في ذلك العام حلّ الخريف كمعطف من وريقات يابسة على الطرق كدوامات تشبه جلد الأفعى. تحجّر قلبي من ذكرى ليلة عيد ميلادي أو ربما أبرمت الحياة هدنة مع آلامي، بكل بساطة، كي ترغمني على البلوغ. حتى أنا فوجئت بأنني لم أعد أفكر أبدا بكلارا برسلوه أو خوليان كاراكس أو ذلك المجهول المتغطرس بلا وجه الذي كانت رائحة الورق المحروق تنبعث من ردائه ويستخدم اسم شخصية مرّت في كتاب ما. وفي نوفمبر كان قد مرّ شهر دون أن أذهب إلى بلازا ريال كي أراقب نافذة كلارا. وعليّ أن أعترف بأن الفضل لا يعود كله إلى قوة إرادتي بل لأن المكتبة كانت تفرض علينا من العمل أكثر مما نستطيع أنا ووالدي القيام به وحدنا.

«أرى أننا مضطرين للبحث عن أحد يساعدنا في البحث عن الكتب للزبائن» كان والدي يتأمل. «ويجدر به أن يكون شخصا مميزا، وشاعرا إلى حد ما، بل ومحققا يتقصى في الصغيرة والكبيرة، وأن يكون له طموح اقتصادي ومستعدا للانغماس في مهمات مستحيلة.»

«أعتقد أنني أعرف الشخص المناسب» قلت.

وجدت فيرمين روميرو دي توريس في مكانه المعتاد، تحت أقواس شارع فرناندو. وكان يرتّب أجزاء الصفحة الأولى لجريدة هوخا دل لونيس التي جمّعها من حاوية النفايات. كان المقال يتحدث عن أعمال شعبية والتنمية في مكان ما.

«رائع! سيبنون سدا جديدا!» سمعته يهتف. «هؤلاء الفاشيون يريدون أن يحولوا الوطن إلى بلد من المتزمتات والبطارقة.»

«صباح الخير» همست. «أما زلت تذكرني؟»

رفع المتشرد أنظاره وابتسم ابتسامة عريضة.

«أهلا بك! كيف حالك يا صديقي؟ أترغب في ارتشاف النبيذ؟»

«اليوم أنا من يعرضه عليك» قلت. «هل أنت جائع؟»

«حسنا لن أقول كلا على طبق من الأصناف البحرية، لكنني مستعد لسماع عروض أخرى.»

وبينما كنا متجهين نحو المكتبة، استعرض دي توريس حصيلة مفصلة عن تنقلاته في الأسابيع الأخيرة، وعن الأشخاص الذين يتملصون من رقابة قوى أمن الدولة التي تتجسد، بطبيعة الحال، في محقق يدعى فوميرو إذ بدا أن لديه حسابات مؤجلة مع فيرمين دي توريس.

«فوميرو؟» قلت مندهشا. كان اسمَ المحقّق الذي أطلق النار على والد كلارا برسلوه في قلعة مونتويك في بداية الحرب.

فأجابني الرجل مكتفيا بهزّة من رأسه. لقد كان الجوع والشحوب باديين عليه، وكان متسخا ورائحته كريهة كمن يعيش لسنوات مشردا في الطرقات. لم تكن لديه أدنى فكرة عن المكان الذي كنت أقوده إليه، وانتبهت لرعشة خوف في نظراته وقلق متصاعد يحاول جاهدا أن يخفيه دون انقطاع. وحين وصلنا أمام المحل، رمقني بنظرة متوترة.

«هيا ادخل. لا تخف. إنها مكتبة والدي وأود أن أقدّمه إليك.»

التفّ الصعلوك بكفن من الفزع والارتباك.

«كلا. كلا. لست في هيئة لائقة لتقديم نفسي. هذا امتحان عالي المستوى ولا أريد أن أتسبب لحضرتك بمشاكل أنت في غنىً عنها…»

ظهر أبي على الباب، وتفحّص المتشردَ بنظرة خارقة ثم رمقني بطرف عينه.

