كانت شمس الوادي تشقّ الغيم مثل شفرةٍ من نار، والريح تمرّ على حقول أريثا حاملةً رائحة الطين الدافئ.
وقف إليان داروش وسط الأرض التي ورثها عن أبيه، يده مغروسة في التراب حتى الرسغ، والعرق ينحدر من جبينه كخيوطٍ من لؤلؤٍ مغبر.
قال بصوتٍ خافت وهو يغرس البذرة الأخيرة:
“عودي إليّ كما أتيتِ… بالصدق نفسه.”
لكن الأرض لم تجب بصمتٍ كما كانت تفعل دائمًا.
هذه المرّة، سمع همسًا خفيفًا، يشبه ترديد اسمٍ مجهول.
تجمّد جسده. ظنّ في البداية أنه توهّم، لكن الهمس ازداد وضوحًا:
“لماذا
رفع يده ببطء. لا أحد في الحقل سواه. النسيم ساكن، الأشجار لا تتحرك.
البذور التي زرعها منذ أسبوع بدأت تنبت أوراقًا صغيرة، لكن بعضها يلمع كأن داخله ضوء.
اقترب منها بحذر، ولمّا لمسها بطرف أصبعه، دوّى في رأسه صوتٌ آخر، أكثر حِدّة:
“كل
…
تراجع خطوة. كان والدُه قد حذّره قبل موته من زراعة أرض العائد دون إذن الكهنة. قال له يومها:
“هذه الأرض تُرجع ما تُعطي، لكنها لا تنسى النوايا.”
لكن إليان لم يؤمن بالخرافات، وكان يحتاج لمحصولٍ ينقذ قريته من المجاعة التي جلبها شتاء العام الماضي.
والآن… يبدو أن الأرض لم تنسَ كلام والده.
في ذلك اليوم، جاءه في الصباح غارِن ، صديقه منذ الطفولة، وهو يحمل سلة خبزٍ وبعض التمر.
قال وهو يقترب من الحقل:
“سمعت أنك بدأت تزرع من جديد. الناس في السوق يقولون إن أرض داروش أضاءت ليلًا.”
ابتسم إليان بتعبٍ:
“الناس في السوق يحبون القصص. الأرض لا تضيء، فقط تعود إليهم بما وضعوه فيها من كذب.”
ضحك غارِن، ثم جثا قربه ونظر إلى البذور المتلألئة:
“هذه ليست حبوبًا عادية. من أين حصلت عليها؟”
“من القبو القديم، تحت بيت أبي. وجدتها مغلّفة بورقٍ عليه ختم غير مألوف.”
“ختم؟”
“نسرٌ يعضّ ذيله.”
تبادل الصديقان نظراتٍ حذرة. ذلك الختم لم يُستخدم منذ عهد الممالك القديمة، قبل أن تنهار الحروب الفلسفية التي مزّقت أريثانار إلى نصفين.
قال غارِن بقلق:
“تخلص منها، إليان. البذور القديمة محرّمة، يقال إنها تنبت ما يُشبه الروح، لا النبات.”
ردّ إليان بعنادٍ وهو يشدّ على مقبض المعول:
“إن كانت تملك روحًا، فلتقاتل معي من أجل القرية.”
في المساء، حين غابت الشمس وصعد القمر كرمحٍ من فضة، سمع إليان أصواتًا تخرج من الحقل.
لم تكن أصوات ريح، بل همساتٍ متقطعة، وكأن عشرات الأفواه تتحدث تحت التراب.
اقترب بخطواتٍ ثقيلة، وأمسك بمصباحه الزيتي.
كانت البراعم تتحرك ببطءٍ، تلتفّ على بعضها كأصابعٍ بشرية تبحث عن شيءٍ في الهواء.
ثم بدأ أحدها يفتح أوراقه، وتكوّنت على سطحها عباراتٌ خضراء تتوهج في الظلام:
“من يزرع الألم، يحصد الرؤى.”
“من يروي بدمه، لا يجوع أبداً.”
ارتعش إليان. لم يرَ شيئًا كهذا في حياته.
رفع عينيه نحو السماء، وإذا بأحد الأعمدة الحجرية البعيدة التي تحمل المدينة العائمة قطعة الوِهن قد أضاء طرفه السفلي بلونٍ أزرقٍ غريب.
كانت تلك أول مرة يرى فيها عمودًا ينبض منذ عشرين عامًا.
قال لنفسه:
“ما يحدث في الأرض، يستيقظ في السماء.”
قبل أن يتمكن من العودة إلى منزله، انشقت الأرض تحت قدميه قليلًا، وظهر من بين التراب حجرٌ أسود صغير، بارد كالجليد، ينبض بضوءٍ خافت.
مدّ يده ليلتقطه، لكن صوته القديم عاد يهمس في رأسه:
“لا
.
لكنه لمس الحجر على أي حال.
وفي اللحظة التي فعل فيها، رأى ومضةً خاطفة — صورة رجلٍ واقف في العتمة، يزرع البذور نفسها وهو يبتسم.
لكن الرجل لم يكن هو.
كان أباه.
تراجع إليان مذهولًا، والمصباح يسقط من يده.
حين نظر مجددًا إلى الحقل، كانت كل البذور قد اختفت، وظهرت مكانها آثارُ أقدامٍ تمتد نحو الغابة.
لم يكن هناك سوى همسٍ واحدٍ باقٍ يطفو في الهواء، ناعمًا، متكرّرًا كأن الأرض نفسها تتنفسه:
“العائد
…
.