بينما كنت أدخِل المفتاح في القفل شعرت بصفير الريح الباردة على أصابعي. لقد وضع السيد فورتوني على باب غرفة ابنه قفلا عنيدا أكبر من قفل باب الشقة. كانت السيدة آورورا تراقبني بارتباك كأننا نفتح صندوق باندورا9.

«هل تشرف هذه الغرفة على الشارع؟» سألت.

«كلا. النافذة تطل على الباحة الصغيرة.»

دفعت الباب نحو الداخل، فانفتح أمامنا بئر من الظلام الدامس يصعب ولوجه. وسبقَنا الضوء الخافت الذي كان خلفنا كأنه شهيق بالكاد يتمكن من الدخول إلى تلك المتاهة المعتمة. وكانت النافذة التي تطل على الباحة مغطاة بصفحات جريدة مصفرّة. نزعت تلك الأوراق فتسلل خيط من الضوء الضبابي إلى الداخل.

«رحمتك يا عيسى ويوسف ومريم» همهمت الناطورة بقربي.

كانت الغرفة تكتظ بالصلبان. بعضها تتدلى بأوتار مزوقة من السقف، وأخرى معلقة بالمسامير على الحيطان. كان هنالك حوالي العشرة صلبان. بعضها محفور بالمثقاب في الزوايا وعلى الأثاث والصفائح، وبعضها الآخر مرسوم باللون الأحمر على المرايا. كانت الخطى التي لاحظت بصماتها على العتبة قد تركت آثارها على الغبار المحيط بسياج السرير الذي يبدو كهيكل عظمي من حديد وخشب تالف. وفي إحدى زوايا الغرفة، تحت النافذة، ثمت منضدة مزودة بغطاء مغلق وعليها ثلاثة صلبان معدنية. فتحت الغطاء بحذر وخمّنت أنه قد فتحه أحدهم مؤخرا طالما أنني لم أجد أثرا للغبار على مفاصل المصراع. كانت أدراجه الستّة الصغيرة مخلوعة الأقفال بقوّة. عاينتها واحدة واحدة، فوجدتها فارغة كلّها.

جثوت على ركبتيّ أمام المنضدة ومررت أصابعي على خدوش الخشب. تخيلت يدي خوليان كاراكس وهي تخطط تلك البقع الهيروغليفية التي ضاعت معانيها. في عمق المنضدة رأيت عدة مذكرات وإناء لأقلام الحبر والرصاص. أخذت واحدة من المذكرات وتصفحتها: كانت مليئة بالرسوم والجمل المبعثرة والتمارين الحسابية والتأملات والاقتباسات والمسودات الشعرية. تبدو كل تلك الكراسات متشابهة. وفيها بعض الرسوم مكررة باختلافات طفيفة صفحة بعد صفحة. تأثرت برسم لرجل يبدو مخلوقا من ألسنة اللهب، وفي رسم آخر ما يشبه الملاك أو الحيوان الزاحف الذي يبرم حول صليب. لاحظت خطوطا أولية لبيت كبير فيه العديد من الأبراج الحصينة والأقواس الضخمة، تشبه كاتدرائية ما. كانت ملامح البناء واضحة، وتعبّر عن اتجاه معين للرسم بأكمله، لكن الصور لم تكن سوى مسودات.

كنت على وشك أن أعيد الكراس الأخير دون النظر إليه حين انزلق شيء ما من بين الصفحات ووقع على الأرض. كانت صورة تظهر فيها نفس الفتاة التي كانت في الصورة محروقة الحواف الملتقطة أمام محل القبعات. الشابة في حديقة بهيّة وبين جذوع الأشجار تبرز جوانب بيت رأيته للتو في رسوم المراهق كاراكس. عرفته على الفور: إنها فيلا ال فرار بلانك، في شارع تيبيدابو. وعلى خلف الصورة مكتوب: بينيلوب، مع حبي.

وضعت الصورة في جيبي، وأغلقت غطاء المنضدة وابتسمت للناطورة.

«هل انتهيت؟» سألتني والحيرة بادية على وجهها تريد الانصراف.

