطيها الا لشخص يستحق.
فضحكت اسماء بعد أن فهمت مزاح ابيها
فقالت رحيل بانفعال وقد وضعت يديها على رأسها: انها تضحك يا ربي بأي بلوة بلوتني ما أسوء من الاب الا ابنته يا أبا جعفر أن تخطت الثلاثين لن يرغب بها احد.
فسئل حيدر اسماء: أتريدينه؟
فقالت: أن كنت ترضى به فنعم.
فقال: سأخبر والده غداً بموافقتنا.
فقالت رحيل: خير ما تصنع فقد تأخر نصيب ابنتك كثيراً.
واردفت قائلة: لو لم تكن منغمسة في الأدب العربي لما تأخرت لهذا الحد فهي كالبدر يراها الناس بالشهر مرة.
فردت اسماء مازحة مقتبسه من ابي الطيب المتنبي:
يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ
فضحك حيدر من قول ابنته بينما تجهم وجه رحيل وقالت: إذا رأيت نيوب الليث بارزةً فلا تظنن أن الليث يبتسمُ.
فقالت اسماء: ما خلتك تحفظين اشعاراً!
فقالت رحيل: تكرارك لها اصدعني حتى حفظتها.
وفي اليوم التالي خرج حيدر من بيته قاصداً القصر فمر كعادته من سوق الحدادين وعرج على حداد طاعن في السن كان يجلس على كرسي في احد ازقة السوق امام ورشته وصبيه يطرق على الحديد ويشكله
فوقف أمامه حيدر وقال: السلام على خير الحدادين.
فرد عليه الحداد دون أن ينظر له: وعليك السلام يا مذل اسم ابيك.
ثم نظر الحداد تجاه خصر حيدر وقال: لم يكن والدك يخرج من بيته الا وعلق البتار على خصره فمالك تسير بدون سيفك كأنك امرأة؟
فقال حيدر وهوَ يهم لمغدرتهم: لم يحن وقته يا عم رفاعة.
فقال عم رفاعة: مضت ثمانية وثلاثين عام فمتى سيحين وقته؟
فاكمل حيدر طريقه ماراً ببرج بابل الذي توسط المدينة ثم واصل طريقه حتى القصر فسلم على الحرس الذين اخفضوا رؤوسهم احتراماً له وفتحوا له بوابة القصر فدخل منها حيدر وسئل احد الموجودين عن كاظم امين الخزنة
فأجابه انه وابنه وصلوا قبل ساعة وهم الان في مكتبهم يحصون
ضرائب التجار
فشكره حيدر وذهب لمكتب كاظم وما ان دخل حتى وجده وابنه ومعهم جمع من العاملين فتورد وجه قادر فور رأيته فأمر كاظم ابنه والعاملين بالانصراف واستقبل حيدر بأشد الترحيب وبعد أن جلس الاثنان وتبادلا السؤال عن الاحوال سأل كاظم حيدر:
يا أبا جعفر ما جئتني الا لأجل ذلك الموضوع فما قولك به؟
فأثار حيدر السكوت ثم قال: يا أبا قادر ما عرفت منك من يوم عرفتك الا كل خير وما رأيت من ابنك زلة كنت خير صاحب وخير امين لأموال الناس.
ثم اردف قائلاً: وما عرفت لابنتي زوجاً خير من ابنك.
فتهلهل وجه كاظم واراد أن ينادي ابنه فمنع حيدر وقال: اريد الاتفاق معك على بعض الأمور قبل أن تخبره.
فقال كاظم: موافق عليها قبل أن تقولها.
فضحك حيدر وقال: اذاً مباركاً لهما.
فنادى كاظم ابنه فلما دخل اخبره بالبشارة فحمر خجلاً وانزل رأسه ولم يعرف ماذا يقول
فقال حيدر مازحاً: مالك تخجل كالنسوة؟ انت من طلب يدها وليست هي!
فضحك كاظم على قول حيدر ثم امر ابنه بالجلوس معهم واردف قائلاً: يا أبا جعفر متى سيكون عرسهما؟
فأجابه حيدر: الخميس.
فقال كاظم متعجباً: الخميس؟ أليس قريباً جداً فما بيننا وبينه الا ثلاث ايام.
فقال حيدر: اخبرتك اني اريد الاتفاق معك الا انك وافقت قبل ان اقول شيء فتحمل ثمن استعجالك.
فقال قادر لأبيه: ليست بمشكلة يا أبتي ولكن اريد ان اعرف سبب الاستعجال.
فقال كاظم: نعم ما السبب؟
فأجاب حيدر: أمرني خالد بالسفر إلى البصرة يوم السبت وأريد الاطمئنان على ابنتي قبل سفري فالله وحده يعلم متى سأعود .
فقال كاظم: لك هذا اذاً الخميس ليكن الخميس.
ولما حل المساء اجتمع جعفر بأصحابه في داره واخذوا يناقشون مصير انقلابهم وقص عليهم ما عرفه عن ثأر جده فقال أدهم وهو رجل قصير القامة اسود البشرة: يجب علينا إنهاء حكم خالد اليوم قبل الغد فلم نرى من حكمه الا الظلم والإهانة.
فرد عليه زلعف وهوَ رجل طول القامة حنطي البشرة أخضر العينين: لأعرف عن أي مهانة تتكلم فإن من يداري احاول الرعية العم حيدر.
فقال آخر يقال له ادعج وهوَ شاب مفتول العضل ابيض البشرة اسود الشعر: العم حيدر لم يقصر في شيء ولكن خالد لم نرى منه خير طيلة فترة حكمه فإما أن نراه خارج شرفته وهوَ في سكره يلعن هذا و يشتم هذا أو يشير على مرأة فيستحلها فيخرج الحرس لأخذها او يسجن هذا او يعذب هذا لأجل تسلية نفسه ومالنا الا التعلق بعباءة العم حيدر ليخرج من استحلها من قصره او ينهي عذاب من يعذبه او يخرج من السجن من سجن بغير ذنب.
فوافقا اثنان اخران كانا يجلسان في زوايا المجلس
ثم اتجهت الانظار صوب جعفر الذي دل ساكتاً يحدق فيهم ثم قال: قد علم ابي بما نخطط واقسم بقتلنا أن قمنا بشيء.
فشحبت وجوه من بالمجلس
ثم اضاف قائلاً: وأمرني أن لا نفعل شيء بدون اذنه.
فقال أدهم بانفعال: أستترك القيام يا جعفر!
فرد عليه ادعج: المن تسمع ما قاله؟ العم حيدر اقسم بقتلنا!
فقال جعفر: لن نترك قيامنا ولكن سننتظر سفر ابي فانه مسافر السبت ولن يعود في وقت مبكر.
فقال ادعج: أستخالف أمر والدك؟
فقال جعفر: والدي ينوي الانتظار إلى اجلاً غير مسمى حتى يأخذ بثأره و انا لا انوي ذلك خصيصاً ونحن لنا من الاعوان ما يمكننا من الانقلاب على خالد.
فتبسمت الوجوه وعادو لمناقشة قيامهم حتى دق الباب ودخل عليهم مالك وقال: يا أبتِ قد جاء جدي.
فشحبت الوجوه ذعراً ولما دخل حيدر قام الجميع احتراماً الا أدهم
فقال حيدر: السلام عليكم.
فرد الجميع السلام الا أدهم الذي قال مستهزأ: ماذا جاء بمذل اسم ابيه.
فنظر المجلس بخوف إلى حيدر الا جعفر الذي تقدم وامسك أدهم من تلابيبه فرفعه فقال له حيدر:
اتركه يا جعفر.
فتقدم ادعج بضع خطوات واخذ يطلب من حيدر العفو والتجاوز عن ما قاله أدهم فرد عليه حيدر: لابأس حصلَ خير.
واضاف قائلاً: انصرفوا الان فأني اريد ابني بموضوع.
فلما تقدم الجميع للخروج ومر أدهم من يمين حيدر الذي استمر بالنظر
أمامه
أطبق حيدر بيده اليمنى على رقبة أدهم ورفعه امامه حتى صار ينظر في عينه وادهم يحاول فك يد حيدر بكلتا يديه و يستنجد بأدعج والبقية
الذين يراقبونه بخوف فقال حيدر بنبرة ساخطة ارتجف لها جميع الحاضرين:
ألم اقل لك يا جعفر أن تترك هذا الأمر! لما تحاول الاستمرار به! أتظن انك بقوة جدك لتصارع حكماً كاملاً ومعك بعض النسوة!
وراح مالك بن جعفر يهز رجل حيدر ويتوسل به ليدع أدهم الذي اقترب من لفظ اخر انفاسه، فصرخ بالبقية ليعاونوه فركض الجميع تجاه حيدر وراحوا يهزوه ويطلبون العفو منه إلا أنه لم يتحرك قيد النملة ولم يلقي لهم بال ثم قال بسخط موجهاً كلامه لجعفر: أن لم تعدل عن هذا الامر
الان قتلت صاحبك!
فراح الجميع يتوسلون بجعفر الذي وقف صامتاً امام ابيه ليترك هذا الأمر
فنزل جعفر على ركبتيه وراح يطلب الصفح من ابيه وانه لن يعود لهذا الأمر
فقال حيدر بسخط موجهاً كلامه للبقية: و انتم؟!
فخر الجميع على اقدامهم يقلدون ما قاله جعفر
فافلت حيدر عنق أدهم الذي سقط فوراً على عجزه وهوَ يتنفس الصعداء ويتحسس رقبته فحمل الجميع أدهم وخرجوا من المكان بسرعة الا جعفر الذي ضل جالساً ومالك الذي مازال متعلقاً برجل جده
ثم قال حيدر وهوَ ينظر بطرف عينه للخلف: مجموعة نسوة لم يقوّ على الوقوف أمامي وانا حتى لا احمل سكين مطبخ.
ثم أعاد نظره لجعفر وقال: فكيف تخالهم قادرين على الوقوف امام جيشاً كامل؟
فقال جعفر: لم اخالهم بهذا الضعف.
فنظر حيدر لحفيده المرعوب وهوَ متشبث برجله فمسح على رأسه وقال:
ان كنت لا تفكر بنفسك ففكر بابنك وزوجتك ان قتلت ماذا سيحل بهم؟
فسكت جعفر وانزل رأسه للأرض دون جواب.
فأمر حيدر حفيده بأن ينادي امه فذهب وجلس حيدر في صدر المجلس
وامر جعفر أن يجلس أمامه ففعل فلما أقبلت هند أمرها بالجلوس فجلست جنب زوجها وجلس مالك جنب جده
فأخذ حيدر نفس عميق ثم قال: قد خطب قادر بن كاظم امين الخزنة
اختك اسماء اليوم وقد وافقنا عليه.
فقال جعفر بتعجب: بدون ان تأخذوا رأي!
