«لكم أن تتخيلوا المشهد» ختم الدون آناكليتو حديثه وسط الذعر العام.

ولم تكن نهاية الواقعة أقل ضراوة. ففي منتصف الصباح، تركت إحدى العربات الرمادية التابعة للشرطة الدون فيديريكو أمام بوابة بيته، ملطخا بدمائه وثيابه المهشمة، مسلوبا من شعره المستعار ومجوهراته الكريمة. لقد تبولوا عليه وكان وجهه مليئا بالخدوش والرضوض. هكذا وجده ابن الفرانة، يبكي ويرتجف مثل الأطفال.

«هذه كارثة» صرحت مرسيديتاس، على مسافة من براثن فيرمين. «المسكين. إن قلبه طيب كرغيف الخبز ولا يؤذي أحدا. يحب أن يتشبه بالنساء وأن تسلط عليه أضواء المسرح وما العيب في هذا؟ يا للشر الذي ملأ قلوب الناس!»

كان الدون آناكليتو ساكتا ويحدّق إلى الأرض.

«ليسوا أشرارا» رد فيرمين. «بل إنهم أغبياء. الفرق مختلف جدا. فالشر يستلزم وجود عمق أخلاقي، وقوة إرادة وذكاء. أما الغبي لا يستعمل عقله للحظة، بل يذعن لغرائزه كأي حيوان في الحظيرة، مقتنعا بأنه يتفاعل باسم الخير وبأنه دوما على صواب. إنه يفتخر بنفسه لقدرته على إزعاج جميع أولئك الذين يراهم مختلفين عنه بانتماءاتهم وألوان جلدهم وآرائهم ولغاتهم، أو لمجرد أهوائهم كما في حالة الدون فيديريكو. هذا العالم في حاجة إلى مزيد من الأشرار وإلى أقل عدد ممكن من الأغبياء.»

«لا تتفوهْ بالترهات. هذا العالم في حاجة إلى إحسان مسيحي، وليس إلى الشر. يبدو أنك كنت تعيش بين الحيوانات» أنّبته مرسيديتاس. «هنالك بعض الناس لا يتغيبون عن الصلاة في الكنيسة، لكن تعاليم سيدنا المسيح لم تعد تلقى آذانا صاغية.»

«لا تروجي لبضاعة الكتب الدينية يا مرسيديتاس، فهي جزء من المشكلة وليست الحل.»

«ها هو الملحد. هل يمكن أن تقول لنا ما الذي فعله الدين بحقك؟»

«هيا، لا تتعاركا» قال والدي. «وأنت يا فيرمين، اذهب عند الدون فيديريكو واسأله إن كان يحتاج إلى شيء من الصيدلية أو اشتر له الأغراض من السوق.»

«حاضر يا سيد سيمبيري. على الفور. أنت تعرف كم أحب أن أضيع وقتي في النقاش.»

«ضياعك في وقاحتك وتطاولك» حددت مرسيديتاس. «يا لك من كافر. عليك أن تطهر روحك بالكلور.»

«انظري يا مرسيديتاس. أنت شخص طيب، مع أنك محدودة التفكير وأكثر جهلا من الماعز. ولو لم نكن في طارئ اجتماعي يرغمنا على توحيد قوانا، لَلَقّنتُكَ الدرس جيدا.»

«فيرمين!» صده والدي.

فسكت فيرمين وتعجل في الانصراف. تابعت مرسيديتاس انتصارها بنظرة فخورة.

«اسمعوني، هذا الرجل سيسبب لكم المتاعب عاجلا أم آجلا. أكاد أجزم أنه من أتباع الأناركية على الأقل، إن لم يكن ماسونيا أو ربما كان يهوديا. فلديه أنف…»

«لا تعيريه اهتماما. إنه معاد لرأي الأكثرية ليس إلا.»

هزت مرسيديتاس رأسها غاضبة.

«حسنا سوف أترككم الآن فلدي الكثير من الالتزامات والوقت قصير. إلى اللقاء.»

ودّعناها باحترام ونحن ننظر إليها وهي تخرج، منتصبة القامة وتتقدم باستقامة خطواتها الواثقة على الرصيف. تنهد والدي عميقا، كأنه أراد أن يستحوذ على السلام المستعاد. أما الدون آناكليتو الذي كان واقفا أمامه فكان شاحب الوجه مضطرب البال.

«نحن نعيش في بلد خرائي» استنتج وهو يتخلى عن لغته الخطابية المؤدبة.

«تحلّ بالصبر يا دون آناكليتو. الأمور تجري دوما هكذا، هنا وفي أي مكان آخر. عندما تنزل علينا المصائب نتشاءم في كل شيء. اطمئن فالدون فيديريكو سيستعيد قواه باكرا. إنه أقوى مما نتخيل.»

أخفض الأستاذ رأسه محبطا.

«إنها مثل المد والجزر البحري» قال. «أقصد البربرية. تبتعد حتى يظن المرء أنه بمأمن منها ثم تعود، تعود دوما… وتغرقنا. هذا ما أراه في المدرسة كل يوم. يا إلهي. إنهم قردة، في الصف ليس عندي سوى القردة. داروين كان متوهما، صدقني. أي تطور وارتقاء يا رجل! لو استخدم المرء دماغه لكان عليه أن يحارب جيشا من القردة بمفرده.»

