كانت الغابة التي تفصل الوادي عن الجبال تُعرف باسم غابة الخفاء ، لا لأن الناس يضيعون فيها، بل لأنهم حين يخرجون منها، لا يعودون كما كانوا.
في أعماقها، كان آرين كالس يسير بصمتٍ بين الأشجار السوداء، حافي القدمين، يحمل على ظهره سيفًا مغطى بالقماش الرمادي.
وجهه لا يحمل سوى ندبة واحدة، تمتد من حاجبه الأيسر إلى ذقنه، كأنها توقيع القدر.
توقف عند جدول ماءٍ ضيق، وجلس يغسل وجهه.
انعكاسه في الماء لم يكن انعكاسه.
رأى وجه رجلٍ آخر، يشبهه لكنه يبتسم بسخرية.
قال الظل من سطح الماء:
“أراك
.
ردّ آرين بنبرةٍ باردة:
“أنا لا أبحث، أنا أستعيد.”
“لكن ما فقدته لم يكن ليك.”
“بل كان لي… حين أخذته أنت.”
ألقى بحجرٍ في الماء فانكسر الانعكاس، ثم وقف وأكمل سيره.
في هذه الغابة، كل خطوةٍ تردّد حكايةً قديمة.
الريح نفسها تهمس: العائد
.
⸻
قبل خمس سنوات، كان آرين أحد محاربي “حرس السكون”، جيش الظلال الذي يحمي الممالك من الغزو السريّ.
لكنه خسر ظله في معركةٍ ضد كيانٍ مجهولٍ يُدعى السيد بلا فجر ، ولم يعد بعدها يرى صورته كاملة في أي مكان.
منذ ذلك اليوم، صار جسده ناقصًا، وصار يسمع في رأسه صوتًا يهمس في الليل، يقول له:
“حين
.
⸻
بينما كان يعبر الممر الحجري، رأى دخانًا يتصاعد من بعيد.
اقترب بحذرٍ حتى وصل إلى كوخٍ محترقٍ في أطراف الغابة.
وجد هناك رجلاً ممددًا على الأرض، ثيابه ممزقة، ووجهه مغطى بالرماد.
حين قلبه، عرفه فورًا: كان صديقه القديم غارِن .
انحنى بجانبه، صوته متوتر:
“غارِن… من فعل هذا؟”
فتح غارِن عينيه بصعوبة، تنزف شفتاه دمًا أسود.
قال بصوتٍ مبحوح:
“إليان… الأرض… تبتلع الضوء… البذور تهمس…”
“أين هو؟”
“في الوادي… لكنه ليس وحده… هناك شيء… يخرج من تحت الحقول…”
شهق غارِن ثم صمت، وجسده تجمّد كخشبٍ متفحّم.
من بين أصابعه تساقط رمادٌ رماديّ كأنه ترابٌ ميت.
رفع آرين رأسه، وعيناه تقدحان غضبًا:
“كل شيء يعود إلى الوادي… كل اللعنات تبدأ من الأرض نفسها.”
أمسك سيفه، ونزع القماش عنه.
كان السيف أسود اللون، ينبض بخطوطٍ زرقاء كأن داخله برقٌ نائم.
قال الظل في رأسه:
“إن
.
فردّ آرين:
“لقد رحل ظلي منذ زمن… ما الذي يمكن أن أخسره أكثر؟”
⸻
في تلك الليلة، سار إلى أن وصل إلى حافة الوادي، حيث يمكن رؤية الحقول التي زرعها إليان.
كان الضوء الأزرق ينتشر فوقها مثل نهرٍ من النار الباردة، والأصوات تتعالى كأن آلاف الأرواح تتحدث في وقتٍ واحد.
رأى من بعيد رجلاً يقف وسط الحقل، يحدّق في السماء — كان إليان.
لكن حوله، كانت تتحرك كائنات غريبة تشبه البشر، بلا ملامح، بلا عيون.
كل واحدٍ منها يتكوّن من رمادٍ وظلٍّ وسوادٍ صافٍ.
قال آرين بصوتٍ خافت:
“هؤلاء… ليسوا أحياءً.”
وردّ الظل في ذهنه:
“إنها
…
.
رفع سيفه، وهبط إلى الوادي.
في طريقه، كانت الأرض تهتزّ كأنها تتنفس، والسماء تتشقق بوميضٍ خافت.
وحين وصل، واجهه أحد الكائنات — كأنّه رجلٌ بلا وجه.
قال آرين بصوتٍ ثابت:
“من أنتم؟”
أجابه الكائن بصوتٍ يخرج من الهواء نفسه:
“نحن
.
.
ثم انقضّ عليه.
تطاير التراب والشرر الأزرق حين اصطدم السيف بجسدٍ لا يملك لحمًا ولا دمًا، فقط طيفًا من الغضب.
كل ضربةٍ يوجهها آرين تُعيد إليه جزءًا من ظله، لكنه كلما استعاد جزءًا، يفقد شيئًا آخر من ملامحه.
شعر بأن وجهه نفسه يتبدّل.
وفي لحظةٍ خاطفة، رأى إليان من بعيد يضع يده على حجرٍ أسود يتوهج في التراب.
وحين فعل ذلك، تجمد كل شيء.
الريح توقفت، الكائنات سكنت، والسماء تحولت إلى مرآةٍ سوداء.
سمع آرين الصوت ذاته الذي سمعه في الغابة:
“العائد
…
.
تلفّت حوله، فلم يرَ أحدًا.
لكن ظله كان يقف أمامه هذه المرة، منفصلًا عنه تمامًا، يحمل السيف نفسه، يبتسم ابتسامةً باهتة.
قال الظل:
“الآن نبدأ من جديد، يا أنا.”
⸻
في أعلى الأعمدة السماوية، داخل معبدٍ مهجور، كان قِسِّدرا نيموس يضحك وحده وهو ينظر إلى ضوءٍ أزرقٍ يتصاعد من الأرض.
قال لنفسه:
“من يملك الظل، يملك الحقيقة… ومن يضحك أولًا، لا ينجو أخيرًا.