بينيلوب آلدايا
شارع تيبيدابو 32، برشلونة
فتحت الظرف الذي كان يحتوي على ورقة صفراء مثنية على نصفها بعناية. كانت الكلمات المكتوبة بالحبر الأزرق تتتابع بانفعال، في البدء شاحبة نوعا ما لكنها تتضح جدا بعد ذلك. كان فحوى الرسالة يذكّر بحقبة بعيدة: حالة الخط المتعلقة بالدواة، الحروف المنقوشة على الورقة برأس القلم، تجاعيد الورقة. وضعت الورقة على خشب المنضدة وقرأت الرسالة.
خوليان العزيز
هذا الصباح أكد لي خورخي بأنك غادرت برشلونة لتلحق أوهامك. لطالما خشيت أن تخطفك أحلامك مني أو من أي شخص آخر. وكم رغبت في أن أراك للمرة الأخيرة، وأن أنظر في عينيك لأقول لك ما لا أستطيع أن أبوح به على هذه الورقة. كل مشاريعنا باءت بالفشل. إنني أعرفك جيدا وأعرف أنك لن تراسلني، ولن تعطيني عنوانك، وأعرف أنك تود أن تصبح شخصا آخر. أعلم أنك سوف تكرهني لأنني لم آت حيث وعدتك أن أكون. سوف تظن أنني خدعتك، أو أنني لم أتحلّ بالشجاعة.
غالبا ما تخيلتك في ذلك القطار، وحيدا، تفكر في خيانتي لك. ما هي الأكاذيب التي قصوها على مسامعك عني يا خوليان؟ ولماذا صدّقتهم؟
الآن وقد فقدتُك، أشعر بأنني أضعت كل شيء. ورغم هذا لن أسمح بأن تختفي من حياتي إلى الأبد وأن تنساني دون أن تعرف أنني لا أكنّ لك الكراهية، وأنني منذ البداية كنت أشعر بأنني سأفقدك وبأنك لن ترى فيّ ما كنت أراه فيك. أريدك أن تعرف بأنني أحببتك منذ اليوم الأول وأنني مازلت أحبك، الآن أكثر من أي وقت مضى، حتى لو لم تكن تريد أن تسمع مني ذلك.
إنني أكتب لك خفية. لقد أقسم خورخي أنه سيقتلك إذا ما رآك ثانية. لا يسمحون لي بالخروج من البيت ولا أن أطل برأسي من النافذة. إنني متأكدة أنهم لن يغفروا لي أبدا. لقد وعدني شخص موثوق بأنه سوف يرسل إليك هذه الرسالة. لن أذكر اسمه كي لا أضعه في دائرة الخطر. لا أعرف إن كانت كلماتي ستصل إليك، ولكن إن حدث هذا وقررت أن تعود إليّ فسوف تجد الطريقة لفعل ذلك. بينما أكتب لك، أتخيل أنك في ذلك القطار، مع حقيبة أحلامك وقلبك المحطم، تهرب من الجميع ومن نفسك أيضا. ما أكثر الأشياء التي لا أستطيع أن أخبرك بها يا خوليان. أشياء كان كلانا يجهلها ومن الأفضل أن تبقى خافية عنك.
أمنيتي الكبرى أن تكون سعيدا يا خوليان، وأن تحقق كل طموحاتك، و سوف تدرك يوما ما كم كنت أحبك حتى لو نسيتني.
