في السابعة من صباح يوم الأحد كنا جالسين في مقهى كاناليتاس، حيث شربت قهوة بالحليب سيئة التحضير وتناولت المعجنات الباهتة وكأنّها خالية من الزبدة تماما. كان النادل ذو الشاربين على طريقة كلارك جابل، ورمز الكتائب على ثنية سترته، يقدّم لنا الفطور وهو يدمدم أغنية ما. عندما سألناه عن سبب هذه البهجة، أجاب أنه أصبح أبا منذ أربع وعشرين ساعة. فباركنا له قدوم المولود وأراد منا أن نقبل السجائر كي ندخن تحت أي ثمن تشريفا لنجله. كان صديقي ينظر إليه بطرف عينه، ومن يدري ما الذي كان يجول في خاطره.

ما إن انصرف النادل حتى افتتح فيرمين النهار الاستقصائي بإعادة بناء الحكاية.

«القصة تبدأ بالصداقة النزيهة بين شابين، خوليان كاراكس وخورخي آلدايا، رفيقان في الصف منذ الطفولة، مثلك أنت وتوماس. وتمضي السنون الأولى على ما يرام: الصديقان لا يفترقان وينتظرهما مستقبل مزهر. ولكن، في لحظة ما، يبرز خلاف على السطح ليهدم الصداقة بينهما. والخلاف، كما قد يخمّن أي مؤلف مسرحي، يحمل اسم امرأة: بينيلوب. إنه إسقاط هوميري بلا منازع. هل أنت معي؟»

كانت كلمات توماس آغويلار مساء أمس لا تزال تطنّ في أذني. «لا تتسبب لأختي بالأذى». انتابني الإعياء.

«في عام 1919 خوليان كاراكس ينطلق إلى باريس كأنه يسترجع الأوديسة بشكل مبتذل» تابع فيرمين. «رسالة بينيلوب، التي لم تصله أبدا، توضح لنا أن الشابة كانت في إقامة جبرية في بيتها، أسيرة عائلتها لأسباب مبهمة، وأن الصداقة بين آلدايا وكاراكس انتهت إلى الأبد. وتقول بينيلوب في رسالتها أن أخاها خورخي أقسم أنه سوف يقتل صديقه السابق إذا ما التقى به. هذا كلام أثقل من أن يكون متعلقا بنهاية صداقة. وما من داعٍ ليكون المرء بذكاء باستور كي يستنتج أن الخلاف نشب بسبب علاقة بينيلوب بخوليان.»

انساب العرق البارد على جبيني. شعرت بأنّ القهوة بالحليب والمعجنات التي ابتلعتها كانت تصعد إلى حلقي.

«ومع ذلك، علينا أن نفترض أن كاراكس لا يعرف أبدا ما هو حال بينيلوب مادام لم يستلم الرسالة. خوليان يهيم على وجهه في ضباب باريس، حيث يعيش حياة بائسة وهو يعزف البيانو في بيت دعارة ويكتب روايات لم تلق النجاح. ولا يبقى من سنواته الباريسية الملفوفة بالشقاء سوى إنتاج أدبي منسي وليس له أثر تقريبا. وإضافة إلى ذلك، نعرف أنه في لحظة ما يقرر أن يتزوج سيدة غامضة وميسورة الحال تكبره بضعف عمره. وهذا الزواج، إن طابقنا بين الشهادات، يبدو شفقة أو هبة كبيرة من صديقة في نهاية حياتها، أكثر من كونه زواجا عن حب. وهذه المرأة التي تذود عن الفنون تقرر بالفعل أن تترك ورثتها وكل أملاكها لذلك الكاتب المفلس وأن تنتزعه من الحياة الدونية كحسنة تقدمّها لعالم الفنون والآداب. الباريسيون هكذا فعلا.»

«ربما كان حبا صادقا» صرّحت بصوت مشروخ.

«مابك يا دانيال؟ ألا تشعر بخير؟ وجهك أبيض مثل الكفن وتتصبب عرقا مثل أهل النار.»

«إنني بخير» كذبت.

«حسنا. كنت أقول… الحب مثل الكيس: ثمت اللحم المقدد وتوجد المرتديلا. لكل شيء معنى ولكل شيء الحق في أن يكون موجودا. كاراكس كان يصرّح بأنه لا يستحق الحب من أحد، وبالفعل ليس لدينا أدلة على وجود علاقة مثيرة أثناء إقامته في باريس. من الوارد أنه كان يتبرع بزيادة الراتب، أو بمكافأة أعياد الميلاد، كي يرضي دوافعه الأولية، لأنّه يعمل في بيت دعارة، بفضل الألفة التي تجمع بين الموظفين في مؤسسة ما. ولكننا نقوم بفرضيات ليس إلا. فلنعد إذن إلى اللحظة التي يعلن فيها زواج كاراكس بمنقذة الفنانين. في هذه اللحظة تماما يظهر شبح خورخي آلدايا مجددا ويضع نفسه في تواصل مع ناشر كاراكس في برشلونة لكي يحصل على عنوان الكاتب. بعد فترة، في فجر يوم الزفاف، خوليان كاراكس يضطر لمنازلة رجل مجهول في مقبرة بير لاشيز ويختفي. الزفاف لا يقام أبدا ويتلخبط كل شيء انطلاقا من هذه اللحظة.»

سكت فيرمين ورمقني بنظرة عميل سري.

«من المحتمل أن كاراكس مر بالحدود وعاد إلى برشلونة عام 1936، بسرعة ملحوظة، عند اندلاع الحرب الأهلية. ليس واضحا ماذا يفعل وأين يعيش في تلك الأسابيع. بوسعنا أن نفترض أنه بقي شهرا في المدينة دون أن يتواصل مع أحد، لا مع أبيه ولا مع صديقته نوريا مونفورت. بعد وقت قصير يجدونه ميتا في الشارع، مقتولا بالرصاص. وهكذا يدخل في المشهد شخص قذر يدّعي بأنه لايين كوبرت، مثل تلك الشخصية في آخر رواية لكاراكس، التي تمثّل دور أمير ملاك الجحيم. هدف هذا الشيطان أن يمحو عن وجه الأرض ذلك القليل الذي تبقّى من ذكرى كاراكس. كيف؟ بإحراق كتبه. ولوضع اللمسات الأخيرة على هذه القصة الميلودرامية، فقد تشوّه وجه الرجل بفعل النار. نحن أمام مخلوق ملعون، هرب من صفحات رواية قوطية، وتعرّفت فيه نوريا مونفورت على صوت خورخي آلدايا، كي تزيد الطين بلّة.»

«أذكّرك بأن نوريا مونفورت كذبت عليّ» قلت.

«طبعا. ولكنها كذبت ربما لا لشيء سوى أنها غفلت أو لم تشأ إقحام نفسها في الأحداث. الأسباب التي تدفع الإنسان لقول الحقيقة قليلة جدا، بينما لا تعدّ أسباب الكذب ولا تحصى. قل لي. هل أنت متأكد من أنّك على مايرام؟ إنك شاحب كجثة.»

هززت رأسي وهرعت نحو الحمّام.