فقال حيدر: وما شأنك انت لنأخذ رأيك؟ امها انت ام ابيها؟ وايضاً كيف أخذ برأيك وانت طول وقتك مع هؤلاء النسوة تخطط لانقلاب فاشل.
فسكت جعفر منزعجاً من قول ابيه فقالت هند لتهدأ من حدة الموقف:
ومتى سيكون عرسها يا عمي؟
فسكت قليلاً ثم قال: هذا الخميس.
ففتح هند فمها بتعجب فقال جعفر: جعلته الخميس لأنك مسافر السبت أليس كذلك؟
فأجابه: نعم.
فقال جعفر: خير ما فعلت.
ثم قال مالك: هل هذا يعني اننا لن نرى عمتي بعد الان؟
فتبسم حيدر مسح على رأس مالك وقال: صدقني ستراها اكثر فأن نسلي كثيرين الشكوة لأهلهم.
فضحك جعفر ضحكة خفيفة من قول حيدر وهند مستغربة من فعله
ثم قال حيدر: يا جعفر اريدك أن تنشغل في ترتيبات عرس اختك وان لا تفكر بشيء غيره وان تظل مع امك واختك طيلة هذه الأيام لتحضر لهم كل ما يحتاجون .
فأنزل جعفر رأسه وقال: سمعاً وطاعة.
ثم قال حيدر لهند: وانت ايضاً أريدك أن تبقي معهم
فأومئت رأسها بالموافقة
ثم قال لمالك: وانت اريدك ان تظل معي
ففرح مالك من قول جده واخذ يشكره ويقبل يده ورأسه
وفي صباح اليوم التالي عرج حيدر على دار ابنه فوجد مالك ينتظره امام الدار فأخذه وراح حيدر يسير في ارجاء السوق وخلفه مالك يحمل عصى وجدها بالطريق ويعاملها معاملة السيف ثم لاحظ شيء ملفوف بقطعة قماش كان يحملها جده فتقرب منه وسأله: يا جدي ما الذي تحمله
بيدك؟
فقال له: ستعرف بعد قليل.
واردف قائلاً وانت ماذا تحمل؟
فقال مالك: وهوَ يلوح العصى في الهواء: أليس هذا واضحاً انه سيفي!
فتبسم حيدر وراح يمسح على رأس مالك وهوَ يقول: اتريد سيفاً؟
فنظر إلى جده بصمت ثم قال: نعم.
فقال حيدر وقد ابتسم ابتسامة اظهرت أسنانه: لك هذا.
فدخل الاثنان سوق الحدادين وعرجوا على عم رفاعة الذي كان جالساً على كرسي امام ورشته فقال حيدر: السلام على خير الحدادين.
فرد عليه رفاعة: وعليك السلام يا مذل اسم ابيك.
فنظر رفاعة ليد حيدر وقال: ماذا تحمل؟
فأخرج حيدر من القماش سيفه واعطاه لرفاعة
فتسلمه رفاعة وأخرجه من غمده ليظهر سيف نقش عليه المختار فأعاده إلى غمده ورماه تجاه صبيه عابس الذي تلقاه فقال عم رفاعة: أقسمت الا أحدَ سيف احداً قبل البتار.
ثم توجه نظر رفاعة تجاه مالك الذي يراقب الوضع بصمت وقال:
والصبي هذا ابن من؟
فقال حيدر: انه حفيدي مالك.
فقال رفاعة وهوَ يمسح على لحيته: اسمه على اسم جده ارجو الا يذل اسمه كما فعل جده.
ثم اردف قائلاً: في عينيه لعمة شخص لديه طلب فماذا يريد؟
فجذبه حيدر تجاهه ووضع يده على كتفه وقال: سيفاً، يريد ان تصنع له سيفاً.
فرفض رفاعة وأشار لهم بالرحيل
فقال حيدر: رضيت بصبيك حداداً لسيفي ولكن لن ارضى بغيرك صانعاً لسيف حفيدي .
واردف قائلاً: يا عم انسيت ما بينك وبين ابي من عهد؟
فقال رفاعة متنهداً: وكيف انساه وهوَ ما حملني على البقاء في بابل.
فنهض رفاعة من مكانه ودخل ورشاه وأخرج سيفاً لا ينقصه الا بعض اللمسات فرفعه امامه وقال: هذا السيف قد اعددته منذ مولد حفيدك.
ثم اخذ يصهره وبعد ان صهره قليلاً شمر عن ساعديه وأخرجه من اللهب واخذ يطرقه وهوَ يقول لمالك:
نقش على سيف مالك البتار وعلى سيف حسن المقدام وعلى سيف حيدر المختار وعلى سيف جعفر الفاروق وانت ماذا ستنقش على سيفك؟
فصمت مالك ونظر إلى عيني جده وبعدها قال:
العادل!
فتبسم رفاعة وقال: البتار الذي بتر الظلم والباطل والمقدام الذي اقدم على نشر الحق والمختار الذي اختار الإنصاف على الظلم والفاروق الذي سيفرق بين اهل الحق والباطل والان العادل الذي سيعدل كفة الحق على الباطل.
ففرح مالك من قول العم في حق سيفه
فلما حل المساء سار الاثنان عائدين إلى ديارهم وكان مالك كثيراً ما يخرج سيفه من غمده ليتأمله ثم سأل جده: متى استخدمه؟
فقال له حيدر: حينما يحين الوقت.
فقال مالك؛ ومتى يحين؟
فسكت عنه حيدر ثم قال: هل تريد تجربته الان؟
ابتسمت أفتى ابتسامة حتى كادت شفتاه تتقطع ثم قال: اجل!
فابتعد حيدر عنه وأخرج سيفه المختار من غمده وقال بحماس: هاجمني باقو ما عندك!
فسكت الصبي ثم أعاد سيفه لغمده واكمل طريقه وهوَ يقول: سأجربه عندما يحين الوقت.
فضحك حيدر من فعل حفيده وأعاد سيفه لغمده واكمل السير معه
فلما وصلوا ديارهم راءاهم جعفر وقد كان يحمل البضائع التي اشترتها امه فلما رأى السيف على خصر مالك قال: ما هذا يا فتى؟
فرد مالك بحماس: انه العادل!
فقال جعفر متسائلاً: العادل؟
فقال حيدر وهوَ يأخذ الأغراض من يد ابنه: انه سيفه قد حصل عليه اليوم وقد سماء العادل.
حمل حيدر الأغراض ودخل البيت وترك جعفر ومالك وحدهما
فجثى جعفر على ركبته حتى صار بطول مالك وقال: هل صنعه لك عم رفاعة بأمر جدك؟
فأومئ مالك رأسه ايجاباً
فزفر جعفر متنهداً ثم قال: هذا يعني انه سيرسلك قريباً لبغداد .
ثم اردف قائلاً: اعطني السيف.
فقال مالك: لما؟
فقال: نحن بصدد عرس لا حرب وايضاً ولن اسمح لك بحمل سيف قبل أن تتعلم استخدامه.
فد جعفر يده وقال: والان اعطني السيف.
فهم مالك بنزع سيفه وسلمه لأبيه وقال: سمعاً وطاعة يا أبتِ.
فأخذ جعفر السيف وأمره بالدخول للدار ودخل خلفه فلما دخلوا سحبت النسوة يد مالك واخذوه فتركهم جعفر وتوجه لمجلس الضيوف وكان والده جالساً وحده فيه
فقال حيدر: أراك أخذته منه.
فعلق جعفر السيف جنب سيف جده البتار وسيف ابيه المختار وقال: أخشى أن يؤذي نفسه او يؤذي غيره.
فقال حيدر: ولم تخشى عليه وعلى غيره يوم فكرت بالانقلاب.
فسكت جعفر ولم يرد وهم بمغادر مجلس ابيه فظل حيدر وحده يتأمل سيف ابيه البتار ثم قال: اليوم وغداً يا خالد اليوم وغداً.
ومضت الايام وأقيم عرس اسماء وقادر وكان عرس لم تشهد بابل له من مثيل واقيمت مأدبة امتدت من بوابة بابل الى القصر الملكي حضرها جميع أهالي بابل الا ادعج الذي تعذر بالمرض ولم يحضر وادهم الذي
لم يره احد وبينما كان كلٌ يأكلُ من رزقه فتح باب القصر ليخرج منه موكب من الحرف فتوجهت جميع الانظار فوراً نحو الموكب فكانوا يحملون على اكتافهم عرشاً سياراً يتربع عليه خالد ببشرته السمراء وعينيه الصفراويتين وشعره الاسود الكثيف وانفه المستقيم فكه الحاد واضعاً خده على قبضةِ يده مرتدياً إزار يغطي جزئه السفلي كاشفاً عن جزئه العلوي ومرتدياً قلادة ضخمة من ذهب تغطي جزءاً من ظهره واكتافه وتصل حتى بداية صدره المفتول كأنها قطعة من درع محارب واضعاً معضد من ذهب على عضديه وساعديه كأنه احد الفراعنة، ومضى الموكب خارج القصر حتى وقفوا على مقربة من حيدر وانزلوا العرش السيار على الأرض بينما تقدم جعفر ووقف خلف والده فلما استقر العرش على الأرض نهض خالد من عرشه واستقام بقامته وسار حتى وقف امام حيدر الذي كان بنفس طوله فعم الصمت المكان فنظر خالد نحو جعفر الذي انتفض جسده فوراً ثم أعاد نظره نحو حيدر الذي لم يبدي اي رد فعل من حضوره فمد خالد يده لحيدر فنظر حيدر نحو يده ثم أعاد نظره نحو وجه خالد الذي قال بهدوء: ما بك؟ الن تصافحني يا أبا جعفر؟
فصافحه حيدر وهو يقول: لا ولكن ما عهدتك تخرج من قصرك لتحظر زفاف أحدهم.
فقال خالد: هذا ليس زفاف اي احد انه زفاف ابنة مستشاري وابن وزير مالي
فقال حيدر: مالك ام مال الناس؟
فتجاهل خالد سؤاله واردف قائلاً: على اي حال مبارك لك يا أبا جعفر.
فلما انتهى من مصافحة حيدر تستدار وعاد ليجلس على عرشه السيار فحمله الحرس وعادو به للقصر
فقال جعفر لأبيه: يا أبا ما اضن ان لمجيئه خير.
فرد عليه حيدر: لم يأتي الا ليتفحصك فخذ حذرك
فقال جعفر متسائلاً: ماذا تقصد؟
فرد عليه: قد خانك احد صديقيك.
فقال جعفر: إني ائتمن ادعج على نفسي مثلما تأتمن معتصم على نفسك.
فقال حيدر: اذاً انه القصير.