«هذا هو فيرمين روميرو دي توريس يا أبي.»

«تحت أمرك يا سيدي» قال المتشرد بحياء جليل.

فابتسم له والدي ومدّ يده، لكن الآخر لم يجرُؤ على مصافحته إذ شعر بالعار لمظهره المتردي وللعفن الذي يكسو جلده.

«من الأفضل أن أنصرف» غمغم متلعثما.

فأمسك والدي ذراعه بلطف.

«مطلقا. لقد أخبرني ابني بأنك ستتناول معنا الغداء.»

حدّق فيه دي توريس مشدوها ومرتعدا.

«لماذا لا تصعد إلى الأعلى وتستحم بماء دافئ ريثما يجهز الغداء؟» قال له أبي. «وقد نذهب إلى مطعم خان سوليه إن أردت.»

هذر فيرمين دي توريس بكلمات غير مفهومة فيما كان والدي يصعد به إلى البيت جرّا دون أن تُمسح ابتسامته، وكنت أغلق باب المحل. وبعد عدة مفاوضات نجحنا في نزع ثيابه المتسخة وإدخاله إلى الحمّام. وكان البائس يرتعش مثل الدجاجة منتوفة الريش، وبعد أن تعرّى كليا بدا أنه خارج من صورة التقطت أثناء ويلات الحرب. كانت الخدوش العميقة محفورة على معصميه وكاحليه، والشقوق والندوب الرهيبة تملئ صدره وظهره. تبادلت ووالدي نظرة فزع دون أن نقوى على قول شيء.

راح الصعلوك يستحم كالأطفال، وهو يرتجف خوفا. وبينما كنت أبحث عن ثياب نظيفة سمعت والدي يتحدث إليه. وجدت رداء لا يلبسه أحد وقميصا قديما وبعض الملابس الداخلية. أما ثياب المتسول فكانت كلها غير صالحة للاستعمال بما فيها الحذاء، ولذا اخترت زوجا من أحذية والدي التي لا ينتعلها بسبب ضيق مقاسها. جمعت ثيابه العفنة، بما فيها سرواله الداخلي الذي ذكّرني بلحم الخنزير المقدد نظرا إلى لونه وصلابته، ولففتها بجريدة قديمة ثم رميتها في سلة القاذورات. وعندما عدت إلى الحمّام وجدت والدي يحلق شعر روميرو دي توريس في الحوض. ظهر الرجل أصغر بعشرين عاما على الأقل بعد أن لمّعته النظافة وفاحت عطور الصابون من بدنه. وبات والدي ودي توريس صديقين على ما يبدو، وربما تأثر الأخير بفعل المنظفات فشرع يحرق المراحل.

«صدّقني يا سيد سيمبيري، لو لم يشأ القدر أن ألعب دورا حساسا في مجال التجسس الدولي لانكببت على دراسة الآداب، وإني جادّ في ما أقول. فمنذ نعومة أظفاري شعرت بميولي تجاه الشعر وحلمت أن أصبح مثل سوفوكليس أو فرجيل، لأنني مولع بالتراجيديات واللغات القديمة، لكن والدي رحمه الله كان رجلا محدود الأفق وكان يريد أن يدخل أحدُ أبنائه سِلكَ الشرطة المدنية ولم تكن لأي واحدة من أخواتي الإناث أحقية العمل في هذا المجال رغم الزغب الكثيف الذي يغطّي وجوه النساء في عائلتي، وهي سمة ورثنها عن جدتي أم والدتي. وعلى فراش الموت جعلني الوالد أقسم له بأن أرتدي القبعة المثلثة أو أصبح على الأقلّ موظفا ذا شأن في الدولة وأن أتجنب كل طموحاتي الأدبية. ولا أخفيك أنني شخص تربّى على الطريقة التقليدية التي تفرض أن يُطاع الوالد حتى لو كان حمارا، وأنت تفهمني يا سيدي. ومع هذا، لم أتجاهل القيم الفكرية في أيام شبابي، فقرأت كثيرا وبوسعي أن ألقي عليك ممّا حفظت مقاطع كاملة من مسرحية «الحياة حلم».»