حبيبتك الأبدية
بينيلوب
17
استطاعت كلمات بينيلوب آلدايا، التي قرأتها في تلك الليلة حتى حفظتها عن ظهر قلب، أن تمحو الكرب الذي تسببت به زيارة المحقق فوميرو. خرجت من المنزل عند الفجر بعد أن قضيت الليلة ساهرا وأنا أفكر في تلك الرسالة وأتخيل صوت بينيلوب. ارتديت ثيابي بهدوء وتركت ورقة على الدرج عند المدخل كي أنذر والدي بأنني سوف أصل إلى المكتبة حوالي التاسعة والنصف. كانت الطرقات، تحت ضوء الفجر الفيروزي، خالية من الناس ومليئة ببرك الماء لأنها أمطرت أثناء الليل. شددتُ أزرار المعطف حتى عنقي واتجهت بخطى سريعة صوب بلازا كاتالونيا. كان الضباب الفاتر الكثيف يسكن سلالم المترو صباحا. اشتريت تذكرة درجة ثالثة من مكتب الحجز وصعدت في عربة مكدسة بقاطعي التذاكر وخادمات البيوت والعمّال الحرفيين الذين يتناولون الشطائر الثخينة كقطع القرميد والملفوفة بأوراق الجرائد. أسندت رأسي إلى النافذة وواربت عينيّ قليلا كي أبحث عن ملاذ في ظلام الأنفاق حينما كان القطار يعبر تحت المدينة كي يتركني عند تخوم شارع تيبيدابو. عندما صعدت إلى السطح، وجدتُني في برشلونة أخرى: طلع الصباح وكانت أشعة الضوء تمزّق السحب وتنير واجهات المباني والمنازل الراقية التي تقع على جانبي شارع تيبيدابو. وكان خطّ الترام الأزرق الصغير يبدأ رحلته كسولا بين الضباب. ركضت خلفه وقفزت على الحافة ثم دخلته تحت أنظار بائع التذاكر. كانت العربة الخشبية القديمة شبه خاوية: لا أحد سوى راهبين وامرأة شاحبة مكفهرة ترتدي ثياب الحداد. كان الركاب غافين يتمايلون مع تمايل العربة التي تجرها أحصنة غير مرئية.
«سوف أنزل على الفور، عند الرقم 32» قلت لبائع التذاكر بابتسامة عريضة.
«عليك أن تدفع سواء نزلت هنا أم في فيستيرا» ردّ. «لقد دفع الجميع هنا بما فيهم جنود الله. إما أن تخرج النقود أو تمشي سيرا. وسوف أتغاضى عن الطريقة التي صعدت بها.»
أكد الراهبان ما يقوله بائع التذاكر وأظهرا تذكرتيهما، وكانا يرتديان لباس الرهبنة الفرانشسكاني البني المتقشف وينتعلان الصندل.
«سأنزل إذن» قلت. «فليس معي نقود حديدية.»
«كما تريد، ولكن انتظر الموقف القادم. فلا أريد أن أرى حادثا أليما.»
كان الترام يصعد التلة على مهل، ويلمس ظلال الأشجار الكبيرة التي تتفرع من حدائق تلك المنازل الشبيهة بالقلاع، والتي كنت أتخيلها مسكونة بالتماثيل والنوافير وإصطبلات الخيول والمعابد السرية. أظهرت رأسي من النافذة فرأيت فيلا ال فراري بلانك من بين تلك النباتات. وعلى التقاطع مع رومان ماكايا أبطأ الترام مسيره حتى توقف تقريبا. ضرب السائق على الجرس فنظر إليّ بائع التذاكر غاضبا.
«هيا استعجل أيها الماكر، الرقم 32 قبالتك تماما.»
تابع الترام الأزرق رحلته وابتعد صريره البهيج في ضباب الصبح. كان مقام آل آلدايا يقع في الجانب الآخر من الشارع، خلف سياج من الحديد المطاوع المظلل بأوراق اللبلاب المتسلق. هنالك باب صغير أيضا. يبرز الرقم 32 من فوق القضبان أسيرا لثعبانين من حديد أسود. كان القَصرُ متخفيا ولم تكن أقواس البرج الكئيب واضحة تماما. نظرت من ثقب القفل الذي تحيط به كتلة من الصدأ، فلم أرَ غير أعشاب ضارة وحوض نافورة تبرز منها يد تمتد نحو السماء. بقيت لدقائق حتى أدركت أنها يد حجرية وفي الحوض شكلٌ مّا يصعب تحديده. وفي الخلف، بين الأعشاب الضارة، رأيت ما يشبه السلّم الرخامي بعتبات محطّمة يسودها التفتّت والأوراق اليابسة. لقد أفل نجم آل آلدايا منذ وقت طويل إذ بدا ذلك المكان كاللحد.