تقيأت الفطور كله، والعشاء وجزءا لا بأس به من الغضب الذي كان يعترك في صدري. غسلت وجهي بمياه المغسلة الباردة ونظرت إلى المرآة المخضرّة والتي كتب عليها أحدهم بعجينة الشمع: «جيرون الدّيوث». عدت إلى الطاولة، ورأيت أن فيرمين يدفع الحساب ويناقش كرة القدم مع النادل الذي خدمنا.

«هل تحسّن حالك؟» سأل.

أومأت مؤكدا.

«انخفاض في الضغط» قال فيرمين. «خذ. امضغ حبة سوغوس. سترى كيف تتحسن بسرعة.»

وحالما أصبحنا في الشارع، أصر أن نأخذ سيارة أجرة حتى سان جبريل وأن نترك المترو لمناسبة أخرى. كان الصباح جميلا جدا، كما يدّعي فيرمين، ولم نكن مضطرين إلى التكدّس في فخاخ الفئران، يقصد الأنفاق.

«سيارة أجرة حتى ناحية ساريا ستكلفنا الكثير» اعترضت.

«يدفع صندوق تقاعد الأغبياء» قاطعني فيرمين. «لقد أخطأ الوطني الأبله في إرجاع الباقي وهكذا كسبنا ثمن رحلتنا. ثم إنك لست في حالة تسمح لك بالسفر تحت الأرض.»

وبسبب تلك الأموال غير المشروعة، بقينا ننتظر مرور سيارة أجرة عند بداية لاس رامبلاس دي كاتالونيا. ومرت الكثير من سيارات الأجرة ولم نأخذها، إذ أن فيرمين الذي لم يكن يستقل السيارة في حياته أصرّ أن يركب سيارة فاخرة وأنيقة، ستودباكر على الأقل. مرت أكثر من ربع ساعة والكثير من السيارات قبل أن يرى عربة تناسب أذواقه فأوقفها بحركة مسرحية. ركب من الأمام وبعد ثوان معدودة كان قد انخرط في مشادة عنيفة عن كنوز موسكو وجوزيف ستالين، الرمز والأب الروحي لسائق السيارة.

«أعظم شخصيات هذا القرن هم ثلاثة: دولوريس إيبارروري14، مانوليتي وستالين» أعرب الرجل الذي كان مستعدا لقرع دماغنا بمناقب الرفيق الفذ.

أنا كنت مرتاحا على المقعد الخلفي، لا أبالي بالمجادلة، مستمتعا بالهواء المنعش الذي يدخل من النافذة. كان السائق يتحدث عن الزعيم السوفييتي بينما فيرمين، المسرور بركوبه سيارة ستودباكر، يقاطعه بشكوك ذات طابع تاريخي.

«سمعت مَن يقول إن ستالين يعاني من مشاكل في البروستات منذ أن ابتلع بندق الزعرور، وإنه لا يستطيع التبول ما لم ينشدوا أمامه «نشيد الأممية»» رمى فيرمين بما عنده.

«هذه بروباغاندا فاشية» رد السائق وبات أكثر إيمانا مما مضى. «الرفيق يتبول مثل الثور المقدام، وبغزارة كبيرة يحسده عليها نهر الغولجا.»

استمر النقاش على طول شارع آوغوستا حتى المنطقة المرتفعة من المدينة. كان النهار صافيًا والنسمات المنعشة تلبس ثوب السماء الأزرق البرّاق. انعطف السائق على يمين التقاطع مع شارع غادوكسر، وراح يصعد بازيو دي لا بونانوفا.

كانت مدرسة سان جبريل تتوسط حديقة كبيرة في نهاية شارع ضيق ووعر ينطلق من البونانوفا. شيّد البناء على الطراز القوطي بقرميد أحمر وزجاج نوافذ مخروطي كالسكاكين، تحمله الأقواس الضخمة وتبرز من جنباته الأبراج عند أشجار الدلب على نسق هرمي كالكاتدرائية. ودّعنا سائق الأجرة ودخلنا في الحديقة حيث توجد النوافير وتماثيل الملائكة التي يكسوها العفن وممر يتلوى كدرب الحصى. وبينما كنا نمشي، أفادني فيرمين بواحد من دروسه في التاريخ الاجتماعي الذي لا يقدّر بثمن.

«في الماضي كانت مدرسة سان جبريل، التي تبدو اليوم كضريح راسبوتين، إحدى أعظم المدارس في برشلونة. بدأ عصر انحدارها في حقبة الجمهورية عندما قرر محدثو النعمة حينها، وهم من أصحاب المصانع والمصارف الذين لا تساعدهم أنسابهم حديثة البروز على دخول مثل هذه المدرسة، قرروا أن يشيدوا مدارسهم الخاصة كي ينالوا احترام الناس وكي يمنعوا بدورهم أبناء العائلات الأخرى من التسجيل فيها. إنّ المال وباء: بعد أن يسمم نفوس الأثرياء، يبحث عن ضحايا جدد كي ينقل إليهم عدوى الفساد. ولهذا السبب لا يدوم اسم العائلة طويلا، وسرعان ما يفسد مثل قرص الحلوى. كانت مدرسة سان جبريل في حقبتها الذهبية، فلنقل بين 1880 و 1930، تستضيف أبناء أنبل النبلاء على مقاعدها. لذا يتردد آل آلدايا ومن لف لفيفهم إلى هذا المكان البغيض ليتآخوا مع أشباههم ويصغوا إلى الصلوات ويكرروا دروس التاريخ المخدرة حتى الإعياء.»

«لكن خوليان كاراكس لم يكن واحدا منهم» قلت.

«حسنا. توفّر بعض المدارس الفاخرة أحيانا منحة أو اثنتين لأولاد العاملين في حدائقهم أو لمن يلمع أحذيتهم كي يبرهنوا على ادعاءهم بالسخاء والمحبة المسيحية» شرح فيرمين. «إن أفضل طريقة لتفادي تمرّد الفقراء هي السماح لهم بتقليد الأغنياء. وهذا هو نفس السمّ الذي يعمي رأس المال بـ…»

«فلننس الخطابات الانقلابية يا فيرمين. لا أود أن يكون أحد هؤلاء القساوسة يُنصت لك فيَرمينا خارجا بالركل على مؤخراتنا» قاطعته.

كان اثنان من الرهبان ينظران إلينا باستغراب وعدم ترحيب. كانا واقفين أعلى السلالم التي تفضي إلى ردهة المدرسة.

اتجه واحد منهما نحونا بابتسامة آنيّة ويداه متشابكتان على صدره، كما لو كان أسقفا. ربما كان يناهز الخمسين عاما، هزيل للغاية وأصلع الرأس بما يعطيه ملامح الطير الجارح. نظراته ثاقبة وتفوح منه رائحة العطور الطازجة والنفتالين.

«صباح الخير. أنا الأب فرناندو راموس» قال. «هل بوسعي أن أساعدكما؟»

مد فيرمين يده مصافحا، لكن الراهب نظر إلى يده للحظة قبل أن يصافحه بابتسامة فاترة.