فسأله جعفر: ماذا يجب أن أفعل؟
فأجابه: لا شيء، ابقى ساكناً ولا تحدث اي مشاكل وقصرُ الشرك هذا لن يمسك بسوء فهم يخافون من كسر عهد جدك.
فقال جعفر: قد كسروه منذ زمن.
فنظر له حيدر وقال: ولكن ليس امام الناس.
فمضى حيدر جنبه وربت على كتفه وقال: دعك من هذا الأمر الان وركز على اتمام هذا الزفاف على أتم خير.
واكمل حيدر طريقه تاركاً جعفر الذي التمعت عينيه كأنه وجد حلاً كان يبحث عنه منذ زمن وقال بصوت خافت وهوَ ينظر إلى الأرض ويده على فمه ويتحرك يميناً ويساراً: عهد مالك، عهد مالك!، نعم نعم! عهد مالك كيف غاب هذا الأمر عن بالي؟
ثم نظر نحو القصر الملكي وقال: عهد مالك اذاً.
ثم اردف قائلاً :والله لأجعلنكم قصتاً تروى بين العرب جميعاً.
ومضى العرس وانتهى على اتم خير وعاد كلٌ إلى دارهِ وانتقلت أسماء إلى دار زوجها ومضى بعدها يوم الجمعة واشرق فجر السبت وكان الصمت يعم جميع ارجاء بابل وما كان هناك أحد غير حيدر الذي خرج من داره حاملاً سيفه المختار على خصره ودرعه على ظهره مودعاً زوجته فقالت: سأشتاق لك.
فقال حيدر: ادعي لعودتي سالماً.
فقالت رحيل: الن تشتاق لي ايضاً.
فقال حيدر: انا مشتاق منذ الان.
ثم مضى في طريقه حتى وصل بوابة بابل التي كان يدفعها عشرين حارس على كل جانب لفتحها للتجار فوجد عندها ابنه جعفر الذي كان ينتظره وهوَ يمسك بلجام فرس حيدر فمضى حيدر نحوهما فلما وصل اخذ يتحسس بطن الفرس الادهم ويمسح على غرته البيضاء بيده الآخرة وهوَ يقول: هذا فرسي الادهم انه من نسل فرس جدك.
فقال جعفر وهوَ يسلم اللجام لأبيه: جميع احصنتنا من نسله
فاخذ حيدر اللجام من ابنه وامتطى صهوة الفرس وقال وهوَ يتقدم به نحوَ البوابة: لا خير في حصان ليس من نسل من خادم مالك.
فقال جعفر مودعاً: رافقت السلامة يا أبتِ.
فأسدل حيدر لثامه الاسود على فمه واخذ يزيد من سرعة الفرس رويداً رويداً حتى خرج بأقصى سرعته من البوابة وما ان اختفى في الافق حتى استدار جعفر وسار بعجل نحو بيت ادعج ولما وصل اخذ يطرق بابه بقوة بقبضة يده وهوَ ينادي باسمه اكثر من مرة حتى فتح ادعج الباب فدفعه جعفر إلى الداخل فسقط ادعج على الارض ثم دخل جعفر إلى الدار وأغلق الباب خلفه فقال ادعج وهوَ يتألم: ما بك! هدمت الدار على رأسي من الصباح!
ثم نهض عن الارض ونكت ثيابه ثم قال: وكيف تدخل دون أن اسمح لك؟
فقال جعفر: كأنك تسكن مع احد لتخشى دخولي فلا احد في دارك غيرك وغير جرذانك.
فقال ادعج مستنكراً: ليس في داري جرذان!
فال جعفر: لعلك اكلتهم وانت نائم.
فقال ادعج بعد أن أطال النظر لجعفر: اكتم ما جئت به إلى أن نفطر.
ثم اتجه نحو مطبخه وقال: سأبدأ بتجهيز فطورنا اما انت فتخذ مجلساً لك مع الجرذان.
فقال جعفر بعد أن جلس على الأرض: لكثرة جرذانك أخشى أن يكون
افطارنا جرذ مسلوق.
فقال ادعج: يجب عليك أن تخشى أن يكون فطورنا لسانك السليط.
فضحك جعفر من قوله بينما بدأ ادعج بإعداد الفطور وبعد أن انتهى ووضعه امام جعفر وبدأ الاثنان بتناول الطعام سأل جعفر ادعج بعد أن بلع اللقمة التي في فمه وقال: لما ادعيت المرض ولم تحظر للزفاف؟
فقال ادعج: ألهذا داهمت منزلي؟ لتسألني عن سبب تغيبي؟ اخبرتك اني كنت مريضاً!
فقال جعفر: اني اعرفك أكثر من نفسك فلا تحاول الكذب علي.
فلم يرد ادعج واكمل تناول طعامه فقال جعفر بعد أن وضع لقمة في فمه وابتلعها: لن احاسبك عن سبب تغيبك فهذا الأمر يخصك
واكمل قائلاً بعد أن أسند ظهره للجدار: انما جئتك بطلب
فبتلع ادعج لقمته وقال: ما هو؟
فقال جعفر: القيام.
فقال ادعج متسائلاً بعد أن أسند ضهره للجدار هوَ الاخر: اي قيام؟ اتقصد قيام الساعة؟
فأجاب جعفر: الانقلاب قررت أن اسميه القيام.
فقال ادعج مستغرباً من كلامه: ألم تعد ابيك أن تترك هذا الأمر؟
فقال جعفر: كنت باراً مطيعاً له طيلة حياتي فلا مشكلة ان عصيته هذه المرة.
فقال ادعج: انت تدرك ان قيامناً سيفشل.
فقال جعفر: ومن قال اني اريده ان ينجح؟
واردف قائلاً: وقل قيامكم فهوَ ليس قيامك.
فقال ادعج مستغرباً: ولما ليس قيامي؟
فقال جعفر: اني أدرك أن هذا القيام نهايته الفشل وادرك أن عند أول صيحة من جنود خالد سيفر الجميع هاربين تاركيني وحدي وادرك أن قيامناً فشل منذ ان فكرنا به لان أدهم خاننا وادرك أن بسبب خيانته اصبح خالد يترصد كل تحركاتي وهوً مستعد لهزيمتي متى ما بدأت هذا
القيام ولكني والله وبالله تالله ما عدت اريد بهذا القيام تغير شيء انما سأبده لأعطي عذراً لأبي امام الناس ليأخذ بثأره ويصلح حال هذه الأمة.
ثم اردف قائلاً: فيا ادعج يستحيل أن تتحقق رغبتنا في الأصلح بهذا القيام على يدي انما ستحقق على يد حامل المختار وانا سيفي الفارق لا المختار
فقال ادعج باندهاش: خاننا ادهم!
فأومئ جعفر رأسه بالإيجاب
فقال ادعج: لعن الله هذا القزم الاسود.
واضاف قائلاً: وكيف ستعطي عذراً لأبيك امام الناس أن كنت ستقتل
بتهمة الخيانة؟
فقال جعفر: قتلي هوَ عذره.
فقال ادعج متسائلاً: كيف هذا؟
فقال جعفر: عندما بايع جدي مالك الملك كامل كان نص بيعته (بايعتك
ونسلي بالسمع والطاعة في السلم والحرب نأتمر بأمرك وأمر نسلك من بعدك وسكون خير سيفاً لكم وخير ودرعاً لكم على أن لا تمسو احداً منا فأن فعلتم فضت بيعتنا وكنا أبغض عدواً لكم)
فمعنى هذا أن جدي وضع شرطاً لفض البيعة الا وهي أن يقتلوا احد منا
فقال ادعج: ولكنهم قتلوا جدك قبلاً لما لم يفض ابوك البيعة؟
فقال جعفر: لان لاحد من عوام الناس يعرف انهم قتلوا جدي ولهذا السبب لا يمكن أن يطبق ابي شرط ابيه ويفض البيعة ولو فعل لنقلب الجميع عليه وقتلوه بتهمة الخيانة.
فقال ادعج: وانت تريد أن يقتلوك لكي يتحقق الشرط وتفض البيعة ويصبح ابوك أبغض عدواً لهم.
فقال جعفر: اجل اريدهم ان يكسروا العهد امام الناس.
فقال ادعج: ولما قلت انه قيامكم وليس قيامي؟
فقال جعفر: لأني اريد أن اطلب منك إلا تكون فيه.
فقال ادعج مستنكراً: أتريدني أن اتركك وحدك؟!
فقال جعفر: يا ادعج أن بقائك معنا وموتك يعني فشل المغزى من قيامنا
لهذا اريد امنك أن تذهب الى البصرة وتخبر ابي بأن القيام قد فشل وأنهم سيقطعون رقبتي، فأن مت معنا سيعطي هذا الأمر وقتاً لخالد لتجهيز جيش وارساله إلى البصرة لقتل ابي وحتى لو لم يستطع قتله فأنه سيتمكن من حبس اهلي وتهديد ابي بهم أن لم يسلموا منه.
واردف قائلاً: أتفهم يا ادعج؟ اني أراهن بكل شيء عليك!
فرفع ادعج رأسه واخذ ينظر إلى السقف وأطلق زفيراً طويلاً التمعت بعده عيناه فقال: قد تشرفت بخدمتك طوال هذه السنين.
فقال جعفر بعد أن رفع رأسه هوَ ايضاً: يا ادعج انت مني كمثل هارون
من موسى الا اننا لسنا بأنبياء
فقال ادعج بعد أن مسح دموع هملت من عينيه: متى ستبدأ قيامك؟
فرد جعفر: سيستغرق ابي بضعة ايام ليصل للبصرة وسيستغرق بعدها ايام لينهي مهامه لهذا سأبده بعد شهر وأريدك أن تنطلق للبصرة قبل أربع أيام من بدأ القيام.
فقال ادعج: سمعاً وطاعة.
ثم قال جعفر: سأهب لك حصاني المنذر فخذه معك للبصرة.
فقال ادعج: أليس ابنك اولى به؟
فقال جعفر: قد ولد حصان ابني منذ زمن ولا حاجة له بحصاني لهذا سيكون هدية فراقي لك.
فخرج جرذ من احد شقوق الحائط فأخذ ادعج سكين كانت على مائدة الفطور ورماها تجاه الجرذ فطعنه بها وارداه قتيلا وقال: وهذه هدية فراقي لك قتلت لك آخر جرذ في منزلي.
فضحك الاثنان حتى توقف صوت ضحكاتهما تدريجياً فقال ادعج: اتمنى لو يكون هناك حل آخر غير موتك.
فقال جعفر: اذاً احيي ذكري فأن الإنسان لا يموت حتى ينسى.
فنهض جعفر من مكانه وهم بالخروج من دار ادعج فانزل ادعج رأسه للأرض وقال بألم وحسرة بعد أن بدأت الدموع تنهال من عينيه: لما
يجب ان تكون انت من يضحي بنفسه من بين الجميع؟
فقال جعفر وهوَ يمسك بمقبض الباب دون أن يلتفت لأدعج: هذا حكم الله يا أخي لا اعتراض لنا على حكمه.
