هبط المساء غدرا. واستباحت الريحُ الشوارع، وصبغ اللون الأرجواني كل زاوية في المدينة. أسرعت الخطى حتى رأيت واجهة الجامعة، بعد عشرين دقيقة، كأنها سفينة صفراء تفنى في ظلام الليل. كان حارس كلية الآداب في مكتبه يقرأ جريدة ال موندو ديبورتيفو المسائية، والتي تستضيف أهم الأقلام البارزة في تلك الحقبة. لم يبق سوى القليل من الطلبة، وصدى خطاي يصدح في الممرات التي تنيرها بعض الأضواء الواهنة. خشيت أن تكون بيا قد احتالت عليّ وأعطتني موعدا في وقت غير اعتيادي كي تنتقم من عنجهيتي. كانت الباحة ملعبا لحفيف شجر البرتقال وخرير النافورة الذي يدغدغ أقواس البوابة. نظرت حولي وأنا أحضّر نفسي على خيبة الأمل أو ارتياح الجبناء. كانت بيا هناك، جالسة بجانب النافورة، ونظراتها تتجه صوب المبنى. بدت لي لوهلة مثل نوريا مونفورت التي كانت تحلم بعينين مفتوحتين على مقعد في الساحة. حين رأيت بيا دون كتب ودفاتر، تخيلت أنه لم يكن لديها دروس في ذلك المساء وأنها كانت هناك لتلتقي بي وحسب. تشجعت ودخلت. سمعت بيا صوت خطاي، فالتفتت وابتسمت في وجهي متفاجئة كأنني كنت هناك بفضل الصدفة.

«ظننت أنك لم تأت» قالت بيا.

«وأنا أيضا ظننت أنك لن تأتي» أجبتها.

كانت جالسة تضمّ ركبتيها وتحط يديها على حضنها. تساءلت كيف يُعقل أن نشعر بوجود مسافة تفصلنا عن بعض الأشخاص ونكون قادرين على تفسير نظراتهم في الوقت نفسه.

«لقد أتيت لأبرهن لك أنك مخطئ يا دانيال. سوف أتزوج بابلو، ولن تتمكن من أن تغير فكرتي مهما أظهرت لي من مفاتن هذه المدينة اليوم. سأذهب معه إلى ال فيرول حالما ينهي خدمته العسكرية.»

حدّقت فيها وأخذ وجهي ملامح من فاته القطار توا. طيلة يومين لم أكن أفكر إلا بوهم والآن أشهد على انهيار العالم فوق رأسي.

«ظننت أنك أتيت لأنك قد تسرين برؤيتي» أجبتها بابتسامة جريحة.

تأججتْ أمام هذا الاعتراض الأعزل.

«كلا. كنت أمازحكِ. ولكنني كنت جادا بحديثي عن وجوهٍ لهذه المدينة لا تعرفينها. هكذا لن تستطيعي نسياني ولا نسيان برشلونة أينما ذهبت.»

ابتسمت بيا بحزن وتجنبت النظر نحوي.

«أتعلم أنني كنت أود الذهاب إلى السينما كي لا أراك؟» قالت.

«لماذا؟»

أرخت كتفيها ورفعت عينيها إلى السماء، كأنها أرادت اصطياد كلماتها التي أوشكت على لفظها.

«لأنني خشيت أن تكون محقا.» اعترفت.

تنهدتُ. وأحاطنا الظلام وذلك الصمت المهمل الذي يوحّد الغرباء. شعرت بأنني قادر على قول أي شيء حتى لو كان للمرة الأخيرة.

«هل تحبينه أم لا؟»

أهدتني ابتسامة ولم تفلح في تثبيتها على ثغرها.

«هذا ليس من شأنك.»

«حقا» وافقت. «الأمر متعلق بك وحدك.»

احتدّت نظراتها.

«وما الذي يعنيك؟»

«هذا ليس من شأنك» أجبتها.