قررت أن ألقي نظرة على خلفية المبنى فانعطفت من زاوية الشارع. وهناك رأيت واحدا من الأبراج بوضوح أكثر. وفجأة، لاحظت بطرف عيني رجلا هزيلا يلبس مئزرا أزرق، ويراقبني بعدم ارتياح. كان الرجل يكنس الأوراق اليابسة التي وقعت على الرصيف بمكنسة على ضربات متتابعة. تخيلت أنه حارس لأحد المنازل القريبة فابتسمت له باحترام، كما اعتاد أي بائع أن يقضي ساعات وساعات خلف مصطبة في محل ما.
«صباح الخير» قلت. «هل بإمكانك أن تؤكد لي إذا ما كان منزل آل آلدايا مقفلا منذ زمن طويل؟»
نظر إليّ الرجل الهزيل كأنني سألته عن شكل تربيع الدائرة وتلمّس ذقنه بأصابعه المصفرة، كدلالة واضحة على شغفه بسجائر ثيلتاس الخالية من الأعقاب. ولم يكن معي سجائر أعرضها عليه لسوء الحظ. بأي حال، فتشت في جيوب سترتي بحثا عن أي شيء قد يرضيه.
«ربما مر أكثر من عشرين أو خمسة وعشرين عاما. ونأمل أن يستمر الوضع هكذا» قال الحارس بنبرة مذعنة لمن قضى حياته كلها كعبد مأمور.
«هل تعيش هنا منذ وقت طويل؟»
«إنني في خدمة آل ميرافيل منذ عام 1920.»
«ألا تعلم ما الذي حل بآل آلدايا؟»
«لقد خسروا كل شيء تقريبا مع قيام الجمهورية» قال. «لا بأس، فمن يزرع الريح يحصد العاصفة… لا أعرف عنهم أكثر مما سمعته من آل ميرافيل الذين كانوا أصدقاءهم. الابن الأكبر، خورخي، يبدو أنه هاجر إلى الأرجنتين. ربما كانت لديهم مصانع هناك. فأولئك يقعون دوما على أقدامهم. هلا أعطيتني سيجارة؟»
«يؤسفني أنني لا أدخّن. لكنني أعرض عليك من سكاكر السوغوس التي تحتوي، كما أثبت العلم، على نفس الكمية من النيكوتين التي تحتويه سيجارة مونتيكريستو والكثير من الفيتامينات أيضا.»
قطّب الحارس جبينه مستعجبا، ثم وافق على العرض. أعطيته السوغوس بنكهة الليمون الذي كان فيرمين قد أعطاني إياها منذ وقت بعيد وكنت قد وضعتها في ثنايا جيبي. وتمنيت بأنها ما تزال صالحة للتناول.
«لذيذة» هتف الحارس وهو يمضغ الحبة المنتفخة.
«أنت الآن تتذوق فخر صناعة السكاكر الوطنية. الجنرال فرانكو يلتهمها كأنها ملبّس اللوز. قل لي من فضلك، هل سمعت شيئا عن بينيلوب آلدايا؟»
استند الحارس إلى المكنسة بوضعية المفكر رودين.
«أنت تخطئ يا سيد. آل آلدايا لم يكن لديهم إناث، وكانوا كلهم ذكورا.»
«هل أنت متأكد؟ تبين لديّ أنّ هناك فتاة تدعى بينيلوب آلدايا كانت تسكن هنا في عام 1919. لابد أنها أخت خورخي.»
«لا أستبعد هذا، لكنني باشرت عملي هنا عام 1920.»
«ومن يملك هذا القصر الآن؟»
«على حد علمي، ما يزال برسم البيع، وقيل إنّ الدولة أرادت هدمه كي تبني محله مدرسة. وهذا أفضل شيء يفعلونه. فليُهدم هذا المنزل وتقتَلعْ جذوره!»
«لماذا؟»
ارتسمت ابتسامة ثقة على وجه الحارس. كان فكّه العلوي ناقصا أربعة أسنان على الأقل.