«استرخ الآن والبس هذه الثياب وكن مطمئنا فهنا لن يدخل أحد معك في جدال حول مواهبك الثقافية» قلت محاولا أن أخفف العبء عن والدي.

كان العرفان يصبّ من عيني فيرمين دي توريس. خرج من الحوض فلفّه أبي بالمنشفة. كان يضحك وهو يستمتع بتلمس جلده للقماش النظيف. وساعدته على ارتداء الملابس التي كانت أكبر من حجمه بقليل، فخلع والدي نطاقه وأعطاني إياه كي أدخله في بنطال فيرمين دي توريس.

«الآن تبدو وسيما جدا» قال والدي. «أليس كذلك يا دانيال؟»

«يبدو كأنه واحد من نجوم السينما.»

«لا تبالغْ، لم أعد كما كنت ذات مرة. لقد خسرت جسمي المكتنز بعضلات هرقل في السجن ومنذئذ لم…»

«حسنا. من الواضح في كلّ الأحوال أنّ لديك مظهرًا جميلًا يشبه شارل بوير» ردّ والدي. «والآن أرغب في أن أقترح عليك عرضا ما.»

«من أجلك يا سيد سيمبيري أنا مستعد لأي شيء بما في ذلك ارتكاب جريمة بحق أحدهم. يكفي أن تقول لي اسمه فأقتله دون أن أجعله يتألم.»

«ليس هذا ضروريا. أردت أن أعرض عليك العمل معنا. كل ما في الأمر أنك سوف تبحث عن كتب نادرة تثير اهتمام زبائننا. فلنقل إنه كعمل المنقّب عن الآثار في المجال الأدبي، وهذا ما يتطلب إلماما واسعا بالأعمال الكلاسيكية وبشروط السوق الأسود. ليس بوسعي أن أقاضيك أجرا كبيرا في هذه المرحلة، ولكنك سوف تأكل معنا وبوسعك البقاء في بيتنا ريثما نعثر لك على نزل مناسب. فهل أنت موافق؟»

نظر المتشرد إلى أبي متعجبا ثم التفّ نحوي.

«ما رأيك؟» سأله والدي. «هل تريد الانضمام إلى فريقنا؟»

بدا لي أنه كاد يقول شيئا ما، ولكنه في تلك اللحظة تماما انفجر باكيا.

في أول راتب استلمه فيرمين، اشترى قبعة لائقة بنجوم السينما وحذاءً متينا لمنع البلل وأراد أن يدعونا أنا ووالدي لتناول صلصة الخضار بذيل الثور، الطبق الذي يحضّره مطعم على بعد خطوات من ساحة مومنتال بعناية فائقة. ووجد له والدي غرفة في نزل في حيّ خواكين كوستا حيث استطاع فيرمين، بفضل الصداقة التي تربط جارتنا مرسيديتاس بصاحبة النزل، أن يسكن دون إملاء استمارة التعريف وهكذا صار في مأمن من براثن المحقق فوميرو وأزلامه. وبين الحين والآخر كنت أتذكر ما رأيت من الرضوض والندوب التي تغطي جسمه وكنت أتلهف لأسأله عنها كي أشبع فضولي إذ اكتويت بالشك إن كان للمحقق فوميرو أي شأن بالموضوع، ولكن شيئا ما في نظراته حال دون أن أفاتحه في الأمر، ثم إنه كان سيروي عليّ قصته عاجلا أم آجلا ومن تلقاء نفسه. كان فيرمين بانتظارنا قبالة المكتبة في تمام السابعة من كل صباح، وهو يزهو بهندام أنيق وابتسامة براقة، متأهبا للعمل اثنتي عشرة ساعة متواصلة وقابلة للتمديد دون أن ترجف له عين. لقد تلبّسه شغف عارم بالشوكولاطة وحلوى المعجنات يوازي حماسه لكتّاب التراجيديا الإغريقية الكبار، وزاد وزنه بضعة كيلوجرامات. كان حليق الذقن دوما، ويسرح شعره إلى الخلف ويلمّعه بالدهن ويطلق شاربيه على نمط الصرعة الجارية. وبعد ثلاثين يوما من خروجه من حوض حمّامنا تحوّل إلى شخص آخر لا يمتّ إلى المتشرد السابق بصلة. لكن المفاجأة الكبرى كانت في نضاله داخل ساحة المعركة. حين كلمني عن تاريخه التجسسي ظننت أنه يبالغ ويشط في خياله، إلا أن فطرته الاستقصائية كانت لا تخطئ أبدا. فما أوكلنا إليه أكثر الطلبيات ندرة إلا ووجدها خلال أيام قليلة، وخلال ساعات أحيانا. لم يكن يفوته عنوان أي كتاب، وكانت الحيلة تسعفه في أي وقت ليحصل على كتاب ما بأدنى الأسعار. وبفضل موهبته في الإقناع كان يندسّ في المكاتب الخاصة للعائلات الدوقية في شارع بيارسون وللمولعين بسبق الأحصنة، وهو يقدّم نفسه في كل مرة تحت مسميات واهية بغية أن يهدوه الكتب أو يبيعوه إياها بأبخس الأثمان.

