الأمنية 60: علاقات…
-----------------
خلاف بين قديس السيف وملكة مملكة المحاربين بدا لي ولغيري وكأنه قتال حياة أو موت…
سيفانايرا، تلك التي وقفت قبل قليل في وجهي بهالة الملوك وهدوء القائد العظيم…
كانت تلوح بسيفها المشبع بهالة سيف كثيفة تصرخ بكلمات يختلط فيها الغضب بالحزن، بينما الدموع لا تكاد تتوقف على وجهها.
أما قديس السيف؟ لم يكن يرد.
فقط يتحرك بهدوء، يتفادى ضرباتها كما لو كان يراقص ظلاً لا يريد أن يجرحه.
كما هو المعتاد منه، لا يتحمس لشيء غير قتال متكافئ…
كنت أراقب من باب القاعة، ماريا خلفي تمسك بكاجسا التي همّت بالتدخل، بينما جونيا ظلت صامتة، تنظر للمشهد وكأنها ترى خلافا درامي لأول مرة في حياتها…
كنت أحاول ان أسمع… أحاول أن أُمسك بالكلمات المتناثرة وسط صوت الحديد والصراخ.
"خائن… بارد… لمَ فعلت ذلك بي؟!"
"كنتَ تقول أنك لن تتخلى عني…"
"لماذا اخترت ذلك المسار بدل أن تختارني؟!"
مع كل كلمة كانت تضرب سيفها بقوة أكبر، حتى بدأ البلاط تحتها يتشقق، ومع كل تجنبٍ من قديس السيف كنت أرى جسده يتحرك وكأنه لا يريد أن يرد، لا يريد أن يؤذي، ولا يريد أن يقترب.
الغبار بدأ يملأ القاعة، هالة السيف التي تحيط بها كانت تنفجر مع كل شهق منها…
لكن رغم كل شيء… رغم كل ما رأيته، لم يكن يبدو خائفًا، ولا حتى متألمًا.
كان قديس السيف فقط صامتًا.
ثم جاءت الضربة الأخيرة، أطلقتها من اعماق قلبها، كأنها أرادت أن تمزق به علاقتها معه للمرة الأخيرة.
وحين لم تصب شيئًا، بل اصطدمت بجدار القاعة وتحطم جزء منه، توقفت.
وقفت هناك، وسيفها يهتز بين يديها، ثم سقط.
وسقطت معه… على ركبتيها.
كانت تجهش بالبكاء، بكاءً لا يمكن إخفاؤه حتى لو حاولت.
بكاء امرأة لم تبكِ منذ سنوات، لكنها اليوم تفعل، أمام رجل لم يكن يومًا لها.
"لماذا… لماذا لم تقل شيئًا؟ لم تحاول أن تبرر، لم تحاول أن تعود… حتى الآن… أنت فقط تنظر إليّ… وكأنني غريبة."
كانت كلماتها كافية…لأفهم.
قديس السيف، الذي ظل صامتًا طوال الوقت، مشى نحوها.
لكن ليس ليواسيها.
بل ليمر جنبها.
تركها تجلس هناك، وسار خارج القاعة… حتى وصل إليّ.
نظرت في عينيه، لم أجد فيهما شيئًا من الانتصار، ولا حتى الحزن…
فقط ذلك الفراغ المعتاد الذي اعتدته منه في الأيام الماضية القليلة…
والذي لا يملؤه شيء غير السيف.
قال بهدوء، كأن ما جرى لم يكن سوى سحابة صيف عبرت فوق رأسه
"رفضت حبها منذ زمن بعيد."
سكت لحظة ثم اكمل
"لستُ أهلاً للعلاقات. لم أكن أبحث عن شخص أشاركه مساري، بل المسار نفسه، مسار السيف."
حتى عبقري مثله لا يهتم بشيء غير السيف…
انا أفهم ان الانشغال بمسارك يمكن يكلفك معظم عمرك…
لا او بالأحرى لو كنت مكانه لفعلت الشيء نفسه.
نظرت إليه، لم أرد أن أجادله، فهؤلاء الذين اختاروا المسار على كل شيء في حياتهم… لا يفهمون الكلمات المعتادة.
لكن رغم كل ذلك…
"ربما كانت تنتظر كلمة واحدة فقط… لا أكثر."
هزّ رأسه، كأنه سمع هذه الجملة كثيرًا.
ثم سار مبتعدا.
عدت بنظري إلى القاعة. ماريا وكاجسا كانتا قد اقتربتا من الملكة، تحاولان تقديم منديل أو أي شيء يساعدها، لكنها لم تكن ترى شيئًا… فقط كانت تهمس:
"لماذا اختفى؟ لماذا لا يمكنني أن أكرهه؟"
ثم غادرت.