«فيرمين روميرو دي توريس، مستشار ثقافي في مكتبة سيبميري وأولاده. سعيد جدا بالتعرّف إلى سعادتكم. هذا مساعدي وصديقي دانيال، شاب له مستقبل واعد وفضائل مسيحية جلية.»

نظر إلينا الأب فرناندو برباطة جأش. وكنت مرتبكا على وشك السقوط.

«وأنا أسعد يا سيد روميرو دي توريس» أجاب باحترام. «هل بإمكاني أن أسألكما عن سبب مجيئكما إلى مدرستنا المتواضعة؟»

قررت أن أتدخل قبل أن يتفوه فيرمين بهرطقة أخرى تجبرنا على الفرار لاهثين.

«أبانا فرناندو، إننا نبحث عن تلميذين سابقين في مدرسة سان جبريل: خورخي آلدايا وخوليان كاراكس.»

شد الأب فرناندو شفتيه وقوس واحدا من حاجبيه.

«خوليان تُوفّي منذ خمسة عشر عاما وآلدايا هاجر إلى الأرجنتين» أجاب مكتئبا.

«هل كنت تعرفهما؟» سأل فيرمين.

توقفت نظرة الراهب الحادة على كل واحد منا قبل أن يجيب.

«كنا رفاقا في الصف. هل بإمكاني معرفة سبب اهتمامكما؟»

كنت أبحث عن إجابة مقبولة لكن فيرمين سبقني إليها.

«لابدّ أن نخبركم بأننا عثرنا على بعض الأغراض التي تعود - أو كانت تعود، فالقانون مازال حائرا حيال هذا التعريف - لهذين الشخصين.»

«ما هو نوع الأغراض، لو سمحت لي بهذا السؤال؟»

«أتوسّل لعنايتكم بأن تتفهموا تكتمنا، فالله وحده العارف كم من عذاب الضمير نحمل على عاتقنا ونحن نجاهد في الحفاظ على أسرار الآخرين. واعلموا يا أبانا أنّ هذه المسؤولية لا تمس ثقتنا العمياء بجلالتكم وجلالة المرتبة التي تشغلونها بتواضع وعزيمة» قال فيرمين بسرعة فائقة.

كان الأب فرناندو ينظر إليه متعجبا. فتدخلت من جديد، قبل أن يلتقط فيرمين أنفاسه.

«الأغراض التي يتحدث عنها السيد روميرو دي توريس هي من ذكريات العائلة ولها قيمة حميمية جدا. أما ما نرغب فيه يا أبانا فهو أن تحدثنا عن خوليان وآلدايا حين كانا تلميذين، لو سمحت.»

نظر إلينا الأب فرناندو بعدم ارتياح. كان واضحا أنّ تبريرنا لم يقنعه. خطفت نظرة إلى فيرمين متوسلا أن يستنبط حيلة تستعطف الراهب.

«أنت تشبه خوليان قليلا حين كان شابا، أتعلم ذلك؟» قال الأب فرناندو فجأة.

فاصطادها فيرمين وهي تطير. ها هو، قلت في سري، إما استطاع حلّها أو زادها تعقيدا.

«يا لنظراتكم الثاقبة يا صاحب السعادة. لعمري إن الصقور تحسدكم على حاسة النظر هذه» تظاهر فيرمين بالدهشة. «لقد قضيتم علينا بفطنتكم ودهائكم دون رحمة. أراهن أنكم سوف تصبحون كاردينالا على أقل تقدير، أو بابا دفعة واحدة.»

«عم تتحدث؟»

«أليس واضحا ما أقول يا سمو الراهب؟»

«كلا، ليس واضحا.»

«هل بإمكاننا أن نعتمد على سر الاعتراف؟»

«هذه حديقة وليست كنيسة.»

«يكفينا وجودكم بيننا.»

«موافق.»

التقط فيرمين نفسا عميقا ورمقني بنظرة بائسة.

«دانيال، لم يعد بوسعنا أن نكذب على جندي المسيح هذا.»

«فعلا» أكدت دون أن أفهم إلى أين يريد أن يصل.

اقترب فيرمين من الراهب وهمس في أذنه:

«يا أبانا المبجل، لدينا أدلة موثقة تؤكد أن دانيال هذا هو الابن السري للمرحوم خوليان كاراكس. ولهذا أردنا أن تحدثنا عنه، كي يستطيع هذا الفتى المسكين أن ينتزع من النسيان ذكرى والده الذي حرمه القدر من رؤية ابنه البريء.»

ركّز الأب فرناندو النظر إليّ مشدوها.

«هل هذا صحيح؟»

هززت برأسي. ربت فيرمين على كتفي متأثرا.

«انظروا إليه. يا له من مسكين. إنه في رحلة بحث خائبة عن والد هام في ضباب الذاكرة. هل هنالك أسوأ من هذا؟ قولوا لي يا سعادة الراهب.»

«هل لديك دليل على ما تقول؟»

أمسك فيرمين بذقني وراح يقلّب وجهي كشاهد على ما يدّعي.

«وهل من دليل دامغ أكثر من هذا الوجه الصغير الصامت برهانا على أنه ابن المرحوم؟»

كان الراهب مشتت الذهن كليا.

«هلا ساعدتني يا أبانا؟» توسلت مستعطفا. «أرجوك…»

تنهد الأب فرناندو بعدم اطمئنان.

«لا بأس، سأفترض أنّ هذا صحيح» قال. «ما الذي تريدان معرفته؟»

«كل شيء» هتف فيرمين.

25

كان الأب فرناندو يستحضر ذكرياته بنبرة الواعظ، ويبني عباراته بعفة ودقة ويزوّدها بلمسة المغزى الضائع الذي لا يتبلور أبدا. أعوام طويلة من التدريس أثّرت في تشكيل ذلك الأسلوب البياني الجليل الذي من الصعب أن يتحلى به رجل لم يعتد على مخاطبة جمهور عريض، ويتساءل في الوقت نفسه إن كانت رسالته تصل بالوضوح المنشود.

«خوليان كاراكس، إن لم تخنّي الذاكرة، التحق بمدرسة سان جبريل عام 1914. أصبحنا على الفور صديقين لأننا كنا ننتمي إلى طبقة البائسين الذين لا ينحدرون من عائلات نبيلة. كانوا يدعوننا مجموعة الأموات جوعا، وكانت لكل واحد منّا قصّة: أنا تسجلت بفضل منحة لأن والدي كان قد عمل لخمسة وعشرين عاما في مطابخ المدرسة، بينما كان خوليان قد حصل على قبول عبر وساطة السيد آلدايا زبون والده فورتي في محل القبعات. كان ذلك الزمان مختلفا كليا، حيث تتركز السلطة في أيادي بعض العائلات والأسر المالكة آنئذ. إنني أتحدث عن عالم ولّى وزالت معالمه بواسطة الجمهورية لحسن الحظ. ولم يبق من تلك الحقبة سوى أسماء دون وجوه على لافتات المصانع والمصارف والجمعيات الزراعية. وبرشلونة كومة من الحطام مثل أي مدينة قديمة. أمجاد الماضي التي يفتخر بها الناس، القصور، المصانع، الآثار، والرموز التي تمثلنا، ما هي إلا جثث هامدة. نحن رفات حضارة مندثرة.»