أومأنا أنا ووالدي موافقين باستسلام. ودّعنا الأستاذُ وخرج مطأطأ الرأس من المحل، أكبر بخمسة أعوام مما كان عليه حين دخل. تبادلنا أنا ووالدي نظرة تساوي ألف كلمة. لماذا لم أخبره بزيارة المحقق فوميرو إلى المحل؟ فمصيبة الدون فيديريكو كانت مجرد إنذار. استغل فوميرو ضعف ذلك المسكين كي يوصل إلينا رسالة.

«ما بك يا دانيال؟ وجهك شاحب كخرقة بالية.»

أخفضت عينيّ. ثم رويت على مسامعه اللقاء المريع مساء الأمس مع المحقق فوميرو وتلميحاته. أصغى إليّ محاولا أن يكظم غيظه.

«الذنب ذنبي» قلت. «كان عليّ أن أخبركم بالأمر.»

«لا يا دانيال. لم يكن بمقدورك أن تحسب التداعيات.»

«ولكن…»

«ولا عليك حتى أن تفكر في الأمر. ولا تخبر فيرمين أبدا. الله وحده يعلم ما الذي قد يحل بفيرمين إذا علم أن ذلك الشخص يتتبع خطاه.»

«أليس علينا أن نفعل شيئا ما على أي حال؟»

«سنجنّبه الوقوع في الويلات.»

أومأت وأنا لست على اقتناع تام وعدت إلى العمل وحللت محل فيرمين. وعاد أبي لينشغل بالمراسلات، وبين مقطع وآخر يخطف أنظاره إلي.

«كيف جرت الأمور البارحة مع البروفسور فيلازغيز؟» سأل كي يغير الموضوع.

«بشكل جيد، كان راضيًا جدا عن الكتب. وطلب مني أن أدبر له مراسلات فرانكو.»

««ماتاموروس» إنه نص مشكوك في صحته، مزحة من مادارياجا. وبم أجبته؟»

«بأننا سوف نرد عليه خلال أسبوعين كحد أقصى.»

«أحسنت. سوف نكلف فيرمين بالبحث عن الكتاب وسوف نطلب به ثمنا باهظا.»

عدنا لما كنا قد انشغلنا فيه. لكن والدي مازال ينظر إلي. حانت اللحظة، ربما.

«البارحة جاءت إلى هنا فتاة لطيفة جدا. يقول فيرمين إنها أخت توماس آغويلار، هل هذا صحيح؟»

«أجل.»

أومأ والدي بتعبير عن دهشة محببة. سمح لي بدقيقة هدنة ثم عاود الهجوم، هذه المرة بنبرة من تذكر شيئا ما.

«بالمناسبة يا دانيال، أتوقع أن اليوم ليس لدينا عمل كثير في المحل، لذا إن أردت الاستراحة عصرا فلك ذلك. يبدو لي أنك تعمل كثيرا.»

«إنني بخير، شكرا.»

«تصوّر! لقد قلت ذلك لأنني كنت أفكر أن يبقى فيرمين في المكتبة فربما أذهب إلى المسرح مع برسلوه. هذا المساء يتم عرض «تانهاوزر» وقد دعاني لأن لديه أكثر من بطاقة لدخول المسرح.»

تظاهر أبي بأنه يقرأ المراسلات، كان ممثلا رديئا.

«ومنذ متى يعجبك فاجنر؟»

أبدى عدم اهتمامه.

«طالما أنها دعوة مجانية… ثم إن برسلوه لا يهتم بأي عرض يقدّمون، ولا يفعل شيئا سوى نقد الأوركسترا وأداء المطربين والأزياء… غالبا ما يسألني عنك. بوسعك أن تذهب لزيارته في المحل.»

«في الأيام المقبلة.»

«سندع فيرمين هنا، ونذهب لنروح عن أنفسنا قليلا إن أردت، فنحن نستحق ذلك. وإن كنت في حاجة إلى بعض النقود…»

«بيا ليست خطيبتي يا أبي.»

«ومن تحدّث عن خطيبة؟ أنت من تظن ذلك. خذ النقود من الصندوق إن احتجت، وسجّلها في الدفتر، فهكذا لا يفزع فيرمين عندما يغلق حساب النهار.»

بعد أن قال وفرغ ممّا عنده، اختفى في المستودع. نظرت إلى الساعة: كانت العاشرة والنصف صباحا. علي أن ألتقي بيا عند باحة الجامعة في الخامسة مساء ونظرا إلى المقدمات، كان اليوم يخاطر بأن يكون أطول من رواية «الإخوة كارامازوف».

عاد فيرمين بعد قليل من بيت الساعاتي بأخبار مطمئنة: اتفقت بعض الجارات على التناوب في العناية بالدون فيديريكو المسكين. وجد الطبيب كسرا في ثلاثة من عظام صدره وعدّة رضوض وتمزّقًا مَعويًا يَصلُح درسًا في الجراحة.

«هل اشتريت له شيئا؟» سأله والدي.

«كان في البيت من الأدوية والدهون ما يكفي لافتتاح صيدلية، وهكذا سمحت لنفسي بأن آتي له بالأزهار، وزجاجة عطر نينوكو وثلاث علب من مربى الدراق التي يفضّلها الدون فيديريكو.»

