كان الليل قد أسدل عباءته السوداء على الوادي، لكن لا أحد من سكانه استطاع النوم.
فمنذ الفجر، كانت الريح تنقل بين الأزقة أصواتًا غريبة تشبه تراتيل مقلوبة، كأن أحدهم يتلو صلاةً بلغةٍ لم يعرفها البشر من قبل.
في بيتٍ متهدمٍ على أطراف القرية، جلس إليان داروش قرب النار، عيناه شاحبتان كمن لم يعرف النوم منذ أيام.
كلما أغلق عينيه، رأى وجه سِيرا وهي تغرق في موجةٍ من الظلال، وسمع صوتها يردد: “احذر
…
دخل عليه شابٌ من أهل القرية، وجهه مذعور:
“إليان، الحقول تشتعل بالضوء! البذور صارت تتكلّم علنًا! الناس يهربون!”
نهض إليان بسرعةٍ، أمسك بمعطفه وخرج إلى الساحة.
السماء تمطر شررًا أزرق، والحقول تصدر خفقانًا متواصلًا كنبضٍ عملاقٍ تحت الأرض.
كل ورقةٍ، كل نبتةٍ، تهمس نفس الجملة:
“اقتربت
.
⸻
على بعد أميال، في الغابة، كان آرين كالس يسير نحو الوادي.
صوت ظله لا يفارقه لحظة.
“هل
قال آرين وهو يشدّ قبضته على السيف:
“لن أحارب القدر… سأمنعه من كتابة اسمي فيه.”
ضحك الظل:
“أحمق
…
.
وصل إلى حدود القرية، ورأى السماء مغطاة بضوءٍ أزرقٍ نابضٍ مثل قلبٍ عملاق.
تقدّم بخطواتٍ حذرةٍ وسط الحقول، حتى رأى إليان واقفًا في المركز، محاطًا بحلقاتٍ من الضوء تتكوّن وتختفي كأنها أنفاس كائنٍ نائم.
قال آرين بصوتٍ حاد:
“توقف، إليان! الأرض لا تتحدث إلا حين يكون الألم عميقًا. ما الذي أطلقتَه؟”
نظر إليه إليان بعينين فقدتا بريق الإنسان:
“أنا لم أُطلق شيئًا، يا آرين… أنا فقط زرعت.”
“لكن ما نبت ليس زرعك، بل ذاكرة الموتى!”
اقترب آرين، مدّ يده ليأخذ الحجر الأسود الذي كان يلمع عند قدمي إليان، لكن الأرض انشقت فجأة، واندفع منه ضوءٌ هائلٌ أسقطهما معًا على الأرض.
حين فتحت أعينهما، كانا داخل مكانٍ لا يُشبه العالم الذي يعرفانه.
سماء رمادية ساكنة، وأرض من رمادٍ ناعم، وكل شيءٍ بلا ظل.
في منتصف ذلك الفراغ، ارتفع عمودٌ من ضوءٍ أبيض، ومن داخله خرج صوتٌ لا يُشبه الأصوات، صوتٌ يجمع بين همس امرأةٍ وصدى صاعقة:
“من يزرع الأرض الأولى، يوقظ النبوءة التي لا تُتلى.”
“ومن يسمعها، يُمحى اسمه من الزمان.”
تبادل الرجلان نظراتٍ متوترة.
قال إليان بصوتٍ مرتجف:
“ما هذا المكان؟”
أجابه الصوت:
“إنه
.
⸻
ظهر أمامهما شكلٌ بشريٌّ يتكوّن من الضوء، لا وجه له، لا ملامح، لكنه يحمل كتابًا أسودًا ضخمًا تتطاير منه أوراقٌ كأنها أرواح.
قال آرين وهو يرفع سيفه:
“من أنت؟”
“أنا آخر من قرأ النبوءة، ثم صمت.”
“وما النبوءة؟”
“أن العالم لا ينتهي… بل يُعاد زراعته.”
رفع الكائن الكتاب، وبدأت الصفحات تدور حولهما بسرعةٍ مذهلة، وكل صفحةٍ تحمل رموزًا تتحوّل إلى أصوات، والأصوات إلى صور:
رأى إليان صورًا لأرضٍ تغرق في الضوء، رجالٍ يتحوّلون إلى تراب، ونساءٍ ينبت من أجسادهن الزهور.
رأى قِسِّدرا يضحك وسط نهرٍ من النار الزرقاء، والسماء تسقط من فوقه كالستار.
همس الصوت من جديد:
“من
…
.
اقترب الكائن من إليان، ووضع يده على صدره.
فجأةً شعر بحرارةٍ هائلةٍ تسري في عروقه، ورأى رموزًا تتكوّن على جلده — حروفًا متوهجة تشبه تلك التي ظهرت في الماء.
قال الكائن:
“أنت حامِل النصّ، يا ابن داروش. الكلمات اختارتك.”
صرخ آرين:
“اتركه!”
اندفع بسيفه، لكن الكائن أمسك النصل بيده العارية، فذاب السيف مثل الشمع.
نظر إليه الكائن وقال:
“لا أحد يمنع النص من أن يُكتب، يا فاقد الظل.”
ثم أشار بيده، فانفتح أمام آرين صدعٌ في الفراغ، وابتلعه النور.
صرخ إليان باسمه، لكن الصوت اختفى، والضوء أُطفئ، فعاد إلى الحقول.
⸻
حين فتح عينيه، كان في نفس مكانه في الوادي، لكن السماء صارت غريبة — نصفها نهار، نصفها ليل.
الناس يركضون مذعورين، والكهنة يحاولون تلاوة الصلوات، لكن الكلمات تخرج معكوسة من أفواههم.
وفي البعيد، على قمة العمود السماوي، وقف قِسِّدرا نيموس ، عاري الرأس، يصرخ للعالم:
“أيها الناس! لقد قرأتُ ما لم يُكتب! النبوءة لا تُتلى، لأنها لم تُكتب لنا!”
ثم ضحك، ضحكته المجنونة التي مزّقت السماء نصفين.
من بين الغيوم، تساقطت حروفٌ من نور، كأن السماء نفسها تتفتت إلى لغة.
قال إليان وهو يحدّق في المشهد:
“بدأت الكلمة… تنطق بالعالم.”
⸻
في تلك اللحظة، فتح الكتاب الأسود — وحده دون أن يلمسه أحد — صفحةً جديدة، وعلى سطحها كُتبت جملة واحدة فقط:
“من
.
وفي أعماق الغابة، على حافة بحيرةٍ ساكنة، خرج آرين من الشقّ النوريّ، جسده نصف ظلٍّ ونصف نور، عينيه تلمعان بلونين مختلفين.
همس لنفسه بصوتٍ مبحوح:
“إذا كانت النبوءة لا تُتلى… فسأكون من يكتبها بحدّ السيف.”