«كان لدى آل آلدايا سر يخفونه. لا أعرف إن كان كلامي واضحا.»
«ليس واضحا بصراحة. ما الذي كان يشاع عنهم؟»
«الأشياء المعتادة. لك أن تتخيل. انتبه. أنا لا أصدق كل شيء، ولكن يبدو أن أكثر من شخص تغوط ذعرا في الداخل.»
«لا تقلْ بأن المنزل تسكنه الأشباح» سألته وأنا أخفي ابتسامتي.
«اضحك، اضحك… هذا ما يُشاع.»
«هل رأيت شيئا؟»
«كلا. لكنني سمعت.»
«وماذا سمعت؟»
«ذات ليلة منذ عدة أعوام رافقت خوانيت داخل البيت - انتبهْ جيدا - لأنه ألح وليس لأنني أضعت شيئا هناك… كنت أقول… لقد سمعت صوتا غريبا، كأن أحدا ما يبكي.»
قلّد الحارس الصوت الذي كان قد سمعه، وقد بدا لي أحد المصابين بالسل يدمدم أغنية ما.
«ربما كان صوت الريح» افترضت.
«ربما، لكنه كان كلعنة مخيفة. هلا أعطيتني حبة أخرى من السكاكر؟»
«خذ حبة خوانولا. إنها منعشة بعد الحلوى.»
«فلنجرب» قال الحارس.
أعطيته العلبة بأسرها. فجففت حموضتها لسانه.
«فليبق الأمر سرا بيننا. يوجد لغز ما في الداخل. ذات مرة سمع خوانيت، ابن السيد ميرافيل، وهو ضخم أكثر منك بمرتين، تخيل أنه يلعب في المنتخب الوطني للكرة الطائرة… كنت أقول… لقد سمع معارف السيد خوانيت بعض الأقاويل عن منزل آلدايا وأقنعوه بالدخول. ثم أقنعني هو بمرافقته، لأنه كان ثرثارا دَعِيًّا لكنه لم يكن شجاعا بما يكفي ليدخل وحده. لا بأس، صبي مدلل. أصر على الذهاب ليلا كي يغوي خطيبته وكاد يتبول على نفسه. لا يغرّنك القصر في النهار لأنه مختلف في الليل كليا. بالمحصلة، يقول خوانيت إنه صعد حتى الطابق الثاني - وأنا انتظرته عند الباب لأنني لا أريد مخالفة القانون مع أن المنزل مهجور منذ ما لا يقل عن عشرة أعوام حينها - وسمع صوتا غريبا. تهيّأ له سماع صوت في غرفة ما، وعندما حاول الدخول انغلق الباب في وجهه. ما رأيك؟»
«ربما كان مجرى الهواء» افترضت.
«وربما كان شيئا آخر» حدد الحارس بصوت منخفض. «قالوا في الراديو قبل أيام: الكون مليء بالألغاز. يبدو أنهم عثروا على كفن المسيح الأصلي في ساردانيولا، وخيّطوه خلف شاشة سينما كي يخفوه عن المسلمين الذين يريدون أن يستخدموا الكفن كحجة ليؤكدوا ادعاءاتهم بأن المسيح كان أسود البشرة. ما رأيك؟»
«لا تعليق حقا.»
«بالضبط. إنها ألغاز. عليهم أن يهدموا هذا المنزل وأن يغمروا الأرضية بالحصى.»
شكرت السيد ريميخو لمعلوماته ورحت أنزل على طول الطريق. نظرت إلى تلّة تيبيدابو المُحاطة بسحب بخارية صباحية. أغوتني فكرة أن أركب القطار الجبلي لأصل إلى القمة وأهيم على وجهي في حلقات صالات الملاهي القديمة وألعابها، لكنني وعدت والدي بالمجيء إلى المكتبة قبل التاسعة والنصف. وبينما كنت متجها نحو محطة المترو فكرت في خوليان كاراكس الذي كان يمشي على الرصيف نفسه ويُبدي إعجابه بواجهات المباني السامية، المباني التي ظلّت على حالها كما كانت حينئذ بسلالمها وعتباتها المليئة بالتماثيل، ربما كان مثلي ينتظر ذلك الترام الذي يحدث الضجيج ويصعد نحو السماء على رؤوس أصابعه. وعند أول الطريق أخرجت من جيبي صورة بينيلوب آلدايا التي كانت تبتسم في حديقة قصر العائلة. كانت عيناها تعكسان صفاء روحها وآمالها بمصير عجيب. «مع حبي، بينيلوب».
