استيقظت إيميليا من النوم، نهضت من السرير وفعلت كل شيء يفعله الإنسان الطبيعي عند الاستيقاظ من النوم عدا شتم الطقس.
«عليك اللعنة !!»
كان الجو ماطراً وعاصفا للغاية حتى بالكاد يُمكن رؤية الشمس، حيث كان هزيم الرعد عالياً لدرجة ترتجف منها القلوب.
و بما أن الجو عاصف هكذا، فلا يوجد أي عذر يمكن اختلاقه لتأجيل فتح الملف بالنسبة لإيميليا، لذا قررت تناول الإفطار وحدها في غرفتها حتى تفتحه دون الانشغال في أمور قد تطرأُ عليها.
أنهت إيميليا إفطارها و توجهت سريعاً نحو مكتبها في زاويةِ الغرفة بعد التأكد من إغلاق باب غرفتها بإحكام ، فلهذا الملف سرية تامة عند لجنة الآثار لإحتواءه على معلومات سريه لا يجب أن يطلع عليها احد، فقد احتاجت إيميليا لبرنامج خاص لاستخراجه من قرص المؤسسة، و عندما ضمنت انها جمعت جميع المعلومات خبأته في الخزانة السرية خلف مكتبها.
أخرجت الملف من الدُّرج ثم أزالت الشريط اللاصق الذي ختم نهاية المغلف الذي وضع فيه ، و عند قلب الصفحة الأولى ظهرت سيرة ذاتية لأحد ما.
«الإسم : سكارليت هارث
تاريخ الميلاد :1972م
الوظيفة : عالمة آثار
الحالة الاجتماعية: متزوجه منذ خمس سنوات
الشهادات و الجوائز التي حازت عليها:
-بكالوريوس علم الآثار بدرجة الامتياز.
- ماجستير علم الآثار بدرجة الامتياز.
- جائزة أفضل عشر نساء رائدات في العلوم.
- جائزة الميدالية الذهبية للإنجاز الأثري المتميز.
تاريخ آخر رحله ميدانية :2001
أبرز نتائج الرحلة: لا يوجد.
تاريخ العودة من الرحلة : لا يوجد. »
انتهت إيميليا من القراءة، و بدأت تفكر فكيف لم تعُد والدتها من الرحلة وقد حضرت جنازتها بنفسها؟
توقف المطر عن الهطول و اختفى صوت الرعد معه، توجهت إيميليا نحو النافذة كي تفتحها لتدخل بعض نسمات الهواء المنعشة، حينها تطايرت بعض من أوراق الملف بفعل الهواء، و من بين الأوراق المتطايرة لمحت إيميليا ورقة مميزة، فلون كتابتها مختلف عن البقية، فجميهم كتبوا باللون الأسود عدا هذه الورقة كتبت باللون الأحمر الفاتح ، التقطتها إيميليا و بدأت في قراءتها
«إلى عزيزتي إيميليا ، فتاتي الصغيرة التي قد تكبر بدوني :
أرجو أن تكوني بخير ،وان تكون الحياة لم تأخذ منك غيري يا صغيرتي ، تمنيت لو أبقى معك لفترة أطول ، ندمت على تركك في عمر صغير، ليت لو يعود في الزمن لأضمك لحضني لكن لن ينفعني الندم الآن.
غالباً تقرئين هذه الرسالة و أنت في العشرين من عمرك لذا أتمنى أن علاقتك بوالدك ما زالت جيدة، و أنك لا زلت تصغين للآنسة روز التي اهتمت بك منذ مغادرتي. ركزي في كلامي جيداً إيميليا، توقفي عن البكاء أن كنتِ تبكين الآن، لا بد أنك تعملين في نفس المؤسسة التي كنت اعمل بها و إلّا لم تكوني قادرة على قراءة هذه الرسالة من الأساس، أنا ذهبت في رحلة طويلة للغاية للبحث عن مدينة قد تكون غير موجودة اصلاً و اذا كانت جثتي قد عادت إلى اليابسة فاعلمي بأني لم أواجه اي مخاطر، اما اذا لم أعد اعلمي بان هناك شيئاً مريباً و غريبا قد حدث.
أسفه إيميليا علي إنهاء الرسالة هنا فليس لدي وقت... مع خالص محبتي 'سكارليت هارث »
و انتهت الرسالة هنا، كانت أول رسالة تقرأها إيميليا من والدتها و يبدو بأنها الأخيرة.
أجهشت إيميليا بالبكاء و ملأ وجهها الدموع ، لم تكن مستعدة لرسالة كهذه، فقد افتقدت والدتها كثيراً و بقيت تكرهها لأنها تركتها في سن صغير بسبب العمل، ففي اعتقاد إيميليا أن والدتها دائماً ما تفضل العمل عليها و لا تهتم بها.
وقفت إيميليا حائرة، فمن رسالة والدتها وسيرتها الذاتية استنتجت بأنها لم تعد إلى اسبانيا حية أو ميته، شعرت بشعور والدتها تموت وحيدة في مكان بعيد دون أن تودعها حتى، ان تموت وحيداً لا يعلم أحد ماذا حدث لك بالضبط أمر يوجع القلب.