«خيرا فعلت. قل لي لاحقا كم عليّ أن أعطيك» قال والدي. «كيف وجدته؟»

«محطّما بصراحة، الكذب لا يفيد. كان منكمشا على نفسه فوق السرير، يتأوه ويصرخ متمنيا الموت. حين رأيته بتلك الحالة، انتابني غضب حيواني ورغبت في أن أتسلح حتّى بأسناني وأذهب إلى قسم التحقيق كي أقتل عشَرةَ عناصر على الأقل، بدءا بتلك البلية القذرة فوميرو.»

«لا تعقّد الأمور يا فيرمين. أحرّم عليك أن تبادر بأي شيء.»

«تحت أوامرك يا سيد سيمبيري.»

«وكيف تلقت الجدة الخبر؟»

«بحضور مثالي للفكاهة. خدرنها الجارات بمشروب البراندي. عندما رأيتها كانت غافية على الديوان، تشخر مثل البوق وترسل ضراطها الذي يكاد يمزّق الإسفنج.»

«يا للفرق بين المظهر والجوهر.. اسمع يا فيرمين ستبقى مساء اليوم في المحل. سأمرّ قليلا بالدون فيدريكو ثم أخرج مع برسلوه. ودانيال لديه ما يقوم به أيضا.»

رفعت بصري كي أفاجَأ بفيرمين ووالدي وهما يتبادلان النظرات.

«يا لكما من متملقين» هتفت.

وظلّ ضحكُهما يتناهي إليّ بعدما خرجت، غاضبا، من المحل.

كانت الريح الباردة تجلد شوارع برشلونة والشمس تحرق بانعكاساتها الفرعية أحجار القرميد ونواقيس الباريو غوتيكو. مازال الوقت مبكرا للذهاب إلى الجامعة، إلى موعد بيا، لذا قررت أن أجرّب حظي وأذهب عند نوريا مونفورت، آملا أنها ما تزال تسكن في ذلك العنوان الذي أعطاني إياه والدها منذ وقت مضى.

كانت ساحة سان فيليب نيري مثل كوّة الضوء في متاهة أزقة الباريو غوتيكو، بجانب الأسوار الرومانية العتيقة، حيث ماتزال آثار طلقات الرصاص التي تعود إلى حقبة الحرب الأهلية، تخدش جدران الكنيسة. كانت هناك مجموعة من الأولاد، في ذلك الصباح، يلعبون لعبة الحرب، غير مبالين بذاكرة الحجر. وهنالك امرأة شابة شعرها مصبوغ باللون الفضي تراقبهم وهي جالسة على أحد المقاعد، وفي حضنها كتاب ما وعلى شفتيها ابتسامة شاردة. كانت نوريا مونفورت تعيش في مبنى قديم عند مدخل الساحة، وتاريخ تدشينه عام 1801 ما يزال واضحا على قوس البوابة الحجري الذي اغبرّ بفعل الزمان. وفي عمق الردهة المظلمة يوجد سلم حلزوني. بحثت في صناديق البريد عن أسماء السكان المكتوبة على بطاقات مصفرة حتى قرأت:

ميغيل مولينر ونوريا مونفورت

2 آ/3

صعدت تلك العتبات الصغيرة كأنني في مسكنٍ للأقزام وأنا أخشى أن يتهاوى المبنى بفعل خطوة ثقيلة. عند كل فناء كان هنالك بابان، ولكن لم تكن توجد أي دلالة على الرقم ولا لافتة الاسم. وصلت إلى الطابق الثالث واخترت بابا بشكل اعتباطيّ وطرقت بهدوء. كانت رائحة الرطوبة تحوم على السلالم، من الأحجار القديمة والصلصال. قررت أن أطرق الباب الآخر فطرقت بقوة ثلاث مرات. كنت أسمع الراديو يبث بصوت مرتفع برنامج «لحظات من التأمل مع الراهب مارتين كالزادو».

فتحت الباب امرأة ترتدي لباسا منزليا مخططا بمربعات فيروزية، وتنتعل خفّا بقدميها ولفافات الشعر على رأسها. بدت لي في الظلام كالغواص. وكان صوت مارتين كالزادو الناعم يصدح خلفها وهو يذكر ممّول البرنامج ومنتجات آورورين للتجميل التي يفضلها حجاج معبد لورد ويتباركون بها من ضراوة الدمل المتورم.

«مرحبا. إنني أبحث عن السيدة مونفورت.»

«نوريا؟ لقد أخطأت الباب يا فتى. إنها تعيش قبالتنا.»

«أعتذر يا سيدتي. لقد طرقت ولم يجبني أحد.»

«لستَ بدائن أليس كذلك؟» سألتني الجارة وقد حركها شك فجائي وله جذوره بطبيعة الحال.

«لا. لقد أرسلني والد السيدة مونفورت إليها.»

«آه حسنا. ربما كانت نوريا تقرأ في الساحة. ألم ترها وأنت تصعد؟»

نزلت الأدراج ثانية وتأكدت من أن المرأة بشعرها المصبوغ بالفضي والكتاب بين يديها ما تزال جالسة على المقعد في الساحة. راقبتها بحذر. كانت نوريا مونفورت تفتن الأنظار بملامحها الشبيهة بملامح عارضات الأزياء على صفحات المجلات. إلا أنّ حلاوة الصبا بدت وكأنها هربت من نظراتها. في جسدها الهزيل شيء يذكّر بأبيها. تخيلت أن عمرها يناهز الأربعين عاما بسبب الخصلات الفضية وبعض التجاعيد على وجهها الذي يبدو تحت الظل أصغر بعشرة أعوام.