كان تحوله من صعلوك إلى مواطن مثالي يبدو كمعجزة أو كخرافة أخلاقية يستند إليها القساوسة ذوي المناصب الكنسية المتدنية كي يبرهنوا على رحمة الله الواسعة، خرافات في منتهى الكمال من المستحيل أن تكون حقيقية، مثل دعايات الدهن المستعمل لإطالة الشعر والمعلقة على شبابيك الترام. في الثانية صباحا من ليلة الأحد، بعد ثلاثة أشهر ونصف منذ مباشرته العمل في المكتبة، رنّ الهاتف في بيتنا: كانت صاحبة النزل الذي يقيم فيه. قالت لنا إن السيد فيرمين روميرو دي توريس أقفل على نفسه باب الغرفة وراح يصرخ كمن تلبّسه الجن ويضرب الحيطان بجمع يديه ويهدد بالانتحار بقص عنقه بقنينة مهشمة إذا حاول أحدهم الدخول.

«لا تتصلي بالشرطة، أرجوك. سوف نصل على جناح السرعة.»

هرعنا صوب حي خواكين كوستا. كانت ليلة حالكة الظلام، يجلدها البرد بالصقيع والريح المتجمدة. مررنا قبالة بيت الرحمة وبيت الشفقة، متجاهلين العروض الفظيعة التي تأتينا من تحت الأقواس المظلمة، حيث تفوح رائحة الزبالة والفحم. التففنا عند زقاق فيرلاندينا لندخل إلى حي خواكين كوستا الذي لم يكن أكبر من شقّ بين خليتي نحل سوداوين في ظلام الرافال. كان نجل صاحبة النزل ينتظرنا على قارعة الطريق.

«هل اتصلتم بالشرطة؟» سأله والدي.

«ليس بعد.»

وبصعوبة كبرى صعدنا السلالم المتسخة سيئة الإضاءة بأنوار صفراء معلقة على حبل هشّ. كان النزل يقع في الطابق الثاني. وكانت السيدة آنكارنا، أرملة عنصر في الشرطة المدنية، تنتظرنا على عتبة الطابق، وهي تلفّ نفسها بوشاح سماوي ورأسُها مليء بلفافات الشعر.

«إن هذا النزل محترم يا سيد سيمبيري، ولا ينقصني الزبائن، ولا يوجد أي سبب يجعلني أتجاهل مسرحيات من هذا النوع» قالت وهي تتبعنا على طول الممر القميء الذي ينبعث منه غاز النشادر.

«أتفهمك جيدا يا سيدتي» غمغم والدي.

كان عويل فيرمين الموجع يصدر من الغرفة الأخيرة، وقد أطل النزلاء برؤوسهم الضامرة، كالفقراء والمتقاعدين، من الأبواب المواربة.

«اللعنة عليكم. اذهبوا إلى أسرّتكم. هذا ليس عرضا مسرحيا» صرخت السيدة آنكارنا بغضب.