زالت ابتسامتها وارتجفت شفتاها.

«الجميع يعلم أنني أود بابلو. عائلتي…»

«ولكنني لست من أفراد العائلة» قاطعتها. «يطيب لي أن أسمعه منك.»

«ماذا؟»

«أنك تحبينه. وألاّ تتزوجيه لكي تغادري المنزل وتبتعدي عن برشلونة وعن عائلتك. ألاّ تتزوجيه لكي تهربي حيث لا يستطيعون أن يضغطوا عليك. أن ما تتخذينه قرارا وليس فرارا.»

لمعت عيناها بدموع غاضبة.

«ليس لك الحق في أن تكلمني هكذا يا دانيال. أنت لا تعرفني.»

«قولي لي إنني مُخطئ فأنصرف على الفور. هل تحبينه؟»

نظر كل منا في عيني الآخر، دون أن ننطق بكلمة واحدة.

«لا أعرف» همست في النهاية. «لا أعرف.»

«قال أحدهم: مادمت تنفقين لحظة للإجابة عن حبّك لرجل من عدمه، فأنت قد أجبت وقُضي الأمر.» قلتُ.

بحثت بيا عن أي شيء يثير الفكاهة في وجهي.

«ومن قال ذلك؟»

«أحدهم يدعى خوليان كاراكس.»

«هل هو صديقك؟»

«تقريبا» أجبت بدهشة معينة.

«عليك أن تعرّفني عليه.»

«هذا المساء، إن أردت.»

خرجنا من الجامعة تحت سماء داكنة ومشينا في الطرقات دون وجهة محددة، وهمّنا أن يعتاد كل واحد منا على خطوة الآخر وليس الوصول إلى مكان بعينه. لجأنا إلى الموضوع الوحيد الذي يجمع بيننا: أخوها توماس. كانت تتحدث عنه كما لو أنه شخص محبوب لكنها لا تعرفه جيدا. وتتجنب النظر في عينيّ وتبتسم بعصبية. لقد ندمتْ على كشف شكوكها في باحة الجامعة وراحت تتمعن في كلماتها بحذر.

«اسمع، بخصوص ما قلته لك من قبل» قالت كي توضّح الأمور. «لن تخبر توماس بذلك، صحيح؟»

«لا لتوماس ولا لأي شخص آخر.»

هربت من بين شفتيها ضحكة رنانة.

«لا أفهم ما الذي حدث لي. اعذرني، ولكن في بعض الأحيان من السهل أن يثق المرء بشخص غريب. ومن يدري السبب.»

«ربما لأن الغريب يرانا كما نحن على حقيقتنا، وليس كما نريد نحن أن يرانا الآخرون.»

«هل هذه عبارة أخرى لصديقك كاراكس؟»

«لا، هذه ابتدعها توا لكي أذهلك.»

«وأنت، كيف تراني؟»

«أراك كأنك لغز.»

«إنها مجاملة غريبة من نوعها. أغرب مجاملة حصلت عليها في حياتي.»

«ليست مجاملة. إنها تهديد.»

«ما الذي تعنيه؟»

«الألغاز موجودة كي نكتشفها.»

«ربما سأحبطك.»

«أو ربما تفاجئينني. وهو ما سوف يفاجئك أنت أيضا.»

«لم يقل لي توماس بأنك وقح نوعا ما.»

«لدي قليل من الوقاحة وضعتها كلها لأجلك.»

«لماذا؟»

«لأنني أخاف منك»، قلتُ في نفسي.

دخلنا مقهى قديما بجانب مسرح بوليوراما وجلسنا على طاولة صغيرة منزوية وطلبنا شطائر اللحم المقدد وفنجانين من القهوة بالحليب كي نُدفّئ أرواحنا. بعد قليل، اقترب النادل من طاولتنا، وكان شخصا غريبا بلباس عمله ومظهره كشيطان أعرج.