«السيدة مونفورت؟»

نظرت إليّ دون أن تراني، كأنها تمارس طقسا بوذيا.

«أدعى دانيال سيمبيري. منذ وقت خلا أخذت عنوانك من والدك. قال لي يمكن أن تمديني بأخبار خوليان كاراكس.»

اكفهرت معالم ذلك الوجه على وقع كلماتي. لم يكن ذكر اسم والدها خطوة ذكية.

«ماذا تريد؟» سألتني بارتياب.

أدركت أنني لن أستطيع الحصول على شيء ما لم أكتسب ثقتها على الفور. بقيت لدي بطاقة واحدة ألعبها: الحقيقة.

«اسمحي لي أن أشرح لك يا سيدتي. منذ ثمانية أعوام عثرتُ، عن طريق الصدفة، على رواية لخوليان كاراكس، الرواية التي أخفيتِها أنت في مقبرة الكتب المنسية للحيلولة دون وقوعها بيد رجل، يدّعي بأن اسمه لايين كوبرت، فيحرقها» قلت.

ركزت أنظارها في عينيّ دون أن تحيد عنهما قيد أنملة. كانت تبدو كأنها تخشى أن يتداعى بنيان هذا العالم فوق رأسها.

«سآخذ من وقتك عدة دقائق فقط» أضفت. «أعدك بهذا.»

فوافقت بهزة متعبة من رأسها.

«كيف حال والدي؟» سألتني وتجنّبت النظر إلى وجهي.

«إنه بخير، بغض النظر عن تقدّم العمر. لا يشعر إلا بالاشتياق إليك.»

سمحت نوريا لنفسها بتنهيدة قصيرة لم أستطع أن أفهم معناها.

«لا أريد التحدث بخصوص هذا في الطريق. فلنصعد إلى البيت.»

20

كانت نوريا مونفورت تعيش في الظلام. رأيت غرفة نومها بلا نوافذ وأنا أمشي في الممر الضيق الذي يفضي إلى صالة الغداء، والتي تشغل بدورها وظيفة المطبخ والمكتبة والمكتب أيضا. لا يوجد أي شيء آخر، باستثناء حمّام صغير، لا يوجد فيه دش، وتصدر منه روائح متعددة الطبائع، من رائحة المطبخ الكريهة للبار المجاور إلى قنوات الصرف الصحي والأنابيب القديمة منذ قرن. كان البيت غاطسا في عتمة أبدية. الجدران مقشرة والجو مكبل برائحة التبغ والبرد والعزلة. وكانت نوريا مونفورت تراقبني بينما كنت أتصنع عدم ملاحظتي لفقر مسكنها.

«إنني أقرأ في الساحة لأن البيت لا يصله سوى القليل من الضوء» قالت. «وعدني زوجي بأن يهديني قنديل منضدة حالما يعود إلى البيت.»

«هل زوجك مسافر؟»

«ميغيل في السجن.»

«اعذريني، لم أكن أعرف…»

«وكيف كان لك أن تعرف؟ أنا لا أخجل من هذا، فزوجي ليس مجرما. اعتقلوه آخر مرة لأنه طبع منشورات لنقابة العاملين في مجال الفلزات. حدث هذا منذ سنتين. يظن الجيران أنه في أمريكا. حتى والدي ليس له علم بالأمر، وأفضّل ألا يعلم بذلك أيضا.»

«اطمئني يا سيدتي. لن أخبره بهذا.»

سكن الصمت في الغرفة. افترضت أنها تعتبرني جاسوسا من قبل إسحاق.

«لابد أنك تواجهين المصاعب في تدبير أمور البيت وحدك» قلت جملة غبية لملء ذلك الفراغ الخانق فقط.

«ليس الأمر سهلا. أتقاضى أجرا من ترجمة بعض الأشياء، ولكن المال لا يكفي أبدا طالما ظلّ زوجي غائبًا وراء القضبان. لقد امتص المحامون دمي وتراكمت عليّ الديون. فالترجمة أجرها قليل، مثل الكتابة.»

رمقتني كأنها تنتظر مني إجابة، لكنني اكتفيت بابتسامة ناعمة.

«هل تترجمين الكتب؟»

«كنت أترجم الكتب، أما الآن أترجم كتيبات الإعلانات والعقود ووثائق الجمركة، فأجرها أعلى. أجر الروايات منخفض جدا، ولكن على كلّ حال، أجر الترجمة أعلى من أجر الكتابة. حاول الجيران طردي من البيت مرتين، ليس بسبب التأخّر في دفع الإيجار والضرائب فحسب بل لأنني امرأة تتكلم اللغات وترتدي البنطال أيضا… وثمت من يتهمني بأنّني أمارس الدعارة هنا. تصوّر! لو قمت بهذا لكان وضعي أفضل بكثير.»

تمنيت أن يغطي الظل حيائي.

«اعذرني. لست أعي لماذا أقص عليك هذه الأمور. إنني أشعرك بالإحراج.»

«الذنب ذنبي. فأنا من سألك عن أمورك الشخصية.»

ابتسمت نوريا مونفورت بعصبية. كانت تلك المرأة تبث إحساسا عميقا بالعزلة.