تخيلت خوليان كاراكس في عمري، وتلك الصورة بين يديه، تحت ظل الشجرة نفسها حيث كنتُ موجودا. كأنني كنت أراه سعيدا وواثقا من نفسه، ينظر صوب مستقبل واعد وعظيم مثل تلك الطريق. فكرت لوهلة أن الأشباح الوحيدة هي أشباح الغياب والفقدان، وأن ذلك الضوء الذي يبتسم لي كان مجرد ضوء عابر. ليته يظلّ لبعض الثواني فقط، علّني أستطيع التمسك به.
18
في العودة، وجدت مكتبتنا مفتوحة فانتهزت الفرصة وصعدت إلى البيت كي أتناول الفطور. ترك والدي على المائدة الخبز المحمص والمربى وحافظة القهوة. بعد عَشر دقائق، نزلت إلى المحل عبر المستودع. فتحت الخزانة وارتديت مئزر العمل كي أحمي ثيابي من غزو الغبار. كنت قد أودعت مجموعة من الأشياء التي لا قيمة لها، والتي لم أقرر يوما أن أرميها، داخل علبة من صفيح معدة لبسكويت الكامبرودون في عمق الخزانة. ساعات، أقلام حبر مكسورة، عملات نقدية قديمة، صور مشاهير مصغرة، كرات زجاجية صغيرة، علب رصاص فارغة عثرت عليها في حديقة لابيرينتو وبطاقات سياحية لبرشلونة في بداية القرن. وفي وسط هذه الكومة وجدت ورقة الجريدة التي كتب عليها إسحاق مونفورت عنوان ابنته نوريا، في تلك الليلة حين ذهبت لأخفي «ظل الريح» في مقبرة الكتب المنسية. أمعنت النظر فيها تحت ذلك الضوء الغباري بين الرفوف والصناديق المتكّدسة. أغلقت علبة الصفيح، وضعت العنوان في محفظتي وخرجت من المستودع وقد نويت أن أنشغل بشيء آخر مهما كان الثمن.
«صباح الخير» هتفت.
كان فيرمين يفرّغ بعض الصناديق الكبرى التي وصلتنا من أحد المولعين بجمع الكتب من شلمنقة، وكان والدي منشغلا بفك طلاسم لائحة مكتوبة بالألمانية لأسفار لوثرية مشكوك بصحتها كان اسمها يشبه نوعا من اللحوم المقددة عالية الجودة.
«وسوف يكون المساء أروع» كان فيرمين يدمدم، ملمّحا إلى موعدي مع بيا.
لم أعر له اهتماما بل رحت أواجه العمل الشهري الذي لامناص منه: أي تحديث سجل الحسابات وفحص الفواتير واستمارات الإرسال والديون والرصيد. كان الراديو يبث مختارات من أجمل ألحان أنطونيو ماشين، مغنٍّ ذائع الصيت في ذلك العصر، كي يخفف من رتابة يومنا الهادئ. وكانت الإيقاعات الكاريبية تزعج والدي لكنه كان يتغاضى عنها لأنها تذكّر فيرمين بكوبا الحبيبة. يتكرر ذلك المشهد كل أسبوع: أبي يتظاهر بأنه لا يصغي لفيرمين الذي يتقد حماسه ويرقّص ردفيه بطريقة مثيرة على إيقاع الموسيقى، ويملأ وقفات الإعلانات بقص مغامراته في هافانا. تسللت رائحة القهوة والخبز الطازج، التي تبعث على التفاؤل، من باب المحل المفتوح. وبعد لحظات أطلت جارتنا مرسيديتاس برأسها وهي عائدة من سوق بوغويريا.