«هل أنتما من طلب شطائر اللحم المقدد؟»

أومأ كلانا بنعم.

«باسم إدارة المقهى أتأسّف لإعلامكما بأنّ اللحم المقدد نفد كله ولم تبق منه أية قطعة. بوسعنا تحضير شطائر النقانق السوداء أو البيضاء أو كليهما معا. كلها أنواع عالية الجودة وطازجة جدا. لدينا أيضا السردين المغطس بالصلصة إن كنتما لا تودان تناول اللحوم لأسباب دينية فاليوم جمعة و…»

«بالنسبة إلي أكتفي بالقهوة» أجابت بيا.

أما أنا فكنت أتضور جوعا.

«اجلب لنا من فضلك علبتين من البطاطا والقليل من الخبز والقهوة لي أيضا.»

«حالا يا سيدي. واعذراني مرة أخرى على قلة الأنواع الغذائية. في العادة يتوفر لدينا كل شيء، حتى الكافيار البلشفي. ولكن هذا المساء أقيمت مباراة نصف نهائي كأس أوروبا وكان لدينا الكثير من الزبائن. إنها مباراة العصر.»

انصرف النادل بعد أن انحنى احتراما. وكانت بيا تنظر إليه باستمتاع.

«يا للهجته الغريبة. هل هو من خايين؟»

«من سانتا كولوما دي غرامانيت» حددتُ. «واضح من أنك لا تستقلين المترو كثيرا.»

«أبي يقول إن المترو مليء بالرجال المشاكسين وعندما تصعد امرأة بمفردها تتطاول أيادي الغجر على حقيبتها.»

لم أعلّق على كلامها فانفجرتْ هي في ضحكة طويلة. وما إن أتوا لنا بالقهوة والبطاطا حتى أخذتُ ألتهم الطعام. لم تتذوق بيا ولا حبة بطاطا واحدة، بل كانت تحمل الفنجان الساخن بين يديها وترمقني بنظرة فضول واستغراب.

«علام أردت أن تطلعني؟»

«على الكثير من الأشياء. في الحقيقة ما أردت أن أطلعك عليه هو جزء من قصة. ألم تقولي لي ذلك اليوم إنك تهوين القراءة؟»

أومأت بيا مقوسة حاجبيها.

«حسنا. الكتب هم أبطال تلك القصة.»

«الكتب؟»

«إنها كتب ملعونة تكوّن لغز الرجل الذي ألّفها، وهنالك شخصية غامضة خرجت من إحدى رواياته كي تحرقها، عطفا على الخيانة والصداقة المهدورة. قصة حب وحقد وأحلام نمت في ظل الريح.»

«يبدو هذا حاشية غلاف رواية رديئة يا دانيال.»

«إنني أعمل في مكتبة وليس هذا اعتباطا. لكن هذه قصة حقيقية. حقيقية مثل هذا الخبز الباهت منذ ثلاثة أيام على الأقل. ومثل كل القصص الحقيقية تبدأ وتنتهي في مقبرة، مع أنها في غاية الروعة.»

ابتسمت بيا مثل طفل يسعى لحلّ أحجية معقدة.

«كلي آذان صاغية.»

شربت آخر رشفة من القهوة وركزت النظر فيها بضعة لحظات. وددت أن أموت غريقا في بحر نظراتها الفتاكة الشفافة العدمية. وفكرت في الاكتئاب الذي ينتظرني ما إن يتلاشى تأثير السحر الذي كنت سأدهش به تلك الفتاة لتقع في حبّي. فكرت في القليل الذي سوف أقدّمه لها وفي الكثير الذي أردت أن أكسبه منها.