«إنك تشبه خوليان» قالت على حين غرة. «بنظراته وحركاته، وتصرفاته أيضا. يراقبك بصمتٍ قادرٍ على إخفاء ما يفكر فيه، ويجعلك تستطرد في حديثك فتقص عليه كالغبي أشياء من الأفضل أن تسكت عنها… هل لي أن أقدّم لك شيئا تشربه؟ فنجان قهوة بالحليب مثلا؟»

«لا شكرا، لا أريد إزعاجك.»

«لا إزعاج. سأحتسي فنجانا أنا أيضا.»

ربما كان ذلك المشروب الساخن بمثابة غدائها. رفضته مجددا، لكنها ذهبت نحو زاوية في الغرفة حيث يوجد فرن كهربائي صغير.

«خذ راحتك» قالت دون أن تستدير.

نظرت حولي وتساءلت كيف لي أن آخذ راحتي. فمكتب نوريا مونفورت كان عبارة عن منضدة موضوعة بجانب الشرفة، وعليها آلة كاتبة اندروود وبجانبها قنديل الغاز ورفّ مليء بالقواميس وكتب القواعد اللغوية. ما من صورة عائلية، لكن الجدار المقابل كان مفروشا ببطاقات المعايدة التي يظهر في جميعها جسر أذكر أنني رأيته في مكان ما، ولا أعرف أين يكون، ربما في باريس أو روما. كانت المنضدة نموذجا عن الهلوسة في الترتيب والدقة: أقلام الرصاص المبريّة ببراعة مصفوفة بشكل متكامل، والأوراق والملفات مرتبة على ثلاثة أنساق. عندما التفتّ رأيت أن نوريا كانت تراقبني من الممر بصمتٍ كأنها تنظر إلى غريب في الطريق أو في قطار الأنفاق. أشعلتْ سيجارة. كانت امرأة جذابة شاءت أم أبت، من اللواتي قد يذهلن فيرمين إذا ما ظهرن من ضباب محطة برلين، وعلى رأسهن هالة من الضوء. لكنها تبدو جاهلة بما يمكن أن تفعله بسحر جمالها.

«ليس عندي الكثير لأقوله» صرحت. «عرفت خوليان منذ عشرين عاما، في باريس. كنت أعمل في دار نشر كابيستاني الذي اشترى حقوق نشر رواياته بدرهمين. بدأت العمل عنده كمحاسبة، وما إن اكتشف السيد كابيستاني أنني أتحدث الفرنسية والقليل من الألمانية حتى أوكل إليّ شؤون المكتسبات ورفعني إلى مستوى سكرتيرة شخصية. وكانت إحدى مهماتي أن أعتني بالمراسلات مع المؤلفين والناشرين الأجانب. وهكذا دخلت في تواصل مع خوليان كاراكس.»

«قال لي والدك بأن صداقة قوية جمعت بينكما.»

«لعل والدي أخبرك بأننا خضنا مغامرة أو شيئا ما كهذا، أليس كذلك؟ إنه يظن أنني ألهث خلف أي رجل كأنني كلبة شهوانية.»

سلبت مني صراحتها الكلام، وحاولت عبثا أن أعطي ردا معقولا بينما كانت نوريا تخفض رأسها وهي تتبسم.

«لا تعرْه اهتماما. لقد اغتاظ أبي من خوليان بعد أن ذهبت إلى باريس عام 1933 كي أتابع بعض العقود الموقعة بين السيد كابيستاني وغاليمار. بقيت هناك مدة أسبوع، ضيفة عند خوليان، لا لشيء سوى لأن السيد كابيستاني كان يفضّل توفير نفقات الفندق. يا له من لقاء رومانسي أليس صحيحا؟ كانت علاقتي بخوليان، حتى تلك اللحظة، تقوم عبر المراسلات لتحديد بعض التفاصيل المتعلقة بحقوق المؤلف وتصحيح المسودات ونشر الأعمال. كل ما كنت أعرف عنه أو أتخيله كان راجعا لقراءتي مخطوطاته.»

«هل روى عليك شيئا من حياته في باريس؟»

«لا. لم يكن يحب أن يتكلم عن نفسه أو عن كتبه. ولم يبدُ لي أنه كان سعيدا في باريس، إذ أعطاني الانطباع بأنه من أولئك الأشخاص الذين لا يشعرون بالسعادة أينما وُجدوا. وفي الواقع لم أعرفه جيدا، فهو لا يسمح لأحد بذلك. كان كتوما جدا وأحيانا يبدو أنه فقد أي صلة تربطه بالعالم والبشر. وكان السيد كابيستاني يراه مفرط الخجل ومتقلب المزاج، لكنني أعتقد أن خوليان عاش في ماضيه أسيرا لذكرياته. كان خوليان يعيش لأجل نفسه ولأجل كتبه، ويحيا في قصص رواياته مثل سجين في زنزانة فاخرة.»

«يبدو وكأنك تحسدينه على ذلك.»

«ثمت سجون أسوأ من الكلمات يا دانيال.»

اكتفيت بالموافقة دون أن أفهم المعنيّ بكلامها ولا المقصود به.

«ألم يحدثك أبدا عن سنواته في برشلونة؟»

«القليل جدا. نوّه عن عائلته ذات مرة خلال الأسبوع الذي حللت فيه ضيفة عنده. أمه فرنسية ومعلمة موسيقى، وأبوه صاحب محل قبعات أو شيء من هذا القبيل. وعرفت أن والده كان متدينا جدا وقاسي القلب.»