ففتح الباب وخرج من الدار بينما اخذ ادعج يجهش بالبكاء لاقتراب فراق خليله
وبعد مضي ايام اجتمع جعفر بجماعة من مشايخ بابل وشبابها واخذ يخطب بهم للقيام وعلى يمينه أدهم وعلى يساره ادعج وبعد أن انتهى سأله احد الحاضرين غاضباً: كيف نقوم على ولي أمرنا ووالي نعمتنا ومالك ارضنا ورازقنا؟!
فوافقه جميع الحضور
فسكت جعفر قليلاً ثم قام فقال: لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟
فنظر بعضهم ببعض مستغربين ثم قالو: لله
فقال: افلا تذكرون
ثم قال: من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم؟
فقالو: لله
فقال: افلا تتقون
ثم قال: من بيده ملكوت كل شيء وهوَ يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟
فقالو: لله
فقال: فأنى تسحرون.
ثم سكت ونظر في وجوههم التي انحت للأرض ثم قال: بل جئتكم بالحق وانكم للحقِ لكارهون
مالكم لا تعقلون؟ أخفتم من خالد حتى اتخذتموه ألاهاً ونسبتم له الرزق وملك الارض؟ مالكم انسيتم خالقكم؟ ام تناسيتم كيف رزقكم وابائكم من
قبلكم؟ خالد وخالد من خالد؟ الذي قتل ابنائكم؟ ام الذي استحيا نسائكم؟
اعقلوا يا قوم إن خالد ليس إلا بسلطان جائر قد ظلم ابائكم وظلمكم وسيظلم الذين من بعدكم أن لم تستأصلوه كما تستأصلون النبات الضار من جذره.
فرفعوا رؤوسهم فنظر بعضهم ببعض ثم قاموا فقالو: إنا لك لمتبعون وإنا لقيامك لناصرون
ثم اردفوا: مد يدك يا حامل الفاروق لنبايعك.
فمده يده ليبايعوه فما كان يرا في وجوههم الا قردة وخنازير فقال في نفسه: إنكم لخاذلون.
وكان حيدر قد اكمل اغلب طريقه للبصرة وبينما كان فرسه يعدو بأقصى سرعته بدأت ملامح مدينة البصرة تطل من الافق فلمح رجلاً من بعيد يقف فوق الحشائش واضعاً يديه خلف ضهره فأبطئ حيدر من سرعة فرسه تدريجياً حتى وقف وصار الرجل على يمينه فنظر اليه وكان
الرجل مبتسماً لحيدر ابتسامة اظهرت كل أسنانه واقتربت لتشق فاهه من شدتها
فسأله: من انت؟ وما تبتغي؟
فأومئ الرجل برأسه ثم تراجع واختفى بين الحشائش
فشد حيدر لجام فرسه ليتحرك قائلاً في نفسه: لعله مجنون.
بدأ يزيد من سرعة عدوه حتى وصل المدينة فنزل عن فرسه وسلمه للحرس ومضى في طريقه إلى دار الولاية فتسلم جميع شؤن البصرة وبدأ ينفذ عمله فوراً فمضت الايام واقترب حيدر من إنهاء جميع اعماله بالبصرة وبدأ يحضر قافلة فيها من الخيرات والاموال والذهب ليعود بها لبابل
فسأله والي البصرة حيدر وهما يراقبون تحضير القافلة وربط الجمال قائلاً: يا ابا جعفر كم تبقى لك لتعود لبابل؟
فرد عليه: أستطيع إنهاء جميع اعمالي في أسبوع فلم يتبقى سوى بعض
الأمور البسيطة.
فقال الوالي: لما الاستعجال؟ الا تريد أن تحل ضيفاً علينا؟ ام أن البصرة لم تعجبك؟
فقال حيدر ضاحكاً: لا والله ولكني اشتقت لأهلي ولا تنسى اني مستشار الملك ولا أستطيع الابتعاد عن القصر لفترة طويلة.
فقال الوالي: ستشتاق البصرة لكم.
فقال حيدر: وسنشتاق لها.
فأقبل عليهم معتصم وهوَ رجل فارسي الاصل اتم نصف عقده السادس ابيض البشرة اخضر العينين منحني الحاجبين حاد الانف طويل الشعر الاسود، طويل القامة عريض المنكبين مفتول العضل وبلحيته التي تصل إلى نصف رقبته والتي يتخللها الشيب مرتديلاً لباسه العسكري راكباً فوق احد الجمال وقال مخاطباً حيدر: يا حيدر قد اكملت ربط جمع الجمال ولم يضل الا تجهيز حمولتها.
فأناخ احد الخدم الجمل فنزل معتصم عنه ومضى صوب حيدر
فقال حيدر: بوركت جهودك يا معتصم
وكان ادعج ينتظر جعفر عند بوابة بابل فحضر جعفر وبيده لجام المنذر فسلمه لأدعج فترك ادعج اللجام واحتضن جعفر وقال: سأشتاق لك يا أخي
فقال جعفر: لنا لقاء عند الله يا أخي
فلما فك عناقه قال: يا ادعج أوصيك بأن تحل محلي
فقال ادعج: لا يمكن لاحد أن يحل محلك
فقال جعفر: الا انت
فغورقت عينا ادعج وقال: لا اريد فراقك
فتبتسم جعفر ومسح ببهاميه عيناه وقال بنبرة هادئة: يا ادعج هذه الدنيا بكل جمالها وعظمتها سوف تنتهي يوما ما، والشمس والنجوم ايضا سوف ينطفئ نورها والجبال الشاهقة بكل هيبتها وشموخها سوف تصبح دكا وستغور البحار، والغابات الجميلة ستصبح خضرتها كأنها حمم
البراكين عندها سيصبح الانسان كالنملة التي غمرها الطوفان يبحث عن مأمن له يركض ويركض باحثا يريد جنة المأوى فلا يرى ألا جسرا بينه وبين جنة ربه وهذا الجسر يمنعه من الوصول الى هذه الجنة، انه جسر يتسع تارة ويضيق اخرى اننا نراه ملتويا تارة وتارة اخرى شديد الانزلاق انه لعمري شديد الانزلاق، أعلم ان اعمالنا في هذه الدنيا هي التي يوم القيامة تمد هذا الجسر امامنا فتجعله مستويا او ملتويا ، اما جسر حكام الجور فسوف يكون ادق من الشعرة ويزداد انزلاقا لحظتاً بعد لحظة في ذلك اليوم جوارحنا تشهد على اعمالنا خيرا كانت ام شرا ولا شيء اشد من الظلم هولا
ثم امسك بلجام المنذر وسلمه لأدعج مرة اخرى ثم امره أن يركبه وينطلق للبصرة فركبه ادعج وفي عينيه حزن دفين وبينما كان تقدم ببطء وهوَ حاني رأسه حزيناً ناداه جعفر بصوت عالي قائلاً: يا ادعج.
فأدار رأسه قليلاً ليواري دموعه التي تنهال على خديه
فقال جعفر بنبرة هادئة: اليوم انا عازم على محاربة الرياء فهوَ من اشد الآثام فالرياء يدخل الميدان بلباس الدين والتقوى، هوَ عملة ذات وجهين وجه نقش عليه اسم الله والوجه الاخر نقش عليه اسم الشيطان، عامة الناس يرون وجه الله واهل العلم يرون وجه الشيطان، هذا الرياء ادمى قلب امامنا علي بن ابي طالب الذي عانى من رياء المنافقين مدعي
الزهد والتقوى
فقال ادعج: الا لعن الله خالد
فستدار بالمنذر ثم انطلق به خارج بابل وعينيه تنهمران منهما الدموع فأخذ يشعر بلهجة عراقية منسية وهوَ يجهش: لَيَالِي الْجُرْح مُهْبِطٌ النَّعْي
وَي مدمعي اشوفه
بغربته وَصَحَّت يا ظامي
لِخِدْمَتِه انْتَمِي وللبچي اِسْتَعَدّ
ما أبتعد واعوفه
غَرِيبٌ الوَطَن أَمَامِي
يا ليالي الْجُرُوح زيدي
عَلَى الما يعوف أَيْدِي
يحقلي الْعَوِيل
أُرِد اذوب بِهَوَاه واتعب
عَلَيْه ابچي دَوَّم وانحب
واصيحن دَخِيلٌ
فمضت الايام وادعج يمضي في طريقه إلى البصرة ولا يستريح الا قدر حاجته ولا ينام من الليل الا قليلاً ثم يعود ليكمل طريقه، وعند بزوغ فجر اليوم الرابع وصل ادعج إلى البصرة واخذ يسير بالمنذر في طرقاتها وازقتها باحثاً عن حيدر فلم يجده فوجد قرب احد الازقة حارس فساله عن مكان دار الإمارة فلما اخبره شكره ومضى بالمنذر نحوه وعندما وصل نزل عن صهوة المنذر وامسك لجامه بيده واخذ ينتظر مجيء حيدر قرب دار الإمارة فلما رءاه مقبلاً جذب لجام المنذر وركض نحوه فوقف أمامه وهوَ يلهث وقد اعتلا وجه حيدر ملامح الصدمة وهوَ يرى المنذر فقال لأدعج بقلق: أفعلها؟
فقال ادعج بعد أن التقط أنفاسه: نعم فعلها وقد فشل وسيقطعون رقبته.
وما أن اكمل جملته حتى اخذ حيدر لجام المنذر من يده وامتطى صهوته وضرب بكعبيه خاصرته فانطلق به بأقصى سرعته نحوى بابل واخذ يعدو بالفرس ممسكاً اللجام بقوة ويضرب خاصرته ليزيد من سرعة عدوه وظل على هذا الحال حتى غربت الشمس دون ان يعطي لنفسه او الفرس اي استراحة فأطلق الفرس صهيلاً مدوياً وسقط على الارض نافقاً وسقط حيدر عن ضهره وتدحرج على الأرض فنهض عن الارض وهوَ مطبق على فكيه بقوة من شدة غضبه الذي ابرز جميع عروق
جسمه فأخذ سيفه الذي سقط بجانبه من على الأرض واخذ يجري على قدميه نحو بابل
وعندما حل الليل ارتدى جعفر عباءته ووضع عمامته البيضاء على رأسه فقالت هند من خلفه: الى اين يا أبا مالك؟
فنظر نحوها وقال: اني خارجٌ قليلاً فلا تقلقي
ثم نادا ابنه ليحضر له سيفه الفاروق فلما احضره أخذه من يده ثم جثى على قدمه حتى صار بطوله ووضع السيف جانباً واخذ يمسح بيده على رأس ابنه ثم انزل يده على خده فمسحه ببهامه ثم جذبه من خلف رأسه نحوه وقبل جبينه ثم قال: أوصيك بجدك فتبعه دوماً فأن الحق معه يدور حيثما دار.