عندما وصلنا أمام باب فيرمين، طرق والدي بهدوء.

«فيرمين. هل أنت هنا؟ أنا سيمبيري.»

أطلق فيرمين عويلا اخترق الجدران وجمّد مهجتي من الخوف. حتى السيدة آنكارنا فقدت هيبتها ووضعت يديها على قلبها الغارق تحت شحوم ثدييها المتضخمين.

طرق والدي مرة أخرى. «هيا افتح الباب يا فيرمين.»

فأطلق فيرمين عويلا آخر وهو يرمي بنفسه على جدار الغرفة ويصرخ بكلمات شنيعة حتى بحّ صوته.

تنهد والدي. «هل لديك مفتاح الغرفة؟»

«بالطبع.»

«أعطني إياه.»

ترددت السيدة آنكارنا وأطل النزلاء بوجوههم الخزفية ثانيةً من أبواب الممر. لابدّ أن ذلك العواء كان يصل حتى مبنى قيادة أركان الجيش.

«اذهب يا دانيال واستدع الدكتور باروه. إنه يسكن بالقرب من هنا في ريرا ألتا رقم 12.»

«أليس من الأفضل أن نستدعي راهبًا؟» اقترحت السيدة آنكارنا. «يبدو لي أن الشيطان قد تلبّس هذا الرجل.»

«لا. إنه في حاجة إلى طبيب. هيا بسرعة يا دانيال، استعجل. وأعطني المفتاح من فضلك يا سيدتي.»

كان الدكتور باروه رجلا أعزب يسهر الليل وهو يقرأ زولا ويشاهد صورا لفتيات شبه عاريات كي يقضي على الملل. كان زبونا اعتياديا لمكتبتنا ويعرّف نفسه على أنه طبيب من الدرجة الثالثة لكنه كان يصيب في تشخيصه لبعض الحالات أكثر من أي طبيب بارز، في عيادته في حي مونتانير. كان زبائنه يتألفون على وجه الخصوص من عاهرات الحي المسنات اللواتي لا يستطعن دفع الأجر أحيانا لكنه يكشف عليهنّ في كل الأحوال. كان يرى أن العالم عبارة عن بالوعة قذرة، وآماله تقتصر على أن ينال نادي برشلونة صدارة الدوري، بمحالفة الحظ، كي يموت مرتاح البال. فتح لي الباب بلباس النوم، وكان منتشيا قليلا، والسيجارة المطفأة معلقة على شفتيه.

«ما الأمر يا دانيال؟»

«أرسلني إليك والدي. لدينا حالة إسعاف.»

عندما وصلنا إلى النزل وجدنا السيدة آنكارنا تشهق بالدموع وبقية النزلاء شاحبين مثل الخرق البالية وأبي يسند فيرمين إلى ذارعيه في إحدى زوايا الغرفة. وكان فيرمين عاريًا كما ولدته أمه، ويبكي ويرتجف بعد أن خرّب الغرفة ولطخ الجدران بدمائه. استوعب الدكتور باروه الحالة بنظرة واحدة وأشار إلى أبي أن يمدد فيرمين على السرير. ساعده ابن صاحبة النزل الذي كانت أقصى تطلعاته أن يصبح ملاكما. كان فيرمين يتأوه ويتلوى كأن حيوانا مفترسا يلتهم أحشاءه.

«ما الذي جرى لهذا المسكين؟ ما الذي جرى له؟ ارحمه يا الله.» كانت السيدة آنكارنا تبكي على العتبة وتهز برأسها.

أمسك الطبيب بمعصمه، تفحّص عينيه بمصباح صغير ودون أن يدلو بأية كلمة جهّز الحقنة وسحب السائل من قنينة أخرجها من حقيبته الصغيرة.

«احجزوه جيدا. هذه الحقنة سوف تساعده على النوم. ساعدْنا يا دانيال.»

وبالكاد استطعنا نحن الأربعة تثبيتَ فيرمين الذي انتفض مضطربا بمجرّد أن أحسّ برأس الإبرة يُغرس في ردفه. وتشنجت عضلاته كقطع الفولاذ وسرعان ما انحسرت عيناه وهوى على السرير.