صمت الأب فرناندو سكتة رزينة، كأنّ مجمع المؤمنين عليه أن يرتل جملة باللاتينية أو أن يردد الصلوات.

«آمين. آمين يا أبانا المبجل. كلماتك مقدسة» قال فيرمين كي يكسر جليد الصمت.

«كنت تتكلم عن العام الأول لأبي في هذه المدرسة» ذكّرته بلباقة.

هز الأب فرناندو رأسه.

«منذ ذلك الزمان كان أبوك يسمّي نفسه كاراكس، رغم أن فورتوني اسم العائلة. في البدء راح بعض التلاميذ يزدرونه على هذا ولأنه واحد من الأموات جوعا بالطبع. كانوا يهزؤون بي أيضا لأنني كنت ابن الطباخ. مراهقون كما تعرف. قلوبهم تنبض بالطيبة لكنهم يكررون ما يسمعونه في البيت.»

«ملائكة» قال فيرمين.

«ماذا تذكر عن والدي؟»

«لقد مر زمن طويل… صديق والدك المفضل لم يكن خورخي آلدايا، إنما فتى آخر يدعى ميغيل مولينر. ميغيل ينحدر من عائلة غنية مثل عائلة آلدايا ومن الوارد أنه كان أكثر التلاميذ غرابة في هذه المدرسة. كان المدير يقول إنّ الشيطان يتلبسه لأنه كان يلقي عبارات لماركس بالألمانية أثناء الصلاة.»

«دليل قاطع على الشيطنة لا ريب فيه.» أكد فيرمين.

«كان ميغيل وخوليان على وفاق عظيم. أحيانا كنا نجتمع نحن الثلاثة خلال استراحة الظهر وخوليان يروي علينا القصص، ويحدثنا عن عائلته وعائلة آلدايا في بعض الأحيان…»

بدا الراهب مرتبكا.

«وفي نهاية دراساتنا، أنا وميغيل بقينا على تواصل لبعض الوقت. كان خوليان قد غادر إلى باريس وميغيل يشعر بوحشته. وغالبا ما يتحدث عنه ويذكر بعض أسراره بين الحين والآخر. وعندما التحقت بمعهد القساوسة، قال ميغيل إنني انتقلت إلى صف العدو. قالها مازحا ولكننا تباعدنا بعدها فعلا.»

«هل تعرف أنّ ميغيل تزوج بسيدة تدعى نوريا مونفورت؟»

«وهل ميغيل تزوج؟»

«وهل يفاجئك هذا؟»

«كلا ولكن… لا أعرف. لا تصلني أخباره منذ أعوام. منذ ما قبل الحرب.»

«هل حدثك عن نوريا مونفورت؟»

«لا، أبدا. لم يكلّمني حتى إن كان على نية الزواج أو الخطوبة… اسمعا، لا أعرف إن كان من الصواب أن أقص عليكما هذه الأشياء. إنها أسرار خوليان وميغيل وكنا قد اتفقنا على أن تبقى هكذا.»

«وهل تقفون في وجه طفل يبحث عن أي شيء يعرّفه بأبيه الذي لم يره يوما؟» سأل فيرمين.

استسلم الأب فرناندو بين الريبة والرغبة مُطلقا العنان لذكرياته.

«في الواقع لقد انقضى وقت طويل لم يعد له أهمية. مازلت أذكر اليوم الذي قص علينا خوليان كيف تعرّف على آل آلدايا وكيف غيّر هذا اللقاء حياته دون أن ينتبه…»

ذات مساء من شهر أكتوبر عام 1914، توقّفت مركبة عجيبة، يشبهها البعض بالبانثيون، أمام محل قبعات فورتوني في روندا دي سان أنطونيو. خرج من المركبة رجل ضخم مهيب يدعى الدون ريكاردو آلدايا، وهو واحد من أكثر الرجال ثراء، ليس في برشلونة وحسب، إنما في إسبانيا كلها. صاحب إمبراطورية النسيج التي تمتد على نطاق واسع من أرجاء المقاطعة الكاتالونية. كان بيده اليمنى مصير المصارف والملكيات العقارية في الضواحي، وباليسرى، المشغولة دوما، يحرك خيوط المجلس المحلي والإقليمي وعدة وزارات وهيئة الكنيسة والجمارك البحرية.

كان الجميع يخرون ساجدين أمام ذلك الرجل أصلع الرأس ذي الشاربين الكثيفين والسالفين العريضين. دخل إلى محل الدون أنطوني فورتوني لأنه كان يريد شراء قبعة. نظر حوله بعدم اهتمام. رأى بائع القبعات ومساعده، الفتى خوليان، فقال: «قيل لي إنّ هذا المحل، بغضّ النظر عن سوء مظهره، يصنع أفضل القبعات في برشلونة. إنّ الخريف يُنبئ بشتاء قارص وسوف أحتاج إلى ست قبعات عالية، واثنتي عشرة قبعة كلاسيكية، وعدة أكمام صيد وشيء مميز كي أضعه على رأسي في كورتيس مدريد. هل تذكر ما أقول أم أعيد؟». وهكذا بدأت حقبة التعاون الناجح بين الولد والابن اللذين وحدا الجهود إرضاء لطلبات الدون ريكاردو آلدايا على أتمّ وجه. قال خوليان في سرّه، وقد كان يقرأ الجرائد ويعرف مكانة ذلك الزبون الاجتماعية، إنه لم يكن ليغدر بأبيه في ظروف حساسة كهذه. منذ أن دخل ذلك الرجل اللامع إلى المحل، ظل بائع القبعات متوترا وفي حيرة من أمره. لقد وعده آلدايا بأنه سيوصي أصدقاءه بمحل قبعات فورتوني إذا طابت له النتيجة. فكان ذلك المحل المتواضع سيصبح مقصدا للنبلاء، وينذر بتحضير القبعات للرؤوس الكبيرة الناعمة للنواب والعمدات والكاردينالات والوزراء. انقضى الأسبوع بعمل دؤوب: لم يذهب خوليان إلى المدرسة وعمل ما بين الثماني عشرة ساعة والعشرين يوميا في المستودع. واعتدل مزاج أبيه، وراح يعانقه من حين لآخر بل وذات مرة قبّله دون أن ينتبه. وأهدى صوفي، للمرة الأولى منذ أربعة عشر عاما، فستانا وحذاء جديدين. كان بائع القبعات يبدو رجلا آخر. نسي حتى أن يذهب لصلاة الأحد في الكنيسة، وفي المساء عانق خوليان بذراعيه وعينيه الجاحظتين وقال له: «سيفخر جدك بك».