«هل فقدت عقلك يا دانيال؟» قالت. «هل تخطط لمكيدة كبرى؟»

بدأت من ذلك الفجر البعيد الذي استيقظت فيه باكيا، حين لم أعد أذكر وجه أمي، وانتهيت حين ألمّ بي الحنين الغامض صباح ذلك اليوم نفسه في بيت نوريا مونفورت. كانت بيا تصغي إليّ بتركيز. قصصت عليها أول زيارة لمقبرة الكتب المنسية وقراءتي المتقدة الأولى لـ «ظل الريح». حدثتها عن لقائي الأول مع الرجل الذي لا وجه له، وعن رسالة بينيلوب آلدايا التي كنت ما أزال أحملها معي دون أن أدري لماذا. بحت لها بأنني لم ألثم كلارا برسلوه أبدا ولا أي امرأة أخرى، وأطلعتها على اضطرابي عندما كادت شفاه نوريا مونفورت تلامس شفاهي منذ ساعات قليلة. لم أدرك إلا حينها أنني اقتحمت قصة أشخاص غلبتهم الوحدة وابتلعهم الغياب وطعن الفقدان قلوبهم، وأن هذا ما دفعني للبحث عن أي ملاذ فيها حتى امتزجت حياتي بتلك القصة. أخبرتها أنني كنت أشعر كمن يهرب في رحاب رواية لأن موضوع الحب فيها ما هو إلاّ ظلال تعيش في روح شخص مجهول.

«لا تضف شيئا» غمغمت بيا. «فلنذهب حالا.»

أطبق الليل حين وصلنا إلى مقبرة الكتب المنسية في زقاق آركو دل تياترو. أمسكت بالمقبض على شكل الشيطان وطرقت ثلاث مرات. هنالك ريح باردة تطوف وتحمل معها رائحة فحم. وقفنا أنا وبيا تحت سقف البوابة. التقيتُ بنظرتها على بعد سنتمترات من نظرتي. وكنت أسمع خطى خفيفة الوطء من الجانب الآخر للبوابة ونبرةَ الحارسِ الكَسلى وهو يسأل عن الطارق.

«أنا دانيال سيمبيري يا إسحاق.»

سمعته يطلق اللعنات بصوت منخفض ثم بدأت معزوفة القرقعة وصرير متراس كافكا. وفي النهاية انفتحت البوابة بضعة سنتمترات وظهر وجه إسحاق مونفورت، ينيره ضوء المصباح. عندما رآني، تأفّف ورفع عينيه إلى السماء.

«كان بوسعي أن أوفّر السؤال» قال. «ومن غيرك قد يأتي في مثل هذه الساعة؟»

كان إسحاق يلبس رداء فريدا من نوعه، حلٌّ وسط بين لباس الغرفة ومعطف الجيش الروسي. وينتعل خفا من مخمل وقبعة صوف تتخللها قطع من الجلد الناعم.

«أتمنى ألا تكون قد سقطت عن السرير» قلت.

«كلا. كنت قد بدأت للتوّ في تلاوة الصلوات.»

نظر إلى بيا كأنه رأى قنبلة موقوتة بين قدميه.

«أتمنى أن أكون مخطئا» قال بنبرة تهديد.

«إسحاق، هذه صديقتي بياتريز. أود أن أطلعها على المكان لو سمحتَ. كن مطمئنا، إنها تكتم السر جيدا.»

«لم أر غلاما ينافسك على السذاجة يا بن سيمبيري.»

«لن نأخذ من وقتك إلا دقائق.»

راح إسحاق يستجوب بيا، وكان أكثر شكا من شرطي مخضرم.

«هل أنت على علم بأنك ترافقين واحدا من المتخلفين عقليا؟»

ابتسمت بيا باحترام.

«بدأت أعتاد على ذلك.»

«يا لهذه البراءة الإلهية. هل تعرفين القواعد؟»

هزت بيا رأسها. فأطلق إسحاق بعض اللعنات بصوت منخفض مجددا وأشار إلينا بالدخول، وهو يتأكد كعادته من أنّ الشارع خالٍ من المارة.