«على وشك» أجبتها. «قلت لي: بعد انطلاق خوليان إلى باريس بقليل وصلته رسالة وإن والده قال لك أن ترميها بعيدا…»

أومأت الناطورة برأسها بعد لحظة من التردد.

«لقد وضعت الرسالة في صندوق الأثاث في مدخل الشقة، إذ ظننت أن الفرنسية ستعود عاجلا أم آجلا. لابدّ أن الرسالة مازالت في محلّها.»

فتحنا صندوق الأثاث الأول. فوجدنا ظرفا أصفر وسط كمية هائلة من الساعات المتوقفة والأزرار والنقود التي عفى عليها الزمن منذ ما لا يقل عن عشرين عاما.

«هل قرأتِ الرسالة؟»

«أتظّن بي السوء يا فتى؟»

«لا أقصد الإساءة يا سيدتي. يبدو لي الأمر طبيعيا نظرا إلى الظروف، خاصّة أنّك كنت تحسبين خوليان المسكين ميتا…»

أخفضت الناطورة ناظريها وأرخت كتفيها واتجهت صوب باب البيت. فانتهزت الفرصة كي أضع الظرف في جيب سترتي الداخلي وأغلقت الدرج.

«لا أود أن تأخذ فكرة سيئة عني» قالت المرأة.

«اطمئنّي يا سيدتي. ما الذي كان مكتوبا فيها؟»

«كانت رسالة حب، كتلك التي نسمعها على الراديو، لكنها أكثر حزنا بالتأكيد، لأنها تبدو حقيقية. تخيّل أن عينيّ اغرورقتا بالدمع حين كنت أقرؤها.»

«قلبك طيب جدا يا سيدة آورورا.»

«وأنت شيطان.»

في تلك الظهيرة، وبعد أن وعدت السيدة آورورا أن أحيطها علما بتحرياتي عن خوليان كاراكس، ذهبت إلى مدير البناية. السيد مولينس، الذي عاش زمانا أفضل، كان يمكث في مكتب بلا طلاء في طابق أرضي في شارع فلوريدابلانكا. كان مولينس رجلا يبحث عن اللهو ويتحدث وعقب السيجار في فمه. لم يكن واضحا إن كان مستيقظا أم نائما لأنّ أنفاسه مزعجة كالشخير. شعره مطلي بالدهن ويتدلى على جبينه، وعيناه غائرتان، يرتدي طقما لا يزيد سعره عن عشرة بيزيتا في سوق الثياب المستعملة، ويزيّنه بربطة عنق ذات ألوان استوائية صارخة. وإذا حكمنا على المظاهر، فإنّ شباك العناكب هي التي باتت تدير ذلك المكتب الشبيه بدهاليز برشلونة قبل حقبة الترميم.

«اعذرني على الفوضى، نحن نجدد المكان» قال مولينس.

ولكي أحطم الجليد، لفظت اسم السيدة آورورا كأنها صديقة قديمة للعائلة.

«آه كم كانت حسناء في شبابها» علّق مولينس. «ولكن مع مرور الزمن بهت جمالها. حتى أنا لم أعد كما كنت ذات مرة. لن تصدقني إن قلت لك إنّني كنت أجمل من الإله أدونيس عندما كنت في عمرك. كانت الصبايا يركعن عند قدميّ ويتوسلن أن أضع في أرحامهنّ طفلا. ولكن القرن العشرين كارثة. حسنا لا يهم. كيف بإمكاني أن أساعدك أيها الشاب؟»

اخترعت قصة معقولة بعض الشيء عن قرابتي البعيدة بآل فورتوني. استمع مولينس إلى قصتي لخمس دقائق، ثم راح يبحث في اللائحة ليعطيني عنوان المحامي المعنيّ بشؤون صوفي كاراكس، والدة خوليان.

«فلنر قليلا… خوسيه ماريا ريغويخو، شارع ليون الثالث عشر رقم 59. أما المراسلات فنبعثها كل ستة أشهر إلى صندوق المكتب البريدي المركزي في فيا لايتانا.»