كان أخذ المقاييس من أكثر العمليات حساسية في علم القبعات الزائل، من حيث التقنية والدبلوماسية. فجمجمة الدون ريكاردو آلدايا مثلا، والمليئة بالبثور، لها أبعاد بطيخة كبيرة. لقد انتبه بائع القبعات إلى هذه المصاعب حالما دخل الزبون إلى المحل. قال له خوليان في المساء، إن تلك الرأس تذكره ببعض الصخور العملاقة في مونتسيرات، وهذا ما أكده فورتوني أيضا. «مع كامل احترامي يا أبي، إنني أكثر كفاءة منك في أخذ المقاييس لأنك تنفعل وتتوتر بسرعة. دعني أقوم بهذه العملية.» فسمح له بائع القبعات بفعل ذلك باعتدال ملحوظ في المزاج. وفي اليوم التالي، انتظر خوليان أن يصل آلدايا بسيارته، المرسيدس بينز، كي يصطحبه إلى المستودع. وعندما أدرك الشخص البارز أن فتى صبيا غضّ العظام سيأخذ مقاساته، ثار كالبركان: «ما هذا؟ طفل رضيع؟ هل تسخرون مني؟» لم ترتعش شعرة من خوليان بل أجابه: «يا سيد آلدايا، ليس في نيتنا أن نسخر من حضرتكم، لكن رأسكم، بتسريحة الكهنة هذه، تبدو كأنها ساحة اريناس، وإن لم نستعجل في تسليمكم هذا العدد الكبير من القبعات، فسوف يمتد الصلع على مساحة أكبر من سييردا عاجلا أم آجلا.» شعر فورتوني بدنوّ أجله عندما سمع ابنه يتفوه بهذا الكلام. أطلق آلدايا سهام نظرته إلى خوليان ثم انفجر ضاحكا كما لم يضحك منذ أعوام.

«لهذا الفتى مستقبل واعد يا فورتوناتو» علق آلدايا الذي لم يتعلم بعد شهرة بائع القبعات.15

في الحقيقة، كان الصلع في رأس الدون ريكاردو آلدايا كبيرا حتى خاف الجميع من هيبته، وهم يتملقونه ويزحفون أمام حضرته مثل البساط. وقد كان هو يحتقر لاعقي الأحذية والخوافين وأي امرئ ضعيف الجسد والعقل والأخلاق. عندما سخر منه ذلك المساعد الصغير اللماح وخفيف الظل ذو اللسان السليط، اقتنع آلدايا أنه وجد محل القبعات المثالي فضاعف الطلبية. ولم يتغيب عن أي موعد طوال الأسبوع كي يأخذ خوليان مقاساته ويجرّب الطرازات. وكان أنطوني فورتوني يتفاجأ في كل مرة يضحك فيها الرجل المنحدر من أعلى الطبقات الاجتماعية الكاتالونية بنكات الولد الذي كان يراه غريبا وانطوائيا ولا يملك أدنى حسّ فكاهيّ. في اليوم الأخير، أخذ آلدايا بائع القبعات على انفراد.

«اسمع يا سيد فورتوناتو، ابنك فتىً مثير للاهتمام. لا يجدر بك أن تحبسه في هذا المحل البائس لينظف الزوايا من الغبار وشباك العناكب.»

«لك كل احترامنا أيها الدون ريكاردو. لهذا الفتى ميول لا بأس بها للعمل رغم أنه عديم الخبرة.»

«هذا هراء. في أي مدرسة يدرس؟»

«إنه يتردد إلى المدرسة الحكومية في…»

«إنها مصنع للبؤساء. على الموهبة والعبقرية أن تحظيا بالعناية والتنمية منذ الصغر وإلاّ فسدتَا وتسبّبتَا لصاحبهما في الشقاء على المدى البعيد. هل تفهمني يا فورتوناتو؟»

«لعلك أخذت فكرة خاطئة عن ابني. فهو ليس عبقريا البتة. نتائجه في مادة الجغرافيا متردية… ويرى الأساتذة أن لديه مشاكل في رأسه. إنه متمرد، مثل أمه. ولكن بوسعه أن يتعلم حرفة مشرفة هنا على الأقل و…»

«كم أنت ممل يا فورتوناتو. هذا اليوم سأقابل المجلس الإداري لمدرسة سان جبريل وسأقترح أن يقبلوا ابنك في صف نجلي خورخي. واعلمْ أن تجاهل هذا الأمر جريمة بحد ذاتها.»

جحظت عينا بائع القبعات. كانت مدرسة سان جبريل مخصصة لتربية أبناء أعظم العائلات في الطبقة العليا من المجتمع.

«ولكنني لا أقوى على تحمل الأقساط يا سيدي…»

«لن تنفق قرشا واحدا. سأهتم أنا بإعداد خوليان. سوف تكون مجبرا على الموافقة فقط بما أنك والد الفتى.»

«من البديهي أن هذا يسعدني ولكنني…»

«لا تعترض إذن. سينفّذ اقتراحي حالما يوافق عليه خوليان طبعا»

«سيفعل ما يؤمر به، تصوّر!»

في تلك اللحظة، خرج خوليان من المستودع بطراز قبعة بين يديه.

«هلا تفضلت أيها الدون ريكاردو…»

«قل لي يا خوليان، هل لديك التزامات هذا المساء؟» سأل آلدايا.

ارتبك خوليان ونظر إلى والده ثم إلى رجل الأعمال.

«حسنا، علي أن أساعد أبي هنا في المحل.»

«وبعد؟»

«كنت أفكر في الذهاب إلى المكتبة العامة.»

«أنت تحب الكتب أليس كذلك؟»

«أجل يا سيدي.»

«هل قرأت كونراد؟ «قلب الظلام»؟»

«ثلاث مرات.»

احمرّ وجه بائع القبعات ولم يحتمل الصمت.

«هل يمكنني أن أعرف من هذا الـ «كونراد؟»»

أخرسه آلدايا بحركة صارمة من يده.

«لديّ في بيتي مكتبة تحتوي على أربعة عشر ألف كتاب يا خوليان. كنت أقرأ كثيرا في صغري، ولكنني الآن لا أمتلك الوقت الكافي لذلك. تذكرت للتوّ أنني حصلت في السابق على ثلاث نسخ مُمضاة من كونراد شخصيا. ابني خورخي لا يدخل المكتبة حتى ولو كان مرغما. أما ابنتي بينيلوب فهي الوحيدة التي تقرأ وتفكر في البيت. ستتعرض كل تلك الكتب للهلاك إذا أهملت. هل يسعدك أن ترى تلك المكتبة؟»

وافق خوليان بهزة من رأسه، واضطرب بائع القبعات من ذلك النقاش وتلك الأسماء الأجنبية. فالروايات، كما يعلم الجميع، لتسلية الإناث وأولئك الكسالى الذين لا يعملون. وكان ذلك العنوان، «قلب الظلام»، تصدر منه رائحة الخطيئة الكبرى.

«سيأتي ابنك معي يا فورتوناتو. أريد أن أعرّفه على ابني خورخي. ولا تقلق، سأعيده إليك سالما غانما. قل لي يا فتى، هل ركبت سيارة مرسيدس بينز قبل اليوم؟»

تخيل خوليان أن هذا اسم البانثيون الخارق الذي يستخدمه رجل الأعمال للتنقل، فهز رأسه نافيا.

«جيد. لقد حانت اللحظة إذن. سوف تشعر أنك تصعد إلى السماء حيا.»