ثم اخذ الفاروق من على الأرض ونهض وتوجه لزوجته وفعل نفس الشيء معها ثم قال لها: شكراً لك على كل السنين التي تحملت طيشي فيها
فقالت: ما خطبك كأنك مفارقنا؟
فتبسم ثم تركهم وخرج من الدار فلما أغلق الباب خلفه علق طرف عباءته به فشده حتى تمزق ثم خطا خطوتين فهبت ريح دفعته إلى الوراء فحمى وجهه منها بيديه ثم انزلهما ووضع الفارق خلف ظهره وامسكه بكلتا يديه ثم تقدم وهوَ يخاطب نفسه:
اشدُد حيازيمك للموت فانَّ الموت لاقيكا
ولا تجزعْ من الموت اذا حلَّ بواديكا
فانَّ الدرع والبيضَة يوم الرَّوْعِ يكفيكا
كما أضحكك الدهرُ كذاك الدهرَ يبكيكا
فتذكر ادعج فقال:
فقد أَعرف أَقواماً وإن كانوا صعاليكا
مساريعٌ الى النجدة للغيِّ متاريكا
ثم رأى الناس مقبلين نحوه فمضى لهم ومضوا له حتى وقف وسطهم فجال ببصره بينهم فلم يرى أدهم بينهم فبدأوا بالسير نحو القصر وهم ينادون بتكرار: حي على القيام حي على القيام.
وجعفر قطب الوجه لا يقول شيء وكانوا اذا مرو بزقاق او سوق او بيوت انظم لهم حشد من الناس حتى تجاوز عددهم المائتي شخص فلما وصلوا للقصر وجدو بوابته الخارجية مفتوحة على مصرعيها وليس هناك أي حارس عندها، فدخلوا كلهم إلى باحة القصر واخذ جعفر يتلفت حوله ثم قال: انها مكيدة.
فما أن اكمل جملته حتى دخل عليهم من البوابة فرسان مدرعين مدججين بالسلاح فدب في قلوبهم الرعب واخذوا يرجفون فقال جعفر بعد أن نظر لهم بطرف عينه: اشباه رجال وما هم برجال.
فقال قائد الفرسان: سنعطيكم فرصة واحدة فمن تراجع منكن عن هذا الامر سلم.
وامر جنوده بإفساح الطريق لم يريد الهرب فنظر اهل القيام بعضهم ببعض ثم ركضوا هاربين خارج القصر تاركين جعفر وحده امام الجنود
فأغلق الجنود الباب بعد أن هرب الجميع وأحاطوا بجعفر على شكل دائرة فقال قائدهم: اما انت فلا مهرب لك.
ثم اردف صارخاً: جعفر بن حيدر بن مالك بن حرب قد جنيت على
نفسك اليوم بالخروج على ولي الأمر وحكمت على نفسك بالهلاك فركع على قدميك وسلم نفسك.
فتقدم جعفر وهوَ يجرد سيفه من غمده وقال: قاتلوني أن اردتموني فأني لن اعطي بنفس اعطاء الذليل لكم.
فرمى احد الفرسان برمحه قاصداً اصابة قلب جعفر فلما اقترب الرمح من لمس صدره قبض عليه بيده ثم رماه في الهواء ليقلبه ودار حول نفسه وامسكه ورماه بقوة تجاه الجندي فأخترق صدره وصدر ثلاث
جنود خلفه ثم قتل: من كان منكم يشتهي أن يثكل امه فليتقدم نحوي
فأمر القائد حملة السيوف الذي بلغ عددهم الثلاثين فارس بالتقدم فتقدموا نحو جعفر واشتبكوا معه واخذ جعفر يقطع عنق هذا وينحر هذا ويطعن هذا ويضربهم ضرباً يبين الفقرة واستمر على هذا الحال حتى لم يبقي منهم احد الا خمسة منهم فأمر القائد رامين السهام بسحب اسهمهم عندما بان التعب على وجه جعفر وعلى طريقة قتاله وعندما قتل آخر جندي من حملة السيوف أمر القائد الرماة بأطلاق سهامهم فأطلقوها فهطلت على جعفر كالمطر فاستقر معظمها في جسده ومن شدة المها لم يعد يحس بأي الم ثم حاول التقدم فلم يستطع فوقف في مكانه ورفع رأسه إلى السماء واخذ ينشد والدماء تقطر من كل سهم:
سترى جسمي يا جد على الغبرائي
مسحوق الاضلاع قطيع الاعضائي
اسقى من كاس الاوفى بعد وفائي
ورفع يديه بجهد ثم نادا: جداه انا لستُ قوياً مثلك! ولستُ ضعيفاً ايضاً! انما خذلني قومي.
فأمر القائد حملة الرماح بتضيق الخناق عليه فأحاطوا رقبته برماحهم واجبروه على اسقاط الفاروق من يده ثم انزلوا رماحهم وقيدوه بالسلاسل وقادوه إلى السجن تحت القصر
ولما أوشك الفجر على البزوغ كان حيدر على حاله يجري تارتاً ويسير من التعب تارة اخرى يحاول الوصول لبابل بأي طريقة، فلما تمكن منه
التعب وجثا على الأرض سمع صهيلاً من خلفه فلما التفت للخلف رأى الادهم، فأسرع الادهم من وتيرته حتى وقف بجانبه واخذ يضرب بحافره الأرض معاتباً فقال حيدر وهوَ ينهض مستعيناً بلجام الادهم: اعلم يا صاحبي لكني لم اترك برغبةٍ مني، ثم امتطى صهوته ومسح على عنقه وقال: خذنا إلى حيث غايتنا
فبدء الادهم بالسير ثم اخذ بالعدو واخذ يزيد من سرعة عدوه حتى وصل
اقصاها وأمضى على هذه الحال قرابة الساعة حتى بدأ يتراءى لحيدر رؤية شخص يقف من بعيد فلما اقترب منه رأى نفس الشخص الذي حسبه مجنون فأبتسم المجنون من جديد واخذو يجري نحوه فشد حيدر لجام الادهم ليتوقف فلم يطعه واستمر في عدوه حتى كاد يصطدم بالمجنون فأغمض حيدر عينيه فتنحى المجنون بسرعة وصفع الادهم على وجهه بكفه فأطلق الادهم صهيلاً بسببه فتح حيدر عينيه على مصرعيها فرأى بوابة بابل شامخةً أمامه فتعجب من هول المنظر لكنه لم يفكر بالأمر كثيراً ونزل عن الادهم وتوجه للبوابة فوقف أمامها ثم اغمض عينيه وقال: يا رب أنعم علي بالقليل مما انعمت به على والدي.
ثم وضع كفيه على البوابة وأخذ نفساً عميقاً وبدأ يدفع البوابة بصعوبة حتى فتحها بمقدار يكفي لدخوله ففتح عينيه وعندما رأى منظر مدينة بابل أمامه تنفسه الصعداء فتقدم الادهم ودفعه من الخلف برأسه فالتفت اليه ومسح على رأسه وأخرج ورقة من ثيابه وجرح ابهامه بالمختار ثم كتب عليها وعلقها بلجام الادهم ثم امسك رأسه وقبله ووضع رأسه على رأسه وقال: اذهب بها إلى حسن.
ثم ترك رأسه فانزل الادهم رأسه إلى الأرض كأنه يخبره انه في طاعة أمره ثم التف حول نفسه واخذ يعدو نحو شمال العراق فلما اختفى عن الافق استدار حيدر ودخل البوابة فلما دخل إلى بابل وجدها فارغة كأنها لا حياة فيها على الرغم من انهم في أول الصباح فوضع يده على المختار واخذ نفساً عميقاً وارجع احدى قدميه إلى الخلف في وضعية
الاستعداد ثم بدأ بالعدو قاصداً القصر فلما وصل وجد اهل بابل مجتمعين امام بوابة القصر ثم رأى في احدى الازقة رحيل حاملة العادل بغضب وأسماء تجرها من الخلف فمضى لهم فتعجبتا من رأيته فقالت رحيل: كيف عدت؟
فأجاب حيدر: لا أعرف.
وقبل أن تقول اي شيء آخر جاءت هند نحوهم هرعة فالقت نفسها على قدمي حيدر تتوسل به لينقذ جعفر من الهلاك
فأبعدها عن قدمه وساعدها على النهوض ثم قال موجهاً كلامه لرحيل: اعطني السيف وخذيها وعودوا للدا.
فقالت رحيل: اني قادمة معك.
فقال حيدر: لن تكوني الا عبئاً علي.
فقالت رحيل: لن تقدر عليهم وحدك.
فأخذ العادل من يدها ثم استدار وقال: لم اهزمك يومها بدون سلاح لأضعف اليوم ومعي سلاح.
فأخذت رحيل النسوة وعادت بهم للدار
فعلق العادل على خصره جنب المختار ثم تقدم حتى صار قرب القوم فتوجهت جميع الانظار نحوه ثم تقدم بينهم حتى صار امام بوابة القصر
فأوقفه الحارسان من التقدم برماحهما فنظر نحوهما ثم نظر نحو الرماح فأمسكها من طرفها بيديه فضغط عليها حتى كسرها فأخرج الحارسان سيوفهما بسرعة فسحب حيدر العادل والمختار بسرعة وضرب بهما عنقيهما ثم رفس البوابة بقدمه حتى فتحت على مصرعيها فدخلها غضباناً تتطاير الشرار من عينيه والناس ورائه في حالة من الهلع فوجد الجنود أمامه في باحة القصر فصاح بهم بصوت هز كيانهم: من كان يشتهي ملاقاة ربه فليقف أمامي!
فهرع الجميع للهرب من أمامه بسرعة فأكمل طريقه وهوَ ينظر أمامه من غير الاكتراث للجنود حتى صار امام بوابة قاعة القصر فرفس البوابة بقدمه
بمنتصف الليل فتحت بوابة السجن فدخل منها جعفر مقيداً بالسلاسل والاغلال لا يرى منه إلا رأسه من كثرتها فدفعه الحارس من الخلف وقال صارخاً به: انزل بسرعة!
فنزل جعفر الإدراج درجة درجة والسجناء ينظرون له من خلف قضبان زنازينهم ولا يسمع في المكان الا صوت الذباب والصوت الذي تصدره
سلاسل جعفر كل ما نزل درجة فلما انتهت الادراج جره الحارس من سلاسل رقبته كأنه يجر احد الكلاب ففتح حارس آخر بوابة الزنزانة فرماه الحارس فيها فسقط جعفر على الأرض والسجناء ينظرون له دون اكتراث فصرخ الحارس به قائلاً: ستظل هنا حتى طلوع الشمس بعدها ستأخذ للقصر ليتقرر حكم اعدامك!