«التقيت ابنتك نوريا» قلت بعدم اهتمام. «إنها بخير. تعمل بكدّ لكنها بخير. وتتمنى لك أطيب المنى.»

«أجل وبعض الخناجر السامة أيضا. أنت يا سيبميري لا تجيد الكذب، لكنني أقدّر نواياك الحسنة. هيا ادخل.»

وحالما كنا في الردهة أعطاني المصباح وأغلق المتراس.

«عندما تنتهيان تعرف أين تجدني.»

كانت متاهة الكتب الطيفية تنجلى من بين الظلمات. والمصباح يرسل بقعة من الضياء البخاري على أقدامنا. كانت بيا ودهشتها تتقصيان، من عند العتبة، ذلك التيه من الرفوف والأروقة. ابتسمتُ حين رأيت على وجهها ما رآه والدي على وجهي منذ أعوام مضت. تقدمنا في ظلال تلك الأعجوبة الهندسية، ونحن نتبع العلامات التي كنت قد نقشتها أثناء زيارتي الأخيرة.

«تعالي، أريد أن أطلعك على شيء ما» قلت.

أضعت الوجهة أكثر من مرة وكنا مجبرين على العودة على درب خطواتنا بحثا عن آخر علامة. كانت بيا تراقبني بقلق وذهول. أعلمتني بوصلتي الذهنية أننا تهنا في تشابك لولبي يتداخل نحو قلب المكتبة. وفي النهاية نجحت في تحديد الممر الصحيح الذي يشبه منصة معلقة في الظلام. جثوت على ركبتيّ عند الرف الأسفل ووجدت صديقي القديم حيث تركته، مختبئا خلف جدار من المجلدات المغبرّة التي تلمع على ضوء المصباح كحبات الصقيع. أخذت الكتاب وأعطيته لبيا.

«أقدّم إليك خوليان كاراكس.»

««ظل الريح»» قرأت بيا وهي تتلمس الحروف الكالحة على الغلاف. «هل بوسعي استعارته؟» سألت.

«أي كتاب تريدين عدا هذا.»

«ليس عدلا. أنا أريد هذا الكتاب. لقد شوّقتني بكل ما رويت لي عنه.»

«في مرة لاحقة ربما. ولكن ليس اليوم.»

سحبته من بين يديها وأرجعته إلى مخبئه.

«سأعود إلى هنا بمفردي وسآخذه دون أن تعلم» قالت.

«لن تستطعي العثور عليه أبدا.»

«هذا ما تظنه أنت. لقد رأيت العلامات على الخشب وأعرف أنا أيضا أسطورة المينوتور.»

«لن يدعك إسحاق تدخلين.»

«أنت مُخطئ. فهو يراني أخف ظلا منك.»

«وكيف عرفت ذلك؟»

«أقرأ النظرات.»

صدقتها على الرغم منّي وأخفضت أنظاري.

«اختاري واحدا آخر. انظري، هذا يبدو مثيرا للاهتمام. «خنازير ميزيتا: دراسة في جذور اللحوم المقددة في شبه الجزيرة الإيبيرية» لأنسيلمو توركويمادا. لقد باع بالتأكيد نسخا أكثر من أي رواية لخوليان كاراكس. فالناس تأكل الخنزير بأكمله ولا تلقي من أجزائه شيئا.»

«هذا الكتاب الآخر يشدني أكثر.»

««تايس اف ذا دوربرفيل». إنها النسخة الأصلية. هل لديك القدرة على قراءة توماس هاردي بالانكليزية؟»

رمقتني بنظرة متجهمة.

«ستأخذينه إذن.»

«ألا ترى كيف يبدو كأنه بانتظاري وهو مدفون في هذا المكان من قبل أن أولد؟»

نظرت إليها مندهشا. فابتسمت بيا.

«ما بك؟ ما الذي قلته أنا؟» سألتني.

ودون أن أفكر في خطورة ما أقوم به، لثمتُ ثغرها بقبلة.