رن هاتف إميليا، التقطته من الطاولة الصغيرة بجوار سريرها، كانت سترفض الاتصال لولا كان المتصل جون.
مسحت إيميليا دموعها لترد على الاتصال
«مساء الخير إيميليا....كيف الحال؟ »
«اهلاً جون، بخير. أنت في المكتب؟ »
حاولت إيميليا إخفاء آثار البكاء في صوتها لكن لم ينجح ذلك فما زالت بحة البكاء موجودة .
«لمَ نبرة صوتك متغيرة؟ أكنت تبكين »
سألها جون بقلق ، فأخر مرة احمرت عينيها من الدموع قبل عام تقريبا عدما رفضت اللجنة احد بحوثها الذي عملت فيه لأشهر .
صمتت إيميليا ولم ترد عليه، لا تريد ان يراها في أضعف حالاتها مثيرةً للشفقة، فقد كرهت شفقة الناس عليها في عزاء والدتها عندما كانت صغيرة، كرهت نظراتهم المليئة بالشفقة عليها، نظراتهم الكاذبة والمدعية للتعاطف، فحين انتهاء العزاء اختفوا جميعا وكأنهم لم يدعوا بأنهم سيعتنون بها كابنتهم، لذا بقيت وحيدة في القصر الكبير مع الأنسة روز والخدم.
«إيمي لنتقابل في مقهى ستيوارت الآن ، وبلا أعذار»
علم جون بأن إيميليا لن تخبره بالسبب لذا قرر أن يراها وجها لوجه ليعلم ما الذي جرى لها بالضبط، عندها وافقت إيميليا على اقتراحه فإن لم توافق سيأتي للقصر فهكذا سيعلم والدها بأمر الملف و الرسالة و هذا ما تتجنبه إيميليا .
وصل جون إلى المقهى أولا حجز طاولة و جلس ينتظر إيميليا ، مرت دقائق حتى ظهرت إيميليا فلوح لها بالجلوس في الطاولة بجواره ، و بعدما وصلهما الطلب قرر جون بدء المحادثة بما أن إيميليا بقيت صامته.
«إيمي ما الذي حدث بالضبط؟ اعلم أن هناك شيئا ما قد حدث لك، لا تقولي لا شيء فقط ارتدت البكاء!»
«ليس بالشيء المهم ، فقط شعرت باني على حافه الانهيار ولا شيء اتشبث به، اضافه الى ذلك اشتاق لوالدتي كثيراً هذه الأيام ولا استطيع التحمل »
إيميليا انت تقسين على نفسك ، لم لا تأخذين إجازة ونسافر سوياً؟» مد جون يده ليربت على كتف إيمليا رغبةً في تخفيف الثقل عن كاهلها
«أتعتقد انها ما زالت على قيد الحياة؟»
سألت إيميليا جون متمتمه وهي متأكدة من أن ما تقوله محض أوهام، لكن قلبها يأبى تصديق ذلك.
«إيميليا، جميعاً نفقد شخصاً ماً قد يكون عزيزاً جداً علينا، لكن يجب أن نستمر في التقدم! لا يجب ان نقنع أنفسنا بأنه ما زال على قيد الحياة، هذا لا يساعد! تذكري أن من يرحلون عنا أولا هم الأطيب والأنقى قلباً، رحلوا حتى لا ترهقهم الحياة أكثر، حتى لا يقابلوا أناس سيئون فيفسدونهم»
أنهى جون كلامه و هو ينظر لإيميليا يراقب ردة فعلها، لكنها بقيت صامتة تنظر لكوب القهوة.
«جون، ما هو السبب الذي دفعك للاتصال بي؟ »
قالت إيميليا محاولة تغيير الموضوع، و اعتقد بأنها نجحت.
«اوه صحيح لقد نسيت. تمت إقالة السيد كارل بوارو »
نطق جون بهذه الجملة و تملأه ملامح الفرح، فكيف لا يفرح بهذا الخبر!
«لماذا ما لذي فعله؟»
تعجبت إيميليا، فبوارو الذي تعرفه ملتصق بوظيفته و لا يمكن لأحد زحزحته! .
«جاء مقيم جديد في لجنة الآثار، يقوم بزيارات مفاجئة للمؤسسات ليرى أداءهم، وصدف وجود السيد بوارو اليوم في المكتب وكان أول شخص تقع عيناه عليه لذا قام باختباره وفشل، الان السيد بوارو بلا وظيفة!»
«وهل قام باختبارك انت؟ »
«لا، هو لا يختبر الجميع في وقت واحد، يذهب هُنا وهناك و يختار عشوائيا . صحيح أظن أنك أنت التالية؛ فجميع أبحاثك ترفض استعدي»
حذر جون إيميليا من ما هو قادم، فهذا المقيم الجديد بلا رحمة! فقد طرد السيد بوارو ذو الوساطات العالية والجوائز الكثيرة فما بالك بإيمليا التي لم تنجح قط؟
«لا بد ان القدر قد تذكرني اليوم، أنا في ورطة لا محالة! »
أومأ جون موافقاً على كلامها، فمن حسن حظه انه مجاله مختلف عن مجال إيميليا وبوارو.
_____