مدريد – اسبانيا

الساعة 1:00 مساءاً

مكتب كبير، يتوسطه ثُريا ضخمة معلقة على السقف بتصميم من القرن التاسع عشر، وعلى رفوفه وضعت تحف وقطع من الحضارة السومرية، البابلية والمصرية.

زينت جدرانه الأربع نوافذ ضخمة، تتدلى منها ستائر من قماش إيراني اصيل، في الصباح يرفعون الستائر ليدخل ضوء الشمس للمكتب، وعند الظهيرة يسدلونها على النوافذ خشيه إتلاف أشعه الشمس للقطع الاثرية.

جميع من في المكتب مشغول بما بين يديه، فمنهم من يراجع مسودات بحثه ليقدمه للجنة العليا للبحوث والاثار، والبعض يصحح اوراق تلامذته المتدربين، وآخرون يتناقشون حول قطعة أثرية قديمة قد أنهكتهم بالبحث عن مصدرها.

إلا إميليا كانت الوحيدة التي تنظر للقطعة المتدلية من السقف بفراغ.

وُظف في هذا المكتب ذويّ الخبرات العالية؛ فأغلبهم يعملون في هذا المجال قبل عشر أو اثني عشر سنة عدا السيد كارل بوارو.

« مساء الخير ياسادة!»

هتف بها السيد بوارو وهو يدخل إلى المكتب بعد وجبة غداء شهيه، لكن لم يرد عليه أحد؛ فجميعهم يمقتونه لسبب أو لأخر، فعلى عكسهم يسمح له بالخروج في أي وقت يشاء لسببين، اولا الواسطة فقريبه يعمل في ادارة المؤسسة، وثانياً جوائزه الكثيرة، التي نالها بتزوير بحوث الآخرين ونسبها له، فاذا تركت بحثك صدفة على سطح مكتبك ولم تجده عن عودتك اعلم إذا أن السيد بوارو قد اخذه، ولن تستطيع استرجاعه؛ ببساطة لأنك لم توقع عليه لذا لا يمكن التأكيد بأنه لك.

قدم بوارو إلى المكتب قبل خمس سنوات، أي بعد قدوم إميليا بسنتين، فهذا لا يشترط بأنها أكبر منه؛ فقد درس السيد كارل علوم الحاسوب وتخصص فيها لكن لم يجد عملاً مناسباً براتب زهيد، لذا بدأ بدراسة علم الآثار ولم يكن بارعاً فيه، دائما ما يستعين بأحد زملاءهِ لحل الواجبات أو لتسليم البحوث الأكاديمية المطلوبة منه، لذا فهو لا يفقه شيئا في علم الاثار.

اما إميليا درست علم الآثار وتخصصت فيه من سنواتها الاولى في الجامعة، لكن لم تنل جوائز كثيرة بسبب احتجاج اللجنة الدائم والمستمر على أبحاثها دون أن تعلم السبب.

_____

دقت الساعة لتشير للثانية مساءاً، أي أن وقت الغداء والمغادرة إلى منازلهم قد حان، ترك الجميع ما بيديهم وتوجهوا سريعا نحو بوابه الخروج.

جمعت أميليا حاجياتها من سطح مكتبها، رغم انها لم تنجز الكثير اليوم، فتحت خزانة كانت قد وضعت خلف مكتبها مباشرة

«ها أنت ذا»

تمتمت أميليا وهي تُخرج مِلفاً يحتوي عدة اوراق، أغلقت الخزانة برمزها السري وتوجهت نحو الرواق.

خرج من المكتب المجاور لمكتبهم شاب ببداية العشرينيات، يرتدي بِذله رسمية رمادية اللون بربطة عنق حمراء قاتمة، وقد صفف شعره بشكل رسمي يناسب عملة في المكتب.

«هُنا.. إميليا»

لوح الشاب لإيميليا منادياً لها «اوه! مساء الخير جون! »

جون زميل أميليا من الجامعة، صدف قبولهما في نفس المؤسسة، لذا دائماً ما يتقابلان في أوقات الفراغ أو عند استراحة ما قبل الظهيرة.