«حذار أن تبالغ في الجرعة أيها الطبيب، قد تتسبّب في موته لشدة نحافته» قالت السيدة.

«اطمئني يا سيدتي. إنه نائم ليس إلا» هدّأ الطبيب من روعها بينما كان يعاين الخدوش والندوب التي تعوم على بدن فيرمين الهزيل.

رأيت الطبيب يهز رأسه بصمت. «يا أبناء العاهرة!» غمغم.

«ما هذه الشقوق؟» سألته. «هل هي جراح؟»

هزّ الطبيب برأسه ثانية دون أن يرفع أبصاره. بحث عن غطاء بين حطام الغرفة وغطّى به المريض.

«بل إنها حروق. هذا الرجل تعرّض للتعذيب» شرح الطبيب. «إنها ندوب ناشئة عن لهيب مؤكسد.»

نام فيرمين مدة يومين وعندما استيقظ لم يتذكر أي شيء، كان ينتابه الشعور بأنه ظل محبوسا في زنزانة انفرادية ومظلمة. جثم على ركبتيه يتوسل المغفرة من السيدة آنكارنا. وتعهّد أن يطلي جدران الغرفة، ووعدها بأن يدعي الله من أجلها عَشر مرات خلال صلاته القادمة في كنيسة بيلين لأنه كان يعرف مستوى إيمانها.

«فكّرْ في أن تستعيد عافيتك وألا تسبب لي الرعب فإنني كبرت على مثل هذه المشاهد.»

دفع أبي ثمن الأضرار وطلب من صاحبة النزل أن تعطي فيرمين فرصة أخرى. فوافقت على الرحب والسعة، لأن أكثر نزلائها من الفقراء المستضعفين، أفراد وحيدون في هذا العالم، مثلها تماما. وبعد أن زالت مخاوفها عاملته بحنان أكبر وجعلته يقسم بأنه سوف يتناول الدواء الذي وصفه الدكتور باروه.

«من أجلك يا سيدة آنكارنا مستعد أن أبتلع قطعة قرميد كاملة.»

ومع مرور الوقت، تظاهر جميعنا بنسيان ما حدث، ولكنني منذ تلك الليلة لم أعد أستخفّ بما يشاع عن المحقق فوميرو. بعد تلك الواقعة، كنا نصطحبه كل عطلة يوم الأحد لتناول العصرية في كافيه نوفيداديس، ثم نذهب إلى سينما فيمينا، على الزاوية بين حي ديبوتاثيون وبازيو دي غراثيا، كي لا نتركه بمفرده. كان أحد القائمين على بيع التذاكر صديقا لوالدي ويدعنا ندخل إلى الصالة من مخرج الطوارئ عند الشاشة في منتصف عرض الأخبار، تماما عندما يقص الجنرال فرانكو الشريط المعتاد احتفالا ببناء سد ما، وهذا ما كان يُخرج فيرمين عن طوره.

«يا للعار!» يصيح باستياء.

«ألا تعجبك السينما يا فيرمين؟»

«بكل صراحة، أعتقد أن الفن السابع محض احتيال، مجرد وسيلة لتغطية خداع العامة المسحوقة ولتجهيلهم أكثر بحقائق الأمور، أسوأ من كرة القدم ومصارعة الثيران. تم اختراع السينما لخلق حشود من الأميين، ولم تتغير نواياها كثيرا حتى بعد خمسين عاما من ولادتها.»

إلا أنّ اعتقاداته الراسخة تهاوت بأكملها حين اكتشف كارول لومبارد.

«يا لروعة ما أرى، تبارك المسيح ويوسف والعذراء! يا لروعة ما أرى!» هتف في منتصف العرض. «هذه ليست أثداء، بل إنها بارجتان! يا إلهي!»

«اخرس أيها القذر وإلا ناديت المسؤول» صرخ صوت غريب كأنه خارج من حجرة الاعتراف بعدنا بصفين. «اخجل من نفسك. يا لهذا البلد المريع!»