ثم أغلق الحارس الباب وخرج من السجن وبعد أن نهض جعفر من الأرض بصعوبة واسند جسده إلى احد الجدران واخذ يتنفس بثقل حتى هدأت أنفاسه فقال احد السجناء مخاطباً جعفر: ما ذنبك؟
فقال جعفر بعد ان أطال النظر اليه: خرجت لطلب الإصلاح في أمة لا تبتغيها
فقال سجين من زنانة أخرى مستهزئاً بقوله: طلب الإصلاح! وستذبح كالخراف!
فضحك السجناء من قوله فقال آخر: تبدو ابن نعمة قد غلبته أحلامه فمن انت؟
فأغلق جعفر عينيه ولم ينطق بشيء ثم فتحهما وقال: فأنا الكوكب وابن القمرين.
ثم بدأ ينشد ويقول: خيرة الله من الخلق أبي * ثم أمي فأنا ابن الخيرين فضة قد خلصت من ذهب * فأنا الفضة وابن الذهبين من له جد كجدي في الورى * أو كشيخي فأنا ابن العلمين.
فقال احد السجناء: أبناء مالك!
فتوجهت جميع العيون نحوه الا عيون جعفر ثم اردف قائلاً: انت من أبناء مالك! اكاد اقسم ان ما من احدٍ شبه نفسه بالعترة الا وكان من نسل مالك!
فعادت جميع العيون نحوى جعفر متعجبين فقال جعفر: جعفر بن حيدر بن مالك بن حرب هذا اسمي فمن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني انبأته بحسبي ونسبي.
فقال كبير السجناء وهوَ رجل اسود عظيم البنية: معاذ الله أن نجهل نسبك.
فنهض من مكانه وتوجه نحوى جعفر وهوَ يقول: جدي كان عبداً عند احد التجار وفي احدى الايام حاول هذا التاجر أن يتحرش بإحدى النساء فصرخت وقبل ان يدرك احد صوت صراخها كان جدك مالك قد قطع عنق التاجر بسيف سحبه من احد الموجودين وهوَ في سن العاشرة وبسبب هذا الأمر قد تحرر جدي من العبودية .
ثم وقف أمامه وقال: قد حرر جدك جدي وانا لن اترك دين جدي بدون تسديد.
ثم جثى أمامه وقال: مرني يا سيدي بما تريد
فقال جعفر: أن كنت تريد تسديد دين جدك فهناك من هوَ اولى بالتسديد مني.
فقال كبير السجناء: ابوك؟
فقال جعفر: نعم
واردف قائلاً: أن كنت تريد تسديد الدين فخرج ومن معك من هذا السجن وحامي عنه يوم تطلب الحَمَى في بابل
فقال كبير السجناء متسائلاً: ومتى تطلب؟
فقال جعفر: بعد قطع رقبتي
وعندما اشرقت الشمس فتحت بوابة الزنزانة ودخل اثنان من الحرس وسحبا جعفر من مكانه واخذاه خارج السجن وقبل ان يخرج نادى بالسجناء: يا شيعة المختار طيبوا انفساً فغداً تسقون من حوض اللجين!
فأخرجوه من السجن وتوجهوا به نحو القصر فلما وصلوا قاعة القصر فتحت البوابة أمامه فرموه داخل القاعة وأغلقوا البوابة خلفه فسقط على الأرض فلما رفع رأسه وجد امامه خالد متربعاً على عرشه واضعاً خده
على قبضة يده وحوله مستشاريه وحرسه فتربع جعفر على الأرض ونظر نحو يساره في طرف عينه فرأى أدهم فقال: والله اني قد علمت بأمرك اتظن انك ستهنئ بمكانك الجديد؟ والذي نفسي بيده لن تفعيل عندما يصل
فقال خالد بصوت وقر: لما فعلت ما فعلت؟
فقال جعفر: لطلب الاصلاح.
فقال خالد: وما شأنك وشأن الاصلح؟
فقال جعفر: خرجت بطلب من قومك.
فقال خالد: لو كانوا يريدون الإصلاح كما تزعم لما تركوك وحدك.
فقال جعفر: مثلهم كمثل سيدهم خائنين غادرين.
فقال خالد بعد ان أستعدل في جلسته متسائلاً: ماذا تقصد؟
فقال جعفر: قد غدرت بجدي من قبل ام قد نسيت الأمر من كثر سكرك؟
فصعق جميع الحاضرين من قوله
فنهض خالد من مكانه غاضباً واتجه نحو جعفر ولطمه على وجهه بقوة أسقطته على الأرض ثم قال: والله ما عرفنا الغدر الا من نسل جدك!
ثم اردف قائلاً: ما حملني على عدم قتلك الا العهد الذي بيننا!
فقال جعفر وهوَ يستعدل في جلسته: واي عهداً وقد نقضته؟
فقال خالد غضباناً: لم ينقضه احد الا انت!
فقال جعفر: لم يذكر في العهد شيئاً عن فض البيعة بالخروج ضدكم.
فقال خالد وقد طاق ذرعا: اخرس اخرس!
ثم عاد إلى مكانه وقال لجعفر: جدد البيعة اعفو عنك.
فتربع جعفر وقال: مثلي لا يبايع مثلك.
فقال خالد: صُن العهد واكسب حياتك يا ابن حيدر.
فقال جعفر: لا يحتاج العهد لصون فقد نقض منذ زمن.
فضرب خالد بقبضته بغضب على يد العرش وقال: جدد البيعة او قتلك حراسي هنا ورميت جسمك لتنهشه الكلاب!
فقال جعفر: مبايعة ابليس اهون عندي من مبايعتك.
فصرخ خالد: اقطعوا رقبة ابن اللعين هذا!
فسحب ادهم سيفه وتقدم نحو جعفر وقبل ان يقوم باي شيء فتحت البوابة بقوة على مصرعيها ومن شدة القوة كُسرت وسقطت على الأرض فنهض خالد من مكانه وسحب الحرس سيوفهم وتجمعوا امام خالد ومستشاريه مستقبلين بسيوفهم القادم من البوابة الا أدهم الذي ضل امام جعفر خائفاً مرتجفاً من المنظر فدخل عليهم حيدر وهوَ يحمل المختار والعادل
فأعاد حيدر السيفين لغمدهما وتقدم نحو جعفر وصرخ بغضب: يا خالد وبحق البتار أن لم تترك جعفر لأزلزل الأرض تحت بابل .
فقال خالد: ابنك قد ثبتت خيانته ويجب أن يحاسب.
فوقف حيدر امام جعفر وادهم يرجف أمامه خائفاً فقال حيدر: اي خيانة؟
ثم امسك بيده رقبة أدهم ورفعه وصرخ في خالد قائلاً: التي دبرتها مع هذا القزم؟!
فقال خالد: دع أدهم يا حيدر.
فقال حيدر وادهم يختنق بيده ويحاول الفرار : دع جعفر يا خالد.
فقال خالد: جعفر خائن ويجب أن يقتل.
فبدا ادهم بالصراخ والبكاء طلباً النجدة من الحرس وجعفر يراقب الوضع فقال حيدر بهدوء: أن كان كل خائن يجيب أن يقتل فقد خانني هذا القزم
فصرخ خالد: حيدر! دع..
وقبل ان ينهي خالد جملته رفع حيدر أدهم اكثر وقلبه وانزله على الأرض حتى ضرب برأسه الأرض فتحطمت جمجمته، واندفعت دمائه ودماغه من رأسه وانتشرت على الأرض فصعق جميع الحاضرين من هول المنظر الا جعفر الذي قال: اخبرتك انك لن تهنئ.
فقال خالد: قد عصيتني يا حيدر.
فقال حيدر: لست بسيدي لأعصيك
فقال خالد بغضب: انما انا سيدك وسيد ابوك!
فقال حيدر: انما انت سيدي امام الناس اما بيننا فأنت تعلم ما فعلت.
فأخذ خالد سيف احد الحراس وتقدم نحو حيدر ومن خلفه حرسه وقال: قد خنتم العهد ولابد من قتلكم فيا حيدر اشكر ربك لأنك ستموت على يدي.
فسحب حيدر سيفيه وتقدم وقال: قد خنت العهد قبلنا ونحن الان ننفذ ما علينا فلا تأخذ دور المظلوم يا خالد.
فوقف الاثنان امام بعظهما فلمح حيدر بطرف عينه احد الحرس يطلق سهم نحوه فانحنى بجذعه للوراء ليتجنبه فرفع خالد سيفه وقبل ان يهوي به على حيدر حرك الاخر يده اليمين بسرعة وجرحه بالمختار جرح بدأ
من فخذه الأيمن وصولاً إلى أعلى صدره الأيسر فتراجع خالد إلى الخلف اثر الضربة وسقط على الأرض فستقام حيدر بوقفته فأحاطوه الحرس بسرعة وشكلوا دائرة حوله فأخذ الثاني يدور حول نفسه مستعداً لأي هجوم من اي جهة فهجم احد الحرس عليه من الخلف بسيفه فالتف عليه بسرعة وضرب عنقه بالمختار فأرداه قتيلاً وقبل ان يتقدم احد آخر دخل كاظم إلى القاعة ومن خلف قادر وصاح بهم: كفى!
فأنزل الجميع سيوفهم ونظروا نحوه فقال: الا لعنك الله انت وابنك يا حيدر على ما فعلتماه في بابل.
فقال خالد وهوَ يتألم من جرجه: ولعنك لتأخرك.
فقال حيدر مصدوماً من ما سمع: حتى انت يا كاظم؟
فضحك خالد رغم المه وقال: أظننت أن بخيانة ابنك سيظل احد معك؟
ثم نهض من مكانه وعاد لعرشه وقال بسرور: بشرني يا قادر يبن كاظم بما فعلت بشرني لأفرج عن اساريري.
فتقدم قادر بحياء وقال وهوَ يحني رأسه خجلاً: قد طلقتها يا سيدي
فصدم جعفر وحيدر وضحك خالد من حالهم وقال بسرور: اكمل اكمل أخبرني ماحدث بعدها.
فأكمل قادر وقال: حاصر الحرس دارهم والان هم ينتظرون الأمر بحرقه بمن فيه.
فصعق حيدر من قوله فقال خالد ضاحكاً: اظننت أن احداً لن يغدرك لأجل منصبه؟ ما اغباك يا مذل اسم ابيك.
فالتف حيدر نحوه وقال: ماذا تريد؟
فنهض خالد من مكانه وهو يغطي بعض جرحه بيده وتقدم نحوه وقال: جئتني قاتلا ولكني لا ارد في بابي سائلا.
فوقف أمامه متحدباً وقال: اعفو عن اهلك بشرط.