«هل تعرف السيد ريغويخو؟»

«حصل وتحدثت مع سكرتيرته على الهاتف. من الغريب أن تجري كل معاملاتهم عبر البريد وتتابعها الموظفة عندي. لكنها ذهبت اليوم إلى الحلاق. المحامون في هذه الأيام ليسوا جادين كما كانوا ذات مرة، إنهم على عجلة من أمرهم دوما. والنبلاء منهم يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة.»

كان يبدو أنني لن أتمكن من الوثوق حتى بالعناوين. فألقيت نظرة خاطفة على القائمة التي يضعها المدير على مكتبه وتأكدت من شكوكي: كان عنوان المحامي ريغوخيو خاطئا. فقلت ذلك للسيد مولينس الذي تلقّى الخبر كأنه نكتة.

«يا للجنون» قال ضاحكا. «ألم أقل لك إنهم أنذال؟»

استند المدير إلى مسندة الأريكة وأصدر واحدا من أنفاسه الغليظة.

«ألا تملك رقم صندوق البريد؟»

«ربما كان 2837 إن لم أقرأ بشكل سيئ، فالسكرتيرة عندي تكتب الأرقام بقدميها. ومن جهة أخرى فالنساء لا يصلحن للرياضيات، أمّا ما ينفعن فيه حقا فهو…»

«هل يمكنني أن أرى القائمة؟»

«طبعا. تفضّل.»

أعطاني القائمة. كانت الأرقام مكتوبة بشكل واضح: الرقم البريدي 2321. فخشيت على حال سجلات المحاسَبة في ذلك المكتب.

«هل كنت تعرف السيد فورتوني جيدا؟» سألته.

«بما فيه الكفاية. كان رجلا جادا. عندما وصل إلى مسامعي بأن الفرنسية هجرته، اقترحت عليه أن يتردد إلى العاهرات، مع مجموعة من الأصدقاء، في مكان أعرفه جيدا في نواحي لابالوما، كي أرفع معنوياته. ألست محقا؟ ومن يومها لم يعد يكلمني ولا يرد التحية حين نلتقي في الطريق، وكأنني صرت شفافا. فتصوّر.»

«إنني متعجب فعلا. وهل لديك تفاصيل أخرى عن عائلة فورتوني؟»

«كان زمانا مختلفا. وقد عرفت أباه أيضا الذي أسس محل القبعات. ولا أعرف الكثير عن ابنه. أما هي فكانت امرأة جميلة جدا. وكانت امرأة صالحة رغم كل الشائعات التي صدرت بحقها…»

«كأن يقولوا إنّ خوليان ليس ابن السيد فورتوني؟»

«وكيف عرفت ذلك؟»

«لقد قلت لك إنّ قرابة بعيدة تصلني بهم. والشائعات تنتشر بسرعة.»

«لم يتأكد أحد من هذا.»

«ولكن هذا كان يقال.» ضغطت عليه.

«الناس تقحم منقارها في ما لا يعنيها. الإنسان لا ينحدر من سلالة القردة بل من فصيلة الدجاج.»

«وما الذي كان يشاع أيضا؟»

«هل يطيب لك كأس رم؟ إنه من إيغوالادا، لكن الطعم يذكّر بالرم الكوبي قليلا.»

«لا شكرا. ولكن إن أردت أن تشرب فما من مشكلة.وحدّثْني عن آل فورتوني لو سمحت…»