«هل تناولتِ غداءك؟»

«لا ليس بعد. قد خرجت الآن من المكتب»

«رائع اذاً، اعرف مطعماً جديداً في نهاية الشارع، يُشاع بأن طعامهم شهي»

عندها تذكرت إميليا فجأة بأنها قد وعدت والدها بتناول الغداء معه في المنزل بمناسبة ترقيته لمنصب محافظ المنطقة الغربية.

«اسفه جون لا أستطيع ، وعدت ابي بتناول الغداء مع ضيوفه في المنزل بمناسبة ترقيته»

«على ذكر الترقية، اعتقد انه لن تستطيعي الخروج من هنا بسلام الليلة!»

قالها جون وقد ملأت وجهه ملامح الضحك، تعجبت أميليا من كلامه؛ فما هو الشئ الذي لن تستطيع الخروج لأجله!

«ما الأمر هل الشرطة تنتظرني عند البوابة؟ » نظرت أميليا لجون بنظرات تملؤها الخوف والتوجس، خافت أن يكون السيد كارل قد أبلغ عنها بتهمة سرقه أبحاثه الثمينة.

انفجر جون ضاحكاً عليها قائلاً : «لا بل أسوء من الشرطة، انهم الصحفيون»

«صحفيون! ماذا يريدون مني!»

مسح جون دموعاً وهمية لإغاظة اميليا، ففي الواقع حتى ضحكه كان مزيفاً!

«كما قلت سلفاً قد ترقى والدك لمنصب جديد صحيح؟»

«اجل»

«اذا الصحفيون يتساءلون لمَ ابنه المحافظ تعمل في مكتبٍ للآثار بينما يمكنها التنعم بحياة مريحه بعيداً عن كل هذه الفوضى»

« صحفيو هذه الايام، الا يجب أن يتحدثوا مع مسؤول حكومي عن الوضع الاقتصادي في البلاد مثلاً؟ أخبرني اذا كم صحفي في الخارج تقريباً؟»

«حوالي عشرة؟ عشرون؟ انهم يزدادون مع مرور الوقت، لكن من حسن حظك الثمين انهم يتحدثون مع السيد كارل عن نجاحاته، لا يعلمون بانها مزيفه! »

تأففت أميليا من سوء حالها، فعلى هذا المنوال ستصل متأخرة للمنزل وستفوت الغداء المنتظر.

« اذا هل لديك حل أم تريد السخرية فحسب؟ »

« في الواقع فكرت بحل، لكن اعتقد بأنه قد لا يعجبك»

نظرت أميليا لجون تحاول قراءة أفكاره لتعلم ما يفكر به، لكن دون فائدة فدائماً ما تكون أفكار جون غريبة وأحياناً غير منطقية.

فعندما كانا في الجامعة سلم جون ملفاً خطأ لأستاذه، وعوضا أن يطلب استعادته، ذهب جون إلى غرفه مكيفات الهواء وصعد عبر نفق التهوية إلى مكتب الأستاذ واستعاد ملفه!

«أترين تلك العربة ذات الصندوق في نهاية الرواق؟ ... ادخلي داخلها وانا سأتظاهر بأنك كومة من الأوراق التالفة تحتاج إلى إعادة التدوير »

حسنا هذه المرة الفكرة مقبولة بالنسبة لإميليا، لكن هناك مشكلة! ستفسد تصفيفه شعر اميليا عند خروجها من الصندوق، وستتجعد سترتها وهي لا تحب أن تظهر بهذا الشكل!

«لكن ماذا عن تسريحة شعري! ستفسد! »

«حسناً انستي، أعندك حل اخر؟ اصعدي و لا تتذمري، اذا دخلت لسيارتك مباشرة لن يلاحظك احد»

ذهب جون ليحضر العربة، أثناء ذلك أمسكت اميليا بشعرها وجمعته كله في تسريحة عالية، وخلعت سترتها ثم طوتها بشكل مرتب.