فسكت قليلاً ثم قال: بشرط أن تبقى انت فقط حبيس دارك في بابل وان تقطع رأس ابنك.
فأمسك بطرف المختار وقال: بسيفك هذا.
فصعق جعفر وصرخ قائلاً: لا تطعه يا ابتِ!
ثم اضاف: انه يريد كسر شوكتك!
فلم ينطق حيدر بشيء ورفع رأسه للسقف واغمض عينيه واخذ نفساً عميقاً ثم فتح عينيه وزفه وانزل رأسه ونظر في وجه خالد وقال وهوَ يعيد السيفين لغمدهما: أن كانت لعنة حكمك لن تزول الا بدم ابني فدم ابني ارخص ثمن.
فتبسم جعفر وقال خالد بعد ان وضع يده على رأس حيدر: هكذا عهدتك كلباً مطيعاً.
فأبعد حيدر يده واستدار ليخرج من المكان وقبل ان يخرج قال: دم جعفر ودم مالك لا تحسب أن دمهما قد هدر فقد اصبحا ديناً في رقبتك واني وبحق البتار عائداً يوماً ما لك لأخذ ثمنها من رقبتك.
ثم خرج من المكان فضحك جعفر وقال مخاطباً خالد: اكثر من طغيانك فلم يظل لك من العمر الكثير.
فقال خالد بعد ان جلس على عرشه: تكلم عن نفسك فأنك ميت خلال ساعات.
فقال جعفر: ستعاد بيكم خيبر بموتي.
فضحك خالد وقال: وكيف ستعاد وابيك حبيس الدار؟
فقال جعفر: أن الله سيرزقه بمن ينصره.
فقال خالد بتحدٍ: سنرى.
فخرج حيدر من القصر مطأطئً رأسه منكسراً واضعاً يديه خلف ظهره يسير في طرق بابل وعيون الناس عليه من كل صوب فمضى في طريقه حتى وصل داره ورأى الحرس يحيطونه والمشاعل بأيديهم فلما رأوه مقبلاً رموها على الأرض وتركوا المكان عائدين للقصر فلما فرغوا من
المكان سار حيدر نحو باب داره فطرق بمطرقه الباب فصاحت رحيل من الداخل: أن دخل احدكم قتلته!
فقال حيدر منكسراً: انا حيدر يا رحيل.
ففتحت رحيل الباب على عجل وقالت: ما سبب تأخ..
وقبل ان تكمل جملتها رأت الانكسار في عينيه فأنزلت رأسها وتنحت عن طريقه فدخل مطاطان رأسه فلما رؤاه من في الدار سألوه عن ما حصل فنظر لهم ثم انزل رأسه ودخل للمجلس دون أن يجيبهم فوقف وسط المجلس ونظر امامه نحو البتار ثم ازال السيفين من على خصره وعلقهما جنب سيف ابيه وجلس أمامهم جلسة العبد والنسوة ينحاً خارج المجلس فأنزل رأسه وأغلق عينيه فنقطع نحيب النسوة ولم يعد يسمع شيئاً من حوله فسمع صوتاً يناديه قائلاً: ارفع رأسك.
ففتح عينيه على اثره ورفع رأسه فرأى أمامه ابيه مالك
فقال مالك: لما انت منكسرٌ هكذا؟
فقال حيدر بعد أن اغرورقت: قد خسرت يا ابتِ.
فقال مالك: أربيتك لتنوح هكذا في وجه اول المصائب؟
فأجهش حيدر بالبكاء وقال: سيقتلون ابني يا أبا!
فجثى مالك على ركبته ووضع يده على كتف حيدر واقترب من اذنه وقال: اذاً لا تبقي منهم باقية.
فتفاجئ حيدر من قوله فقال: هل كنت ستفعل هذا لو كنت مكاني؟
فتراجع مالك وترك كتفه ونظر في عينيه الحوراءين ثم قال: فعلت ما هوَ اكثر لأختك.
فتعجب حيدر اكثر وقال: أي اخت؟
وقبل ان يجيب مالك فتح حيدر عينيه على صوت حفيده يناديه من خلفه فالتفت اليه بفزع
فقال حفيده: يا جدي اين ابي؟
فنهض حيدر من مكانه وسار نحو حفيده فحمله وأحتضنه واخذ يجهش بالبكاء ومالك يمسح على رأس جده ويسأله: لما تبكي يا جدي؟
ويضيف: لا تبكي.
وبعد مضي ساعات اخذ حيدر المختار وعلقه على خصره ثم طلب من حفيده أن يجلب له ورقة وحبر فلما اتاه بهما أخذها وبدأ يكتب على الورقة فلما انتهى طوى الورقة ووضعها في ثياب حفيده وقال له: مهما حصل ومهما سيحصل لا تضع هذه الورقة
ثم اضاف قائلاً: وعندما تبلغ اشدك أقرأها، افهمت؟
فأومئ مالك برأسه ايجاباً
فتركه وخرج من المجلس وتوجه للباب ليخرج من الدار فاجتمع الجميع خلفه فنظر نحوهم فلم يقل احد شيئاً وأنزلوا رأسوهم فتركهم وخرج من الدار ومضى في دربه نحو ساحة الإعدام غير مبالاً بمن حوله ونظراتهم له حتى وصل ساحة الإعدام ودخلها
في وسط ساحة الإعدام التي تتوجها المدرجات الدائرية الممتلئة بالناس وقد ارتفعت هذه المدرجات حتى كادت أن تتجاوز آفاق السماء وفي تلك المدرجات جانب قد خلا من المقاعد الا مقعد واحد مرصع بالحلي والزخارف توسطه خالد واضعاً خده على قبضة يده غير مكترث بما يحدث حوله من هتافات الناس وخلفه حراسه والى جانبه كاظم وابنه وامامه في وسط الساحة جعفر جالساً على الارض مقيد بالسلاسل والاغلال لا يرى منه إلا رأسه من كثر قيوده خافضاً رأسه حتى لا يرى أحد وجهه والناس من المدرجات ترشقه بالحجارة فتسقط قربه
يتقدم كاظم ليقف امام خالد وينادي بصوتٍ جهور: يا أيها الناس اليوم نجتمع لنرى اعدام هذا الخائن ليكون عبرةً لمن اعتبر.
فأزداد ضجيج الناس وهتافهم
فاردف قائلاً: يا أيها الجلاد هلم بقطع رأسه.
فتقدم الجلاد ووقف يمين جعفر ورفع فأسه في الهواء فزاد ضجيج الناس اكثر وقبل ان ينهال به على رقبته رفع خالد يده اليسرى ليوقف الأمر فعم الصمت المكان وبعد لحظات من الصمت العام نهض خالد من مكانه وتقدم الى حافة المدرج وأشار نحو حيدر الذي وقف عند بوابة الساحة وقال: اقتله تحصل على أماني.
ثم عاد الى مقعده فتقدم كاظم إلى جواره وصاح: أيها الجلاد ابتعد عن طريق سيادته لينفذ ما أُمر به.
فتقدم حيدر حزيناً منكسراً يواري دموعه بكمه حتى وصل عند ابنه وخالد يراقبه بهدوء فنادى كاظم: يا حيدر ماذا تنتظر؟! اسرع ونفذ ما امرت به او قطعنا رأسك مع ابنك!
رفع جعفر رأسه ليخاطب والده قائلاً: يا أبا أفعل ما تأمر لتنقذ نفسك فأني اليوم وعلى كل حال من الهالكين.
فقال حيدر بحزن مكبوت: يا بني لما فعلت ما نهيتك عنه؟
فقال جعفر: لأفرق بين اهل الحق والباطل فأنا حامل الفاروق.
ثم اردف قائلاً: ولأعطيك عذراً امام الناس تكسر بهِ عهد جدي.
فقال حيدر: الا تخشى من الموت؟
فقال جعفر: يا ابتِ ألسنا على الحق؟
فقال حيدر: بلى، والذي إليه مرجع العباد.
فقال جعفر: اذاً لا نبالي أوقعنا على الموت ام وقع الموت علينا.
فقال حيدر وهوَ يسحب المختار: والذي نفسي بيده لا حياة لي أن لم اكسر عهد الشؤم هذا.
فرفع سيفه في الهواء ونادى في سره: ربنا تقبل هذا القربان من عبدك وانصرنا على القوم الظالمين
فهوى بالسيف على رقبته وفصل رأسه عن جسده فسقط الرأس على الأرض وتدحرج مسافة أمامه ثم هوى الجسد على الأرض والدماء تفور منه وتنتشر على الارض، فتقدم حيدر بسيفه الذي يقطر بدم ابنه وحمل رأسه من على الأرض يشير به تجاه الملك وهوَ يقول بصوتٍ هز ارجاء المكان: قد كسر عهد مالك! فيا خالد!
ثم يضيف وهوَ يشير برأس ابنه لجميع الحضور: ويا اهل بابل وايم الله لن ابقي بكم باقية، والله بالله وتالله لأسلبنكم ما تعزون كما سلبتموه مني فقسم بكل ما اقسم به الله لأجعلن عاليكم سافلكم وحق البتار سأعيد بكم خيبر.
ثم انزل رأس ابنه على الارض واعاد سيفه لغمده وهم بالخروج من المكان، فنهض خالد واستدار ليخرج من المكان عائداً لقصره وقبل ان
يخرج أمر كاظم قائلاً: سلم جسد جعفر لعائلته اما رأسه فأتني به لعلي اجعله كأسا اشرب منه خمرا.
وبعد أن خرج حيدر من الساحة بدأ يسير في المدينة خلف عربة تجرها احصن محملة بجسد ابنه من غير رأسه ويرى الناس ترشق الجسد بالحجارة وهوَ يناجي ربه في سره قائلاً: ربنا افرغ علينا صبرًا وثبت اقدامنا وانصرنا على القوم الظالمين.
ويستمر بترديد هذا الدعاء حتى إذا وصل بيته ورأى الحرس ينزلون جسد ابنه دخل بيته وذهب عند رحيل وقال لها: يا رحيل عظم الله لكي الأجر بولدكِ جعفر فقد قتل في سبيلِ الحق وجيء بجسده مقطوع الرأس.
فصاحت رحيل وهي تجري نحو جسد جعفر: يا ويلتي على جعفر قتلوك يا ولدي.
فأذ بأسماء تنادي حيدر قائلة: يا أبا اين جعفر؟
فيرد قائلاً: عظم الله لكي الأجر بأخيكِ يا ابنتي
فنزلت على ركبها وهيَ تلطم على رأسها وتصيح: يا ويلتي قتل جعفر!
وتكرر اكثر من مرة قائلة: قتل جعفر!
ثم قالت: فقدت اخي وزوجي في نفس اليوم يا أبتِ.