«هل كانا متوافقين؟»

«لا. لم يكونا على وفاق منذ البدء. خوليان ذهب إلى باريس في الحقيقة كي لا يجبر على التطوع في الجيش بناء على قرار والده. أقسمت أمه أنها ستنفصل عن ذلك الرجل، كي تجنبه مصيرا كهذا.»

«هل كان ذلك الرجل والده؟»

ابتسمت نوريا بالكاد، وحجب الحزن شفتيها ونظراتها المتعبة.

«بغض النظر عن هذا، لم يكن ذلك الرجل يتصرف أبدا على أنه أبٌ، وخوليان لم يكن يعتبره كذلك من جهة أخرى. قال لي إن أمه، قبل الزواج، كان لديها علاقة مع شخص رفضت أن تكشف عن اسمه. وهو الوالد الحقيقي لخوليان.»

«تبدو كأنها مقدمة «ظل الريح». هل قال لك الحقيقة؟»

أومأت نوريا مونفورت.

«حين كان طفلا كان يتابع تلك المشاهد العنيفة التي يقوم بها بائع القبعات، كما كان يسميه، وهو يهين زوجته ويضربها ثم يدخل إلى غرفته كي يذكّره بأنه ابن سفاح وأنه ورث طباعه السيئة عن أمه وأنه سوف يبقى مغفلا وفاشلا إلى الأبد.»

«هل كان خوليان يكنّ الحقد لأبيه؟»

«الزمن يخفف من قسوة الخلافات. لم يبدُ لي بأنه يكرهه، ولعلّ هذا تصرّف جيد. لكنني أعتقد أنه فقد أي احترام تجاهه بسبب رؤيته لتلك المشاهد. خوليان يتحدث عنه بحيادية مطلقة كأنه شيء من الماضي البائد والمدفون، لكن تلك الذكريات لا تمحى. الكلمات التي تحقن قلب الطفل بالغلّ، سواء قيلت عن جهل أو عن سابق إصرار، تترسب في الذاكرة وتترك جرحا لا يندمل.»

تساءلت إن كانت تتحدث عن خبرة، وفكرت بصديقي توماس الذي كان يحتمل بصبر أيوب خطاب والده المبجل.

«كم كان عمر خوليان حينذاك؟»

«ثماني سنوات أو عَشر على ما أظن. ما إن بلغ سن التجنيد حتى أخذته أمه معها إلى باريس. لا أعتقد أنهما ودّعا بائع القبعات، وهو لم يفهم أبدا لماذا هجراه.»

«ألم يذكر خوليان على مسامعك اسم بينيلوب؟»

«بينيلوب؟ لا يبدو لي ذلك، وإلا تذكرته.»

«كانت عشيقته عندما كان لا يزال في برشلونة.»

أخرجت صورة خوليان وبينيلوب آلدايا وأعطيتها إياها. أضاء وجهها حين رأت خوليان في سِنِيّ مراهقته. لا شكّ أنها كانت مصابة بداء الشوق والعزلة.

«كم كان شابا… هل هذه هي بينيلوب؟»

أومأت بنعم.

«جميلة جدا. كان خوليان ناجحا في لمّ الفتيات الجميلات حوله.»

مثلك، قلت في سري.

«هل تعرفين إن كان لديه الكثير من…»

«العشيقات؟ الصديقات؟ لا أعلم. والحق يقال إنني لم أسمعه أبدا يتحدث عن امرأة على وجه الخصوص. ذات مرة سألته عن الأمر لاستفزازه. هل تعلم أنه كان يحصل على قوت يومه بعزف البيانو في بيت دعارة؟ سألته إن كان يقاوم الإغواء مادام محاصرا بالغانيات المستعدات لهذه الدرجة. لم تعجبه النكتة. أجابني بأنه لم يكن لديه الحق بأن يعشق أحدا وأنه يستحق أن يظل وحيدا.»

«هل قال لك لماذا؟»

«خوليان لم يكن يقدم التوضيحات أبدا.»

«ومع ذلك، قبل أن يعود إلى برشلونة بزمن قصير، كان خوليان على وشك الزواج.»

«هكذا كان يقال.»

«ألا تصدقين ما يقال؟»

أخفضت رأسها وساورتها الشكوك. «كما قلت لك، خوليان لم يشر أبدا إلى امرأة على وجه الخصوص، ولا حتى لواحدة كان ينوي الزواج بها. علمت عن زواجه المفترض لاحقا. نويفال، آخر ناشر لكاراكس، قال لكابيستاني إن الخطيبة امرأة تكبره سنا بعشرين عاما، أرملة غنية ومريضة يبدو أنها تبنّته لسنوات طويلة. افترض الأطباء أن تعيش ستة أشهر أخرى، أو سنة كحد أقصى، ويدّعي نيوفال بأن خوليان إنما أراد أن يستحوذ على كامل ثرواتها حالما تموت.»

«لكن حفل الزفاف لم يحصل.»

«هذا إذا افترضنا أن مشروعا كهذا قد رأى النور بالأساس، أو أن تلك الأرملة كان لها وجود أصلا.»

«قيل إن كاراكس دعي لمبارزة في فجر يوم زفافه. هل تعلمين من الذي تحداه أو لماذا؟»

«بحسب أقوال نيوفال كان الأمر متعلقا بشخص من أقارب الأرملة الذي لم يتصور أن تقع التركة في أيد غريبة. لكن نيوفال كان ينشر روايات مسلسلة وعاطفية ولعلّه تأثر بذلك النمط الأدبي.»