تعرّف أنطوني فورتوني، الشهير بـ «بائع القبعات»، على صوفي كاراكس عام 1899، في فسحة كاتدرائية برشلونة. كان قد قدّم نذرا للقديس أويستاكيو الذي تخصّه التقاليد، دون سائر القديسين الكبار، بمعجزات الحب. أنطوني فورتوني، الذي كان يبلغ من العمر ثلاثين عاما ويخاطر بالبقاء أعزب طوال عمره، كان يريد زوجة، ويريدها على الفور. وكانت صوفي فتاة فرنسية، تقيم في نزل للفتيات في حي ريرا التا وتدرّس القراءة الموسيقية وآلة البيانو لأبناء الطبقة النبيلة في برشلونة. كانت يتيمة ولا تملك سوى بهاء صباها ومؤهلاتها الموسيقية التي ورثتها عن أبيها عازف البيانو في أحد مسارح نيم والذي أصابه السل وتُوفي عام 1886. أما أنطوني فورتوني فكان ميسور الحال نوعا ما، إذ ورث محل أبيه، محل القبعات الشهير في روندا دي سان أنطونيو حيث تعلّم المهنة التي كان يحلم أن يعلّمها لابنه عاجلا أم آجلا. بدت له صوفي كاراكس غضة وجميلة ومرهفة ومطيعة وامرأة وَدُودا، فالقديس أويستاكيو لا يخلف وعده أبدا. وبعد أربعة أشهر من المشاورات المضنية وافقت صوفي على عرض الزواج. وكان السيد مولينس، صديق فورتوني الأب، قد أحاط أنطوني علما بأن الشابة تبدو جادة في قرارها، لكنها قد ترى في الزواج مصلحة ولذا يستحسن الانتظار سنة على الأقل. فأجابه أنطوني بأنه يعرف خطيبته بما فيه الكفاية ولا تهمّه الأمور الأخرى. أقيم الزفاف في كنيسة البينو، وكان شهر العسل عند أحواض مونغات الكبريتية لمدة ثلاثة أيام. وقبل أن يغادرا بيوم، راح أنطوني يسأل السيد مولينس عن كيفية التصرف على سرير الحبّ. فأجابه الأخير متهكما بأن يسأل زوجته عن ذلك. عاد العريسان بعد يومين فقط ولاحظ الجيران أنّ صوفي كانت تبكي حين دخلت البيت. وبعد عدة أعوام أقسمت بيثينتيتا أن صوفي أطلعتها على أن بائع القبعات لم يلمس جسمها أبدا وأنه عاملها كعاهرة واشمئز منها حين حاولت أن تغويه. وبعد ستة أشهر، صارحت صوفي زوجها بأنها تنتظر مولودا… من رجل آخر.

أنطوني فورتوني الذي لطالما رأى والده يعنّف أمه، اتبع الطريقة ذاتها بالنتيجة. ولم يكن يتوقف عن ضربها إلا حين يشعر أنها على وشك مفارقة الحياة. ورغم هذا امتنعت صوفي عن البوح باسم أب المخلوق الذي كان في رحمها. سلّم أنطوني، وفق منطقه الخاص، أنّ الشيطان وراء ذلك لا محالة، لأن الطفل ابن حرام وللحرام أب واحد: إبليس. وحالما اقتنع أن الحرام دخل منزله وقبع بين فخذي زوجته، اعتاد على نصب الصلبان في كل مكان: على الجدران، في كل ركن وزاوية بل وحتى على السقف. وأصاب الذعر قلب صوفي عندما رأته يملأ بالصلبان تلك الغرفة التي أقصاها فيها، وسألته إن كان قد أصابه مس أو جنون. فغضب منها وراح يصفعها على وجهها. «أنت عاهرة مثل الأخريات» صرخ في وجهها، ثم أخرجها من المنزل رفسا وركلا بعد أن سلخ جلدها بالحزام. وعندما فتح أنطوني باب البيت في اليوم التالي لينزل إلى المحل، وجد صوفي ما تزال في البهو ملطخة بدمائها المخثرة وترتجف من البرد. فقام الأطباء بما أمكن لتجبير الكسر في يدها اليسرى، وكان واضحا بأن صوفي كاراكس لم يعد بوسعها العزف على البيانو. لكنها وضعت مولودا وأسمته خوليان، تخليدا لذكرى والدها التي خسرته مبكرا مثلما خسرت كل الأشياء في حياتها. فكر أنطوني أن يطلقها في بداية الأمر لكنه أدرك أن الفضيحة لن تساعد نشاطه التجاري. فلن يشتري أحدٌ القبعاتِ من رجل تناطح قرناه السماء. انتقلت صوفي إلى غرفة مظلمة وباردة في آخِر الشقة، حيث وضعت مولودها بمساعدة اثنين من جاراتها. وحين عاد أنطوني إلى البيت بعد ثلاثة أيّام. قالت له صوفي: «هذا هو الولد الذي وهبك إياه الله، فإن كنت تود أن تعاقب أحدا فعاقبني أنا، وليس هذا المخلوق البريء. الطفل يحتاج إلى بيت ووالد، ولا يحتمل خطاياي. أرجوك أن ترحمنا وتشفق علينا.»