أحضر جون العربة وثبتها على الأرض، مد يده ليساعد إميليا على الصعود. أمسكت إميليا بيده ودخلت في العربة فوضعت الملف وسترتها على ساقيها، ثم اغلق جون العربة بغطاءها تاركاً فتحة صغيرة تسمح لإيميليا بالتنفس.

توجه نحو البوابة ليجد حشوداً من الصحفيين، عندها تحرك أحدهم تجاه جون وعيون البقية تتبعه.

«مساء الخير سيدي أتعمل هنا؟»

توتر جون، ماذا يريد منه بالضبط! قد يفتح صندوق العربة وتكشف خطتهم لذا اسند يده على الصندوق ورد على الصحفي.

«اجل. كيف اساعدك؟»

«هل صدف ورأيت الآنسة إميليا هارث؟» ضغطت إميليا على شفاهها بقسوة، ربما يجيب جون بإجابه تفضحهم، فتتناقل الصحف والمجلات خبر اختباء ابنه المحافظ في عربة التدوير بخط كبير!

«اوه الآنسة هارث؟ اجل مازالت تكتب بعض الابحاث في الداخل انتظروها ستخرج قريباً» تنفست اميليا الصعداء بعد سماع جون، أكمل جون دفع العربة إلى أن وصلا إلى باحة حاويات الورق خلف المبنى.

خرجت اميليا من العربة وتوجهت سريعاً بعد شكر جون على معروفه إلى سيارتها، فيكفي الوقت الذي أضاعته بسبب الصحفيين.

وصلت إلى المنزل، كان منزل والدها كبير، يحتوي على حديقة أمامية وخلفية وموقف للسيارات، من الطبيعي لرجل في منصبه أن يملك منزلاً كبيراً كهذا وأكبر.

استقبلت إميليا مدبرة المنزل السيدة روز، حيث كانت تنتظرها على أحر من الجمر لأن إميليا لم تستعد بعد لقدوم الضيوف.

صعدت إميليا لغرفتها مع السيدة روز حتى تكمل استعدادها

«متى سيحضر ابي والضيوف؟»

«بعد عشرين دقيقة من الآن، يجب أن تستعدي بسرعة، حمداً لله لم تتأخري اكثر من هذا ! »

اخرجت السيدة روز فستاناً اخضر اللون به القليل من التطريز من خزانة إيميليا، و نسقت معه عقداً بسيطاً يناسب الفستان.

« أوليس مبالغاً به؟»

« انه غداء بمناسبة رسمية لذا يبدو مناسباً، ارتديه سريعاً لأصفف لك شعرك »

اومأت إميليا بإيجاب و توجهت نحو غرفه تبديل الملابس.

خرجت إميليا مرتدية الفستان والعقد، ثم صففت لها روز شعرها على شكل جديله تبدأ من اعلى رأسها إلى نهايته

«انتهينا، انت مستعدة بالكامل الآن »

شكرت اميليا روز على تجهيزها، فانطلقت روز للتأكد من استعداد الجميع.

مرت العشرون دقيقة ولم يحضر الضيوف ولا والد إميليا، ظلت إميليا جالسة في غرفة استقبال الضيوف بملل، لكن سرعان ماتوجهت نحو المطبخ.

«آنستي اخرجي من هنا من فضلك حتى لا تتسخ ثيابك»

حدثها المشرف على الطهاة السيد آدمز، ابتسمت إميليا في وجهه متظاهرة بالامبالاة.

«اوه يا إلهي! انظروا انه السيد العظيم آدمز! يتحدث بلباقة شديدة و كانه احد النبلاء! »

قالت اميليا ساخرة منه، فالسيد آدمز يكبرها ببضع سنين لذا لا بأس بالمزاح معه.

«لا تبكِ لاحقاً عند السيدة روز لان فستانك اتسخ اتفقنا! »

قرر آدمز رد السخرية بأخرى، فهو يعلم بأن إميليا لن تبكِ لهذا السبب.