«ربما كان من الأفضل أن تخفض صوتك يا فيرمين.» اقترحت عليه.

لكن فيرمين لم يكن يصغي إليّ، بل كان مأخوذا بحسن قوام تلك الممثلة وفتحة صدرها الفتانة وابتسامتها البريئة ونظراتها المسروقة من سحر تقنية الألوان. بعد ذلك، وبينما كنا نتمشى على طول بازيو دي غراثيا، لاحظت أن صاحبنا الشغوف كان في حالة تصوف وانعزال عن الواقع.

«ينبغي علينا أن نجد لك امرأة» قلت. «امرأة تدخل البهجة إلى حياتك يا فيرمين.»

شهق فيرمين، وهو مازال مأخوذا ببراهين قانون الجاذبية اللذيذة.

«هل تتحدث عن سابق تجربة يا دانيال؟» سأل بنبرة بريئة.

فاكتفيت بالابتسام بينما كان والدي يراقبني بطرف عينه.

منذ ذلك اليوم، غدا فيرمين متعصبا للسينما. أما والدي فكان يفضّل أن يقضي يوم الأحد في البيت ليقرأ كتابا ما. وراح فيرمين يشتري كميات مهولة من حبات الشوكولاطة ويجلس ليجترّها في الصف السابع عشر، بانتظار ظهور إحدى النجمات. لم يكن يعير اهتماما للقصة بل يظل يثرثر حتى تظهر امرأة حسناء على الشاشة.

«فكرت في ما نصحتني به ذلك اليوم، أي أن أبحث عن امرأة» قال فيرمين. «أعتقد أنك محقّ. في النزل ثمّتَ زبون جديد، طالب أندلسي سابق في معهد اللاهوت، يصطحب كل مرة فتاة جميلة. يا للهول، حقا إنّ نسل أمتنا تحسن. أستغرب من قدراته، فهو ليس بذاك الشاب الخارق. لكنه يبهرهنّ بقوة القديسين ربما. تقع غرفته جانب غرفتي، وعليّ أن أعترف بأنّ الراهب فنان، وفقا لما يصلني من أصوات. ربما يكمن السر في فتنة قميص الرهبان. وأنت يا دانيال كيف تعجبك النساء؟»

«في الحقيقة لست خبيرا بارزا في هذا المجال.»

«لا رجل يفقه شيئا في النساء، بما فيهم فرويد. حتى النساء يجهلن أنفسهنّ. لكن الأمر يشبه الدارة الكهربائية: ما من داع لتصعقك حتى تفهم كيف تعمل. هيا تشجع وقل لي كيف تعجبك النساء؟ بالنسبة إليّ لابدّ أن تكون المرأة ذات لحم مكتنز لكنك تبدو لي أنك تفضّل النحيفات. إنني أحترم أذواقك، إياك أن تُسيء فهمي.»

«بصراحة ليس لدي خبرة كبيرة مع النساء. بل ليس لدي أية خبرة.»

راقبني فيرمين باهتمام مستغربا من تصريحي الزاهد.

«ظننت أن تلك الليلة… اللكمات على وجهك. فهمت قصدي…»

«ليتنا نستطيع اختصار آلامنا بصفعة كف واحدة…»

بدا أن فيرمين يقرأ أفكاري ويبتسم كي يشد من عزيمتي.

«هوّن عليك يا صديقي. أجمل ما في النساء اكتشافهنّ. المرة الأولى هي الحد الأقصى: لا يعرف الرجل قيمة الحياة قبل أن يعرّي امرأة للمرة الأولى، زرا زرا، كأنه يقشّر حبة كستناء في ليلة شتوية. آآآآه…»