مرت الأشهر الأولى بصعوبة شديدة. إذ حطّ أنطوني من قدر زوجته إلى مستوى الخادمة: لا يتشاركان السرير ولا المائدة ونادرا ما يتبادلان بعض الكلمات التي لا تتناول مواضيع منزلية. كان أنطوني يدخل إلى غرفة صوفي عند الفجر، مرة واحدة في الشهر، تدفعه لذة هائجة وخبرة ضحلة. فتنتهز هي تلك اللحظات الحميمة النادرة وتحاول أن تطيّب خاطره وتداعبه وتهمس في أذنيه كلمات عن الحب. لكن بائع القبعات كان يبدي عدم اكتراثه بهذه السخافات وتتبخر رغبته المتأججة في غضون دقائق. فلم تؤتِ تلك اللقاءات الساخنة أكلها، وبعد عام كف أنطوني عن دخول غرفتها وفضّل أن يبحث عن المتعة في قراءة النصوص المقدسة.

وبمساعدة الأناجيل تحركت أحاسيس بائع القبعات بجهد جهيد تجاه ذلك الطفل ذي النظرة الشرسة الذي يعيش في عالمه الخاص ويتخيل ظلالا لم تكن موجودة على أرض الواقع. إلا أن التزامه بالتقرب من الصغير لم يشعره بأي رابط يصله به ولم يتمكن من التعرف إلى نفسه في ذلك الطفل. ومن جهة أخرى لم يُظهر الولد اهتماما خاصا بالقبعات ولا بتعاليم العقائد الدينية. وفي أعياد الميلاد كان خوليان يلهو بتحريك التماثيل الصغيرة في مشهد ميلاد يسوع ويؤلف قصصا تهدف لتصوير عيسى وقد اختطفه المجوس الثلاثة10 لغايات مبهمة. ثم خطر في باله أن يرسم ملائكة لها أنياب ذئب وأن يبتكر أقاصيص عن أشباح ترتدي غطاء على الرأس وتخترق الجدران وتتغذى على أفكار الناس النائمين. ومع مرور الوقت فقد بائع القبعات أي أمل بتعديل طباع الصبي أو هدايته إلى الصراط المستقيم. فذلك الطفل لا ينحدر من آل فورتوني ولن يكون كذلك أبدا. كان يضجر في المدرسة ويعود إلى المنزل بدفاتر مليئة بالخربشات: كائنات مرعبة، ثعابين مجنحة وأبنية حية تمشي وتلتهم المارة الآمنين. كان واضحا منذ البداية أنه يعيش في عالمٍ يحل الخيال فيه مكان الواقع اليومي السخيف. وكل الانكسارات التي تعرّض لها أنطوني في مسيرته لا تعادل في عذابها وجود ذلك الطفل الذي أرسله إليه الشيطان ليقضي على حياته.

في سن العاشرة صرّح خوليان بأنّه يريد أن يصبح رساما، مثل فيلازغيز العظيم، كي يحقق اللوحات التي لم يستطع أستاذه أن يرسمها إذ كان مرغما على رسم تلك الوجوه البليدة لأفراد العائلة الملكية. وكأن كل ما سبق لا يكفي، خطر في بال صوفي أن تعلّمه العزف على آلة البيانو، كي تصارع العزلة وتشرّف ذكرى والدها. وسرعان ما تعلّم الصبي قواعد التناغم الأساسية، كيف لا وهو المتيّم بالموسيقى والرسم وباقي الفنون التي يعتبرها الكثيرون عديمة الجدوى. بل شرع يؤلف المقطوعات بدل أن يتدرب على تلك المدونات المملة التي يحتويها كتاب التمرينات. وكان فورتوني منذ ذلك الوقت يعزو عدم كفاءة الصبي لنظامه الغذائي المتأثر بمطبخ أمه الفرنسي، على حد قوله. فالزيادة في الدهون تسبب الانحلال الأخلاقي وتعرّض القوى الذهنية للتلف، لذا حرّم على صوفي الطهي بالزبدة دون نقاش. ولم تأت هذه الطريقة بالنتائج المرجوة.