«صباح الخير يا سيد سيمبيري» قالت وهي تزقزق كالعصافير.
أجابها والدي بابتسامة مرتبكة. كان لدي الانطباع بأنه معجب بمرسيديتاس، لكن أخلاقه الشبيهة بأخلاق الرهبان الزاهدين تحول دون خروجه من عزلته المستعصية. كان فيرمين يتمعن ردفيها المتمايلين بشهوانية كأن الفتاة قالب حلوى بالقشدة. فتحت مرسيديتاس كيسا ورقيا، وأخرجت منه تفاحا لامعا وعرضته علينا. من الوارد أنها كانت ما تزال تتوهم بأننا سوف نستدعيها للعمل في مكتبتنا إذ لم تكن قادرة على إخفاء ازدرائها لفيرمين الذي سلب منها الفرصة.
«انظر كم هي شهية. رأيت التفاح ففكرت بأنها للسادة سيمبيري» قالت. «أعرف بأنكم أنتم المثقفين تحبون التفاح، مثل إسحاق بيرال.»
«إسحاق نيوتن يا عزيزتي» صحح لها فيرمين الذي لا يشق له غبار.
جرحته مرسيديتاس بطرف عينها.
«ها هو المثقف الذكي. عليك أن تشكرني بالأحرى لأنني لم آتيك بليمون حامض.»
«تلك النعمة، فاكهة الخطيئة الأولى، تأتيني بها يداك الطاهرتان فتشعل في داخلي الـ…»
«أرجوك يا فيرمين» قاطعه والدي.
«حاضر يا سيد سيمبيري» قال فيرمين.
كانت مرسيديتاس على وشك أن تجيبه بأشنع ما عندها لو لم يُحدث المارة في الطريق بعض الضجيج. توقف جميعنا عن الكلام لننتظر. راحت الأصوات تتضح فإذا هي إهانات ترافقها غمغمات تتعالى. أطلت مرسيديتاس برأسها من خارج الباب. ورأينا بعض الباعة يمرون ويطلقون اللعنات بصوت منخفض. وبعد قليل دخل إلينا آناكليتو ألمو، جارنا والناطق الرسمي باسم الأكاديمية الملكية للغات في بنايتنا. كان الدون آناكليتو يعيش مع سبع قطط في شقته في الطابق الثاني، وكان من خرّيجي كلية الثقافة الإسبانية وآدابها، كما كان أستاذا في المدرسة. وفي وقته الفارغ كان راتبه يزيد إذ يكتب حواشي الأغلفة لدار نشر عريقة ويقال عنه إنه يؤلف أشعارا إباحية ويوقّع باسم رودولفو بيتون المستعار. لا شكّ أن الدون آناكليتو رجل بسيط، لكنه في الملأ يشعر بأنه مرغم على أداء دور الشاعر الملحمي، فيستخدم لغة أكاديمية قد يستحق عليها لقب الغونغورينو11.
في ذلك الصباح، كان الأستاذ محمرا من النقمة فيما ترتجف يداه اللتان تمسكان بقبضة عكازه العاجية. فنظرنا إليه نحن الأربعة مرتبكين.
«ما الذي حدث يا دون آناكليتو؟» سأله والدي.
«اشف غليلي وقل لي أن فرانكو مات» هتف فيرمين متلهفا.
«اخرس أيها السوقي» قاطعته مرسيديتاس. «دع الأستاذ يتكلم.»
تنفس الدون آناكليتو عميقا وبعد أن استعاد وقاره أخبرنا بما حدث بفصاحته المعتادة.
«أعزائي إن الحياة خبط عشواء. لقد كُتب على عباد الله الصالحين أن يذوقوا مرارة ما يُخبّئه الغيب. هذه الليلة، وبينما كان سكان المدينة ينعمون بنوم هادئ ومستحقّ، تم اعتقال الدون فيديريكو فلافيا اي بوخاديس، على أيدي عناصر أمن الدولة. أجل، جارنا العزيز الذي يساهم بالخير في عمله كساعاتي هذا الحي، والذي يمارس مهنته على بعد ثلاثة أبواب من هذه المكتبة.»