وبعد لحظات ظهرت فيرونيكا ليك على الشاشة فانقلب فيرمين في واقع آخر. وفي لحظة معينة استغل مشهدا لا تظهر فيه النجمة، فقرر الذهاب إلى بار السينما كي يشتري مزيدا من المأكولات. صبر على الجوع كثيرا ولم يعد يحتمل. كان يحافظ على مظهره الهزيل الذي يوحي بسوء التغذية بعد الحرب وذلك بفضل الهضم الغذائي المتسارع. بقيت وحدي، أنظرُ بشرود إلى المشهد على الشاشة. أكذب إن قلت إنّني كنت أفكر في كلارا، بل كنت أفكر في جسمها العاري الذي تبرق فوقه حبات العرق ويهزّه جماح الشهوة تحت لمسات أستاذ الموسيقى. أبعدت نظري عن الشاشة فلاحظت مُشاهدًا دخل لتوّه. رأيته يتقدم حتى منتصف الخشبة أمامي بستة صفوف ليجلس على مقعد. ففكرت أن صالات السينما مليئة بالأشخاص الوحيدين، وحيدين مثلي.

حاولت جاهدا أن أركز في الفيلم. البطل، محقق ماجن ومرهف الحس، يشرح لإحدى الشخصيات الثانوية أن كيد النساء اللواتي مثل فيرونيكا ليك يدمّر الرجال الحقيقيين، ورغم هذا فمن المستحيل ألا نهيم بحبهنّ وألا نموت لأجلهن ضحايا لخياناتهن ومكرهنّ. كان فيرمين روميرو دي توريس، وقد أصبح ناقدا بارزا، يعرّف هذا النوع من القصص بـ «أقصوصة السرعوف للأطفال»، وهي خرافات معادية للمرأة ومصممة لموظفين بخلاء أو لمتديّنات مملات يحلمن بالاستسلام للشهوات والحياة كوصيفات. ابتسمت للتعليقات التي كان من الممكن لصديقي الناقد أن يعبّر عنها لو لم يذهب ليملأ جعبته بالحلويات. ثم رأيت ذلك المشاهد الذي دخل لتوّه يلتفت ليصوّب أنظاره إليّ. استطعت، بفضل ضوء الشاشة الذي يشع على ومضات، أن أميّز الرجل الذي لا وجه له… كوبرت. جحظت عيناي اللتان لم ترمشا وابتلع الظلّ ابتسامته التي بلا شفتين. ضاق صدري بما لا يطاق. واندفعت موسيقى الأوركسترا من على الشاشة فسمعت صيحات وصفيرًا ثم تلاشت الصورة. ظلت الصالة في ظلام دامس للحظات ولم أسمع سوى نبضات قلبي في أذنيّ. وعندما أضاءت الشاشة مجددا كان الرجل بلا وجه قد اختفى. التفتّ ورأيت طيفا يبتعد على طول ممر الصالة واصطدم بفيرمين الذي كان يدخل ثانية من رحلة السافاري التي خاضها بحثا عن الغذاء. نظر إلى صفنا وعاد إلى مقعده وعرض عليّ حبة من شوكولاطة البرالين ولاحظ اضطرابي.

«وجهك شاحب أكثر من مؤخرة راهبة. هل أنت بخير يا دانيال؟»

فاحت رائحة شاذة في كل الصالة.

«يا لهذه الرائحة المقززة.» قال فيرمين. «رائحة ضراط، أو رائحة ضمير وكيل نيابة.»

«كلا. إنها رائحة ورق محروق.»

«خذ واحدة من سكاكر السوغوس بنكهة الليمون وسوف ترى كيف يتحسن حالك.»

«لا يروق لي الآن.»

«خذها بكل الأحوال. ربما تشتهيها لاحقا.»

وضعت حبة السكاكر في جيب سترتي وتابعت باقي الفيلم بشرود، دون أن أتحمس لجمال فيرونيكا ليك الفتاك ولا لمصير ضحاياها. أما فيرمين فكان منجذبا كليا للعرض ولحلوياته. عندما أنيرت الأضواء شعرت بأنني أستيقظ من كابوس مريع. ولوهلة ظننت أن حضور ذلك الرجل إلى الصالة كان محض هلوسات أو زلة من زلات الذاكرة. لكن نظراته التي وجهها نحوي كانت كافية لتصلني الرسالة: لم يكن قد نسيني ولا نسي اتفاقنا.

2021/06/22 · 89 مشاهدة · 3334 كلمة
نادي الروايات - 2025