عندما بلغ خوليان الثانية عشرة من عمره، انخفض حماسه للرسم ولفيلازغيز، لكن أوهام بائع القبعات لم تدم طويلا. فخوليان كف عن الطموح بأن تعلّق لوحاته في متحف البرادو لأنه تعرف على عادة شنيعة وأشد خبثا: اكتشف المكتبة العامة في شارع كارمن وبدأ يقضي في معبد الكتب وقته الضائع الذي كان مخصصا للعمل في محل القبعات، ليلتهم مجلدات الأدب والشعر والتاريخ. وفي عشية عيد ميلاده السادس عشر، أخبر خوليان والده بأنه يريد أن يصبح مثل روبرت لويس ستيفنسون، كاتبا مغمورا وأجنبيا علاوة على ذلك. فأجابه بائع القبعات بأنه لا يراه أكثر من حمّال حجر، واقتنع حينها أن الولد كان في غاية الغباوة حقا.

في الليل، كان أنطوني فورتوني يتقلب في سريره يمينا شمالا كأنه فريسة العذاب وتأنيب الضمير. كان يكن المودة لذلك الصبي في أعماق قلبه، ولتلك العاهرة أيضا مع أنها لا تستحق ذلك وهي التي خدعته منذ اليوم الأول. كان يحبهما على طريقته، والتي كان يراها الطريقة الصحيحة. توسل إلى الله أن يوجهه إلى السبيل الأفضل كي تعم السعادة قلوب ثلاثتهم، وكان من الأفضل أن تكون السعادة على طريقته. ناجى الرب أن يرسل له علامة، أو همسة، كبرهان على وجوده. لكن الله، في حكمته اللا متناهية، وربما لكثرة الطلبات التي تصله من الأرواح المعذبة التي لا حصر لها، لم يكن يجيبه. وبينما كان فورتوني يتألم من الحسرة والندم، كانت صوفي في الغرفة الأخرى تشعر بالتعاسة وهي ترى حياتها تغرق في بحر الضَّلال والهجران والخطايا. لم تكن تعشق الرجل الذي كانت تخدمه، لكنها تشعر بالانتماء إليه، ولم تكن ترى من المقبول أن تهجره حاملة معها الصبي. كانت تفكر بمرارة في والد خوليان الحقيقي واستطاعت مع الوقت أن تحقد عليه وتمقت كل شيء يذكّرها به، أو بما كان يجعلها تلهث خلفه. وبعد أن تعذّر النقاش بينها وبين زوجها، راحا يتبادلان الصراخ والشتائم، فتتطاير الاتهامات كالسكاكين لتطعن أي أحد يقع في مرماها، أي خوليان في كثير من الأحيان. ولم يبق لبائع القبعات سوى ذكرى غامضة عن الأسباب التي كانت تدفعه ليضرب زوجته، فما كان يذكر سوى الغيظ والعار. ويتعهّد في قرارة ذاته بألاّ يضربها ثانية وإلا سلّم نفسه للسلطات، إن توجبت الضرورة، كي تقفل عليه باب السجن.

كان أنطوني فورتوني واثقا من أن الرب سوف يعينه ليصبح أفضل من أبيه. وسرعان ما ينهال باللكمات على جسد صوفي الأعزل، حتى قرر أنهما سيصبحان جلادا وضحية مادام ليس من الممكن أن يبقيا زوجا وزوجة. وهكذا كان. مرت السنوات على عائلة فورتوني بكبت الأفكار والعواطف. نسيا الكلمات التي تعبّر عن الأحاسيس وتحولا إلى غريبين لا يعرف واحدهما الآخر ويعيشان تحت السقف نفسه، شأنهم ِشأن الكثيرين في تلك المدينة الشاسعة.

كانت الساعة الثانية والنصف أو يزيد عندما عدت إلى المكتبة لتستقبلني نظرة فيرمين المتهكمة وهو جالس كالدجاجة على أحد السلالم يلمّع مجموعة عن «الأحداث الوطنية» للكاتب القدير بينيتو بيريز جالدوس.