……..
حين خرجت كل ماريا وكاجسا من القصر لاحقًا، لم يكن قديس السيف معنا.
فقد طلب أن يسير وحده لبعض الوقت.
في حين ان جونيا كانت تراقب ما يحدث وكأنها تشاهد مسلسل درامي يحدث في الواقع…
أما نحن، فقد قررنا أن نمنح تلك الحادثة الصمت الذي تستحقه.
لكن في داخلي، لم أستطع التوقف عن التفكير.
التفكير في اشياء قررت نسيانها منذ زمن طويل…
لكن في هذا العالم ظهرت أمامي أكثر من مرة…
أفكر كيف يمكن للحب ان يسبب هذا الجنون…
وكيف للعلاقات ان تصبح بهذا التعقيد…
ولشخص مثلي ان يأخذ من الحب عذرا لتدمير ما هو عزيز على الآخرين…
نظرت إلى كاجسا التي كانت تنظر للسماء، ولماريا التي تمشي صامتة كما لو كانت تفكر بشيء أبعد.
ربما… كل منا يحمل شيئًا لا يُقال.
لكن علاقتنا بالفعل اصبحت بهذا التعقيد.
وكل ما علي فعله هو حماية ما هو ملكي سواء هذه العلاقات او التي سأصنع.
………
تلاشى ظلام الليل ببطء وظهرت اشعة ضوء النهار…
اشرقت الشمس مجددا…
انقض منذ تلك الحادثة يومان بأحداثها البسيطة…
من تسوق وتجول في المملكة الى راحة ونوم بعد تعب طويل.
قديس السيف الذي اختفى خلال هذه المدة ظهر أمامي راغبا في محادثتي…
تركت مهمة التجول بين الأسواق رفقة الفتاتين لماريا…
ثم اتبعت قديس السيف الذي اظهر وجها متوترا لأول مرة.
وقفنا امام تل مطل على حديقة حيوية، حيث يتنزه فيها العجائز والأطفال ويتاجر فيها اصحاب العربات.
تأملنا معًا المدينة من الأعلى…
لم يكن يقول شيئًا، ولم أكن أنوي كسر الصمت…
لكن بعد دقائق، همس وكأنه يخاطب نفسه…
"هل كنتُ قاسيًا؟"
لم أحتج إلى سؤاله "في ماذا"، كنت أعلم يقينًا انه يعنى ما حدث مع الملكة سيفانايرا.
"لا، لم تكن قاسيًا. كل ما فعلته… بدا لي وكأنه من طبعك"
التفت إلي مع نظرته المترددة…
"اتباع مسار السيف أحيانًا يعني أن تجرح أحدًا لمجرد أنك لم تكذب عليه…أليس كذلك؟"
هذا المهووس بالسيف…
تنهد…
"البحث عن القوة لأجل حلم أو هدف… ليس خطأ.
لكن الحقيقة؟ ليست كل القلوب جاهزة لأن تفهمك من أول مرة.
لو كنتَ تخليت عن حلمك فقط لأجل أن لا تؤذيها، هل كان هذا سيسمى حبًا… أم ضعفًا؟"
مع أنه لا يحق لي قول هذا الكلام فقد فعلت اشياء اسوء مما فعل لكن...
ربما اردته لا يمشي في الطريق المسمى باليأس...
"ربما هي لا تكرهك، حتى في أشد لحظات الألم… لم تكرهك، ربما فقط كانت تنتظر شيئًا، كلمة، التفاتة، اعتذار بسيط."
دب الصمت بيننا للحظات وكأنه ينتظرني لأقولها…
"اذهب…ايها الأحمق!"
اندهش قديس السيف من ما قلته…
"اذهب وقل ما كان يجب أن يُقال، لا تطلب المغفرة… فقط اخبرها أنك لم تكن مستعدًا للحب، وهذا بحد ذاته كافٍ."
ابتسم قديس السيف، تلك الابتسامة الباهتة التي لا يعرف أن يبتسم بها إلا من قضى عمره في الوحدة.
ثم غادر.
……..
مرت بضع دقائق.
ظننت أن الأمر قد مر بسلام.
ثم…
*صرخة عالية
تبعها صوت زجاج يتحطم، ثم صوت خطوات الحرس، ثم مجددًا، تلك الصرخة المعروفة.
تنهد…هذا الأحمق الذي لا يعرف شيئا غير السيف…
"دمر الاعتذار… مرة أخرى."