«يبدو لي أنك تشككين بقصة الزواج وقصة المبارزة.»

«لم أصدق هذا أبدا.»

«كيف كانت نهاية كاراكس بالنسية إليك إذن؟ لماذا عاد إلى برشلونة؟»

فجاوبتني وموج الحزن يغمرها. «لقد طرحت على نفسي هذا السؤال منذ سبعة عشر عاما.»

أشعلت نوريا سيجارة أخرى وعرضت علي واحدة. كنت على وشك أن أوافق لكنني رفضت.

«تساورك بعض الشكوك على الأقل» قلت.

«ما أعرفه أن دار النشر، في صيف العام 1936 بعد نهاية الحرب بقليل، تلقت اتصالا من موظف يعمل في شؤون الموتى في البلدية. بلّغنا الرجل أنه، قبل ثلاثة أيام، وصلت إليه جثة رجل يدعى خوليان كاراكس. وجدوه ميتا في أحد أزقة الرافال مرتديا ثيابا رثّةً، وقلبُه مثقوب برصاصة. كان بحوزته كتاب، نسخة عن «ظل الريح»، وجواز سفره. فُهم من الأختام أنه عبر الحدود مع فرنسا قبل شهر، ولا يعلم أحد أين كان طوال تلك الفترة. أخطرت الشرطة والده، لكنه رفض التعرف إلى الجثة، مدعيا بأنّه بلا أبناء، فلم يطالب أحد بها بعدئذ. وُوري خوليان الثرى بعد يومين في قبر جماعي من مقبرة مونتويك. لم يتسنّ لي حتى حمل الأزهار إلى قبره، لأنهم لم يذكروا أين دفنوه. وبعد عدة أيام، قرر الموظف، الذي وجد الكتاب في سترة خوليان، أن يُعلم دار النشر. وهكذا عرفت بموته، ولم أتمكن من العثور على أي تفسير حتى اللحظة. إن كان لخوليان أصدقاء يطلب منهم المساعدة فلم يكن ليجد غيري. كان بإمكانه أن يتوجه إلى السيد كابيستاني أيضا، فنحن أصدقاؤه الوحيدون. ولم نعلم بعودته إلا بعدما تُوفّي…»

«هل استطعت أن تكتشفين شيئا آخر بعد خبر وفاته؟»

«لا. في الأشهر الأولى من الحرب اختفى الكثير من الأشخاص دون أن يتركوا أثرا وراءهم. والآن يتجنب الجميع التحدث عنهم، والقبور الجماعية كتلك التي دفن فيها خوليان كثيرة. فأن تنطح الجدار برأسك أفضل من أن تسأل عنهم. قدمتُ بلاغا للشرطة بمساعدة السيد كابيستاني الذي كان مريضا حينها، وتواصلتُ مع كلّ شخص بوسعه أن يملك ولو يسيرا من المعلومات. وفي النهاية نصحني أحد المحققين الشباب، وهو شخص حقير ومغرور، بعدم تكرار السؤال وأن أكون متعاونة ومتفهمة، فالبلاد كانت تخوض حربا صليبية، هكذا قال بالتحديد. كان اسمه فوميرو، لا أذكر أي شيء آخر. والآن يبدو أنه أصبح شخصية بارزة وغالبا ما تتكلم عنه الصحف.»

أصابتني نوبة قصيرة من السعال.

«يا للغرابة.»

«ولم أعد أسمع أي شيء عن خوليان إلى أن اتصل شخص ما بدار النشر بغية الحصول على نسخ رواياته التي لم تبع.»

«لايين كوبرت؟»

أومأت نوريا مؤكدة.

«هل لديك فكرة عمّن يكون هذا الرجل؟»

«لدي شك وحيد. في شهر مارس من عام 1936 - أذكر التاريخ جيدا لأننا كنا نعمل على نشر «ظل الريح» - اتصل أحد ما بدار النشر كي يطلب عنوان كاراكس، قائلا بأنه صديق قديم يريد التوجه إلى باريس كي يفاجئه. أوصلوني به فأجبته بأنني لست مخولة لإعطائه هذه المعلومة.»

«هل قال لك ما اسمه؟»

«أحد ما يدعى خورخي.»

«خورخي آلدايا؟»

«ربما. لقد سمعت خوليان يذكر هذا الاسم غالبا. ربما كان من رفاقه في مدرسة سان جبريل. كان يتكلم عنه كأنه صديقه المفضّل.»

«هل تعلمين أن خورخي آلدايا أخ بينيلوب؟»

تقطب جبينها واندهشت.

«وهل أعطيته عنوان خوليان في باريس بعد ذلك؟» سألتها.

«كلا. لم أكن لأثِقَ فيه.»

«وماذا قال خورخي؟»

«سخر مني، وأكد بأنه سيحصل عليه بأية حال وأغلق السماعة.»

كان شيء ما يعذّب أساريرها. بدأت لا أفهم في أي منحى تمضي محادثتنا.

«ولكنك سمعت عنه بعدها، أليس كذلك؟»

فأومأت بعصبية.

«كما قلت لك، بعد وفاة خوليان بوقت قصير جاء ذلك الرجل إلى دار النشر. لم يعد السيد كابيستاني يدير أعماله فتسلّم نجله المهمة. تقدّم ذلك الرجل، لايين كوبرت، باقتراح بأن يشتري كل النسخ غير المباعة من روايات كاراكس. فكرتُ أنه يقوم بمزحة ثقيلة: لايين كوبرت كان شخصية في رواية «ظل الريح».»