رأى أنطوني فورتوني ابنه والسيد آلدايا يبتعدان في تلك السيارة الفاخرة فساورته كآبة خانقة. وبينما كان يتعشى في ذلك المساء مع صوفي (التي كانت ترتدي الفستان والحذاء الجديدين وقد أخفت شحوبها بالكحل والزينة) تساءل أنطوني أين أخطأ بالضبط هذه المرة. فما إن أعاد الله إليه الولد حتى ظهر آلدايا وخطفه منه.

«اخلعي هذا الفستان. تبدين فاجرة. ولا تضعي هذا النبيذ باهظ الثمن على المائدة أبدا، فذلك الممدد بالماء أفضل بكثير. ما من شيء نحتفل به الليلة.»

لم يكن خوليان قد اجتاز شارع دياغونال في حياته أبدا. إذ كان ذلك الشارع العريض، الذي تحدّه الحدائق وبيوت المستقبل والقصور التي تقع عند مداخل المدينة، حدّا محرّما. خلف الدياغونال، تمتد القرى والهضاب وأماكن الأثرياء الغرائبية والأسطورية. وخلال الرحلة، تحدّث آلدايا عن مدرسة سان جبريل، ووصف لخوليان أصدقاءه المستقبليين، وجعله يفكر في مصير لم يكن ليحلم فيه قبل ساعات.

«ما الذي تود أن تفعله في حياتك يا خوليان؟»

«لا أعرف. يسعدني أن أصبح كاتبا. روائيا.»

«مثل كونراد؟ أنت ما تزال صبيا وهذا مفهوم. قل لي، ألا تغريك فكرة أن تعمل في المجال المصرفي؟»

«لا أعرف يا سيدي. لم أر أكثر من ثلاثة بيزيتا في حياتي كلها. إنني أرى وزارة المالية لغزا كبيرا.»

انفجر آلدايا في ضحكة مرتفعة.

«بوسعي أن أفككه بكلمتين يا خوليان. اللغز يكمن في تراكم النقود ليس ثلاثا ثلاثا، بل ثلاثة ملايين دفعة واحدة. والحال هذه، لن يقف اللغز ولا حتى الثالوث المقدس في طريقك.»

وبينما كانت السيارة تصعد شارع تيبيدابو، وتمر بتلك القصور الشبيهة بالكاتدرائيات، كان خوليان يشعر بأنّه يدخل الجنة. انعطف السائق عند منتصف التلة، واجتاز بوابة أحد القصور حيث كان جيش من الخدم يستعد لاستقبال الرجل المعظم. كل ما أدركه خوليان أنه أمام منزل فاخر من ثلاثة طوابق. لم يكن ليتخيل أن بشرا من لحم وعظم يسكنون في مكان كهذا. وفي الداخل، اجتاز رواقا يفضي إلى صالون رخامي تسدله ستائر ثقيلة من المخمل، ثم دخل إلى صالة كبيرة تملأ الكتبُ جدرانَها.

«ما رأيك بها؟» سأله آلدايا.

لم يسمعه خوليان من شدة ذهوله.

«يا داميان قولي لخورخي أن ينزل إلى المكتبة حالا.»

التقط الخدم الأوامر من صاحب البيت، وكانوا بلا سمات واضحة أو حضور يذكر، وهرعوا إلى مهماتهم بعزيمة وخضوع مثل فريق من الحشرات المدربة جيدا.

«أنت في حاجة إلى ثياب جديدة يا خوليان. ثمت بعض الجهلة الذين يعطون أهمية كبيرة للمظاهر… ستهتم بك خاثينتا، كن مطمئنا. ولا تحدث أباك بالأمر، فهذا أفضل. لا أريد أن يشعر بالإحراج. هاهو. تعال يا خورخي كي أقدّم لك شابا رائعا سيصبح رفيقك في الصف. خوليان فورتـ…»

«خوليان كاراكس» حدد هو.

«خوليان كاراكس» أعاد آلدايا وهو مبتهج. «وقْع الاسم رنان. هذا ابني خورخي.»

مد خوليان يده فصافحه خورخي آلدايا بفتور. كان وجهه ناعما وشاحبا بما يليق بأبناء الأكابر. حتى ثيابه وحذاؤه أشعرت خوليان بأنه يصافح أميرا ثريا. لكن سلوكه المتعالي لم يخدع خوليان الذي أدرك عدم الأمان خلف درع اللباقة الشكلي.

«أحقا أنك لم تقرأ أي كتاب من هذه الكتب؟» سأله.

«الكتب مملة.»

«الكتب مرايا تعكس ما في داخلنا» أجاب خوليان.

فانفجر الدون ريكاردو آلدايا ضاحكا مرة أخرى.

«حسنا سوف أدعكما فهكذا تتعارفان. سوف ترى يا خوليان أن خورخي رغم هيئته التي توحي بأنه طفل مدلل، ليس غبيا كما يبدو. فلابد أنه ورث شيئا ما عن أبيه.»

هوت كلمات آلدايا على ابنه كضرب المطارق لكن ابتسامته لم تتزحزح مليمترا واحدا. ندم خوليان عن إجابته الفلسفية وشعر بالشفقة على خورخي.

«لا شكّ أنك ابن بائع القبعات» قال، دون خبث. «أبي يتحدث عنك غالبا في الآونة الأخيرة.»

«حقا؟ إنني حديث العائلة إذن. أرجو ألا يؤسفك هذا. ورغم أنني قد أبدو متحذلقا وعالما بالأمور ولكنني لست غبيا كما أبدو أنا أيضا.»

ابتسم خورخي بامتنان. إنها ابتسامة فتى ليس لديه أصدقاء، فكر خوليان.

«تعال معي كي أريك بقية البيت.»

انطلقا نحو البوابة الرئيسة ليذهبا إلى الحديقة. وبينما كانا يجتازان الرواق، وقعت أنظار خوليان على ظلّ يصعد السلم مستندا إلى السياج. بدت له كأنها رؤية: كان عمر الفتاة ما بين اثني عشر وثلاثة عشر عاما، ترافقها امرأة ناضجة، نحيلة وموردة اللون، لا شك أنها المربية.

كانت الفتاة ترتدي فستانا أنيقا من الساتان الأزرق الذي ينكشف عند كتفيها وعنقها الطويل ناصع البياض. لوهلة، تقاطعت نظراتهما فأومأت له بابتسامة. ثم وضعت المربية ذراعها على كتف البنت واختفيا في ممر الطابق العلوي. نظر خوليان إلى خورخي.

«تلك بينيلوب، أختي. ستعرفها. إنها سارحة دوما بين الغيوم، لا تفعل شيئا سوى القراءة. تعال أريك قبة الطابق الأول. تقول الطباخات إنّ القبة مسحورة.»