ساورني الخوف.
«بسم الآب والابن والروح القدس.» هتفت مرسيديتاس.
تأفّف فيرمين باستياء، فزعيم البلاد كان ما يزال في صحة جيدة. التقط الدون آناكليتو أنفاسه ثم تابع.
«وفقا لما وصلني من حصيلة معلومات مؤكدة جمعتها من مصادر مقربة من مخفر الشرطة، فإن عنصرين رفيعي المستوى من فرقة التحقيق بالجرائم قد باغتا الدون فيديريكو على حين غرة، بعد منتصف ليلة البارحة بقليل، وهو يرتدي ثيابا نسائية بينما كان ينشد أغنيات خليعة على خشبة مسرح صغير في زقاق ايسكودييرس أمام جمهور من المتخلفين عقليا على ما يبدو. وكان أولئك الفتية، الذين لم يكافئهم الله بالذهن الرشيد، قد هربوا عصر البارحة من معهد ديني. لقد أشعل العرض حماسهم، فنزعوا بناطيلهم وراحوا يرقصون وأعضاؤُهم منتصبةٌ ولعابهم يسيل من أفواههم.»
صلت مرسيديتاس بإشارة الصليب حين اتخذت الحكاية مسارا آخر.
«بعض أمهات أولئك الأبرياء المساكين، حالما عرفن بالخبر الصاعق، قدمن شكوى على فضيحة علنية وجريمة أخلاقية موصوفة. ولم تتأخر الجرائد في فضح الخبر، يا لهم من ضباع تتغذى على الفظائع والكوارث. إذ تولت صحيفة إل كازو هذه المهمة القذرة، وهي المعروفة بضخّ الهراء والأباطيل. كان مراسلهم حاضرا في ذلك المكان بصفة جاسوسية بعد أقل من أربعين دقيقة من المداهمة، باسم كيكو كالابويغ. استعجل هذا اللعين بتسليم تقريره عن الفضيحة في الوقت المناسب للطبعة الصباحية التي وصفت العرض في الصفحة الأولى بأنه مشهد من مشاهد الجحيم.»
«أكاد لا أصدق» قال والدي. «كان يبدو أن الدون فيديريكو قد هدأ وعزف عن هذه الأمور.»
هز الدون آناكليتو رأسه بفطرة الواعظ.
«أجل ولكن لا تنس حكمة الأمثال التي تشهد عن أحاسيسنا العفوية وتعبّر عنها بحكمة. «ذنب الكلب أعوج» و«ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». لكنك لم تسمع بعد بالأسوأ.»
«هات الخلاصة يا سيدي. لقد أرغبتني في الخروج إلى الخلاء بعد هذا الكمّ من الاستعارات» صرخ فيرمين.
«لا تعر اهتماما لعديم الأخلاق هذا يا أستاذنا. إنني أعشق طريقتك في الكلام. كأنني أصغي إلى الأخبار.» تدخلت مرسيديتاس.
«شكرا يا عزيزتي، لكنني لست إلا مربيا متواضعا. كنت على وشك أن أعلمكم، دون مقدمات أخرى وبلا استطراد، أن الساعاتي، الذي أطلقوا عليه في لحظة اعتقاله اسما فنيا «الحسناء الطائشة»، كان قد تم اعتقاله مرتين في ظروف مشابهة، وسجّلت الحالتان في لوائح الدولة العتيدة.»
«بل سمّها بالدولة العربيدة.»
«فلندع السياسة جانبا. بوسعي أن أقول لكم إن العنصرين، بعد أن ألقيا المسكين من على الخشبة برمية قنينة موفقة، جرّاه إلى مخفر فيا لايتانا. وكان من الممكن أن تمرّ الفعلة بتعذيب وجيز وصفعتين على الوجه وغرامة لا قيمة لها. لكن الحظ العاثر شاء أن يظهر المحقق فوميرو سيئ السمعة من العدم.»
«فوميرو!» غمغم فيرمين الذي كان يرتجف حالما يسمع ذلك الاسم.