«الشيطان.»

هزت نوريا رأسها.

«هل رأيت هذا الذي يدّعي بأنه لايين كوبرت؟»

أشعلت السيجارة الثالثة.

«لا. لكنني سمعت جزءا من المحادثة مع نجل السيد كابيستاني في مكتب أبيه القديم.»

تركَت الجملة معلقة، كأنها خافت إنهاءَها أو كأنها لم تتمكن من إنهائها. كانت السيجارة ترتجف بين أصابعها.

«الصوت» قالت. «كان نفس الصوت لذلك الرجل الذي اتصل مدعيا بأنه خورخي آلدايا. حاول نجل كابيستاني أن يمتص منه أكبر قدر من النقود لكن كوبرت دعاه للتفكير بالعرض. في تلك الليلة نفسها، أحرق مستودع دار النشر في بويبلو نويفو وفيه كل كتب خوليان.»

«ما عدا تلك النسخ التي أخذتها ووضعتها في مأمن داخل مقبرة الكتب المنسية.»

«تماما.»

«ولكن لماذا كان أحد ما يريد إحراق كتب خوليان كاراكس؟»

«ولماذا تُحرق الكتب برأيك؟ إما عن غباوة، أو جهل أو حقد… ومن يدري.»

«وما الفكرة التي كوّنتها أنت يا سيدتي؟» ألححت في السؤال.

«خوليان كان يعيش في صفحات رواياته. الجسد الذي رقد في تلك الحفرة كان جزءا منه فقط. أمّا روحه فتسكن في الحكايات التي قصّها. ذات مرة سألته عن الوحي الذي يلهمه الشخصيات، فأجابني بأن كل الشخصيات مجرد إسقاطات عن نفسه.»

«فإذا فكر أحدهم في إيذائه حقا فلابد أن يمحو تلك القصص وشخصياتها. أليس كذلك؟»

فارتسمت مجددا تلك الابتسامة لامرأة منهكة ومقهورة.

«أنت تذكرني بخوليان» قالت. «قبل أن يفقد الثقة.»

«الثقة في أيّ شيء تحديدا؟»

«في كل شيء.»

اقتربت مني وأخذت بين يديها يدي المرتجفة، وداعبت كف يدي وهي ساكتة كأنها أرادت أن تقرأ مستقبلي. شعرت بالدوار، كنت أتخيل انحناءات جسدها المخفية تحت ثيابها البالية، ورغبت أن ألامسها وأسمع آهات نشوتها. لكنني اكتفيت بالنظر إليها كي أعرف إن كانت على علم بما أفكر. بدت لي وحيدة أكثر من ذي قبل، لكن عينيها كانتا في غاية الصفاء.

«خوليان مات وحيدا، ومقتنعا بأن لا أحد سيذكره أو يتذكر كتبه. مات وهو يفكّر في أنّ حياته كانت بلا جدوى» قالت. «لعلّه كان سيسرّ لو عرف أن أحدا يلملم ذكرياته. فهو الذي قال: إننا موجودون طالما يذكرنا الآخرون.»

شعرت بالرغبة الأليمة بلثم تلك المرأة. قلق لم أجربه من قبل، حتى مع كلارا برسلوه. قرأتْ أفكاري.

«تأخر الوقت يا دانيال» همست.

كان جزءا مني يحبذ البقاء كي يذوب في حميمية ذلك الظلام بجانب تلك المجهولة التي رأت في حركاتي وصمتي ذكرى خوليان كاراكس.

«أجل» تلعثمت.

رافقتني إلى الباب دون أن تتكلم، وبدا لي الممر طويلا جدا. فتحت نوريا مونفورت الباب فوجدت نفسي عند الفناء.

«إن قابلت والدي قل له إنني بخير. اكذبْ عليه.»

ودّعتها بصوت هامس وأنا أشكرها لأنها فرّغت من وقتها لأجلي، ومددت يدي. فتجاهلت تلك الحركة الرسمية، وأمسكت ذراعيّ بيديها، وحنت رأسها وقبّلت وجنتي. بحثتُ عن فمها. بدت لي شفتاها مواربتين وأصابعها تنبسط على وجهي. ثم دفعتني عنها برفق.

«من الأفضل أن تنصرف يا دانيال» همست.

أغلقت الباب، ربما كي لا أرى دموعها. انتظرت بضع لحظات عند الفناء، وكنت أراقب وجودها من خلف الباب. رأيت الباب المقابل يتحرك. رفعت يدي لتحية الجارة ونزلت مسرعا على السلالم. لقد انحفر وجهها وصوتها على روحي، ورافقتني ذكرى فمها وعطر جسدها في الطرق المزدحمة بالناس المجهولين الخارجين من المكاتب والمحلات. وما إن خرجت على شارع كانودا حتى دهستني ريح باردة، ريح منعشة عانقت وجهي فمشيت منتشيا صوب الجامعة. اجتزت لاس رامبلاس ودخلت قوقعة شارع تاليرس المظلمة وأنا أفكر في نوريا مونفورت، جالسة في تلك الغرفة المعتمة وتعتني بترتيب أقلامها وملفاتها وذكرياتها بصمت أصم وعيون محترقة بفعل الدموع الملتهبة.

2021/06/22 · 64 مشاهدة · 4390 كلمة
نادي الروايات - 2025