في أعالي المدينة العائمة قطعة الوِهن ، كان الضباب يلفُّ المآذن المكسوة بالفضة، بينما تُقرَع أجراسُ الكنيسة الكبرى بإيقاعٍ بطيء كأنها تُعلن حزنًا قديماً.
داخل القاعة المظلمة، جلس قِسِّدرا نيموس على الدرجات، يحمل كأسًا من النبيذ البنفسجي، ويبتسم ابتسامة من يعرف أن الإيمان فقد صوته منذ زمن.
“أنتم تُصلّون كثيرًا، لكن لا أحد يسمعكم”، قال بصوتٍ خفيضٍ لجماعة الكهنة الواقفين أمام المذبح.
أحدهم صرخ فيه:
“كفى استهزاءً يا نيموس! المعبد ليس مكانًا لسُكْرِك!”
ضحك قِسِّدرا ضحكةً طويلةً جعلت أصداءها تصعد إلى القبة العالية.
ثم رفع كأسه وقال بمرحٍ خفيفٍ يكسوه الحزن:
“أقول الحقّ، أيها الإخوة. لقد تعبت الآلهة من سماع شكاوينا. صارت بحاجةٍ لمن يُضحكها.”
أمسك به اثنان من الحراس وسحباه نحو الخارج، لكنه لم يقاوم.
وهو يخرج، سمع صوت الأب العجوز ماترين يقول بنبرةٍ حادة:
“من يضحك على الإيمان يُنفى من المدينة المقدسة إلى الوادي السفلي.”
توقف قِسِّدرا عند الباب، وأدار رأسه ببطء:
“إن كانت الآلهة في الوادي، فسألقاها قبل أن تلقاكم.”
ثم مضى بخطواتٍ ثابتةٍ نحو الجسر الذي يربط المدينة بالهواء.
كانت السماء الرمادية مفتوحةً على الريح، والمدينة تهتزّ بهدوءٍ كقلبٍ في سكونه.
وقف على الحافة، نظر إلى الأسفل، إلى الأرض البعيدة المغمورة بالضباب، وقال في نفسه:
“الوادي… حيث تُزرع الخطيئة وتُحصد الحقيقة.”
ألقى كأسه في الفراغ، فاختفى قبل أن يسمع ارتطامه، ثم مدّ ذراعيه كمن يحتضن الريح وقفز.
⸻
ساعاتٌ لاحقة، استيقظ في عربةٍ خشبيةٍ تهتزّ بين الجبال.
رجلٌ عجوز يقود العربة ناظراً إليه بقلق.
“كِدتَ تموت يا غريب، وجدتك على أطراف الجبل قرب ضفة نهرٍ جاف. ما الذي أتى بك من السماء؟”
ضحك قِسِّدرا بصوتٍ أجشّ: “نزلت أبحث عن معجزة.”
“ووجدتَها؟”
“وجدتُ الطريق إليها مؤلمًا كالسُّكر.”
تابع العجوز سيره، حتى بدت مزارع الوادي على البعد.
كانت الأرض مختلفة عما سمع عنها؛ الحقول تلمع بضوءٍ خفيفٍ في الليل، والهواء محمّل برائحةٍ غريبةٍ تشبه البخور.
قال قِسِّدرا وهو يتأمل المشهد:
“يبدو أن الآلهة فعلاً نزلت إلى هنا.”
حين وصل إلى سوق البلدة، تجمّع الناس حوله.
هيئته الغريبة، ووشاحه الملوّن، وصليبه المائل أثاروا الفضول.
اقترب منه أحد الشيوخ:
“أأنت كاهنٌ من الأعلى؟”
“كنتُ كذلك، قبل أن يتعب الربّ من صلواتي.”
ضحك الناس، ثم تقدمت امرأةٌ تحمل سلة فواكهٍ وقالت له:
“إن كنت حقًا تعرف الرب، فاسأله لماذا بدأت الأرض تتكلم؟ البذور صارت تهمس في الليل.”
صمت قِسِّدرا، ثم قال:
“حين تتكلم الأرض، فالسماء تضحك.”
“هل تعرف ما يحدث؟”
“لا، لكني أشمّ رائحة معجزةٍ فاسدة، وسأبحث عن جذرها.”
في المساء، نزل إلى الحقول المهجورة ليتفحصها.
كان القمر ممتلئًا، والريح ساكنة.
سمع الهمس كما وصفوه: أصواتٌ ناعمة، تخرج من التراب كأن الأرض تتنفس الكلمات.
اقترب من أحد الصفوف، فانفتح التراب أمامه قليلًا، وخرجت منه نبتةٌ صغيرة بأوراقٍ مضيئة.
قال مبتسمًا:
“جميلةٌ كقدّيسةٍ تمردت على صمتها.”
لكن النبتة فجأةً نطقت بصوتٍ خافتٍ، صوت امرأةٍ عجوز:
“من
.
تراجع قِسِّدرا خطوة، وعيناه تتسعان بدهشةٍ طفولية.
ثم انفجر ضاحكًا، ضحكةً مجنونةً جعلت الطيور تهرب من الأشجار.
قال بصوتٍ مرتجفٍ بين ضحكه:
“أيتها الأرض… أنتِ أعقل من كل الكهنة!”
جلس على الأرض أمام النبتة، يحدّق فيها وكأنه في اعترافٍ مقدس.
“هل تدرين يا صغيرة؟ لطالما أردت أن أسمع الربّ يتحدث إليّ، لكنه كان صامتًا. والآن تتكلمين أنتِ… من التراب. أليست هذه معجزة كافية؟”
لم تجب النبتة، لكنها أضاءت أكثر، وأصدر التراب حولها خفقانًا يشبه نبض القلب.
همس صوتٌ آخر من بعيد، بدا وكأنه يأتي من عمق الحقل:
“العائد
…
.
وقف قِسِّدرا ببطء، نظر نحو مصدر الصوت، وفي عينيه بريقٌ من جنونٍ حقيقي.
قال وهو يمد يديه للظلام:
“ليكن، إذن! إن كان الحزن طريق الحقيقة، فسأضحك حتى أصل إليها!”
ثم بدأ يضحك مجددًا، ضحكةً تتردد بين الحقول، تمتزج بالهمسات القادمة من الأرض، لتصنع ليلًا غريبًا نصفه صلاة، ونصفه سخرية.
وفي ذلك الليل، تحرّكت أول بذرةٍ في أرض الوادي، كأنها استجابت لضحكته، وبدأ الضوء الأزرق يزحف من الحقول نحو الأعمدة في السماء