«هو بعينه. كنت أقول لكم إن مدير الأمن المدني، العائد ظافرا من مهمة سرية في مكان ينظم سباقات للصراصير في زقاق فيجاتانس، علم بما حدث من أم أحد أولئك الفتية، السيدة غوارديولا أم الفتى الذي يفترض أنه العقل المدبر للهروب من المعهد. وحينها قرر المحقق أن يتدخل، وبدا أنه شرب أكثر من اثني عشر فنجان قهوة مكثفة. فقدرّوا بأنفسكم تداعيات الوضع الخطيرة. أعلم فوميرو عريف الحرس أن هذا اللوطي المثالي (أقتبس المفردة حرفيا رغم وجود سيدة بيننا تود أن تطلّع على الأحداث) يستحق قصاصا مثاليا. وهذا ما كان ينقص الساعاتي، الدون فيديريكو فلافيا اي بوخاديس، الأعزب من مواليد ريبوليت. وقال فوميرو إن القصاص سوف يصب في مصلحته أولا ولأولئك الفتية الأبرياء المنغوليين - الذين كان وجودهم سطحيا ولكن نظرا إلى ما حدث، أصبح وجودهم أساسيا. وأمر أن يقضي الليل في زنزانة جماعية مع مجموعة مختارة من المنحرفين. وكما تعلمون، تلك الزنازين مشهورة بانتقائها للمذنبين وتردي شروطها الصحية. إضافة إلى أن إدخال مواطنا مدنيا بين النزلاء الدائمين كأنه دعوة لإحداث الجلبة الناجمة عن التسلية بضيف جديد. وهكذا يهدم السجناء رتابة حياتهم داخل السجن.»
وحينها قام الدون آناكليتو بوصف وديّ للضحية التي كان جميعنا يعرفها حق المعرفة.
«ما من داع لأن أذكّركم بأن السيد فيديريكو أي بوخاديس كان على خلق رفيع، خفيف الظل وقلبه فيّاضٌ بالمحبة والرحمة المسيحية. لو دخلت ذبابة إلى محله لفتح الباب والنوافذ على مصراعيها كي تستطيع الحشرة التي خلقها الله أن تعود إلى النظام البيئي، بدل أن يسحقها بخفّيه. إنّ الدون فيديريكو رجل مؤمن ومخلص لتعاليم الله وملتزم بنشاطات الكنيسة مع أنه كان مجبرا على التعايش مع نفسه الخطاءة وميوله الضالّة التي نادرا ما تدفعه للتجول بلباس نسائي. كانت مهارته في تصليح ميكانيك أي آلة مضربا للمثل، من ساعات المعصم حتى آلات الخياطة. وكان إنسانا يحظى باحترام جميع الذين يعرفونه ويترددون إلى محله، بما فيهم أولئك الذين لا يروق لهم خروجه الليلي النادر بالشعر المستعار ومروحة اليد والثياب الخليعة.»
«تتحدث عنه كما لو أنه قد مات» قال فيرمين فزعا.
«لم يمت بعد حمدا لله.»
تنفستُ الصعداء. كان الدون فيديريكو يعيش مع أمه التي تناهز الثمانين عاما، صماء بالكامل، ومعروفة في الحي بأنها جدة الجميع ومشهورة ببطنها المنفوخة بأعاصير من الغازات القادرة على أن تسبب الدوار حتى للعصافير التي تقفز على حافة نافذتها.
«وبالطبع لم يكن للجدة أن تتخيل» أكمل الأستاذ كلامه. «أن الدون فيديريكو يقضي الليل في زنزانة قميئة، حيث تتلاعب به شرذمة من المنحرفين والضالين كما لو كان عاهرة يشبعون من لحمها ثم يشبعونها ضربا بينما يبتهج المساجين الآخرون بنظم قواف مبتذلة من النوع: «يا ذا الأرداف الكبيرة، أنت يا شبيه المرأة المثيرة»»
هبط علينا صمت مدقع. كان مرسيديتاس تشهق باكية فاقترب منها فيرمين ليواسيها ويضمها بين ذراعيه، لكنها أبعدته عنها على الفور.