تجاهلته إيميليا وتوجهت نحو الطهاة لترى ماذا أعدوا للغداء، ثم ذهبت نحو البراد لتلقي نظرة ان كانوا قد أعدوا كوكتيل الفواكه لكن انتهى الأمر بها بشرب كأس كاملة!

«آنسة إيميليا سيصل الضيوف بعد لحظات! »

هتفت روز على إيميليا لتخرج من المطبخ و تذهب نحو البوابة استعدادا لإستقبالهم.

فُتحت البوابة الكبيرة لتعلن عن حضور السيد هارث وضيوفه، مع انه كان من المخطط حضوره قبلهم لولا ازدحام الطريق.

توجه الضيوف برفقه السيد هارث وإميليا إلى غرفة الطعام بعد احتساء القهوة وتبادل أطراف الحديث. مجموع من حضروا اربع سيدات و خمسة ذكور جلسوا حول مائدة الطعام المزينة بشمعدانات و أواني فضية.

دخل الطهاة إلى غرفة الطعام وبدؤا في توزيع الاطباق، مع كل صنف يضعونه يشرح لهم آدمز مكوناته وطريقه إعداده و من اي بلد قدم.

احدى الحاضرات هي زوجة رئيس البلدية – تعرف بسم السيدة مانويل- حيث حضرت عوضاً عن زوجها الذي اعتذر بسبب وعكة صحية.

«آنسة إميليا هارث، سمعت بأنك مازلت تعملين في مكتب قديم للآثار، أهذا صحيح؟»

وضعت إميليا الشوكة التي كانت بيدها في الطاولة، كانت ستتوقع ان تسأل أحداهن عن عملها، فجميع من في طبقتهم يرون انه عمل غير مشرف. فمن المفترض بوجهه نظرهم ان تعمل في المناصب الحكومية الكبرى لتتسلق سلم الرئاسة.

« اجل ما زلت اعمل فيه، وحالياً اعمل على بحث جديد اريد تقديمه للجنة العليا للآثار»

أجابت إميليا السيدة مانويل بإبتسامة بلاستيكية، فهي لا تريد افتعال المشاكل او التصرف بوقاحة حالياً.

شعرت إميليا ان كومة من الأسئلة قادمة في الطريق لذا انسحبت بهدوء من الطاولة وتوجهت نحو غرفتها .

أنهى الجميع طعامهم، عندها استأذنهم السيد هارث للذهاب إلى دورة المياه، توجه السيد هارث نحو غرفة إميليا لعله يجدها هناك ، طرق الباب ثلاثًا ثم دخل

«إيمي لم انت هنا؟»

حدثها والدها بنبرة هادئة فهو يعلم بأنها لا تطيق أسئلتهم عن عملها وحياتها الخاصة .

«في الواقع، اردت الاستراحه قليلا ثم اعاود الانضمام لكم لن اتأخر»

لمح والد إميليا الملف الذي اخرجته من خزانه المكتب، نظر له ورحل.

اخذهم السيد هارث لغرفه الضيوف وقدم لهم الشاي، انضمت إميليا للسيدة مانويل ورفيقاتها في أحاديثهم الجانبية في الموضة والملابس بما انها تشعر بالملل اساساً.

حل الليل، ذهب الجميع بعد توديعهم لإيميليا والسيد هارث لمنازلهم بينما بدأ الخدم في جمع الأواني وترتيب المنزل.

صعدت إميليا لغرفتها وبدلت ثيابها بملابس مريحة، نظرت للملف الموضوع على الطاولة

«اتريد أن أتفحصك الآن؟ » ظلت تنظر له بشرود فهي لا تعلم ما يحتويه من معلومات، فقد كانت مشاعرها تتردد بين الحماسة والتردد تثاءبت إميليا من التعب، فقد كان يوماً طويلاً لذا قررت فتحة و التعامل معه غداً بما أن الغد عطله.

______

2022/01/10 · 163 مشاهدة · 1648 كلمة
نادي الروايات - 2025