لحق به خوليان بانقياد، وهو يشعر بأنّ العالم يهوي على رأسه. فمنذ أن ركب تلك المرسيدس لم يدرك إلا حينذاك أنه صار ألعوبة بيد القدر. كان يحلم بها من قبل أن يراها بما لا يحصى من المرات، وهي ترتدي ذلك الفستان الأزرق وتعبّر بلون عينيها الرمادي المتلألئ، دون أن يعرف من تكون ولماذا تبتسم في وجهه. ابتعد مع خورخي في الحديقة حتى الموقف وملعب التنس. ثم التفت وكانت هناك، شبيهة بظلّ خلف نوافذ الطابق الثاني. ولكنه أحس بأنها تبتسم في وجهه وأنها تعرفت إليه هي أيضا، ومن يدري لماذا.

بقيت صورة بينيلوب آلدايا على السلّم معششة في رأسه خلال الأسابيع الأولى من التحاقه بمدرسة سان جبريل. كان يرى واقعه الجديد مليئا بالتناقضات ولم يكن يعجبه بالمجمل. إذ يتصرف التلاميذ كأنهم أمراء والأساتذة المثقفون كأنهم عبيد أذلاء. كان فرناندو راموس أول تلميذ يصبح صديقا لخوليان، إضافة إلى خورخي. فرناندو، ابن أحد الطباخين في المدرسة، لم يكن ليتخيل أنه سيرتدي ثياب القساوسة يوما وأنه سوف يعلّمّ في نفس تلك القاعات. فرناندو، الذي لقّبه التلاميذ فورنوليتو، ويعاملونه كالخادم المنزلي، كان نبيها وذكيا وله صديق واحد فقط، ميغيل مولينر، وهو فتىً غريب الأطوار سيصبح صديق خوليان المفضل لاحقا. ميغيل مولينر موهوب بحدة الفطنة ونفاد الصبر، كان يستمتع باستفزاز الأساتذة حين يناقض أي شيء يؤكدون عليه ويضعه على محكّ النقد اللاذع. كان رفاقه يخشون لسانه المسلول ويعتبرونه مخلوقا هابطا من المريخ، وكانوا محقّين نوعا ما. رغم طبعه البوهيمي، فإن ميغيل كان ابن رجل أعمال وثروات مهولة بلغ الثراء الباذخ بفضل صناعة السلاح.

«أنت كاراكس، صحيح؟ يقال إن أباك يصنع القبعات» قال عندما قدّمه إليه فرناندو راموس.

«الأصدقاء ينادونني خوليان. يقال إن والدك يصنع المدافع.»

«يبيعها فحسب. عمله الوحيد تجميع النقود. أصدقائي قليلون، من بينهم نيتشه والرفيق فرناندو، واسمي ميغيل.»

كان ميغيل مولينر شابا سوداويا يهتم اهتماما كبيرا بأي شيء يعنى بالموت وأي موضوع له طابع جنائزي، وكان يفرغ لهذه المادة جل وقته وموهبته. توفيت أمه قبل ثلاث سنوات في حادث منزلي غريب من نوعه وتجرأ أحد الأطباء الجهلة على تعريفه بالانتحار. وكان ميغيل هو الذي وجد الجثة في بئر الفيلا الصيفية للعائلة في أرخينتونا. بعد أن انتشلوا المرأة اكتشفوا أن جيوب سترتها مليئة بالحصى. وثمت رسالة مكتوبة بالألمانية، لغتها الأم التي لم يجتهد السيد مولينر في دراستها. حرق الزوج الرسالة مباشرة دون أن يسمح لأحد بأن يقرأها. وصار ميغيل مولينر يصادف الموت في كل مكان، بين وريقات الشجر اليابسة، وبين العصافير التي تقع من أعشاشها، وسط العجائز وتحت الأمطار الغزيرة. كان متيما بالرسم وغالبا ما يصادفونه أمام ورقة بيضاء حاملا قطعا من الفحم بيديه، ليرسم امرأة على خلفية ضبابية لساحل فارغ دوما. وكان خوليان يخمّن أنها أم ميغيل.

«ما الذي ستفعله عندما تكبر يا ميغيل؟»

«أنا لن أكبر» كان يجيب.

وإضافة إلى الرسم وهواية المعارضة، كان يجد شغفه الحقيقي في كتابات طبيب نمساوي مغمور أصبح مشهورا فيما بعد: سيجموند فرويد. كان لديه كل أعمال ذلك الطبيب الكاملة، فهو يقرأ الألمانية ويكتبها بطلاقة، بفضل أمه المتوفية. كان يحب أن يفسر أحلام أصدقائه ومعارفه كي يتابع بعدها التحليل النفسي. ويقول دوما إنه سيموت شابا ولن يهتم لهذا البتة، ما جعل خوليان يتوصل إلى أن ميغيل، لكثرة تفكيره في الموت كان يراه أكثر إغراء من الحياة.

«كل ما أملك سيكون لك غداة موتي يا خوليان» كان يقول. «ما عدا أحلامي.»

وإضافة إلى فرناندو راموس وميغيل مولينر وخورخي آلدايا، أصبح خوليان صديقا لخافيير. كان الفتى انطوائيا وفظا، وهو الابن الوحيد لحراس مدرسة سان جبريل ويعيشون في بيت صغير قرب الحديقة. ولطالما عامله باقي التلاميذ على أنه عبد، مثل فرناندو. كان يتسكع في وحدته بين باحات المدرسة دون أن يعقد علاقة مع أحد. ويعرف كل دهاليز المبنى كراحة يده، ناهيك عن المخازن والممرات التي تحمل الأبراج والمخابئ والمتاهات التي لا يذكر أحد أنها موجودة. كان ذلك عالمه السري، كان ملاذه. ما مرّ يومٌ إلا وحمل ابن الحارس سكينه الصغير الذي سرقه من إحدى خزائن البيت، ونقش به وجوها على ألواح الخشب التي يحتفظ بها في برج الحمام. وكان أبوه الحارس رامون عائدا من الحرب في كوبا، حيث خسر يده وخصيته اليمنى بطلقة رصاص من تيودور روزفلت شخصيا حسب ما يُشاع. كان ذو الخصية الواحدة (كما يلقبه التلاميذ) يجبر ابنه على وظيفة جمع الأوراق اليابسة في زاوية الصنوبر وباحة النوافير، وذلك لاقتناعه بأن الكسل أصل كل العادات السيئة. ورغم مهارته فإنّ رامون غليظ القلب، وكان حظه العاثر يدفع به لمعاشرة رفاق السوء، والأسوأ بين هؤلاء هي زوجته. تزوج ذو الخصية الواحدة ربة منزل متخلفة عقليا وكانت لها طموحات أميرة رغم أن لها سمات الطباخة حصرا، ولها عادة سيئة تتمثّل في الظهور عارية أمام ابنها وتلاميذ المدرسة مُثيرةً موجة من النكات والتعليقات الشنيعة. اسمها الرسمي ماريا كرابونيكا، ولكنها تسمّي نفسها إيفونا إذ يبدو لها أرقّ وأنعم. كانت إيفونا تعذّب ابنها وهي تنتزع منه معلومات عن علاقاته المفترضة بأبناء زبدة المجتمع البرشلوني، الأمر الذي كانت تراه ضروريا ليزيد طموحاتها الاجتماعية أرقا. كانت تحسب كل النفقات وتحلم بأن تتردد إلى العالم الجميل وهي تقفز مثل قردة، وتقتنع يوما بعد يوم بأنها سوف تدعى لتناول الشاي والبسكويت في أفضل الصالات.