«مصير الأحياء أن يلتقوا. توقعنا أنك ضعت يا دانيال.»

«أضعت الوقت في الطريق. أين والدي؟»

«لقد قرر أن يسلّم الكتب المطلوبة للزبائن شخصيا. لكنه أوصاني بأن أخبرك بأنه سيذهب في العصر إلى تيانا ليثمّن سعر مكتبة خاصة لإحدى الأرامل. إنه يأسر قلوب السيدات كلّهن بشخصيته الملائكية. قال إنه بإمكانك إغلاق المكتبة دون انتظار عودته.»

«هل كان غاضبا؟»

نزل فيرمين من السلم برشاقة قطة.

«تخيّل أن يغضب. إن أباك قديّس يا دانيال. ثم إنه كان سعيدا لأنك عثرت على فتاة.»

«ماذا؟»

غمز فيرمين بعينيه ولعق شفتيه بلسانه.

«أيها المحتال. كنت تخفيها عنا إذن، ها؟ إنها دمية عاجية فتاكة. من الصنف الممتاز. واضح من أنها تتلمذت في أفضل المدارس، مع أنها تخفي امرأةً لعُوبًا في نظراتها… آه لو أن برناردا لم تنتزع قلبي. لم أحدثك بعد عن نزهتنا… لقد اشتعلنا معا باللهيب، وكأنّنا في ليلة القديس يوحنا.»

«فيرمين» قاطعته. «عمّ تتحدث؟»

«عن خطيبتك.»

«ليس لدي خطيبة يا فيرمين.»

«حسنا، أنتم الشباب تستخدمون مصطلحات أخرى… «غيرل فريند» أو…»

«فلنبدأ منذ البداية يا فيرمين. عم تتحدث؟»

نظر إليّ مشتت الذهن، وشبك رؤوس أصابعه بعضها ببعض وراح يحركها على الطريقة الإيطالية.

«حسنا. منذ نصف ساعة جاءت إلى هنا شابة حسناء تسأل عنك. كان أبوك حاضرا وأنا أيضا. وبوسعي أن أضمن بأن الشابة لم تكن شبحا أو طيفا. إنني مستعد لأصف لك حتى عطرها. عطر لافاندا، لكنه مائل إلى الحلاوة. مثل حلوى الشامبيلا التي خرجت للتوّ من الفرن.»

«وهل قالت تلك الشامبيلا بأنها خطيبتي يا تُرى؟»

«ليس بهذا الشكل الصريح. لكنها رسمت ابتسامة رغيدة على شفتيها، بوسعك أن تتخيلها، وقالت إنها في انتظارك مساء يوم الجمعة. فكان استنتاجنا بديهيا.»

«إنها بيا.» غمغمت.

«إذن هي موجودة» حدد فيرمين وهو يشعر بالانشراح.

«أجل ولكنها ليست خطيبتي» أجبته.

«وماذا تنتظر للتقدم بالعلاقة؟»

«إنها أخت توماس آغويلار.»

«صديقك المخترع؟»

هززت رأسي مؤكدا.

«هذا أفضل بكثير. اسمعني قليلا. لا ينبغي أن تستسلم للشكوك حتى لو كانت أخت جل روبلس. إنها ضربة حظ. لو كنت محلك لقفزت فرحا.»

«بيا مخطوبة لشاب آخر. إنه ملازم ملتحق بالخدمة العسكرية.»

كحّ فيرمين وهو يشعر بالقرف.

«آه الجيش، مغارة يلوذ بها قطيع من القردة. هذا أفضل. هكذا تركّب له قرنين دون أن تشعر بتأنيب الضمير.»

«إنك تهذي يا فيرمين. بيا سوف تتزوج ما إن ينهي الملازم خدمته العسكرية.»

أطلق فيرمين عليّ سهام نظراته.

«عجّل بالأمر قبل أن تتزوج الفتاة.»

2021/06/22 · 46 مشاهدة · 2947 كلمة
نادي الروايات - 2025