في فجرٍ رماديّ يغمره الصمت، كانت أمطار خفيفة تتساقط على الوادي، كأن السماء تمحو ما كتبته الليلة الماضية.
جلس إليان داروش قرب جدولٍ صغير، عيناه تائهتان في الماء الجاري الذي صار يعكس لونًا أزرقًا غريبًا يشبه وهج البذور التي زرعها.
كان وجهه شاحبًا، وصدره يعلو ويهبط بسرعةٍ غير طبيعية.
منذ تلك الليلة التي لامس فيها الحجر الأسود، لم يعد يشعر بأن جسده جسده.
كلما حاول أن يتحدث، كان يسمع صوته يتردد مرتين: مرةً في فمه، ومرةً من داخل الأرض.
قال لنفسه:
“لقد بدأتَ شيئًا لا تفهمه، يا إليان. والآن، لا أحد يعرف من الذي يزرع من.”
⸻
انحنى فوق الماء، فشاهد انعكاس وجهه — لكن الماء كتب شيئًا على سطحه.
لم تكن مجرد تموّجات، بل كلمات حقيقية ، تبرق ثم تختفي:
كلّ
.
من
.
امتدّت يده ليلمس الحروف، لكن الماء تجمّد فجأة كمرآةٍ من زجاج.
رأى في داخلها صورة رجلٍ يضحك في معبدٍ عالٍ — كان قِسِّدرا نيموس .
ثم صورة أخرى لرجلٍ يحمل سيفًا أسود يقف في مواجهة ظله — كان آرين كالس .
ثم سمع همسًا ناعمًا يخرج من الماء نفسه:
“ثلاثة
.
تراجع إليان خطوة، وعيناه تلمعان برعبٍ وفهمٍ غامض.
قال بصوتٍ خافت:
“ثلاثتهم… في طريقٍ واحد.”
⸻
بينما كان يحاول استيعاب ما يحدث، سمع وقع أقدامٍ خلفه.
التفت، فرأى فتاةً تقف على ضفة النهر المقابلة، ترتدي عباءة رمادية، وشعرها طويل كليلٍ ممطر.
نظرتها كانت باردة، لكن عينيها تشعّان بلونٍ أخضر باهت.
قالت بصوتٍ هادئ:
“أنت هو الزارع، أليس كذلك؟ إليان داروش؟”
تجمّد في مكانه.
“ومن تكونين أنتِ؟”
“أنا سِيرَا… قارئة الماء.”
اقتربت بخطواتٍ هادئة، والماء من تحتها لم يتحرك، كأنها تمشي على زجاجٍ صلب.
“أنا من وُلدت حين بكى النهر الأول. أقرأ ما يقوله الماء عندما ينسى الناس أن يسمعوه.”
“ولماذا جئتِ إليّ؟”
“لأن النهر نطق باسمك، وهذه أول مرة يفعلها منذ قرن.”
اقتربت أكثر، حتى صارت أمامه، ومدّت يدها إلى الماء.
حين لمسته، عاد الماء يجري، لكنه صار يكتب كلماتٍ جديدة بدمٍ أزرق داكن:
الزارع
.
حين
.
نظرت إليه سِيرا بعينين ثابتتين:
“هل لامست الحجر الأسود؟”
أومأ برأسه ببطء.
“نعم.”
“إذًا، أنت فتحت البوابة الأولى. العالم الآن يسقي نفسه من جذرٍ لا يُرى.”
جلس على الأرض، واضعًا رأسه بين كفيه.
“لم أُرد سوى إنقاذ القرية… فقط أردت أن تنبت الحقول.”
قالت بصوتٍ ناعمٍ يشوبه الأسف:
“كل الخلاص يبدأ بالنية، وينتهي بالدم. أنت لم تُنقذ القرية، بل أيقظت ما كانت تنام عليه منذ الأزل.”
⸻
رفعت سِيرا رأسها فجأة، كأنها تسمع شيئًا في البعيد.
قالت:
“هناك قادمٌ من الغابة… سيفه أسود، وظله يسبقه.”
نهض إليان بسرعة:
“آرين؟”
“نعم، هو من سيفصل بين النور والزرع، بين من يملك الجسد ومن يملكه الظل.”
بينما كانت تتحدث، بدأ الماء من حولهم يرتفع ببطء، يتخذ أشكالاً تشبه الأحرف الطافية.
كل حرفٍ يشعّ ضوءًا أزرق، ويتحوّل إلى طائرٍ مائيٍّ صغيرٍ يحوم فوقهم.
كانت الحروف تتشكل لتكتب على صفحة النهر عبارةً جديدة، أكبر من سابقتها:
العائد
…
.
همس إليان بدهشة:
“العائد… إذًا ليس شيئًا بل كيان؟”
ردّت سِيرا:
“ليس كيانًا فقط، بل ذاكرة الكون حين تتعب من النسيان. وكل حجرٍ، وكل قطرةٍ، وكل ظلٍّ، هو جزءٌ من جسده.”
ثم نظرت إلى عينيه وقالت:
“وأنت يا إليان… أول دمه.”
⸻
قبل أن يسألها ما تعنيه، تغيّر لون الماء فجأة إلى أسود داكن، ثم ارتفعت موجةٌ ضخمة من النهر، وفي داخلها ظهر وجه رجلٍ بلا ملامح، يشبه تمثالًا من سائلٍ حيّ.
قال الصوت من الموجة:
“البذور
…
.
أمسكت سِيرا بيد إليان بقوة وقالت:
“هرب الآن! فحين تتكلم المياه، يموت من زرع الأرض!”
لكن الماء لم يمهلهما — انفجرت الموجة، وغطّى الظلام المكان.
وحين انحسر، كان إليان وحده، والماء عاد صافياً.
لم تكن سِيرا في أي مكان.
فقط صوتها بقي عالقًا في الهواء، يهمس كأغنيةٍ حزينة:
“احذر
…
.
⸻
في مكانٍ آخر، على سفح الجبل، كان آرين يراقب النهر نفسه من بعيد.
رأى الضوء الأسود يتلألأ فوق الماء، فقال بصوتٍ منخفضٍ لنفسه:
“حروف الماء تكتب بداية النهاية.”
وفي الأعالي، بين الغيوم، جلس قِسِّدرا نيموس على صخرةٍ يبتسم، ينظر إلى المطر ويهمس:
“حتى الماء بدأ يتكلم… يبدو أن الربّ بدأ يسمع أخيرًا.”