عندما وصلنا أمام بيت بيا كانت الساعة تقارب منتصف الليل. قطعنا كل تلك المسافة دون أن ننبس ببنت شفة، إذ كان كل منا غارق في ما يفكر فيه. وكانت بيا تمشي وكتابها تحت إبطها وكنت أتبعها منتشيا بنكهة فمها. وفكرت بنظرة إسحاق الاستقصائية حين خرجنا من مقبرة الكتب المنسية. كم كانت شبيهة بنظرة والدي حين يتساءل إن كنت أعي ما أقوم به. قضيت ساعات ذلك النهار الأخيرة في عالم آخر يقوم على التواصل العابر والنظرات التي زعزعتني من جذوري ولم أكن أفهم معناها. وحين عدت إلى الواقع بين ظلال ناحية اينسانش، كان السحر يترك محله لحيرة أليمة، لرغبة لا اسم لها. اكتفيت بالنظر إلى بيا لأفهم أن هواجسي كانت مجرد نسمة في تلك الزوبعة التي تعصف في فؤادها. ركز كلٌّ منا النظر إلى الآخر أمام البوابة، دون أن نتظاهر بأننا نخفي ما كنا نحس به. وقد مرّ الحارس الليلي وهي يصفر البوليرو على إيقاع قلادة مفاتيحه الرنانة.

«هل تريدين ألا نلتقي بعد اليوم؟» قلت لها مترددا.

«لا أعلم يا دانيال. إنني مشوشة الذهن. هل هذا ما تريد؟»

«كلا مطلقا. وأنت؟»

شدت كتفيها، وتفشّت ابتسامتها المنهكة على وجهها.

«ما الذي تفكّر فيه أنت؟» سألت. «لقد كذبت عليك في باحة الجامعة، أتعلم؟»

«بخصوص ماذا؟»

«ليس صحيحا أنني لم أكن أريد رؤيتك.»

كان الحارس المعتاد على وداعات العشاق التي لا تنتهي، يطوف في المكان بابتسامة ونظرة من كان له باع طويل في الغرام.

«خذا وقتكما» قال. «سأذهب لأدخن سيجارة.»

انتظرت حتى يبتعد.

«متى بوسعنا اللقاء ثانية؟»

«لا أعلم يا دانيال.»

«في الغد؟»

«أرجوك يا دانيال. لا أعرف.»

هززتُ رأسي. فداعبتْ وجهي.

«من الأفضل أن تنصرف الآن.»

«تعلمين أين تجدينني على الأقل. صحيح؟»

أومأت بنعم.

«سأنتظر.»

«وأنا أيضا.»

ابتعدت عن بيا دون أن أحيد نظرتي عن عينيها. وكان الحارس قد هرع ليفتح لها البوابة.

«أيها الشقي» همس في أذني بنبرة إعجاب. «لديك ذوق رفيع حقا.»

انتظرت حتى تنغلق البوابة العملاقة كلّها خلف بيا، وابتعدتُ وأنا ألتفت كل هنيهة إلى الوراء. وبينما كنت أتمشى في الليل، بدا لي أن كل شيء ممكن وأن الشوارع الخالية والريح القارصة تضوعان بعطر الأمل. في ساحة كاتالونيا تجمّع سرب من الحمام في وسط الفسحة، ليكسوها بمعطف متموج من الأجنحة البيضاء. كان في نيتي اجتناب السرب لكنه انفتح ليمهد لي الطريق دون أن يطير ومن ثم عاد لإغلاق الموجة مجددا. رنّت أجراس الكنائس لتنذر بحلول منتصف الليل تماما حينما كنت قد وصلت إلى منتصف الساحة. استنتجت أن ذلك النهار كان أجمل يوم في عمري، وأنا أجتاز ذلك المحيط من الريش الفضي.

2021/06/22 · 75 مشاهدة · 2345 كلمة
نادي الروايات - 2025