فَترك حيدر زوجته وابنته وذهب عند هند فوجدها تحتضن ابنها وهيَ تبكي وتنوح
فقال: تعال يا مالك علينا بدفن جسد أبيك.
فقالت هند بصوت يتجلى فيه الحزن.
يا حيدر يا عمي اليس لك قلبٌ يحزن على جعفر!
فرد قائلا: نحنُ أبناء مالك لا نظهر ما في قُلوبنا على وجوهنا.
ثم قال أيضاً: أسرع وتجهز يا مالك سأنتظرك خارجًا.
فَقال مالك: سمعًا وطاعة يا جدي.
فـلما فَرغ ولحق بجده أخذوا بحمل جسد جعفر ومعهم جمعً من الناس، فلما انتهوا من غسله وتكفينه ودفنه جنب قبر مالك، وبعد أن غادر الناس حضرت أخُته ووقفت ترثيه مقتبستًا من الخنساء فَـقالت :
يا عَينِ جودي بِدَمعٍ مِنكِ مِدرارِ
جُهدَ العَويلِ كَماءِ الجَدوَلِ الجاري
وَاِبكي أَخاكِ وَلا تَنسَي شَمائِلَهُ
وَاِبكي أَخاكِ شُجاعاً غَيرَ خَوّارِ
وَاِبكي أَخاكِ لِأَيتامٍ وَأَرمَلَةٍ
وَاِبكي أَخاكِ لِحَقِّ الضَيفِ وَالجارِ
جَمٌّ فَواضِلُهُ تَندى أَنامِلُهُ
كَالبَدرِ يَجلو وَلا يَخفى عَلى الساري
رَدّادُ عارِيَةٍ فَكّاكُ عانِيَةٍ
كَضَيغَمٍ باسِلٍ لِلقَرنِ هَصّارِ
جَوّابُ أَودِيَةٍ حَمّالُ أَلوِيَةٍ
سَمحُ اليَدَينِ جَوادٌ غَيرُ مِقتارِ
فضم حيدر ابنته الى صدره واخذ يمسح على رأسها ويقبله وهوَ يقول: يا اسماء يا ابنتي لنعد لدارنا.
ثم نظر الى حفيده وقال: وانت يا مالك إياك ثم إياك ان تنزل دمعة من عينك امام احد فقد أصبحت ولي اهلك وانكسارك امامهم يعني انكسارهم.
واضاف قائلاً: وتذكر يا بني نحن أبناء مالك لا نظهر ما في قلوبنا على وجوهنا.
فلما عادوا إلى الدار وانقضى النهار واسرجوا السراج اخذ حيدر بيد رحيل واخذها الى المجلس وأغلق الباب خلفهما وقال لها بنبرة فيها خليط من القلق والغضب: يا رحيل عليكِ أن تأخذي اسماء ومالك وهند وان تتوجهي الى بغداد!
ثم اشار بسبابته الى الأرض وقال: من هذه الليل!
ثم امسكها من كتفيها وقال: فأن بقيتم في بابل فأنكم هالكون بينكم وما بين ثلاثة أيام!
فقالت وهيَ تجهش: يا حيدر أتريدين أن أغادر ومازال تراب ابني رطباً؟
فقال حيدر: يا رحيل افهمي بقائكم في بابل يعني قتلنا جميعاً فلم يعد لنا في هذه الارض من ناصر او جار او صديق، الجميع ينتظر سقوطنا لنهش
لحمنا وان امان خالد ما هوَ الا كلام يقال فهوَ لن يتركنا حتى يقطع رأس كل واحد منا.
فقالت رحيل: وانت ماذا ستفعل؟
فتركها حيدر وعاد للخلف قليلاً ثم استدار واعطاها ظهره وقال: سأظل في بابل حتى عودة معتصم بعدها سأتوجه الى حسن في سامراء.
فوضعت رحيل يدها على ظهره وقالت: الا تخاف على نفسك من خالد واعوانه؟
فقال حيدر: لا تقلقي علي سأتدبر أمري.
ثم اخرج مكتوباً من بين ثيابه وستدار الى رحيل ووضعه بيدها وقال: عندما تصلين الى بغداد توجهي الى مكتبتها وسلمي هذا المكتوب الى امينها فأنه لن يقصر في خدمتكم.
فلما أقبلت رحيل ومن معها لمغادرة بابل خرج حيدر من الدار وهوَ يحمل العادل والفاروق ونده على مالك فلما اتاه جثى على ركبته حتى صار بطوله وقال له: يا مالك انت الرجل الوحيد في هذه القافلة وقريباً ستبلغ اشدك.
فوضع العادل بيده وقال له: فخذ سيفك هذا ولا تسله الا دفاعاً عن نفسك او طلباً للحق.
ثم وضع الفاروق على خصر مالك وقال له بنبرة صارمة: وهذا سيف والدك فخذه ولا تسله الا عندما تبلغ اشدك وتكون مستعداً للأخذ بثأره فأن السيف أن طلب دم صاحبه لا يرد الى غمده.
فقال مالك ببراءة: الن يعود ابي؟
فالتمعت عينا حيدر بعدما سمع كلامه فاحتضنه وقال: لن يعود يا حبيب قلبي ولكن سنحيه بأحياء ذكره فأن الإنسان لا يموت حتى ينسى.
ثم حمله ووضعه على فرسٍ أدهماً صغير وقال: وهذا فرسك المبشر انه من نسل فرس جدك مالك.
فقال مالك: لكني لا أعرف كيف أسير به.
فحضرت رحيل على فرس شهباء وامسكت بلجام المبشر وقالت: ستتعلم في الطريق.
فجرت اللجام وتقدمت فقال حيدر: الا تحتاجين سيفاً؟
فتوقعت ونظرت له بطرف عينها ورفعت سيفاً كان معلقاً على خصرها وقالت: معي هذا.
فتابعت طريقها مع مالك والنسوة خلفها يركبن في هودج جمل وخلفهن حيدر فلما وصلوا لبوابة بابل أطلت اسماء برأسها من داخل الهودج وقالت: وكيف سنخرج والبوابة مغلقة؟
فقالت رحيل: بنفس الطريقة التي دخل ابوكِ بهت.
فتقدم حيدر وجميع العيون عليه الا هند التي ظلت ساكنة داخل الهودج فأمسك حيدر بيديه احدى جوانب البوابة وأخذ نفساً عميقاً وبدأ يسحب البوابة بصعوبة حتى فتحها فتحتاً كاملة فترك البوابة وأخذ يتنفس بثقل فسحبت رحيل لجام المبشر وسارت به خارج بابل والجمل يسير خلفها وظل حيدر جنب البوابة يراقبهم حتى اختفوا عن الافق فبدأ بدفع البوابة حتى اغلقها واستدار ليعود لداره فسمع صوت ركض من احدى الازقة فلم يعره اهتماماً وبدأ يسير عائداً لداره والهم على ظهره مثقلاً خطواته فأخذ ينشد:
أنا عندي من الأسى جبلُ
يتمشَّى معي وينتقلُ
أنا عندي وإن خبا أملُ
جذوةٌ في الفؤادِ تشتعلُ
إنما الفكرُ، عارماً، بَطلُ
أبد الآبدينَ يقتتلُ
قائدٌ مُلهمٌ بلا نَفرٍ
حُسرتْ عنه رايةُ الظَّفرِ
حتى وصل الدار فدخله وتوجه فوراً لسيف ابيه البتار فوقف امام السيف وأخذ يتأمله ثم مد يده عليه فأحس برعشة في جسده وبدأ يتصبب عرقاً فسمع صوت ابيه خلفه يقول له: يا حيدر خذ السيف بقوة.
فنظر خلفه مرعوباً فرأى ابيه فأزاح نظره عنه وأعاده إلى السيف
ومالك يقول له: اسحبه.
ويكرر بصوت اقوى: اسحبه!
ويستمر بتكرارها حتى سحب حيدر السيف من غمده فاختفى صوت ابيه من المكان فلما نظر خلفه كان قد اختفى فعلق الغمد على خصره وأعاد السيف داخله وخرج من الدار متوجهاً لسوق الحدادين
فلما وصل السوق كانت جميع ورشات الحدادين مغلقة ولا يسمع في المكان صوتاً الا صوت طرقات على الحديد جاءت من ورشة عم رفاعة فأزال البتار عن خصره وامسكه بيده وتوجه نحوه فلما وصل له توقف عم رفاعة عن الطرق وقال: قد تأخرت.
فرمى حيدر بالبتار نحوه ولم يقل شيئاً فامسك عم رفاعة بالبتار وأخرجه من غمده وبدأ بطرقه وحده وحيدر جالس على الكرسي خارج الورشة فلما انتهى نهض حيدر من مكانه فأعطاه رفاعة البتار فلما تسلمه قال حيدر: ماذا ستفعل الان؟
فقال رفاعة: سأغادر بابل مع شروق الشمس.
ثم اضاف رفاعة: وانت ماذا ستفعل؟
فوضع حيدر البتار على خصره واستدار مغادراً وقال: ما توجب علي فعله قبل ثمانية وثلاثين عام.
فتبسم عم رفاعة وقال: ايدك الله بروح القدس يا رافع اسم ابيك
وفي طريق حيدر نحو القصر رءا كاظم أمامه يحمل كيس خيش على ظهره فتقدم كاظم وتقدم حيدر حتى صارا امام الثاني فقال كاظم: اعلم ان الغضب قد عما عينيك فعد ادراجك قبل أن يستيقظ خالد من سكرته ويأمر بنقض الأمان
فدفعه حيدر واكمل طريقه فانزل كاظم الكيس وأخرج منه شيئاً ورفعه ثم قال: لعل هذا يرجعك لصوابك
فنظر له حيدر بطرف عينه وصدم لما رءاه يحمل رأس جعفر فسحب البتار وتوجه نحوه ووضع طرفه على عنقه وقال: سلمني الرأس
فبتلع كاظم ريقه وقال وهوَ يتعرق قلقاً: عد ادراجك وظل في دارك وستحصل عليه.
فأطال حيدر النظر اليه ثم انزل البتار وأعاده لغمده ثم قال: حسناً
فعطاه كاظم الرأس ثم تركه وعاد للقصر فاحتضن حيدر الرأس واخذ يجهش بالبكاء وهوَ يسير نحو المقابر فلما وصل توجه نحو قبر جعفر فأنزل الرأس على الأرض وشمر عن ساعديه واخذ ينبش القبر حتى فتحه فنهض وحمل الرأس من على الأرض وتلمس وجناته لآخر مرة وانزله داخل القبر وهال عليه التراب ثم نهض واستدار ليرحل فلما سار قليلاً سمع صوتاً يخرج من قبر ابيه يقول: يا حبيب قلبي نم اذاً بقربي
فنظر بطرف عينه نحو قبر ابيه وقال: انه في رعايتك الان يا ابتِ