وكان خافيير يتجنب قدر المستطاع ألا يبقى في المنزل ويقبل على الرحب أي مهمة يكلفه بها والده مهما كانت صعوبتها. وينتهز أية فرصة كي يبقى بمفرده ويلوذ بعالمه السري لينحت أشكالا على الخشب. وكلما رآه بعض التلاميذ استهزؤوا به ورموه بالحجر. وذات يوم أصابوا جبينه ووقع أرضا، فأشفق عليه خوليان وهرع ليسعفه ويمنحه صداقته. حين رآه خافيير يقترب ظن أن خوليان سيطلق عليه رصاصة الرحمة، بينما كان الآخرون يتألمون من شدة الضحك.

«أدعى خوليان» قال وهو يمد يده. «كنت ذاهبا إلى غابة الصنوبر لألعب الشطرنج مع الأصدقاء فتساءلت إن كان يسعدك الانضمام إلينا.»

«لا أعرف لعب الشطرنج.»

«وأنا أيضا لم أكن أعرف قبل أسبوعين. لكن ميغيل معلم ماهر.»

كان الفتى ينظر إليه بعدم ارتياح، منتظرا أن يهزأ به ويضربه بين لحظة وأخرى.

«لست متأكدا من أنّ أصدقاءك سيقبلون رفقتي.»

«كانت الفكرة فكرتهم. والآن، هلا أتيت معي؟»

ومنذ ذلك اليوم بات خافيير ينضم شيئا فشيئا إلى المجموعة، بعد أن ينهي أعماله، حتى لو كان يظل ساكتا. خشي آلدايا جانبه بينما حاول فرناندو أن يعامله بلطف، لأنه كان يعرف جيدا ما معنى المذلة بسبب التباين الطبقي. أما ميغيل مولينر فكان من أقل المقتنعين بصداقته، وكان يعلمّه قواعد لعبة الشطرنج ويحلل شخصيته بعين طبيب نفسي.

«إنه مجنون. يصيد القطط والحمام، يعذبها بالسكين لساعات ثم يدفنها في الغابة. أي متعة هذه!»

«ومن قال لك ذلك؟»

«هو الذي روى عليّ هذا منذ أيام حين كنت أعلمه نقلة الحصان. وقال لي إنّ أمّه تنام في سريره وتلمس عصفوره.»

«كان يمازحك.»

«لا أعتقد. هذا الفتى ليس طبيعيا يا خوليان ومن الوارد أن الذنب ليس ذنبه.»

ومع أن خوليان كان يستخف بنصائح ميغيل، فإنه اعترف بعدم قدرته على بناء علاقة صداقة مع ابن الحارس. ومن جانب آخر لم تكن إيفونا تطمئن لخوليان ولا لفرناندو راموس فهذان من أفقر السادة الصغار. والد خوليان مجرد بياع وأمه معلمة موسيقى مسكينة. «هؤلاء ليس لديهم مال ولا حسب ولا أذواق يا بنيّ» كانت أمه تؤنبه. «عليك أن تصادق آلدايا لأنه ينتمي إلى عائلة نبيلة». «حسنا يا أمي» كان يجيبها. «سأفعل ما تشائين.» أصبح خافيير شخصا أليفا نوعا ما مع مرور الوقت: يلفظ كلمة من حين لآخر وينحت رقعة شطرنج كي يهديها لميغيل مولينر شكرًا له على دروسه. وذات يوم، اكتشف الأصدقاء ما لم يصدّقوا حدوثه: خافيير يضحك أيضا وله ضحكة بريئة تشبه كركرة الأطفال.

«أرأيت؟ إنه مثلنا» أكد خوليان.

لكن ميغيل مولينر بقي على رأيه يراقب ذلك المراهق الجفول بتفاصيل شبه علمية.

«خافيير متعلق بك يا خوليان» قال له ذات مرة. «إنه مستعد أن يفعل أي شيء ليحصل على ثنائك.»

«ما هذا الهراء؟! لديه أب وأم يشجعانه، وما أنا إلا بصديق.»

«أنت لا تعي حتما. أبوه أحمق بائس يتزحلق على حافة المرحاض وأمه خبيثة لها عقل قملة تقضي نهارها شبه عارية وتتمنى أن يراها أحد، وهي مقتنعة بأنّها ممثلة كبيرة وما خفي كان أعظم. الفتى يبحث عن بديل وأنت الملاك المخلّص، تهبط من السماء وتمد يدك لمصافحته. أنت قديسنا سان خوليان دي لا فوينته، شفيع المسحوقين.»

«لقد سلب منك الدكتور فرويد عقلك يا ميغيل. كلنا في حاجة إلى أصدقاء. حتى أنت.»

«إنه ليس في حاجة إلى أصدقاء. له روح خبيثة كالعنكبوت. وإن لم تكن تصدقني فالأيام بيننا. ومن يدري بأيّ شيء يحلم…»

كان ميغيل مولينر يتصور أن أحلام فرانثسكو خافيير قريبة جدا من أحلام صديقه خوليان. وذات يوم قبل شهر من التحاق خوليان بالمدرسة، وبينما كان ابن الحارس يجمع الأوراق اليابسة في الباحة، وصلت سيارة الدون ريكاردو آلدايا المغرية. لم يكن صاحب العزّ وحده ذلك اليوم بل كان يرافقه ملاك منير يلبس ثياب الحرير ويمشي الهوينى على الأرض. نزلت الفتاة بينيلوب من المرسيدس وذهبت نحو النافورة، وهي تلهو بتدوير المظلة. وكانت المربية خاثينتا ترافقها كالعادة، وتعتني بكل حركاتها. لكن خافيير لم يتمكن من أن يزيح أنظاره عنها ولو كان يحرسها جيش من العسس. كان يتجنب أن يغمض جفنيه خشية أن تتبدد تلك الرؤية، ويتمعن محاسنها وهو متسمر حابسا أنفاسه. بعد لحظة، رفعت بينيلوب أبصارها كأنها انتبهت لوجود الصبي. كان جمال ذلك الوجه لا يرحم. وظن خافيير أنه رأى ابتسامة غامضة على شفاه الفتاة. ارتعد قلبه فهرع يختبئ خلف برج الحمام، ملاذه المفضّل، ويداه ترتجفان وهو يمسك بالأدوات لينحت ملامح ذلك الوجه على لوح من الخشب. عندما عاد إلى المنزل ليلا، متأخرا أكثر من المعتاد، كانت أمه تنتظره غاضبة بشعرها الأشعث. أخفض الفتى أنظاره كي لا ترى أمه في عينيه انعكاس الفتاة وتقرأ أفكاره.

«أين كنت أيها الحقير المشاكس؟»

«اعذريني يا أمي. لقد ضعت.»

«أنت أضعت اليوم الذي ولدت فيه.»

2021/06/22 · 184 مشاهدة · 5834 كلمة
نادي الروايات - 2025