لكن هذه المرة، كانت الصراخات أقل ألمًا، أقل مرارة.
كان هنالك شيء مختلف.
ضحكة مكتومة، صراخ مرتبك… أيضا شتائم ناعمة.
ربما هذا هو أسلوبهم في التفاهم.
ربما لا يحتاج بعض الناس سوى إلى أن يُسمعوا حتى لو لم يُفهموا.
يا لهم من ناس غريبة الأفعال.
……..
مرت ساعات قليلة بعدها، ثم ظهر قديس السيف مجددًا أمامي بينما يربت على ملابسه كما لو أنه خرج من عاصفة، لكنه بدا بشكل ما سعيدا…
"انتهى الأمر؟" سألته...
"بشكلٍ ما." أجاب.
ثم نظر إلي بابتسامة نادرة…
"لن أرافقك بعد الآن."
لم أكن مندهشا فقد توقعت هذا…
لقد رافقني لأيام دون ان يذهب للتدرب على الأشياء الجديدة التي تعلمها حول مسار السيف…
"يبدو اننا سنفترق هنا…"
صمتت للحظة ثم أكملت…
"هل ستعود إليها؟"
"لا."
"هل ستفكر فيها؟"
"دائمًا."
رؤية قصة حب كهذه امامي ممتع نوعا ما هيه…
رفع قديس السيف يده ثم صافحني…
قبضته كانت دافئة بشكل غريب، كأن شيئًا ما بداخله تحرر أخيرًا.
"اعتنِ بنفسك يا من تُرهق السيوف بأفكارها."
"لا اظنني أرهق السيوف فحسب…"
ثم مضى في طريقه…
بينما تابعت خطاه تختفي بين الطرقات الترابية خارج المملكة.
……….
أصبحت وحدي الآن، دون حوارات طويلة أو نقاشات فلسفية. فقط أنا، تلميذاتي وجونيا.
منذ رحيله لم أسترح ابدا…
قضيت الأيام التالية أتجول، من حانة إلى سوق، من مزرعة إلى برج قديم، من حديقة إلى سور مدينة…
حتى الفتاتين بدأن تتساءلان عن سبب هذا التجوال المتواصل.
كنت كمن يبحث عن شيء… دون أن يدري ماذا.
أحيانًا كنت أتوقف، أنظر إلى نافذة قديمة، إلى درع معلّق، إلى طفل يتعلم المبارزة بعصا خشبية.
ولا أجد ضالتي…
ربما لأنني مقدم على أحداث كثيرة او حتى اعراض عدم القتال وسط هذا الجو المثير…
تظاهرتُ بالراحة أحيانًا، لكن الحقيقة أنني كنت متوترًا، مشتتًا…
كما لو أن شيئًا ما يُفلت من بين يدي.
وكلما اقتربت منه… اختفى.
وفي إحدى الليالي، وأنا على سطح نُزل صغير، أراقب سماء المملكة التي لا تنام، قفزت فكرة إلى رأسي…
"الحجر الأسود…"
تذكرت ذلك الحجر الغريب الذي قيل لي انه كان بحوزة قديس السيف.
كنت أريد أن أسأله عنه…
بل كنت على وشك أن أفعل…
لكني لم أفعل.
ضغطت على جبيني، وشعرت بالندم.
"كان يجب أن أسأله…"
ما ذاك الحجر؟ من أين أتى؟ ولماذا كان بحوزة قديس السيف؟
لكن الفرصة لسؤاله لم تحن وسط تلك الأحداث…
والرجل الذي يحمل الجواب… مضى كذلك.
ربما، في يومٍ ما اذا التقيته سأعلم..
او ربما كذلك سألتقي بفضيلة الغضب قبل ذلك…
أما الآن لديّ أقل من اسبوع لأنتظر ما ستخبرني به الملكة… عن السيدة آنيا.
وهذه الأيام المتبقية؟ ستشهد أشياءً أعظم من مجرد بحث…
لأنني سألتقي بالشخص الذي كان مثلي الأعلى في احدى الأزمنة.
----------------
انتهى الارك الرابع، ارك همسات الشيطان وفي الفصل القادم سيبدأ الأرك الخامس، أرك دموع اليأس.
سيكون ارك طويل مع احداث كثيرة، منها انتقام لم يكتمل، البحث عن الأمل والوداع الأخير...
انتهت الفصول الجاهزة أما الآن سأحاول ان ارفع فصل كلما يصبح جاهزا وبدون تأخير، الفصل القادم بعد يومين الى اسبوع على الأكثر.
تأليف: Souhayl TP